الاثنين، 2 أكتوبر 2017

نيتشه وفلسفة الحياة؛ مقابلة مع ألكسي فيلوننكو؛ ترجمة محمد الحجيري.




نيتشه وفلسفة الحياة
مقابلة مع ألكسي فيلوننكو، أجراها معه ديدييه ريمون
ترجمة محمد الحجيري

لماذا الكتابة عن نيتشه الآن؟ ألأنها الذكرى المئوية لوفاته فقط؟ نيتشه الذي غاب مع غياب القرن التاسع عشر، بعد عشر سنوات ن الاختلال العقلي، وبعد عمرٍ قصيرٍ مليءٍ بالعطاءات الملتهبة، قهو قد وُلِد عام 1844، وكان احتكاكه الأول مع الفلسفة من خلال "العالم كإرادة وتصوّر" لشوبنهاور عام 1865، ولينهارَ عقلياً في كانون الثاني عام 1889.
خلال هذا العمر القصير من الحياة الفلسفية استطاع نيتشه أن يترك لنا العديد من الأعمال التي أثارت الجدل وما زالت، وذلك بسبب جذريتها وجِدَّتها أولاً، ثم بسبب الطابع الحكمي المكثّف والذي تطغى عليه النزعة الأدبية والرمزية. وربما كان "هكذا تكلم زرادشت" أهمَّها من هذه الناحية، إضافةً إلى أعماله الأخرى مثل: "إنساني مفرط في إنسانيته" (1878ـ 1879)؛ "الفجر" (1881)؛ "المعرفة المرحة" (1882)...
وإذا كانت كل الأعمال العظيمة تستدعي قراءاتٍ وتأويلاتٍ جديدةً على مرّ العصور، بدءاً من التراث الشرقي كملاحم بلاد ما بين النهرين، مروراً بالتراث اليوناني: أدباً وفلسفةً، وصولاً إلى عصرنا هذا، فإن أعمال نيتشه جديرةٌ أكثر من غيرها ربما، للأسباب التي ذكرناها أعلاه، بإعادة القراءة والتأويل..
وبهذا المعنى فإن الكتابة عن نيتشه تكتسب أهمّيتَها بقدْرِ ما تشكل قراءةً أو قراءاتٍ جديدةً لفكره.
إن صدور عدد خاص من مجلة "المجلة الأدبية" الفرنسية  Magazine litteraire  عن نيتشه يعدّ إسهاماً في هذا المجال، وإن كان ليس جديداً. فهو قد اتُهم بأن "إنسانه الأسمى" كان الملهم للنازية خلال الحرب الثانية، ثم جاءت القراءات أو التأويلات المتتابعة له في الغرب. فهو، حسب بعض التأويلات داعيةً لإنسان أسمى بالمعنى الأخلاقي وليس بالمعنى الجسدي البيولوجي. وموت الإله هو موت المسيحية التي يعتبرها أخلاقاً للضعفاء..
وقد يطول الحديث هنا في هذا المجال، خاصةً وأن نيتشه قد كان نقيضاً لأكثر الأفكار والفلسفات السابقة منذ اليونانيين وحتى عصرِه: فهو في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" مثلاً، يجعل زرادشتـ(ـه) زرادشتاً مضاداً لزرادشت كما نعرفه في التاريخ، صاحب النور والظلمة: إلهيّ الخير والشرّ (أهورامزدا وإهريمان)، بينما زرادشت نيتشه يدعو إلى ما فوق الخير والشرّ، فنراه يقول: "كم أنا ضجرٌ من خيري وشرّي". وهو (أي زرادشت نيتشه) حين يبلغ الثلاثين يصعد إلى الكهف ليتأمّل وينضج ويزدادَ حكمةً، وكأنه هنا مسيحٌ مضادّ. (المسيح قد صُلِبَ في هذه السنّ).
وهو في بحثه عن الحكمة في الكهف، كأنه أفلاطونٌ مضادّ، لأن كهف أفلاطون رمزٌ للعالم الحسّي الوهمي وغير الحقيقي.
وهو حين ينزل من الكهف إلى الناس فلكيّ يعلمهم. وكأنه أيضاً أفلاطونٌ مضادّ، فالفيلسوف الحاكم في "جمهورية" أفلاطون ينزل إلى الناس ليتعلّم منهم ولتكتملَ حكمتُه قبل مباشرته الحكم.
وهو أخيراً حين يذهب برفقة صاحبية: النسر والأفعوان، فكأنه يوحِّد بين ما وجدَه الآخرون تناقضاً: مثاليّةٌ محلّقة (النسر)، وتجريبيةٌ مادّية (الأفعوان)..
هنا مقابلة أجراها ديدييه ريمون ما ألكسي فيلوننكو عن نيتشه، علاقته بشوبنهاور، بفاغنر، وبالموسيقة والفنّ..
آمل أن يكون في ترجمتها إفادة.

(تمت الترجمة عام 2000 وتم نشرها في مجلة الفكر العربي المعاصر عام 2005)

نصّ المقابلة:

في عالم نيتشه هناك شيء لايعوَّض قد فُقِد. وحدَه الفنّ يسمح بتحمّل هذه الخسارة. لذلك فقد أنشأ نيتشه علمَ جمالٍ للتوق إلى الماضي.
هنا مقابلة مع ألكسي فيلوننكو، مؤلّف كتاب "نيتشه، الضحك والمأساة".
عيناه نصف مغمضتين، قابعٌ في مقعدِه وسط آلاف الكتب في مكتبه، يراقبني ألكسي فيلوننكو ويسمعني وهو ضائع خلف سحابات دخان التبغِ المتصاعد. يشبه "بورفير" ذاك المفوّض الذي لا يقهَر في "الجريمة والعقاب" لـ دوستويفسكي.
كنت أعلم أني أستطيع أن أسألَه عن أكثر المواضيع تنوّعاً: بدءاً من الميتافيزيقا، حتى علم الجريمة.
لقد جعلني أفكّر بشوبنهاور، ذاك أن فيلوننكو يعتبَر ميتافيزيقياً كبيراً، كتب عدداً من الدراسات المدهشة عن كانط وفيخته، لكن يمكنه القول، مثل نيتشه، بأن كل ما هو إنساني يعنيه.
وهو مثل شوبنهاور، يكتب منذ زمنٍ غير بعيد "ملاحقـ(ـه).."  ses accessories et restes : "تاريخ الملاكمة" وكتاباً عن الجريمة، كما ستصدر له دراسةٌ عن لويس السادس عشر، وذلك بعد أن أنجز عمله كميتافيزيقي، معيداً قراءة شوبنهاو في كتابه: "فيلسوف المأساة"، وكتابه عن نيتشه": "الضحك وفنّ المأساة".
وأنوي اليوم أن تكون أسئلتي حول، الفيلسوف الأخير.
·        ديدييه ريمون: لقد شُكِّك أحياناً بأصالة نيتشه من خلال التأكيد بأنه مدين لشوبنهاور بغالبية حدوسه الفلسفية. كيف يمكن أن نحدد العلاقة بين المعلم والتلميذ؟
** ألكسي فيلوننكو:
حين تعلّق نيتشه بالفلسفة كان عمرُه إحدى وعشرين سنة، ولم يكن من الممكن تحاشي شوبنهاور. لقد قرأ كتابه الأساسي، لكن الأمر يتعلّق بـ "تلميذٍ سيّء" إذا صح القول.
شوبنهاور كان يقول عن التاريخ أنه "دائماً ذاته ولكن بشكلٍ مختلف". لا شيء يتغيّر.
نبضات القلب الإنساني هي دائماً ذاتها، وحده اللباس يتغيّر. بينما نجد نيتشه في "اعتبارات غير معاصرة"  considerations inactuelles  يميّز بين ثلاثة أشكال من التاريخ: أحد هذه الأشكال هو التاريخ التذكاري  Monumentale  الذي يترك أثراً يُزار لاحقاً من قِبَل التاريخ المتبحّر. هنا أول اختلاف عن شوبنهاور، الذي ـ على أساس علم الجمال المتعالي، المفهوم بشكلٍ سيّء ـ يخلط ما بين الظاهر والظاهرة. Apparence et phenomene.
إن التاريخ المُلغَى يفسح المجال أمام التاريخ الخلاّق (المبدع).
إن "هكذا تكلّم زرادشت" سيكون بناءً متعالياً للتاريخ، فالإنسان ليس معطىً ناجزاً، إنما هو معطى برسم الإنجاز على كل المستويات. وهذا تعارض جيّد، لكن لدينا تعارضٌ آخر، فشوبنهاور هو فيلسوف الموت بينما نيتشه هو فيلسوف الحياة.
ماذا يرى شوبنهاور حين يتنزّه في الغابة في فصل الخريف؟ أوراقاً ميتة في كل مكان، أغصاناً مسودّة، شهداءً وشهوداً (وهو نفس الشيء) لصراع الأشقاء أنتجته الأشجار الكبيرة التي تمثّلت فائضاً من النور. ثم هناك الفوح المرعب لرائحة الجثّة المنتشرة في كل مكان: كل غابةٍ هي نشيد جنائزيّ. هذا ما يراه شوبنهاور.
أما نيتشه فيرى عكس ذلك، يرى ثلجاً أول. وفي النار المنبعثة من أوراق الأشجار الذهبية يرى نوم الطبيعة التي ستنبغث عما قريبٍ من جديد.
طبعاً لا نستطيع أن نتناول إلا عدداً محدوداً من التعارضات. لكني سأشير إلى أكثرِها وضوحاً، تلك الملهمة لمسية "هكذا تكلّم زرادشت": إنها فلسفةٌ شمسيةٌ ممزوجةٌ بالليل والنار. أو إنها فلسفة كونية.
·        ديدييه ريمون: وماذا عن الموسيقى؟
** ألكسي فيلوننكو:
 إنه وقت الوصول في الحديث إلى الموسيقى. إنها الجسر والهاوية في آن.
بالنسبة إلى نيتشه كما بالنسبة إلى شوبنهاور لا وجود لموسيقى سيّئة حديثة ولموسيقى جيدة قديمة، ويجب الحذر من الأحكام المتسرّعة. شوبنهاور كان يفضّل روسيني على موزارت. سيقال إنه اختيار زائغ؛ وهذا حكمٌ يمكن أن نعيد النظر فيه كلّية لو حالفنا الحظ بالاستماع إلى messa di Gloria  لروسيني في المسرح الكبير للموسيقى في فيينا. لقد كان حديثاً بالنسبة لشوبنهاور وكان جميلاً.
لقد شارك نيتشه شوبنهاور الرأيَ في أنه كان يمكن للموسيقى أن تحلّ محلّ الميتافيزيقا. إنها النبض الشفاف للعالم. وهنا تكمن العلاقة الوثيقة والهوّة أيضاً بين نيتشه  وشوبنهاور.
نيتشه كان موسيقياً ممتازاً، فهو عازف بيانو موهوب من جهة، وهو ذو باعٍ طويل في الارتجال من جهةٍ أخرى، والأدلة على ذلك قاطعة.
إن بعض المقطوعات التي تركها نيتشه تعبّر عن شخصيّةٍ رقيقةٍ جداً وبعيدة عن الجهورية الفاغنرية.
بالمقابل فإن شوبنهاور لم يكن لا منفّذاً جيداً ولا مرتجلاً جيداً، وهذا يمنعني أن أرى فيه موسيقياً جيداً. فأنا لا أستطيع أن أفهم أن هناك موسيقياً، وأن يكون محروماً من العلاقة الحميمة مع آلته الموسيقية.
لكن لنفترض أن هذه المشكلة محلولة، ولنتحدث عن الحدوس الفلسفية عند شوبنهاور ونيتشه.
الفكرة تزور شوبنهاور. الفكرة البلّورية المتشكّلة في ذهنه دفعةً واحدةً، وغير القابلة للتطوّر. وبالتالي فإن مختلف كتاباته ليست إلا تبدلاتٍ عن موضوعٍ ثابتٍ لا يتغيّر: الظاهرة ليست إلا الظاهر. وهذا ما يفصله عن برغسون الذي يجعل موضوعَه ينبثق على مستويات أنطولوجية مختلفة.
ولكن هذا أيضاً ما يقرّبه بمهارة من نيتشه صاحب الحدس القاطع بصيرورة، هي ميتافيزيقية بحدّ ذاتها. إنها الصيرورة التي يحددها قطبان محرّكان: الأول هو "الإنسان الأعلى"، والآخر هو الإنسان الأدنى  sous –home. أحادية الجوهر وثنائية الدافع.
يوجد هنا في هذا السياق "صورة" لا تلتصق، وهي تلك التي تزيّن جبهة الـ"معرفة المرحة"، وأقصد: فكرة الثبات  la demeure.
إن فكرة الثبات شديدة الوضوح لدى شوبنهاور: إنها القبر. الثبات الأبدي.. بينما، بمعنى ما، لا وجود للقبر عند نيتشه. بل في إحدى قصائد الشباب يقول بأن الموتَ بالكاد يكون قابلاً للإدراك. فمن باطن الأرض تصدر الشجرة الحيّة؛ أريد أن أستنتج هذه المسألة من خلال لمحة فيلولوجية [لغوية] سريعة من ثلاث نقاط:
الأولى: أننا نترجم  wille zur macht  بـ"إرادة القوّة"  volonte de puissance  وكأن هذه الـ zur  التي تعني فكرة النزوع   tension  الموجَّه يمكن أن تكون متبوعةٌ بمضاف إليه. كان يجب أن تكون الترجمة: إرادة نحو القوة. Vers la puissance.
الثانية: إننا نترجم tanzlied  بـ "موسيقى من أجل الرقص musique pour la dance  دون أن نسمح بالرشاقة للأفكار، وللحرية الميتافيزيقية بأن تعبّر عن نفسها.
ثالثاً: إننا نترجم widerkehr des gleichen  بـ "عودة الذات"  retour du meme وكان يجب أن تُترجَم بـ "عودة المثيل" identique. حتى لا نسمح بافتراض التركيب synthese المكوَّن من الذات والآخر.
·        ديدييه ريمون: بعد أن كان نيتشه مشايعاً وصديقاً لفاغنر، نراه يقطع معه بشكلٍ نهائي عام 1876. ما هي الأسباب العميقة لهكذا قطيعة؟
** ألكسي فيلوننكو: من الممكن وجود أكثر من إجابة عن هذا السؤال.
إن موضوع الـ "نيبلوجن" niebelungen أمكن أن يبدو في النهاية طفولياً بالنسبة إلى نيتشه. إنه لا يملك لا نكهةَ ولا مضمونَ القصة الهوميرية. إن "سيغرفريد siegrfried  مع ورقة الصفصاف الخاصة به هو عبارة عن أخيل من ورق. طبعاً إن ورقة الصفصاف الملصوقة في وسط الظهر تستدعي العين الثالثة في عنق الطيطان، والتي تسمح لهم برؤية المستقبل، وهي الميزة التي كان أخيل يفتقدها. يضاف إلى ذلك الفكرة الهوميرية بأن كل إنسانٍ قابلٌ للعطب.
لقد كان نيتشه ضليعاً باليونانية ليقدّر هكذا تبدلات. فنحن لا نستطيع، بحسب  رأيه، أن نلجأ إلى إضعاف الحرّية اليونانية.
في العمق، إن فاغنر لم يتغيّر. إن نيتشه، متأملاً في الروح اليونانية، هو الذي تغيّر في العمق. إن علاقة فاغنر ونيتشه حول الموسيقى أيضاً تطورت. زوبعة لدى فاغنر ومهارة مرهفة لدى نيتشه.
إنه لمن الممكن ممارسة التفلسف بضربات المطرقة، بينما لا يمكن أن نعتمد على نيتشه بالمقابل في أن يكتب للبيانو بنفس الطريقة. وفي مرحلة لاحقة، بعد مدّةٍ طويلة، نرى نيتشه يُفتَن بـ "بيزيه bizet" [بيزيه مؤلف موسيقي فرنسي، ولد في باريس عام 1838 وتوفي عام 1875. له: "صيادو اللؤلؤ" و "ألعاب أطفال"].
أنا لا أعتقد بوجود حقد دفين مختمر ضد ريتشارد فاغنر؛ إنه بالأحرى خيار الجنوب ضد خيار الشمال. وهو خيار سابق للّقاء بفاغنر: اليونان وأنوار البارتيون، مقابل الشمال البروسي وضبابه الملغِز.
·        ديدييه ريمون: هل يمكن للموسيقى أن تكون نوعاً من العزاء؟
** ألكسي فيلوننكو: أن تكون الموسيقى عزاءً، فهذه فكرة أزلية. مع ذلك فإن نيتشه وشوبنهاور يقاربانها بطريقة جديدة. إنها لا تستطيع أن تكون عزاءً إلا بطريقة انفرادية: أن تعاش بطريقةٍ داخلية فإنها تؤدي إلى بهجةٍ حقيقية وإلى رضاً بالوجود.
إن فاغنر يحمّسنا بينما نيتشه يهدهدنا. هذا ما استنتجته من فاغنر ومن مقطوعات نيتشه المليئة بالفجوات بشكلٍ مأساوي.
لماذا لم يحاول نيتشه حقيقةً أن يحترف الموسيقى؟ إنه سؤال لا يجد جواباً شافياً.
وللحقيقة فإني أقول أني لا أعرف شيئاً عن ذلك، اللهم إلا نوعاً من الإحساس.
إني أعتقد أن نيتشه كان محتشماً بشكلٍ لا يصدّق. بينما الفنان الحقيقي هو استعرائي وغير متحفظ البتة.
إن نيتشه لم يستطع تحمّل ذلك كما فعل موزارت. ولكن بما أن كل شيءٍ صادرٌ عن يدِ الإنسان أو عن الطبيعة الحرّة يمكن أن يكون معزّياً، فلا يمكن تفادي أن لكل نوع من العزاء ما يناسبه من الفنون الجميلة، وهذا أمرٌ بديهي.
إن لحظةً موسيقيةً ما، لا تسمح لنفسها بأن تكون معزولةً عن الدائرة الثقافية. بل أكثر من ذلك، فإنها تعبّر عنها. والموسيقى النيتشوية، ضمن الحدود التي تسمح بأن نتحدث عنها من خلال قصائده، كان يمكن لها أن تكون بوهيميّةَ الطابع. إن هذا إحساسٌ شخصيٌّ جداً.
·        ديدييه ريمون: هل نستطيع أن نعتبر نيتشه في هذا السياق كقارئ لكانط؟
وأن نعتبره الأقل ألمانيةً بين الفلاسفة الألمان؟
** ألكسي فيلوننكو: إن قراءة كانط من خلال كاسيرر هي التي درّبتني على الفلسفة الألمانية. بعد ذلك إصرارٌ لديَّ تحكمه دائماً فكرة التأسيس.
نحن الفرنسيين أيضاً، مسكونون بفكرة التأسيس ولكن بطريقةٍ مختلفةٍ عن طريقة الألمان. وفكرة أن هناك معرفة منجزة، وهي كما هي، يجب أن تؤسَّس، هي الجامع المشترك بيننا. ولكن ليس هناك إحساسٌ بالحاجة إلى التأسيس كيفما اتفق. التأسيس لدى كانط يفيد أولاً المكان (الهندسة)، وبعد ذلك يأتي الزمان (الحساب). والطريقة المسمّاة ترانساندالتية تشمل كل عناصر العقل، فليس هناك مكان للإحساس بالمعنى الراسيني. وتعريف البحث هو ذهني خالص، إنها "ماهيّة" essence  تلك التي تجعل الواقع ممكناً. إنها ماهيّةٌ، (في حقل العلم كفيزياء مثلاً)، مقولةُ السببيّة ككلّية توليفية.
سيقال إن هناك آفةً كبرى: تعميم الطريقة التوليفية المطبقة على الزمان والمكان بإنتاجها علوماً أساسيةً وعلوماً ضابطة، لكن هذا الاستقراء هو عبقرية كانط. إن فانينغر المحقَّر، بل المنسيّ، لم يُخدَع في ذلك. إن حاملة المقولات هي الـ "أنا أفكر" (كما أن مثال الخير عند أفلاطون هو الحضور الذي يجعل أشكال الحضور الأخرى ممكنة) التي هي جوهر الماهيّة  essentiel de l’essence، وحول جوهرية الماهية هذه تنازع الفلاسفة الألمان، والجميع متفق بوجوب عبور جوهرية الماهية إلى الحرية التي تمتلك الأولوية والتي هي "الفعل الوحيد" عند كانط.
أريد أن أسلط الضوء أولاً على الاقلاب الاستثنائي الذي حصل مع كانط:
في العمق لم تعد الكينونة etre هي أصل الكائن etant، إنها الإرادة /كـ: لا كائن/ التي تمتلك عطش الانوجاد. إن "الوجود يتولّد تلقائياً" على قاعدة الرغبة. النور ليس مبدأً (بمعنى الأساس)، ولكنه نتيجة. وما هو مؤسِّس أو أصل، ليس الوقت حتى، بل هو الليل.
تسألني إن كان نيتشه هو الأقل ألمانية بين الفلاسفة الألمان. إن كل المعطيات المطوَّرة حتى الآن تميل إلى تعزيز هذا الزعم. مثلاً، تفضيلُه الزائد لموسيقى الجنوب، حتى إلهامِه المستوحى من مصادر يونانية: "الضحك الهومري"، مفوم التراجيديا..
لقد عبر فاغنر من العصور اليونانية القديمة إلى العناصر الألمانية. إن هذا العبور حقيقةً لم يكن بهذه البساطة، فيونان فاغنر مثلاً ما هي إلا يونان شلر: كلاسيكية ويمار.
إن نيتشه هو الأقل ألمانية بين الفلاسفة الألمان لأنه كان أكثرهم يونانيةً.
هناك بالطبع مسألة الحِكَم، فالفلاسفة الألمان أعطَوْا الأولويّة لفكرة النسق، بالمقابل فإن نيتشه يعارض ذلك من خلال حِكَمِه.
إن الحِكمة شديدة الإلغاز عند نيتشه، وموقف غيستوف معروفٌ حول هذا الموضوع. إن نيتشه بحسب رأيي لا يجزّئ المسائل الكانطية. كل المسائل الكانطية، وبخاصة تلك المتعلق بعدم فناء الروح، جميعها شُكِّلت بحسب المنظور الترانسندنتالي والإله المفقود، بينما نيتشه يحلم بمثال ملازم وسهل البلوغ. إنه يقول بغير تحفظ، وبطريقةٍ موحيةٍ بأن مثاله هو الجندي البروسي.
·        ديدييه ريمون: إذاً يجب  التفكير في القيم الجديدة من زاويةٍ غيرِ مألوفة..
** ألكسي فيلوننكو: النتائج الجمالية هي بالمحصّلة عديدة: إولاً إن علم الجمال عند نيتشه هو أقرب إلى العصر الوسيط منه إلى الحداثة، إنه يميل إلى قيم الفروسية. في النتيجة، يبدو لي أن العصر الوسيط حامل كياسة ٍ بشكلٍ زائد. إن الحب اللطيف courtois  ليس تماماً حباً مترفعاً   desinterresse، إنه عطشٌ للوجود من أجل اثنين. من هنا استنتج الفكرة المألوفة بأن الحب كجمالية وكلطافة هو علاقة (عبور متبادل للذات) trans-subjective. إن ضمير الغئب "هو" مكبوت من قِبل الدائرة الجمالية التي حدودُها الـ "أنا" والـ "أنت".
إن الـ "أنت تقول" الخاصة بالأخلاق (التنّين العظيم) قد تمّ استبعادها، أولاً لأنها تستبعد النغمة العاطفية، ولأنها تتعامل مع قسمٍ كبيرٍ من كلّية الظاهرة الإنسانية، بشكل مجرّد، بينما علم الجمال كما يريده نيتشه هو مصالحةٌ شاملة للكلّية الإنسانية، لذلك فإن علم الجمال عند كانط لا يستطيع أن يكون إلاً جزءاً من الفلسفة اليقينية أساساً، ولكنها جزئية. بينما عند نيتشه هي "جملة" tout، وهنا تبدو المصالحة مع فاغنر ممكنة.
لكن نيتشه أراد أن يتعرّف في فنّه الشعري على القيم الساخرة، و"هكذا تكلم زرادشت" مليئة بهذه القيم. كم ن القصص حيكَ حول رسالة "زيارة غير متوقّعة"، وهناك الكثير الذي يمكن قولُه حول "نيتشه والتهذيب".
إن روح المرح المتوحش عند فاغنر كانت تجرحه، فالفنّان يجب أن يكون رصيناً وأن يختفي خلف عمله، لهذا السبب فإن نظرية الفنان صعبة على التحليل عند نيتشه. لكننا نستطيع أن نعرفها بواسطة النفي، فهو مثلاً بعيد ألف ميل عن فن الجسد  body-art  المقيت.
ثم إن نيتشه، ومثل كل فنان كبير، يمتلك سَوْرة جنون في فكره، وهو لا يتهيّب مطلقاً من فكرة التسبب بالخوف، ونرى لودفينغ ستين مندهشاً من وثباتِه المتصالبة.
أريد أن أضيف تفصيلاً آخر، وهو أن نيتشه كان يكتب في أي مكان، وبأية طريقة، وكأنه كان عليه أن يقبض على الفكرة أو الصورة الملموحة خلسةً، خوفاً من أن تفرّ إلى الأبد.
وكان بذلك محكوماً عليه العيش داخل كرةِ وميضٍ من نار. فنحن لا نجد على الإطلاق نظاماً دقيقاً في أوراقه التي تركها. وفي ذلك شيء من موزارت وحياةً من نار لم يعرف فاغنر كيف يدنو منها ولا أن يفهمها. لقد عبر نيتشه عن هذه الحياة في "نشيد من أجل الرقص".
أخيراً، إن مفهوم الفنّ هو أكثر كلاسيكيّة مما نظنّ. إنه علم جمالٍ للحنين إلى الماضي، وللمكابدة نحو العودة: العودة أولاً إلى اليونانيين، ثم العودة بعد ذلك إلى الحب اللطيف، فالماضي هنا متعال.
في عالم نيتشه فكرةٌ أن شيئاً ما قد فُقِد بطريقةٍ لا تعوَّض، ووحدَه الفنّ قادرٌ على أن يمتلك فخامة الأطلال الأبدية، وقادر على أن يتحمل هذا التلف.
من الطبيعي أن يظن الجميع امتلاك القدرة على فهم حذاقة أفكار نيتشه من النظرة الأولى، بينما في الحقيقة هو فيلولوجي [عالم لغة] ويتطلب الكثر من التأني.
·        ديدييه ريمون: هل يمكن للفلسفة أن تضحّي بفكرة الحقيقة لمصلحة رؤيةٍ جماليةٍ للعالم؟
** ألكسي فيلوننكو: لقد قيل بأن نيتشه كان يمتلك فكرةً أصيلةً عن المعرفة، ولقد كُتِب حول هذا الموضوع ليس العديد من الكتب، وإنما العديد من المجلدات، مع ذلك فليس لنيتشه إلا أثرٌ واحد أساسيٌ حول هذا الموضوع: "رسالة 1873" “dissertation”.
في العمق، لدينا فكرتان عن الحقيقة: الأولى آلية (حقيقة الفهم)، والأخرى جمالية (عقل). حقيقة الفهم تقنية وعامة، المحرك لا يعمل دون تزويده بالوقود: الجميع يتوافق على ذلك. وهناك العديد من الحقائق العامة، والعديد من الحقائق الغير ذات أهمية. بتكبّر وبتلاعب بالألفاظ يؤكد البعض: "أنا علمي؛ ديكارتي".
حتى بين الأطباء يوجد "علميون". لا يهم كثيراً أن تكون الحقيقة قضيةً نسينا أنها كانت هفوة، ما يعتمَد عليه هو الذهن الذي فيه يتم الإثبات.
بالتأكيد هناك أيضاً أخطاء لغوية: يتم توجيه الأولاد نحو "العلوم الدقيقة"، وكأن هناك علوماً غير دقيقة.
من ناحية أخرى توجد حقائق خصية: حب حقيقي. إنها تعرّف لحظةً خاصة بالكائن، ولا تسمح لنفسها للتحدث /مثل ليبنز/ بوضع نسق.
أخيراً سوف أقول بأن الحقيقة عند نيتشه تستطيع أن تكون قابلةً للتعبير والانتقال وبهذا المعنى الأخير، الحقيقة تقترب من الوظيفة. ولنضف بأن الحقيقة جميلةٌ أيضاً.
·        ديدييه ريمون: بعد نيتشه، هل نستطيع الاستمرار في بناء الأنساق الفلسفية مقلدين النموذج الديكارتي، بطريقة رياضية، أم علينا بالأحرى استلهام أعمال الفنّانين؟ وهل هذا يسمح لنا بإعادة تعريف الفيلسوف كفنّانٍ لا كعالِم؟
** ألكس فيلوننكو: السؤال غير ذي موضوع، لأني إن كنت تصور اتجاهاً ثقافياً أو عقلياً ديكارتياً، فإني لا أتصوّر بالمقابل نموذجاً ديكارتياً. فلا الطب ولا الميكانيك ولا الأخلاق هي بالتالي أمورٌ منجَزة. إنها تطلبات داخلية لتطور الحياة في التوجه الديكارتي، الاهتمام في الطب هو أساساً في إطالة مدى الحياة أكثر منه في الشفاء، وهي حركة جدلية بالطبع: فكلما طال مدى الحياة لديّ، كلما استطعت أن أتصور حدوث تجاربَ قادرةً على إطالتها أيضاً، وهكذا دواليك.. وليس في هذا شيء نيتشويّ.
المقابلة بين ديكارت ونيتشه هي كما لو أننا نستطيع الفصل بين التقنية وفن العلاج. من ناحية أخرى، هل فكرة النسق هي فكرةٌ ديكارتية؟ فردينان ألكييه لا يعتقد ذلك. إنه يرى في ديكارت خائباً نموذجياً، مغلفاً بحنينٍ نحو "الوجود" ومقتنعاً بأن الشيء أو الموضوع ليس هو "الوجود".
إن الفيلسوف يمتلك تفوّقاً كبيراً على العالِم: إنه يعرف أنه لا يدرك، بينما العالِم البسيط يظن أنه يدرك. العالِم البسيط يقول عن نفسه إنه "علمي". ويا لها من لغة ممقوتة. إن "دكتوراً" في الطب ليس (عالِماً) أكثر مني، ولا كذلك أحد قدامى مدرسة الهندسة.
·        ديدييه ريمون: لقد أصدرتَ حديثاً مؤلفاً حول الجريمة والمجرمين. هل بدت لك فلسفة نيتشه مضيئة بشكلٍ استثنائي لهذا الجانب؟
** ألكسي فيلوننكو: هذه مشكلة مزدوجة.
1ـ من ناحية، إن نيتشه، وبحدّة ذهنٍ استثنائية قد وضع الأصبع على صفحة "ذكرياتِ بيت الأموات" لـ دوستويفسكي الذي ثوّر الوعي الروسي، والذي يعلن بإيجازٍ أننا نجد خلف الجدران الأفراد "الأكثر قوّةً" والمصنوعين من أفضل خشب روسي؛ هؤلاء الأفراد الذين ضاقوا ذرعاً من كل أشكال الندم والذين يجلدون بحزامهم، حتى الموت، امرأتهم المسكينة المعلّقة من قدميها، ضاحكين بقوّة وهم يحتسون أقداحاً كبيرة من شراب الكواس. إنهم ما دون الخير واشر، بالنسبة لنا لا بالنسبة لأنفسهم.
في "ما وراء الخير والشر" يدرك نيتشه في المرآة انعكاس الحقيقة أو حقيقة الانعكاس. من ناحيةٍ أخرى هناك الانحراف الذي لا يقبله لا دوستويفسكي ولا نيتشه. إن الأب الصغر الذي يلوي عنق الجَدّة التي منعت عنه قدحاً من الفودكا هو بريء. ذاك أن الخمسيني (روحانياً هو وسخ).
يبقى أن نستنتج أن المجرم المتحدر من أفضل خشبٍ في روسيا يبدي تكبّراً فاقعاً، ففي الزنزانة حين التقاهم دوستويفسكي، شعر أنه ذليلٌ ومهان.
·        ديدييه ريمون: إن نيتشه يقول بأن أكبر عالم نفسٍ هو دستويفسكي، مضيفاً بأنه "أكبر من ستاندال". كيف تفهم ذلك؟
** ألكسي فيلوننكو: لق كان نيتشه في الثلاثينات حين تعرف على شوبنهاور وستاندال. أظن أن والدتي كانت تحب ستاندال، وكانت تجعلني أقرأ كل مساء بضع صفحات له وهي على فراش موتها. كانت تجده لطيفاً وذكياً متألقاً. لكن دعنا نصرّ على ما هو جوهريّ: هناك عمرٌ لقراءة ستاندال (الثلاثين)، وعمرٌ آخر لقراءة دوستويفسكي (الأربعين)، وهكذا "كلٌّ" يجد قارئـ(ـه) المتفوّق على ما عداه.وهذه كانت حال نيتشه في ما أظن.
·        ديدييه ريمون: هايدغر يجعل من نيتشه الميتافيزيقي الأخير والإنسانوي الأخير. أنستطيع أن نضع توقيعنا على هذا التأويل، أم أنك تجد أسباباً لمعارضته؟
** ألكسي فيلوننكو: لقد طُرِح عليّ هذا الؤال أكثر من مرّة. أودّ البدء بالقول بأننا لا نستطيع التحدث عن الرجل، عن عدم إنجازه، إلخ.. والسماح له بالتصرّف كسوقيٍّ في الفلسفة. إننا لم ننتهِ من تلقّي هراوات الأنطولوجيا والفينومينولوجيا. لقد جثعِل من الوجود لغزاً ـ كالعادة منذ كلوسبيرغ. اقرأ بعض الصفحات من was ist das die ohilosophie [لتتأكد من ذلك].
لكن وبما أنه يجب أن يكون ناك نهاية لكل أمر.. فلنتكلم عن الفلسفة! يبدو لي أنه لمعرفة النهاية بدقّة، يلزمنا إما (النموذج التاريخي) معرفة ما كانته البداية، أو (النموذج المبدئي) معرفة البداية (المثالية أو التصورية).
البداية التصورية معروفةٌ لدى الجميع، وهي تتعلق بالتفكير حول المبادئ التي بدونها ما كان الفكر معقولاً. وهذا موقف فيخته والذي ينكره نيتشه. إن المكان الذي جُعِل للفاهمة واسعٌ جداً.
نعود إذاً إلى الموقف التاريخي. لكنه شاعريّ، ولذلك فهو غير قادرٍ على إنتاج الفهم.
ولنعد إلى سؤال الميتافيزيقي الأخير..
هذا يعني أن هناك ميتافيزيقيين، وليس فقط مشاريع ميتافيزيقيين. لكن أين هم؟ أفي الفنون؟ ولندّع بأن هناك ميتافيزيقا خاصة بـ فان غوغ، وميتافيزيقا خاصة بـ لاتور، وبموزارت وبتهوفن.. وفي ذلك تجاوزٌ للحدّ.
كحدٍّ أوحد، هناك تحديدُ الحسّ الداخلي. هذا قليلٌ جداً ومفرطٌ في آن.
ثم لماذا يشكل السؤال بصيغة الماضي؟ من هو المجنون الذي يدعي بأن "الإله" سوف لن يُبعثَ من جديد؟
لكن المسألة يبدو أنها ليست هنا. لقد طرح مكسيم سكول schull السؤال بطريقةٍ جيدة:
ـ المكننة والتأمل، ماذا يشكلان؟
ما أهمية المكننة والتأمل؟
ما نسبة أهمية المكننة إلى التأمل؟
أليس من الممكن أن توجد أهميةٌ للتأمل في بلدٍ نجحت فيه المكننة؟؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق