الثلاثاء، 28 نوفمبر 2017

الفلسفة كتفكير عبر أفاهيم؛ الدكتور جمال نعيم.




الفلسفة هي التفكير عبر أفاهيم
د. جمال نعيم

الفلسفة هي فنّ إبداع الأفاهيم، هي الفنّ الذي يفبرك ويبتكر الأفاهيم، هي الفرع الفرعي الذي يمتاز باختراع الأفاهيم المناسبة والتي تتطلّبها مشكلات فكريّة يطرحها العقل البشريّ. لا نقول إنّ الفلسفة تتفوّق على العلوم والفنون بامتياز التفكير؛ لأنّ العلوم والفنون هي الأخرى تفكّر، لكن عبر أدواتها الخاصة.
والفلسفة ليست اختصاصًا تأمّليًّا يقوم على تأمّل الحقائق الأزليّة، وليست تفكّرًا في اختصاصات قائمة مثل العلوم والفنون، وليست، أخيرًا، تواصلًا يقوم على إيجاد تسويات واتفاقات بين البشر من خلال تبادل الآراء. لكن، على الفلسفة أن تبدع الأفاهيم المناسبة لهذه النّشاطات الثلاثة.
إذًا، الفلسفة هي التفكير عبر أفاهيم. والأفاهيم هي كيانات إبداعيّة فلسفيّة حصرًا. إنّها اختصاص الفلسفة حصرًا. لذا، لا يمكن لأيّ فرع معرفيّ آخر أن يحلَّ محلَّ الفلسفة في إبداع الأفاهيم. تتناول الفلسفة موضوعاتها التي قد تكون، بالأساس، علميّة أو فنّيّة، لكن عبر أدواتها الخاصة وهي الأفاهيم التي تتمتّع بقيمة فلسفيّة من دون أن تتمتّع بأيّ قيمة علميّة أو فنّيّة.
وإذا كانت الفلسفة هذا الإبداع المستمر للأفاهيم، الذي بدأ مع الإغريق واستمرّ حتى العصور الرّاهنة، فلها عندئذٍ تاريخٌ طويل. وهكذا يكون الإلتفات الى تاريخ الفلسفة ضروريًّا للوقوف على إبداع الأفاهيم الذي تمّ خلال هذا التّاريخ الطويل للفلسفة.
والأفهوم الفلسفيّ له معنًى، وإن لم يكن قضيّة علميّة أو منطقيّة، وإن لم يكن خبرًا عن العالم، وإن لم يكن بالإمكان تطبيق معيار الصدق والكذب عليه. فلكل أفهوم معنًى خاص به، ولكل أفهوم حقيقة خاصة به، وإن لم يكن بالإمكان التحقّق من ذلك عبر التجربة.
لكل أفهوم معنًى نسبةً الى مجموعة من العناصر:
أ-الحقل الفلسفي الذي اكتشفه الفيلسوف وافتتحه في الفلسفة. الكوجيتو وحقل الذّاتيّة. أفاهيم كنط والحقل المجاوز.
ب-المشكلة الفلسفيّة التي يطرحها الفيلسوف، والتي تتجسّد عادةً بسؤال: المشكلة الديكارتيّة (كيف يمكن لما هو ذاتيّ أن يقوّم ما هو موضوعيّ؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن لي أن أصل الى اليقين انطلاقًا من النّور الطبيعيّ الموجود في كل واحدٍ فينا؟). المشكلة الكنطيّة (كيف يمكن للأحكام التأليفيّة قبليًّا أن تكون؟ مثلًا: كيف يمكن لي أن أقول إنّ المعادن تتمدّد بالحرارة).
ج-الشخصيّة الأفهوميّة: وهي الشخصيّة القلقة التي تطرح المشكلة الفلسفيّة وتبدع الأفاهيم المناسبة لها. شخصيّة الأبله في فلسفة ديكارت. وشخصيّة القاضي في فلسفة كنط.
د-صورة معيّنة عن الفكر: أي الصورة التي يأخذها الفكر عن نفسه، عن توجّهاته واتجهاته، أي صورة الفكر التي تتضمّن مجموعةً معيّنة من المسلّمات وتجيب عن السؤال التالي: ماذا يعني أن نفكّر اليوم؟ كأن نقول مثلًا إنّ الفكر فطريّ على طريقة ديكارت، أو اكتسابيّ على طريقة أرسطو، أو توالديّ تناسليّ على طريقة دولوز.
ه-ارتباطه مع بقيّة الأفاهيم التي يتمّ إبداعها في الحقل ذاته وضمن صورة الفكر ذاتها وإجابةً عن المشكلة ذاتها.
بناءً على ما سبق، يصبح للأفهوم الفلسفيّ معنى. وينتمي بالتّالي الى فضاء فكريّ معيّن، الى مشهد فكريّ مختلف، الى أفق فلسفيّ جديد. ويساهم في تغيير معنى التفكير. فإذا سلخنا الكوجيتو عن مجموعة العناصر التي ذكرناها، يصبح مجموعةً من الكلمات التي لا تتضمّن أي معنًى، أو بالأحرى يتمتّع بمعنًى عاديّ ولا قيمة له. فماذا يعني: أنا أفكر إذًا أنا أكون؟ شيئًا سخيفًا اذا لم يُنظر إليه في ارتباطه مع تلك العناصر.
من هنا نقول إنّ الحقيقة الفلسفيّة ليست مطابقة القول للواقع، وإنّ الفلسفة لا تبحث عن حقائق الموجودات بما هي كذلك، وإنّ الفلسفة تهتمّ بالأسئلة والمشكلات أكثر ممّا تهتمّ بالإجابات. هذا لا يعني أنّها لا تتضمّن إجابات، لكنّ إجاباتِها ليست ممّا يُرضي الفاهمة العاديّة التي تطمح الى المعرفة المطلقة. وهكذا نجد أنّ الفلسفة اختلفت كثيرًا عمّا كانت عليه في العصور السّابقة عندما كانت تبحث عن أحوال الموجود بما هي عليه. فالفلسفة هي طريقة معيّنة في التفكير، هي التفكير بشكلٍ مختلف. ولكل فيلسوف طريقته الخاصة في التفكير، وبالتالي لفلسفته حقيقة خاصّة بها. فالفلسفة لا تزوّدنا بحقائق جديدة وقناعات جديدة، بل تسائلنا عن الطريقة التي كوّنا بها قناعاتنا، وتنتج الحقائق الخاصّة بها، التي تريح العقل البشريّ ولو مؤقّتًا.

(عن الفيسبوك)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق