فلسفة سارتر ومسلماتها الهيجلية
د. أشرف حسن منصور
د. أشرف حسن منصور
2012 / 10 / 20
المحتويات
مقدمـــة
أولاً : الفينومينولوجيا بين المعرفة والوجود
ثانياً : الوجود والماهية
ثالثاً : البحث عن الأنا موجود
رابعاً : المشروع الوجودى، أو تحقيق الذات لوجودها الحقيقى
خاتمـــة
نشهد مع سارتر مثالاً آخر، بعد هايدجر، لفيلسوف حاول تطبيق المنهج الفينومينولوجى على دراسة الوجود الإنسانى، فإذا به يخرج عن الفينومينولوجيا بمعناها الهوسرلى لينفتح على أفقها الهيجلى. فعندما حاول سارتر العثور على مفهوم عن الوجود الإنسانى، أو الوجود لذاته Pour-soi، كان عليه البدء بتخليص الفينومينولوجيا من سيطرة النزعة المثالية للأنا أفكر، فالذات الإنسانية عند سارتر لا توجد فى الأنا أفكر أو فى الذات الترانسندنتالية بمعناها الهوسرلى والكانطى، بل فى الأنا موجود. وهذا الأنا موجود عند سارتر ما هو إلا إعادة صياغة لمفهوم الدازاين عند هايدجر من جهة، ولمفهوم الذات المتحققة بالفعل لدى هيجل Self-Actualized Subject.
لن نستطيع فهم استخدام سارتر للمنهج الفينومينولوجى إلا بالعودة إلى هوسرل، وسارتر نفسه استعان بهوسرل وخصص له فصلاً فى ” الوجود والعدم “ إلى جانب هيجل وهايدجر، حيث أراد سارتر تمييز استخدامه للفينومينولوجيا عن استخدامهما لها، هذا بالإضافة إلى أن المقالات الفلسفية المبكرة لسارتر والسابقة على ” الوجود والعدم “ (1943) وهى: ” تعالى الأنا موجود “ (1934)، و ” الخيالى “ (1936)، و ” القصدية “ (1938)، و ” تخطيط لنظرية فى الانفعالات “ (1939)( 1). تدور كلها حول طريقة للخروج عن فينومينولوجيا هوسرل كى يتمكن سارتر من توسيع مجالها بحيث تستطيع دراسة أنطولوجيا الوجود الإنسانى؛ كذلك فإن مقولات معينة فى فلسفة سارتر لا يمكن فهمها إلا بإحالتها إلى أصولها الهيجلية والهوسرلية والهايدجرية، مثل: المعنى الجديد للأنطولوجيا، والوجود فى ذاته والوجود لذاته، والسلب والعدم. إن سارتر يعيد إنتاج بعضٍ من أهم الأفكار الفلسفية لدى هيجل وهوسرل وهايدجر، بحيث يصل إلى حد استعارة تحليلات دقيقة من ” فينومينولوجيا الروح “ لهيجل.
أولاً - الفينومينولوجيا بين المعرفة والوجود :
إن ما جعل سارتر يرفض النزعة المثالية فى فينومينولوجيا هوسرل هو أن هذه النزعة تجعل الفينومينولوجيا غير صالحة لدراسة الوجود فى ذاته لأنها منهج دارس للوعى، ويستخدم طريقة الانعكاس على الوعى، وفيما ينعكس الباحث الفينومينولوجى على وعيه فلن يتمكن أبداً من معرفة حقيقة الوجود خارج هذا الوعى( 2). وهذا النقد الذى يوجهه سارتر لهوسرل يفترض أن هناك اختلافاً أصلياً بين الوعى والوجود، أو الأنا والعالم، أو الذات والموضوع، أي يفترض الثنائية التقليدية التى يحاول المنهج الفينومينولوجى نفسه تجاوزها، ذلك لأن التراث المثالى الذى تستند عليه الفينومينولوجيا (هيجل، هوسرل، هايدجر) يذهب إلى أن الباحث الفينومينولوجى يستطيع بالفعل أن يعرف حقيقة الوجود انطلاقاً من انعكاسه على وعيه؛ لأن الأنا ذاتها نمط من الوجود، وهى أعلى نمط أنطولوجى كذلك، وبالتالى فدراسة وعى الأنا بذاتها هى دراسة أنطولوجية لا إبستمولوجية وحسب كما ذهب سارتر. إن الوجود الحقيقى حسب هيجل وهايدجر وجود الذات الإنسانية لا وجود الأشياء، ولذلك فالوجود الواعى بذاته هو أرقى أنواع الوجود وهو ما له الأولوية فى الدراسة الأنطولوجية. لم يكن سارتر إذن على حق عندما اعتقد أن فينومينولوجيا هيجل مقيدة بالمجال المعرفى ولا تستطيع دراسة الوجود الإنسانى أنطولوجياً، ولم يكن على حق أيضاً عندما نظر إلى الوجود الإنسانى على أنه كل ما يبتعد عن مجال الوعى والمعرفة وينحصر فى كل ما هو انفعالى وجسدى وحياتى، ذلك لأن ماهية الإنسان الحقيقية هى كونه مفكراً، والفكر هو أعلى نمط أنطولوجى تحيا فيه الذات الإنسانية.
ثانياً - الوجود والماهية :
يتمثل المبدأ الأساسى فى فلسفة سارتر فى القول بأن الوجود سابق على الماهية، والحقيقة أن هذا المبدأ لا يمكن فهمه إلا بالعودة إلى أنطولوجيا هايدجر. يميز هايدجر بين مفهومين للماهية: الماهية العامة والتى تعنى الخصائص والصفات التى تجعل من الإنسان إنساناً ولا تجعل منه حيواناً أو نباتاً مثلاً. والماهية بهذا المعنى سابقة بالفعل على الوجود الإنسانى لأنه يجب تحققها كى يوجد الإنسان. والمعنى الثانى هو الماهية الخاصة التى هى الكلى المشترك بين الجزئيات، وهذه الماهية ذات طابع ابستمولوجى لأنها لا تعرف إلا بالفكر. وبهذا المعنى بالجزئيات وجودها سابق على الكلى الذى يستخلصه الفكر منها. لكن سارتر لا يقصد بأسبقية الماهية هذا المعنى الثانى بل المعنى الأول( 3)، فى حين أن فحوى إعطائه الأولوية للوجود على الماهية هو أنه يعطى الأولوية للوجود الحسى الجزئى للإنسان؛ لأن هذا هو النوع الوحيد من الوجود الذى يمكن أن يسبق الماهية؛ الوجود الجزئى الذى يتم استخلاص الماهية منه بالفكر.
لكننا نستطيع التماس العذر لسارتر فى تناقضه هذا بالعودة إلى الأصول الهايدجرية لفلسفة سارتر. إن الماهية التى يرفض سارتر أسبقيتها على الوجود هى الماهية الفكرية، ماهية الأنا أفكر الديكارتية، أما الوجود الذى يقصده والذى يقول أنه هو السابق فهو الوجود الأنطولوجى، أو الوجود فى العالم عند هايدجر، والأولوية التى يقصدها سارتر هى للأنا موجود لا للأنا أفكر. وهذا هو ما أكد عليه هايدجر فى ” المشكلات الأساسية للفينومينولوجيا “ بالضد على تاريخ الميتافيزيقا كله، اليونانى منه والوسيط والحديث(4 ). ومن هنا نستطيع القول إن الوجود الذى يقول عنه سارتر أنه سابق على الماهية هو فى حد ذاته ماهية، إنه الوجود فى العالم كماهية أنطولوجية للدازاين. يريد سارتر من الإعلان عن مبدئه هذا القول بأن الوجود الحقيقى للإنسان وجود عالمى؛ وجود فى العالم، لا وجود فكرى أو مفكر. والملاحظ أن هايدجر يحطم تاريخ الميتافيزيقا الغربية لأنه فهم الوجود الإنسانى على أنه وجود مفكر، ولم ينتبه إلى الأنا موجود.
كما يعترض سارتر بطريق غير مباشر على ديكارت الذى استخلص الوجود من الفكر: أنا أفكر إذن أنا موجود. فديكارت ينظر إلى الوجود الحقيقى للأنا على أنه وجود مفكر؛ فى حين يقول سارتر: أنا موجود إذن أنا أفكر. والملاحظ أيضاً أن مقال سارتر ” تعالى الأنا موجود “ هو الذى يشهد هذا التحول، والذى يشهد كذلك نقد أنطولوجيا الذات المفكرة لدى ديكارت وكانط وهوسرل فى سبيل أنطولوجيا الذات الموجودة(5) التى سبق لهايدجر اكتشافها. وبناء على ما سبق فإن التناقض الذى وقع فيه سارتر ليس بسبب إعطائه الأولوية للوجود على الماهية، بل بسبب أنه لم يبدأ البداية المنطقية والمفترضة التى تترتب على أولوية الوجود، حيث كان يجب عليه البدء بالوجود فى العالم مثل هايدجر لا بالتمييز بين ما هو لذاته وما هو فى ذاته. لقد أخذ سارتر من هايدجر مبدأه الأساسى وهو أولوية الوجود على الفكر، والتناقض الذى وقع فيه أنه لم يستمر فى اتجاه هايدجر فى البدء بمقولات فينومينولوجية - أنطولوجية مثل الطابع العالمى للعالم والوجود الأداتى والزمانية؛ بل عاد مرة أخرى للبدء بالوعى؛ أى بالفكر، ذلك لأن التمييز بين الوجود لذاته والوجود فى ذاته، على الرغم من أنه يتضمن كلمة الوجود، إلا أنه ليس تمييزاً أنطولوجياً أساسياً؛ بل تمييزاً فكرياً بناءً على الوعى بأنماط الوجود المختلفة، لا بناء على الترتيب الأنطولوجى لهذه الأنماط ذاتها.
وإذا تأملنا قليلاً فى بداية كتاب ” الوجود والعدم “ فسنلاحظ أنها لا هى بالبداية الهايدجرية بالوجود فى العالم، ولا هى بالبداية الهوسرلية بالإبوخية والتخلى عن الموقف الطبيعى ووضع العالم بين قوسين؛ بل هى البداية الهيجلية، ذلك لأنها تتضمن التمييز والانفصال بين الأنا والعالم، بل والثنائية بينهما. فبداية ” الوجود والعدم “ هى بالوجود لذاته (6). والوجود لذاته، الذى هو الوجود الإنسانى المنفصل عن وجود الأشياء، يفترض وجود الأشياء فى الأساس أو الوجود فى ذاته لكن [لكي] يميز نفسه عنها. ولا يمكن أن يميز الوجود لذاته بينه وبين وجود الأشياء ويعرف أنها وجود فى ذاته إلا بعد أن يمر برحلة جدلية هى التى يصفها هيجل فى ” فينومينولوجيا الروح “. سارتر إذن يبدأ بالتسليم بالتمايز بين الوجود فى ذاته والوجود لذاته فى حين أن هذا التمايز يعد مرحلة فينومينولوجية متقدمة للغاية.
ثالثاً - البحث عن الأنا موجود :
فى بحث سارتر عن الأنا فى مفهوم كانط عن الذاتية الترانسندنتالية، يذهب إلى أن هذه الذاتية لا تحتوى على تصور الأنا، ذلك لأن المجال الترانسندنتالى غير شخصى، أى بدون أنا، كما أن الأنا لا تظهر إلا على مستوى الإنسانية، كما أن الوحدة التى تضيفها الذاتية الترانسندنتالية على الظواهر وعلى جملة الخبرة التجريبية هى مناسبة ظهور الأنا، أى أن هذه الوحدة ليست من صنعها بل من صنع الذاتية الترانسندنتالية. هناك إذن شئ يسمى الذاتية الترانسندنتالية، وهذا الشئ هو مناسبة ظهور الأنا. وينتهى سارتر من كل ذلك(7 ) إلى القول إن الذاتية الترانسندنتالية ليست منشأ الأنا وليست أصلها بل مناسبة ظهورها.
والحقيقة أن هذا التحليل لسارتر يتضح عندما نضع فى اعتبارنا تأويل هيجل للذاتية الترانسندنتالية على أنها الروح، أو الإنسانية جمعاء. فإذا نظرنا إلى الذاتية الترانسندنتالية الكانطية على أنها الإنسانية اكتشفنا السبب وراء رفض سارتر جعلها منشأ الأنا، ذلك لأن الإنسانية هى بالفعل غير شخصية، صحيح أنها ذاتية، إلا أن ذاتيتها متعالية ومتجاوزة للذوات الفردية التى هى الأنا الذى يقصده سارتر. كذلك فإن الإنسانية هى التى تضفى الوحدة على مجمل الخبرة التجريبية، وبالتالى تجد الأنا الشخصية الوحدة والكلية حاضرة امامها إذ لم تخلقها هذه الأنا الشخصية أو الفردية، بل هى نتاج البشرية كلها. لم يدرك سارتر أسباب كون الذاتية الترانسندنتالية غير صالحة لظهور الأنا الشخصى أو كأساس للأنا الشخصى، ذلك لأنه لم يطلع على التأويل الهيجلى لهذه الذاتية الترانسندنتالية. ولذلك نراه يقول: ” ومن الطبيعى عندئذ أن نتساءل بصدد الإنسان عما إذا كانت الشخصية (حتى ولو كانت الشخصية المجردة لأنا) مصاحبة للشعور بالضرورة، وعما إذا لم يكن فى الإمكان تصور شعور لا شخصى على الإطلاق؟ “( 8). يشكك سارتر فى إمكانية أن يكون وعى الذاتية الترانسندنتالية الكانطى وعياً فردياً شخصياً، إنه بالفعل ليس وعياً فردياً بل هو وعى جماعى، إنه اللاوعى الجمعى الذى تحدث عنه دوركايم وأسس فيه مقولات المعرفة فى تحليلاته المنتمية إلى سوسيولوجيا المعرفة، وهذا الوعى الجمعى نفسه هو مفهوم الروح عند هيجل. لا يتصور سارتر أن يكون وعى الذاتية الترانسندنتالية شخصياً وفردياً لأنه ليس كذلك بحق، ذلك لأنه وعى جمعى فى الأساس. أما عن تشكك سارتر فى إمكان وجود وعى غير شخصى فهو فى غير محله، ذلك لأن للجماعة وعيها الخاص الذى يعلو فوق الوعى الفردى، أنه الوعى الجمعى عند دوركايم، وهو كذلك الوعى الطبقى عند ماركس، وهو فى التحليل الأخير الوعى المتجاوز للأفراد لكنه الذى يضمهم جميعاً فى نفس الوقت، هو الروح بالمعنى الهيجلى. يبحث سارتر هنا عن الوعى الفردى ولا يجده فى مفهوم الذاتية الترانسندنتالية، لأن الذاتية الترانسندنتالية هى الوعى الجمعى ولا يمكن أن تكون أبداً نتاجاً للأفراد.
ونظراً لأن سارتر يبحث فى الأساس عن الأنا الفردى، ولا يجده فى مفهوم الذاتية الترانسندنتالية الكانطى، يعرج على فينومينولوجيا هوسرل باحثاً عنه. ولذلك يتناول مفهوم القصدية عند هوسرل وكذلك مفهومه عن الأنا، ويكشف سارتر أن القصدية والأنا عند هوسرل لا يساعدانه فى العثور على الأنا الشخصى، ذلك لأن القصدية الهوسرلية تحمل تصوراً مثالياً عن الأنا، إذ أنها ليست إلا وعياً متأملاً فى ذاته باعتبارها فكراً خالصاً، وكذلك الأنا عند هوسرل ليست إلا تكراراً لمفهوم الذاتية الترانسندنتالية الكانطى (9). وأخيراً يرسم لنا صورته أو تصوره الخاص عن الأنا الذى يريده، إنه الأنا باعتباره محلاً للكيفيات الشعورية والحالات النفسية والانفعالية مثل الكراهية والنفور والقلق، ويطلق على هذا الأنا اسم الأنا موجود ويعارض بينه وبين الأنا أفكر عند كانط وهوسرل [..]. الأنا باعتباره محلاً وقواماً لحالات نفسية وانفعالية هو الأنا الفردى فى الأساس، وهو الأنا الذى يبحث عنه سارتر ولا يجده لدى كانط وهوسرل. صحيح أن هذه الحالات يمكن أن تكون الشرط الوجودى لوجود الأنا الفردى، إلا أنها ليست شرطاً لوجود الذات الجمعية أو الروح بالمعنى الهيجلى. إن للذات الجمعية شروطاً وحالات وجود خاصة بها ليست بالضرورة هى حالات الأنا الفردى. وعلى سبيل المثال فإن الذات الجمعية يمكن أن تعيش حالات انفعالية شبيهة بانفعالات الأفراد مثل الغضب والكراهية واليأس والقلق، لكن لن تكون هذه الحالات شروطاً وجودية لها، إذ سوف تكون حالات عارضة وهامشية. تتحدد الحالات الوجودية للذات الجمعية بعلاقة هذه الذات الجمعية بالمصير والقدر والتاريخ، وهى الحالات التى درسها هيجل فى فينومينولوجيا الروح.
الوعى المتأمل والوعى غير المتأمل :
يستمر سارتر فى البحث عن الأنا موجود فى الأفعال التلقائية للوعي والتى يسميها الوعي غير المتأمل، وفى الوعي الذاتى بالمعنى الهوسرلى والذى يسميه الوعي المتأمل. والوعى غير المتأمل هو الوعي الداخل فى عمليات المعرفة والفعل المختلفة مثل الإدراك الحسى بشئ أو القراءة ويذهب سارتر إلى أن هوسرل يضع الأنا فى الوعي المتأمل، ذلك لأن التفكير فى الأفعال السابقة للوعي هو الموصل إلى فكرة الأنا أفكر( )، وكان هوسرل يقول: ” لقد كنت بالأمس أقرأ كتاباً وأكتب سطوراً وأنا داخل فى هذا النشاط لكن كوعي ساذج وتلقائى، وعي غير متأمل، لكننى عندما أفكر فيما كنت أفعله يظهر أمامى مفهوم الأنا أفكر “. لقد كان الأنا حاضراً بصورة ضمنية وغير واعية فى هذه الأفعال السابقة، لكن عند التفكير فى هذه الأفعال مرة ثانية فأنا واع بها، وهذا هو الوعي الذاتى. يرفض سارتر أن يكون الأنا نتاج تفكير من الدرجة الثانية، تفكير متأمل فى عمليات تتم تلقائياً. وتفكير الدرجة الثانية هذا يواجهه سارتر بما يقول عنه أنه هو المنشأ الأصلي للأنا وهو الحالات الانفعالية للأنا والتى يكون الأنا حاضراً فيها مباشرة بدون تفكير ثان، أى بدون وعي متأمل، فالوعي فى الحالات الانفعالية وعي فعال ونشط ويمتلك شعوراً حاضراً بالذات، فى حين أن الأنا أفكر ليست إلا أنا غير مباشر، أنا بالتوسط، والتوسط هنا هو الأفعال المعرفية التى تمت تلقائياً وبصورة ساذجة. يذهب سارتر إلى أن الأنا موجود لا يمكن أن تكون نتاج هذا الطريق غير المباشر المتمثل فى التفكير الثانى، التفكير حول التفكير، بل هى مباشرة، ومباشرتها هذه هى حضورها الدائم فى الحالات الانفعالية لا حضورها الضمني وغير المباشر فى الحالات المعرفية. ومن الواضح أن سارتر هنا يبحث عن الأنا الشخصى المفرد، ولذلك لا يجده إلا فى الحالات الانفعالية.
من الممكن أن ينطبق نقد سارتر هذا على كانط وهوسرل، لكنه لا ينطبق على هيجل، ذلك لأن هيجل قد اكتشف أن الأنا لا يظهر مباشرة فى فعل التأمل، ذلك لأن ظهوره جزئى فى حالة الإدراك الحسى وحالة الفهم، ولا يظهر الأنا واضحاً ومكتملاً عند هيجل إلا من خلال تفاعله مع أنا آخر. فالوعي الذاتي من قبل الأنا باعتباره شخصياً لا يظهر عند هيجل إلا من خلال الرغبة، وهى رغبة تبدأ باعتبارها رغبة فى القضاء على الآخر أو امتلاكه، وتتطور حتى تصل إلى وعي السيد ووعي العبد، أو الوعي المستقل والوعي المعتمد على غيره. لا يظهر الأنا الشخصى عند هيجل إلا باعتباره رغبة فى امتلاك الآخر، باعتباره سيداً. الأنا عند هيجل يبدأ أنانياً ذا رغبة فى السيطرة والامتلاك. فى حين أن سارتر يعتقد أن الأنا يظهر فى الحالات الانفعالية. وبذلك لا يزال التصور النفسى السيكولوجى يسيطر على مفهوم سارتر عن الأنا، فى حين تتجاوز تحليلات هيجل للأنا التصور السيكولوجى نحو الإطار التفاعلى الاجتماعى الذى يظهر فيه الأنا.
رابعاً - المشروع الوجودى، أو تحقيق الذات لوجودها الحقيقى :
يبدأ كتاب ” الوجود والعدم “ بالتمييز بين الوجود فى ذاته والوجود لذاته. الوجود فى ذاته En-soi هو وجود الأشياء والعالم الخارجى، وما يميزه أنه ليست لديه علاقة مع ذاته، وهو خارج كل صيرورة وزمانية. أما الوجود لذاته Pour-soi فهو الوجود الإنسانى، وهو الذات الحرة التى تخلق وجودها (10). والحقيقة أن بداية سارتر فى التمييز تعد مسلمة يبدأ بها تحليله
ولا يبرهن عليها فينومينولوجياً، ذلك لأن الذات ليست على وعى مباشرة ومنذ البداية بمثل هذا التمييز بين وجودها ووجود الأشياء، فحسب فينومينولوجيا هيجل تبدأ الذات بالاعتقاد فى أن وجودها عرضى وتابع لوجود الأشياء، حيث تنظر إلى هذه الأشياء على أنها ثابتة ومستقلة عنها، وهذا الثبات والاستقلال يجعل وجود الأشياء فى الوعى الابتدائى للذات هو الوجود الحقيقى بينما وجود الذات نفسها عرضى. صحيح أن الذات تكتشف بعد ذلك زيف الاستقلال والثبات الذى تبدو عليه الأشياء وتكتشف معه أنها هى الثابت وهى الوعى المستقل حقاً وسط الموضوعات غير الواعية، إلا أن ذلك يتم فى مرحلة فينومينولوجية متطورة يرصدها هيجل فى فصل ” القوة والفهم “. لا تقدر الذات على تمييز بين وجود فى ذاته ووجود لذاته إلا بالتخلص من الموقف الابتدائى لليقين الحسى.
ينشغل سارتر فى تحليله للوجود لذاته بموضوعات تحقيق الذات لذاتها عبر انشغالها بمشروع يجعلها تستقل عن العالم الموضوعى سعياً وراء امتلاك شروط وجودها، بحيث تصبح الذات هى الأساس الوحيد لوجودها. والذات فى سعيها هذا تدفعها حاجة دائمة لتجاوز وضعها القائم نحو وضع أفضل( 11). هذه الحاجة الدائمة التى لا تنتهى هى مصدر السلب negativity الذى يدخل فى صميم وجود الذات. والحقيقة أن هذا التحليل ما هو إلا صيغة أخرى لموضوع أساسى فى فينومينولوجيا هيجل وهو التخارج Externalisation / Entauserung. لكن بينما ينظر سارتر إلى مشروع الوجود للذات على أنه مشروع فردى فى الأساس، وفى حين يؤدى انشغال الذات بهذا المشروع إلى ظواهر القلق والهم واليأس والتى هى ظواهر فردية فى الأساس، يعالج هيجل التخارج على أنه مشروع جماعى تندرج فيه الإنسانية كلها، بحيث يتحقق هذا التخارج فى شكل الروح الموضوعى، أى النظم الاجتماعية والسياسية التى تضعها الإنسانية كتعبير عن سعيها نحو التحقق الخارجى وذلك بأن تصنع من العالم الخارجى عالماً إنسانياً. يتحقق الوجود الإنسانى عند هيجل لا فى شكل مشروع فردى على شاكلة سارتر بل فى عالم تاريخى زمانى يتكون من نظم ومؤسسات.
ولأن العدم داخل فى صميم الوجود الإنسانى لا تنجح الذات فى تحقيق ذاتها مباشرة، ذلك لأنها تجد نفسها، وحسب طبيعة وجودها الأنطولوجية، أمام ثنائيات الحرية والضرورة، والاختيار المسئول والحتمية القاهرة (12). ينظر سارتر إلى هذه الثنائيات على أنها محددات أنطولوجية للوجود الإنسانى، فى حين أنها عند هيجل نتيجة للجدل الحادث فى رحلة التخارج والتحقق الذاتى للروح. ذلك لأن الروح الإنسانى سرعان ما يجد أن النظم الخارجية التى أنشأها، والتى هى النظم والمؤسسات التاريخية للروح الموضوعى، تشكل قيداً جديداً عليه وعلى مسيرته فى التحقق؛ فتتحول هذه النظم من وسائل للتحرر إلى وسائل للقهر، وبعد أن كانت طريقاً للحرية تصبح شكلاً جديداً للضرورة، ليست ضرورة الطبيعة، بل ضرورة المجتمع ونظمه ومؤسساته والتى أصبحت طبيعة ثانية تخضع لها الروح. ليست الضرورة ناتجة عن شرط إنسانى أنطولوجى كما يذهب سارتر، بل هى مجرد ضرورة تاريخية؛ إنها القوانين التى وضعها الإنسان لينظم بها حياته ويحقق وجوده وتحولت إلى قوانين قاهرة يخضع لها. ليس العدم إذن شرطاً أنطولوجياً للوجود الإنسانى عند هيجل؛ فما يحتل موضع العدم فى تحليلاته هو الجدل، الجدل الذى يحول منتجات الإنسانية من نظم وقوانين إلى قيود عليها، فالوسط العدمى الذى توجد فيه الإنسانية ليس إلا نتاج الطابع الجدلى لكل ما تخلقه هذه الإنسانية، ذلك لأنها تتصف بخاصية تحول نتاج الإنسانية إلى قيود قاهرة عليها، والواضح أن هذا التحليل الهيجلى يصب بسهولة فى فكرة رأس المال، فرأس المال هو ذلك النتاج الإنسانى الذى تحول إلى قيد على الإنسانية؛ وهذه هى نقطة الإلتقاء بين هيجل وماركس، النقطة التى تعد مهداً للجدل الأصلى قبل تحوله إلى جدل مثالى عند هيجل، وجدل مادى عند ماركس.
صياغة سارتر الجديدة لجدل السيد والعبد :
لا يستعمل سارتر مصطلحات السيد والعبد أو الوجود المستقل والوجود المعتمد فى وصفه للعلاقة بين الأنا والآخر، ذلك لأنه تجنبها بمهارة فائقة كى لا تكون تحليلاته نسخة مكررة من التحليل الهيجلى لجدل السيد والعبد، إلا أن الأصل الهيجلى لعلاقة الأنا والآخر عند سارتر تتضح بمجرد الإطلاع عليها.
إن وجود الآخر عند سارتر ليس وجوداً أنطولوجياً بل وجود واقعى Factical، فالأنا تجد الآخر أمامها كواقعة قائمة(13 ). وخبرة الأنا بالآخر تأخذ صورة الأنا المدركة أن أنا أخرى تنظر إليها being - looked at by an other man. هذه النظرة تجعل الأنا موضوعاً للآخر، شيئاً مادياً ينظر إليه من قبل أنا أخرى، وعندئذ تنتفى الحرية المطلقة للأنا نظراً لوجود آخر يقيدها وينظر إليها على أنها موضوع. وظهور الآخر بذلك يحول عالم الأنا إلى صراع ومنافسة واغتراب وتشيؤ، لأن هذا الآخر يجعلنى موضوعاً ويعطينى قيمتى ويحكم على سلوكى. وهنا يكون ” وجود الآخر هو خطيئتى الأصلية “(14 ). يتطابق هذا التحليل مع تحليل هيجل لعملية الانتقال من الوعى إلى الوعى الذاتى فى بداية الفصل المعنون بـ ” السيادة والعبودية “. ويتضح الجدل الهيجلى بين السيد والعبد والذى لا يكشف سارتر عن مصدره الأصلى فى استمرار سارتر فى الكشف عن العلاقة الصراعية بين الأنا والآخر. فيذهب إلى أن هذه العلاقة يدخل فيها الجسد، بحيث يصبح الجسد إما مسيطراً على جسد الآخر أو مسيطراً عليه، ومن الواضح أن هذه هى علاقة السيد والعبد لكن يتجنب سارتر استخدام هذه المصطلحات الهيجلية بمهارة لأنها تجعل ” الوجود والعدم “ إعادة صياغة ” لفينومينولوجيا الروح “.
وتأخذ العلاقة الصراعية بين الأنا والآخر شكلين أساسيين: إما أن ينكر الأنا حرية وسيادة الآخر على نفسه ويحوله إلى شئ معتمد كلياً على الآخر، أو أن يستوعب الأنا حرية الآخر بالكامل وينظر إليها على أنها أساس حريته هو. والشكل الأول يؤدى إلى السادية، والثانى إلى المازوخية ( 15). السادية هى التلذذ بتعذيب الآخر والسيطرة عليه، والمازوخية هى التلذذ بسيطرة الآخر على الأنا والخضوع التام له. ويعلن سارتر أن السادية والمازوخية يؤدى أحدهما إلى الآخر بصفة مستمرة، ذلك لأن إخضاع الأنا للآخر بالكامل يفسد على الأنا تحقيقها لمشروعها الوجودى، وكذلك فالخضوع الكامل للآخر ينفى الحرية عن الأنا، وبالتالى يظل الأنا متردداً بين الاتجاه السادى والاتجاه المازوخى فى حركة دائرية، ويعلن سارتر صراحة أن علاقتى بالآخر ليست جدلية بل دائرية.
ويناقش سارتر إمكانية حدوث توجه ثالث تجاه الآخر وهو السعى نحو تدميره،
ولا يتوصل الأنا لحريته أيضاً بنفى الآخر، وذلك لأن ذكراه تبقى مع الأنا دائماً باعتباره
” الوجود الذى كان “ ( 16). والحقيقة أن سارتر مخطئ فى وضع توجه إخفاء الآخر كخيار ثالث للأنا بعد السادية والمازوخية، ذلك لأنه هو الخيار الأول والتوجه الأساسى للأنا حسب فينومينولوجيا هيجل، ذلك لأن الوعى الذاتى يبدأ عند هيجل باعتباره رغبة، وتتمثل هذه الرغبة فى القضاء على كل ما يقابل الأنا، وعندما تجرب الأنا القضاء على الآخر بالقتل تجد أنها لم تحقق شيئاً ولم تمثل حريتها، وعندئذ تقرر الاحتفاظ بالآخر باعتباره عبداً، تبقيه حياً بعد أن تسحب منه كل استقلال وحرية وتجعله معتمداً عليها بالكامل. قتل الآخر إذن هو الموقف الابتدائى للأنا عند هيجل والذى يتم تجاوزه نحو علاقة السيادة والعبودية، أو السادية والمازوخية بتعبير سارتر.
والحقيقة أن لصياغة سارتر الجديدة لجدل السيادة والعبودية فى مصطلحى السادية والمازوخية دلالة بالنسبة للتغيرات التى حدثت لمنهجه الفينومينولوجى، ذلك لأن استخدامه للسادية والمازوخية باعتبارهما أوضاعاً وجودية للعلاقة بين الأنا والآخر يكشف عن تحول التحليل الفينومينولوجى لديه إلى تحليل سيكولوجى، وبذلك لا تعد فينومينولوجيا سارتر فى الوجود والعدم فينومينولوجيا أنطولوجية كما أراد لها بل تتحول إلى علم نفس فينومينولوجى. وقد رأينا فى الفصول السابقة كيف أن الفصل والتمييز بين الفينومينولوجيا وعلم النفس كان هو الشغل الشاغل لهوسرل، ومن قبله لهيجل أيضاً، ومع سارتر نرى كيف ينجذب التحليل الفينومينولوجى مرة أخرى إلى علم النفس حتى يختلط به على نحو كامل مع تحليل سارتر لباثولوجيا العلاقة بين الأنا والآخر والمتخذة أشكال الكراهية والقلق والسادية والمازوخية، تلك الباثولوجيا التى يعتقد أنها فينومينولوجيا أنطولوجية إلا أنها فى حقيقتها علم نفس فينومينولوجى.
خاتمـــة :
إن هوسرل قد ترك لتلاميذه تركة وإشكاليات لم يستطيعوا حلها إلا باللجوء إلى حلول هيجلية، ولم يستطيعوا تطوير البحث الفينومينولوجى بالصورة التى مارسها هوسرل نفسه
أو أراد أن يمارسها تلاميذه أو توقعها منهم، بل لم يستطيعوا ذلك إلا بإدخال بعض التعديلات الهيجلية، وقاموا بكثير من التعديلات والإضافات وفى بعض الأحيان الانقلابات الهيجلية كى يستطيعوا الاستمرار فى البحث الفينومينولوجى، تلك التعديلات والانقلابات التى بدأها هوسرل نفسه فى كتاب الأزمة. لقد انطلق هوسرل من أرضية كانطية وفختية، لكنه خلال تطوره الفكرى هو وتلاميذ من بعده رأوا ضرورة القيام بتحول هيجلى، ووجدناهم يسيرون فى نفس الطريق الموصل من كانط إلى فشتة وحتى هيجل، وبعضهم أكمل الطريق التالى على هيجل والواصل إلى ماركس مثل ماركيوز وسارتر.
الهوامش:
(1 ) جان بول سارتر: تعالى الأنا موجود. ترجمة وتقديم وتعليق أ.د. حسن حنفى. دار التنوير، بيروت 1982، ص 13.
(2) Jean - Paul Sartre: Being and Nothingness. An Essay in Phenomenological Ontology. Translated by Hazel Barnes (London: Methuen, 1977), P. LXI - LXIII.
(1) Ibid: P. 71.
(2) Heidegger, The Basic Problems of Phenomenology, Op. Cit., P. 77, 122.
( 3) سارتر: تعالى الأنا موجود، مرجع سابق، ص 51، 71 - 72، 80.
(4) Sartre: Being and the Thingness, P. 73.
( 5) سارتر: تعالى الأنا موجود، ص 51 - 52.
(6 ) المرجع السابق، ص 52.
(7 ) المرجع السابق، ص 65 - 66.
( ) المرجع السابق، ص 60 - 62.
(1) Sartre: Being and Nothingness, P. 79, 95.
(8) Ibid: P. 172.
(9) Ibid: P. 186.
(10) Ibid: P. 221.
(11) Ibid: P. 252.
(12) Ibid: P. 364, 379.
(13) Ibid: P. 410.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق