الذكاء
الصفحة
|
||
مقدّمة
|
||
الذكاء والغريزة
|
||
الذكاء عند الحيوان
|
ـ
إختبار الإلتفاف
ـ
إستخدام الأدوات
|
|
بين الذكاء الحيواني والذكاء الإنساني
|
||
قياس الذكاء
|
||
نقد
|
||
أنواع الذكاء
|
||
تنمية الذكاء
|
||
قيمة الذكاء
|
الذكاء
ـ مقدّمة:
إننا حين نراقب سلوك شخصٍ ما، يعجز عن حلّ مشكلةٍ صغيرة، أو إنه يقوم بسلوكٍ
أرعن، فإننا نصفه بالغباء.
بينما نصف مَن يعالج أمراً بطريقةٍ
بارعةٍ بأنّه ذكيٌّ ومثير للإعجاب.
ونحن حين نذكر شخصيّاتٍ لامعةٍ من التاريخ، فإننا نصفها بالعبقريّة أو
الذكاء الشديد: مثل أبي العلاء المعرّي في الأدب، أو نيوتن وأينشتاين
في الفيزياء، أو كاربوف وكاسباروف في الشطرنج، أو أرسطو وأفلاطون
في الفلسفة....
كذلك فإننا نصف ألعب الدلفين البهلوانيّة بالألعاب الذكيّة. فهل هذا الوصف
دقيقٌ علميّاً؟
وما هي الخصائص التي تميّز السلوك الذكيّ؟
للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعتمد تعريفاً أو تعريفاتٍ مناسبةً للذكاء،
وعلى أساس ذلك التعريف نحكم على سلوكاتٍ معيّنة إن كانت ذكيّة أم لا.
إن أصل كلمة ذكاء في اللاتينيّة تعني القدرة على التمييز والفهم.
ومن التعريفات العديدة للذكاء: إنه القدرة على ابتكار حلولٍ أو ملاءمة
السلوك مع ظروفٍ ومشاكلَ مستجدّة. (هو القدرة على إيجاد حلولٍ مبتكرة لمشاكلَ
طارئة).
بينما يراه برغسون بأنه القدرة على صناعة أدواتٍ لتساعدنا على صناعة
أدواتٍ جديدة...
فلو نحن اعتمدنا التعريف الذي يرى بأن الذكاء هو "القدرة على ابتكار
حلولٍ جديدة لمشاكل طارئة"، فهل يمكن لنا وصف بعض سلوكات الحيوان المتقَنة
والمثيرة للإعجاب بأنها سلوكٌ ذكيّ؟
العصفور الذي يبني عشّه بإتقانٍ، أهو ذكيّ؟
والنحلة الماهرة في بناء القفير، والتي حين تجد الغذاء في ناحيةٍ معيّنة، ثم
تعود إلى القفير لتؤدّيَ رقصاتٍ محدّدة، فتعرف رفيقاتها اتجاه وجود الغذاء وعلى
أيّة مسافة. أهي ذكيّة؟
كذلك بعض أنواع السمك الذي يقطع المسافات النائية عكس التيّار، فينفق (يموت)
أكثرُها على الطريق، لتضع بيضها في البيئة الملائمة، أهي ذكيّة أيضا؟
أم طائر الواقواق؟ وهو طائر متطفّل بحجم اليمامة، يضع بيضةً واحدةً في الوقت
المناسب، لكن في عشّ عصفورٍ صغير.
وحين يحضن هذا العصفور بيوضه، فإن بيضة الواقواق تفقّس أولاً؛ وما إن يظهر
فرخ الواقواق إلى الوجود حتى يرمي بقيّة البيض بجناحيه إلى الأرض ليسأثر بالطعام
وحده، هل يمكن لنا أن نصف كلّ هذه الأنواع من السلوك بالذكاء؟
إننا وبالرغم من كلّ ما في هذه الأنواع من السلوك من مهارة وإتقان كبيرين،
لا نستطيع وصفها بالذكاء، لأنها ببساطة ليس في سلوكها ابتكارٌ جديد. إنه سلوك فطريّ غريزيّ يمارسه كلّ أفراد هذه
الأنواع بنفس الطريقة، ويمكن لنا القول بأنه ثابت منذ مئات ألوف السنين.
أما لو تعرّضت هذه الحيوانات لحالة طارئة، كأن نضع الغذاء فوق القفير
مباشرة، فإن النحلة المستطلِعة تجد الطعام، لكنها لا تستطيع إيصال المعلومة عن
مكان وجود الطعام إلى زميلاتها، لأنها لم تعْتَد على حالة كهذه في الطبيعة.
وإذا وضعنا نحلةً في زجاجة، معرّضين قعرها للضوء بينما فوّهتها في الظلّ،
فإن النحلة تحاول عبثاً الخروج من الجانب المضيء من غير جدوى... "فالنحلة
خارج القفير ليست أكثر من ذبابةٍ غبيّة" كما قيل..
كلّ هذه المهارات لم تشفع لهذه الحيوانات لتصنيفها ضمن قائمة الأذكياء.
لكن إذا كانت الغريزة تقدّم كل هذا الإتقان والمهارة في السلوك، فما هو
الفرق، أو الفروقات، بين السلوك الغريزي والسلوك الذكيّ؟
الغريزة والذكاء:
ـ إن السلوك
الغريزي هو سلوك فطري موروث مرتبط بالنضج العضوي لدى الحيوان كالغدد مثلاً. وهو
متشابه لدى جميع أفراد النوع الواحد؛ فكل النحل قادر على صنع العسل حين تنضج
الغدد الشمعيّة لديه.
بينما السلوك الذكيّ فرديّ ولا ينتقل وراثيّاً من الأجيال السابقة إلى
الأبناء.
ـ السلوك الغريزي متخصّص
في إطارٍ محدّد. فالنحلة الماهرة في بناء القفير ليست كذلك في مواجهة موقفٍ
جديد، كالخروج من الزجاجة.
بينما الذكاء غير متخصّص ويساعد على إيجاد حلول لمشاكل متباينة.
ـ السلوك الغريزي آلي
وأعمى، وكأنه لا يعي ما يهدف إليه. فالزرقط البنّاء الذي يبني نخاريبه
(بيوته) من الطين بمهارة، ليضع بيوضه داخلها ثم يغلقها بعناية...
إذا قمنا بإحداث ثقوب في هذه النخاريب، فإن الزرقط يتابع عمله بوَضْع البيض
(الذي يسقط من أسفل النخاريب) ثم بإقفال النخاريب بعناية دون احتوائها على أيّة
بيوض... (رغم اكتشاف هذه الثقوب من خلال قرون الإستشعار التي يمتلكها).
بينما السلوك الذكي مرنٌ وقادر على التكيّف مع الوضع الجديد.
فلا يمكننا أن نتصوّر طفلاً يستمرّ في تعبئة زجاجةٍ مثقوبةٍ بالماء أو بأيّ
سائلٍ آخر...
هذا بالإضافة إلى الكثير من الميزات التي يتمتّع بها الذكاء النظري، والتي
تجهلها الغريزة تماماً.
الذكاء عند الحيوان:
إذا كانت كلّ هذه الأنواع من السلوك التي يقوم بها الحيوان، والتي تثير
دهشتنا وإعجابنا هي سلوكات غريزيّة لا تعرف الذكاء، فهل هذا يعني أنه لا وجود
للذكاء لدى الحيوان؟
للإجابة على هذا السؤال، ينبغي علينا أن نبحث عن الذكاء في أنواعٍ أخرى من
السلوك عند الحيوانات لنرى إن كان ينطبق عليها التعريف الذي ارتضينا أن نصدر أحكامنا
على أساسه، وهو أن يكون هذا السلوك قادراً على التعامل بشكلٍ جديد غير موروث مع
مشكلةٍ طارئة لم تُعَدَّ الغريزةُ بالفطرة للتعامل معها بشكلٍ تلقائي.
لقد قام عالِم النفس الألماني "كولر" بالعديد من
الاختبارات على الحيوانات للإجابة عن هذا التساؤل، فقام بوضع عددٍ من الحيوانات
في ظروف جديدة عليها، لم تألفها في حياتها العاديّة.
من هذه التجارب: وضعُه على التوالي دجاجةٍ ثم كلباً ثم قرداً من فصيلة
الشمبانزي، في قفصٍ مربّع الشكل له ثلاثة جوانب، والجانب الأمامي منها على شكل
شبكة تسمح بمشاهدة ما هو موضوع أمامها دون أن تستطيع الحصول عليه..
قام بوضعِ الطعام أمام القفص. تحاول
الدجاجة عبثاً الحصول على الطعام بالاندفاع مباشرةً نحو الطعام، لتصطدم بالشبكة،
وتعجز بالتالي عن الوصول إلى هدفها.
لقد استطاع الكلب أن ينجح حيث فشلت الدجاجة ولكن بعد عدّة محاولات...
وأخيراً يبتعد الكلب عن الطعام أولاً للخروج من القفص من الجهة الخلفيّة، ثم
ليقترب بعد ذلك ويحصل على الطعام.
أما القرد، فقد استطاع حلّ هذه المشكلة بسهولة ويُسْر. فهو بكلّ بساطة، خرج
من القفص وبَلَغَ الطعام.
إن هذا الاختبار أثبت عدّة أمور، منها أن الحيوانات تمتلك نوعا ًمن الذكاء
العملي، ثم إن هذا الذكاء يختلف من نوعٍ إلى آخر، ونجد أرقى أشكالها عند الأنواع
العليا، مثل القِرَدة.
وحين جعل كولر الإختبار أكثر تعقيداً، كأن يربط الطعام بخيطٍ، أو أن
يتطلّب الحصولُ عليه استخدام عصاً موجودة قرب الحيوان، فإن القرد وحده استطاع
حلّ هذه المشكلة.
إن قِرَدَة الشمبانزي تُبدي تفوّقاً في حلّ المشاكل مقارنة بغيرها من القردة
الأخرى: كأن تحلّ مشكلة الحصول على الطعام من خلال وضع كرسيّين فوق بعضهما لتطال
قرص الموز المعلّق في سقف الغرفة، أو تقوم باستخدام عصاً، أو قد تقوم بوصل
عصاتين ببعضهما للوصول إلى الهدف.
خصائص الذكاء الحيواني:
ـ من الملاحظ أن الذكاء
الحيواني هو ذكاء حدسي، عملي، محدود في إطار المكان والزمان الحاضر. فإن القرد
لا يستطيع حلّ المشكلة المطروحة إلا إذا كانت كلّ عناصر حلّ هذه المشكلة موجودة
في إطار إدراكه الحسّي الحالي، أي أن تشكّل كل عناصر الحلّ بنيةً واحدة.
لا يستطيع القرد حلّ المشكلة إذا كانت الكراسي موجودة في غرفةٍ والطعام في
غرفةٍ أخرى.
بين الذكاء الحيواني والذكاء الإنساني:
ـ إن الفروقات بين الذكاء
الإنساني والذكاء الحيواني هي فروقات شاسعة، وتنقسم إلى قسمين:
ـ فروقات كمّيّة: إن الطفل الصغير يستطيع إيجاد الحلول التي
يعجز أذكى القردة عن حلّها. مثل استخدام الأدوات والحصول على الطعام والقدرة على
تعلّم مهاراتٍ جديدة: فإن كان القرد يستطيع حلول مشاكل من هذا النوع، فإن قدرة
الإنسان على فعل ذلك أرقى بشكلٍ لا يقاس مقارنةً بقدرة أذكى الحيوانات.
ـ فروقات نوعيّة: أما من حيث النوع، فإن الإنسان هو الكائن
الوحيد الذي يمتلك ذكاءً نظريّاً، وهو ذكاء مرتبط باكتساب اللغة بشكلٍ أساسيّ.
لأن اللغة تقوم أساساً على القدرة على التجريد وتجاوز الزمان الحاضر للعودة إلى
الماضي، أو القفز محو المستقبل.
لقد أُجرِيَت عدّة تجارب على القردة والأطفال، مثل اختبار "العلبة
التالية"، الذي يعتمد على وضع قطعٍ من الحلوى تحت عُلَبٍ بشكلٍ متناوب:
أي أن نضع قطعةً من الحلوى تحت علبة فارغة ثم نترك العلبة التالية دون أن نضع
تحتها شيئاً... وهكذا دواليك بالتتالي..
يكتشف القرد قطعة الحلوى تحت العلبة الأولى، ثم لا يجد شيئاً تحت الثانية،
ثم يتابع البحث تحت العلب: الثالثة فالرابعة فالخامسة...
أما الطفل ذو الثلاثة أعوام، فبعد أن نكتشف قطع الحلوى تحت العلبة الأولى ثم
الثالثة، فإنه ينتقل مباشرةً إلى العلبة الخامسة فالسابعة ... مهملاً العُلَب
التي لا تحتوي أو لا تخفي قِطعَ الحلوى.
نستنتج من هذا الاختبار بأن الطفل يمتلك قدرةً من التجريد لا يمتلكها قرد
الشمبانزي: وهو مفهوم "العلبة التالية".
إن امتلاك الإنسان اللغة يعني أنه كائن الأبعاد كما يرى هايدغر.
إنه يعبّر من خلالها عن أحداث الماضي كما يعبّر أيضاً عن تصوّراته للمستقبل.
إنها تسمح له بالتفكير في الأشياء لحظة غيابها.
الإنسان هو الوحيد الذي يستطيع أن يخبرنا عن شرائع حمّورابي التي
تعود إلى حوالي ألفٍ وسبعمائة عام قبل الميلاد. كما يستطيع أن يخبرنا عن مشاريعه
في الأسبوع القادم أو السنة القادمة..
وهو ـ أي الإنسان ـ حين يتحدّث عن الماضي أو المستقبل، فهو إذاً يفكّر في
تلك الأحداث التي لا ترتبط بالحاضر؛ ثم ومن خلال التواصل اللغوي ينقل أفكاره
إلينا، بينما التواصل بين الحيوان لا يزيد عن إيصال رسالةٍ تعبّر: عن إيجاده
الطعام أو عن الخوف أو الخطر أو الجوع ... وكلّها حالات تنتمي إلى الزمن الحاضر.
اللغة هي الفكر... يرى ماركس بأن الفارق بين أكثر المهندسين رعونةً وتهوّراً
وبين أمهر النحلات، أن المهندس يمتلك فكرة عن المنزل الذي ينوي بناءه قبل
المباشرة في بنائه.
من خلال اللغة يستخدم الإنسان المفاهيم الكلّية المجرّدة ويتجاوز اللحظة
الحاضرة، وهو ما لا يستطيعه أذكى الحيوانات.
قياس الذكاء:
ـ لكن إذا كان من الواضح وجود فروقات شاسعةٍ في المستوى وفي النوعيّة بين
الذكاء الإنساني والذكاء الحيواني، فإن هناك فروقات فرديّة أيضاً تجعل الأفراد
يختلفون في مستوى ذكائهم.
والسؤال هو كيف نحكم على شخصٍ بأنه فائق الذكاء، وعلى آخر بأنه أحمق أو غبيّ
أو محدود الذكاء، وذلك من خلال ملاحظة سلوكه؟ فهل هناك طريقة يمكن اعتمادها
بشكلٍ موضوعيّ للحكم على مستوى ذكاء الأفراد؟
لقد واجهت هذه المشكلة علماء النفس، وخلال دراسة حالات التخلّف العقلي لدى
بعض تلامذة المدارس، لاحظ "بينيه" BINET بأن الطريقة التي يحُلّ بها الطفل المتخلّف
عقليّاً مشكلةً معيّنة يقوم بحلّها طفلٌ آخر أصغر سنّاً بنفس الطريقة.
لا يكفي إذاً للحكم على مستوى الذكاء عند طفلٍ
معيّن القول بأنه قد قام بحلّ المشكلة المطروحة فقط، بل يتطلّب أيضاً معرفة عمرِ
هذا الطفل.
إن الأبحاث التي قام بها "بياجيه" PIAGET تثبت بأن مستوى النموّ
العقلي لطفل عمره أربع سنوات، لا تسمح له بامتلاك ما يسمّيه
"بياجيه" بـ "تبادليّة
المواقف" Reversibilité des situations.
فلو سألنا طفلاً دون الرابعة من عمره إن كان
لديه أخٌ لأجاب بـ نعم: " لديّ أخ إسمه ماهر".
أما إذا سألناه: "وأخوك ماهر، هل لديه
أخ؟"، لأجاب بالنفي... لأنه في هذه السن لم يكن قد امتلك القدرة على
"تبادليّة المواقف" بعد، وهي المرحلة المسمّاة بمركزيّة الأنا أو
"الأنويّة".
إذاً يجب أن نربط ما بين الذكاء وعمر الطفل.
لقد وضع "سيمون" و "بينيه"
قوائم أسئلةٍ مخصّصةً لمختلف الأعمار، وقاما بوضع المعادلة التالية لقياس معدّل
الذكاء أو حاصل الذكاء:
حاصل الذكاء = العمر
العقلي * 100
العمر
الزمني
وبذلك يكون الذكاء الوسطي مرتبطاً بتناسب
العمر العقلي مع العمر الزمني، ويساوي مائة.
أما إذا كان العمر العقلي أقلّ من العمر الزمني، فيكون حاصل الذكاء أقلّ من
مائة، وهذا يعني انخفاض مستوى الذكاء دون المستوى الوسطي. وإذا زاد العمر العقلي
عن العمر الزمني فذلك يعني ذكاءً أعلى من المعدّل الوسطي.
نقد:
ـ يمكن توجيه العديد من الانتقادات
إلى معادلة "سيمون وبينيه"، أهمّها أنه لا يمكن تعميم نمط
الأسئلة على مختلف المجتمعات، فما هو مألوف في بيئة معيّنة، ويتعامل معه الأطفال
بسهولة، قد لا يكون مألوفاً في بيئةٍ أخرى. وبالتالي لا يكون الحكم على مستوى
ذكاء الأطفال موضوعيّاً. وهي ملاحظة يمكن تجاوزها من خلال وضع نماذج من الأسئلة
خاصّة ومناسبة لكلّ بيئة.
ـ الاعتراض الثاني هو صعوبة
الفصل خلال الإجابة عن الأسئلة، بين القدرة الناتجة عن الذكاء، وتلك الناتجة عن
التعلّم والخبرات السابقة، وهي صعوبة حقيقيّة، فلكيّ تكون الاختبارات موضوعيّةً
يجب أن تتشابه الخبرات السابقة عند الأطفال، وذلك لأن الذكاء هو "القدرة
على حلّ مشاكلَ تُواجَه للمرّة الأولى، وليس من خلال التعلّم السابق.
لكن رُغم هذه الصعوبات، تبقى هذه الطريقة مفيدةً وقادرة على تقديم معلوماتٍ
جيّدةٍ تساعد التربويين على معرفة الفروقات الفرديّة بشكلٍ مقبول، وبخاصّة حالات
التخلّف العقلي، وبالتالي تساعد على معرفة الطرق المختلفة التي يجب اعتمادها في
تعليمهم.
أنواع الذكاء:
ـ لكن هل يمكن القول بأن
الفروقات في مستويات الذكاء هي فقط فروقات كمّية يمكن اختزالها إلى أرقام
ومعادلات؟
يجيب علماء النفس عن هذا السؤال بأن هناك أنواعاً عديدةً من الذكاء.
قد تجد تلميذاً ذكيّاً في المسائل النظريّة كالرياضيّات، ولا يبدي نفس
التفوّق في مجال الأشغال اليدويّة.
هناك أنواع من الذكاء إذاً. منها الذكاء النظري، ومنها الذكاء والمهارات
اليدويّة، ومنها الذكاء الرياضي والذكاء الفنّي: فقد نجد تلميذاً عاديّاً في
المواد العلميّة، بينما يمتلك خيالاً خصباً يظهر خلال كتابته موضوعات الإنشاء
مثلاً، أو خلال رسم لوحةٍ أو في مجال الموسيقى..
هناك الذكاء الاجتماعي أيضاً وهو يعتمد على سرعة البديهة في مواقف
إجتماعيّة، والقدرة على التكيّف مع الآخرين وكسب الصداقات..
إضافة إلى هذه الأنواع الخاصّة من الذكاء، توجد أيضاً مَلَكَةُ ذكاءٍ عامّة:
فقد نجد أشخاصاً أذكياءً ومتفوّقين في أيّ مجالٍ أو نشاطٍ يقومون به. ويمكن أن
نسمّيه بالذكاء العام.
تنمية الذكاء:
قيمة الذكاء:
ـ من المتفّق عليه أن
الذكاء عامل من عوامل النجاح وبالتالي فهو مفيد للأفراد، لكن هل يمكن اعتبار
الذكاء مفيداً دائماً وفي كلّ الأحوال؟
يرى البعض أن للذكاء الكثير من المساوئ، فهو يحرمنا من السعادة ويجلب لنا
القلق: إن وعينا الحاد بالمشاكل والصعوبات يحرمنا من الاستقرار، وقد يؤدّي إلى
أزمات نفسيّة حادّة.
وقد يؤدّي الذكاء بالفرد إلى العزلة بسبب آرائه التي لا تتناسب مع ما هو
سائد في المجتمع، أو بسبب الغيرة التي يشعر بها الآخرون تجاه الفرد المتفوّق...
كما أنه قد يؤدّي إلى نتائجَ مدمّرةٍ إذا لم تضبطه أخلاقيّاتٌ تمنعه من
إلحاق الضرر بالآخرين...
إن تطوّر العلوم والتقنيّة دليلٌ واضحٌ على ذلك: مثل القدرة على إنتاج أسلحة
هائلة التدمير، أو التطوّر في مجال البيولوجيا، كالهندسة والوراثيّة ....
أو استخدام الخطاب السياسي من قِبَل الزعماء بشكلٍ يؤدّي إلى بثّ روح
التعصّب والعدائيّة تجاه الآخرين، مما يضرّ بالمجتمع ويعرّضه لمخاطر الاقتتال
الداخلي والحرب الأهليّة..
ـ إذا أسهبنا في الحديث عن
سلبيات الذكاء فلأنها الجانب الأقل وضوحاً، أما الجوانب الإيجابيّة فهي واضحة
وأكثر من أن تحصى.
إنه سبب كلّ تطوّر حاصل أو يمكن أن يحصل مستقبلاً، وسبب كل الاختراعات.
يمكن الاكتفاء بالقول بأن الإنسان لولا الذكاء لكان حيواناً كبقيّة
الحيوانات، فلا كانت حضارة ولا كان إنسان أصلاً.
فهل كان حال الكون بدون الإنسان أفضل بدون الإنسان وبدون الحضارة؟..
بفضل الذكاء أصبح الإنسان سيّداً لهذا الكون.
لكن من المهمّ أن تواكب هذه القدرة وهذه السيادة منظومةٌ أخلاقيّة توجّه هذه
القدرة نحو سعادة الإنسان وخير الكوكب، وإلا انقلبت قدرة الإنسان إلى قوّة غاشمة
تهدّد الإنسان نفسه والكوكب بكامله معه أيضاً.
|
موضوع: الذكاء (إعداد الأستاذ عبد
الحسين قانصو) الجزء الأول الثلاثاء أبريل 07, 2009 2:13 pm
|
|
الذكاء
إن ما يلاحظه الباحث في مسألة الذكاء هو تعدد تعريفاته من مفكر إلى آخر. إلا أنهم قد فشلوا جميعا ً في الاتفاق حول تعريف موحّد للذكاء . ففي ندوة شهيرة نشرت عام 1921 قدم ثلاثة عشر باحثا ً من علماء النفس ثلاث عشرة وجهة نظر مختلفة . فقد عرّفه البعض بأنه الكفاءة في التكيف وعرّفه آخرون بأنه : القدرة على التفكير المجرد وقال بعضهم : أنه الاستعداد للتعلم أما البعض الاخر فقال بأنه القدرة على صنع الادوات والتفنن فيها . وقد قدم الباحثون مزيدا ً من التعريفات المختلفة ومنها: • الذكاء هو على القدرة الخلق والإبداع • الذكاء هو القدرة على إكتشاف العلاقة بين الاشياء والربط بين الافكار • الذكاء هو القدرة على حل المشكلات والمسائل المستجدة • الذكاء هو القدرة على الافادة من الخبرة • الذكاء هو القدرة على الربط بين الوسائل والغايات ومن الطبيعي أن تتعدد تعريفات الذكاء لكونه ظاهرة نفسية عقلية معقدة ومركبة يتعذر ان يستغرقها تعريف واحد شامل و جامع . إذ أن للأشياء والمسائل وجوه مختلفة وتعدد الوجوه يفسح المجال لاختلاف الآراء والتعريفات . ولا بدّ لكل تعريف أن يصيب في وجه من الوجوه وأن يعبّر عن جانب هام من جوانب الذكاء . فالقول بأن الذكاء هو القدرة على التفكير المجرّد يلحظ بلا ريب خاصية هامة من خصائص الذكاء الانساني العليا. لكنه ينفي ضمنيا ً وجود نوع من الذكاء عند الحيوان ، وهذا ما يتعارض مع ما أكدته التجارب التي أجريت على الحيوانات ، لا سيما القردة ، وخاصة الشمبانزي منها. وقد أثبتت التجارب أن لدى هذه الحيوانات مهارات تستخدمها في حل بعض المشكلات البسيطة . وكذلك هو الحال بالنسبة الى التعريف الآخر الذي يحصر الذكاء بالقدرة على تصنيع الأدوات ، وهو بعد هام من أبعاد الذكاء وتجلياته . لكن إذا كان الذكاء يقتصر على صنع الآلات لتوجّب علينا أن نستبعد ونقصي من دائرة الذكاء الفنانين والشعراء والأدباء والفلاسفة والقادة التاريخيين وكوكبة كبيرة من المشتغلين في العلوم النظرية والانسانية لمجرد أنهم لا يصنعون الآلات ، إضافة الى ذلك ، فإن هذا التعريف للذكاء ينفي بدوره أي نوع من الذكاء عند الحيوان . وفي ما خص التعريف الذي يحصر الذكاء في القدرة على التكيف ، فإنه غير كاف لأنه لا يلحظ الفارق النوعي بين التكيف عند الحيوان ذي الطابع الغريزي والتكيف عند الانسان الذي هو من نتاج الذكاء والذي هو تكيف واع ٍ خلاّق وإيجابي واستباقي . بينما عند الحيوان هو تكيّف آلي ، تلقائي وعفوي. يخلص البعض إلى القول : بأن الذكاء في أشكاله العليا هو القدرة على إيجاد حلول مبتكرة للأوضاع الطارئة الجديدة واكتشاف المجهول وتطوير الذات والبيئة وافتتاح الكون . .. 1- الذكاء البشري في ثلاث مجالات : أ- الذكاء العملي عند الانسان : يبرز الذكاء العملي عندما يتعذر وجود عادات أو أي سلوك آلي متلائم مع الحالة التي يوجد فيها الانسان ، أو عندما تصطدم العادات بعقبات . ويستطيع الإنسان بحكم ذكائه السيطرة على الحاضر بقصد التكيف, وعلى المستقبل من خلال التخطيط والتنبؤ ، وعلى الماضي من خلال استعادة الذكريات لصالح التكيف ؛ فإن هذه القدرات تمكن الانسان من إختراع الوسائل الضرورية في شؤون تكيفه الحيوي . وإن أي خلل يصيب عمله يدفعه الى إعادة النظر في مراحل العمل السابقة ومراجعة خططه؛ فالقائد العسكري الذكي يعدّل خطة عمله بحسب ما يستجدّ في ساحة القتال من وقائع ؛ والسائق الذكي يتحايل في القيادة لاجتياز أرض وعرة لتأمين سلامة سيارته ؛ كما يعالج الإنسان الذكي المفتاح في القفل لتليينه . وإن العادات تساعد في هذه الاحوال فعل الذكاء لأنها في الاصل أيضا ً فعله الخاص. فإن الملاءمة بين العادات والذكاء من شأنها أن تحقق سلوكا ً مرنا ً وذكيا. ب- الذكاء النظري : هو الذكاء التجريدي الذي يعالج مفاهيم ويدرك العلاقات المنعكسة ؛ وهو ما نسميه العقل . فالمفهوم فكرة مجردة أي جانب من الواقع معزول في تصور العقل ؛ وهذه الفكرة المجردة عامة مثل قولنا : الإحسان واجب إنساني ؛ والجريمة فعل منكر ؛ وكل إنسان فان ٍ . فهذه جملة مفاهيم لا علاقة لها بموجودات فردية . وعندما يترافق المفهوم مع صورة حسية ، فتكون هذه مجرد رمز للمفهوم ؛ أما المفهوم ذاته فهو الفكرة العامة المدرّكة بالعقل. إن الذكاء المجرد هو القدرة على إدراك العلاقات العامة ووضع الاستنباطات على أساس مبادئها ؛ فهذا هو العقل الاستنباطي أو ما يسمى بالقياس الأرسطي . وفي مجال العلوم الرياضية يبدو الذكاء قدرة على وضع المصادرات واستنباط نتائجها .وفي العلوم الاختبارية يكتشف العقل الفرضيات مستعينا ً بالخيال الخلاّق فيفكك النظريات السائدة ويخترع بُنى ومماثلات جديدة ؛ فقد افترض توريشللي أن الضغط الجوي مماثل لعمود هواء يضغط على سطح الأرض كما تفعل الأجسام الصلبة . وكذلك اكتشف " لافوازيه" بواسطة برهان المماثلة أن التنفس هو عملية إحتراق من دون لهب . وافتراض "كلودبرنار" وجود عضو يختزن السكر مثل ما يحصل في حبة البطاطا التي تختزن النشويات . ومن خصائص الذكاء النظري أيضا ً الاستقراء أي الانتقال من الوقائع الجزئية الى القوانين أي الحقائق العامة ؛ فالتعميم صفة أساسية من صفات العقل البشري . وفي المجال الفلسفي يبلغ التجريد ذروته حيث يدور البحث في الحقيقة الإلهية وطبيعة النفس ومصيرها . ويصل التجريد الفلسفي الى تجاوز التجريد الرياضي كما يقول أفلاطون . وباختصار، فإن العقل العلمي الذي يشكل علاقة ولو محدودة بين الحيوان والانسان يترك فسحة واسعة للعقل النظري الخاص بالإنسان ؛ فهو الكائن الوحيد الذي يفكر ويعي أنه يفكر والذي يدرك وجود الله ويتفكر في حقيقته؛ فهو كائن ينعكس فكره في ذاته ، ويتسامى أيضاً على هذه الذات ليعرف من خلالها ربه . ج-الجانب التقني من الذكاء البشري : عندما يعرف الانسان قوانين الطبيعة بالطريقة الإختبارية ، والقوانين الرياضية بالطريقة الافتراضية الاستنتاجية ، فإنه يتمكن من اكتشاف تقنيات وصنع أدوات وآلات جدّ معقدة . إن الانسان هو عالم يكتشف ، ومهندس يصمم ، وتقني ينفذ. ولذلك تطور العالم الإنساني وسوف يستمر في التطور بعكس العالم الحيواني الثابت والمحكوم بجمودية الغريزة. كما أن الذكاء التقني يخترع تقنيات توفر للعالم وسائل تسهل عمله العلمي ؛ والمختبر بين الغريزة والذكاء: أ-أوجه التمايز (الإختلاف): 1- الغريزة :هي مهارة سلوكية فطرية , تظهر بطريقة آلية وكأنها مهيأة مسبقاً؛(الصوص يخرج من تلقاء نفسه من البيضة، كما أن ما من أحدٍ كان قد علّم النحل كيف يصنع العسل , وكأن هذه الأعمال محفورة في أنسجتها فيتحرك الحيوان آلياً دون جدال) -أما الذكاء يستلزم العمل الذهني والتفكيري , ويستلزم محاولات وأبحاث وتعلم. 2- الغريزة جامدة , لاتتغير أي لا تعي الأخطاء ولا الزلاّت ولا تحاول تطوير ما تصنعه (إن الطيور من الصنف نفسه ما زالت تبني أعشاشها على النحو الذي عرفته منذ آلاف السنين) . أما الذكاء فهو في تطور مستمر من خلال أعمال البحث والمحاولات وعمل دؤوب لتحقيق الجودة والإتقان. 3- الغريزة :محدودة , محصورة ومختصة ؛(العنكبوت لا تعرف إلا كيف تنسج بيتها والخلد أيضاً معرفته محدودة بكيفية حفر الأرض). أما الذكاء :فهو أداة كونية , حرّة تصلح في كل الحالات والمناسبات (ديكارت). 4- الغريزة صلبة غيرطيّعة : الحيوان يجهل الهدف وكأنه أعمى , لذا نرى النحلة , خارج القفير, تتصرف كالذبابة فهي لا تعرف كيف تخرج من قنينة مقلوبة. أما الذكاء يتميز بالمرونة والليونة , فهو يبني ويفكك على هواه , يضع لنفسه أهدافاً ويبتكر لبلوغها وسائل ومناهج. 5- الغريزة : تستخدم أدوات طبيعية : أدواتها هي أعضاؤها. أما الذكاء فهو يصنع الأدوات فالإنسان بواسطة ذكائه تحول من باحثٍ عن غذائه إلى صانع لغذائه. 6- الغريزة لا واعية بينما الذكاء حالة من الوعي التام... ب-أوجه التقارب بين الذكاء والغريزة: لغاية القرن التاسع عشر إكتفى علماء النفس التقليديون بإبراز أوجه التمايز بين الغريزة والذكاء , إلاّ أن علم النفس الحديث رفض إقامة هذا الحد الفاصل بينهما فقد أورد "فيود" أن هناك مساحات موجودة تمتد بين الغريزة والذكاء . الغريزة والذكاء يترافقان ، لأنهما متكاملان . فالسلوك الإنساني يمكن أن يمزج مظهراً غرائزياً بمظهر ذكي , فيكون الذكاء إمتداداً للغريزة بدلاً من أن يتناقض معها . فكثير من الغرائز يعمل الإنسان على إشباعها بذكائه , فيظهرها بمظهرٍ إجتماعي إنساني لائق (إشباع الغريزة الجنسية , وغريزة حب البقاء...) وقد وضع ذكاء الإنسان الشرائع والقوانين التي تنظم الزواج ...والتفنن في طرق إعداد الأطعمة ووضع قواعد آداب المائدة , كل ذلك لإشباع حاجاته للغذاء بطريقة إنسانية لائقة ليتميز بها الإنسان عن السلوكيات الغرائزية الحيوانية ... الذكاء والغريزة ------الذكاء الحيواني :راجع كتاب (الفلسفة) صفحة 53و54و55. يتبع في الجزء الثاني ................. |
أولاً: التصور ومفارقةالراهن الزماني : على نقيض الغريزة الحيوانية , فإن الذكاء عند الإنسان وحده يمكّنه من السيطرة على الزمن , وحده الإنسان قادر على استذكار الماضي الذي ولّى وعلى تمثّل المستقبل الذي لم يأتِ بعد. أيْ على تصوّر الذكريات والمشاريع , فهو كما وصفه هيدجر: مخلوق المساحات البعيدة l’homme est l’être des lointains”"
ثانياً: التفكير: يمتلك الإنسان خاصية لا مثيل لها عند الحيوان هي قدرته على التفكير والتركيزعلى المسائل الصعبة.
ثالثاً: الوظيفة اللغوية: الإنسان وحده من بين المخلوقات يتكلم , وحده ابتدع نظام من الرموز والإشارات الإصطلاحية لتأمين أوسع تواصل بشري , وتوسيع المعارف بعيداً جداً عن الواقع المحسوس .
رابعاً: تصور المفاهيم وإدراك معكوسية العلاقات ما يسمح للإنسان على فهم العلاقة بين العناصر الفعلية لموقف معين , أو بين المفاهيم المحرّرة لفكرة متخيلة , ويسمح للإنسان أن يقيم علاقة مفتوحة مع العالم من حوله .بينما يبقى الحيوان أسير سجن غريزته .
تطور الذكاء وتنميته:
ليس الذكاء ملكة مستقلة , بل هو حصيلة تفاعل عناصر كثيرة : نوع التربية , وطرائق التعليم , وأساليب التنشئة , والأوضاع الشخصية والإجتماعية للفرد , ونوع ثقافة المجتمع الضاغطة , والحالة الصحية والجسدية والنفسية , وقوة الذاكرة التي تختلف من فردٍ إلى آخر , والمعطيات العضوية (الدفاعية وغيرها) المختلفة من فردٍ إلى آخر ...
النتائج المدرسية ليست بالدليل القاطع على مستوى ذكاء الطالب , وينبغي البحث في حال التأخر المدرسي عن عوامل عديدة أخرى : كجو العائلة , وطريقة التعليم ومضمونه , وحال المعلمين , والوضع الخاص الشخصي للطالب .
تنميته : نظراً للآثار الإيجابية التي يقدمها الذكاء للبشرية والتي دفعتها للإرتقاء في سلم التقدم والمضي قدماً في سلّم الحضارة ، يعمل علماء النفس والتربية في البحث عن إمكانات تنمية الذكاء وتطويره .
هناك عدة عوامل تساعد على نمو الذكاء : العائلة ، الوسط الإجتماعي – العامل الفيزيولوجي , والعامل النفسي .
أ- دور العائلة: عندما تكون العلاقات سليمة بين الأب والأم من جهة وبين الوالدين والأولاد من جهة أخرى . وسوء العلاقات تخلق عقداً نفسية تؤخر نمو الذكاء .
كما أن للعائلة دوراً في تأمين الوسائل التربوية والألعاب المساعدة على تنمية ذكائه ...
ب- دور المدرسة : إن التعليم يأخذ دوراً أساسياً في إنماء الذكاء : بالمساعدة , التوجيه الصحيح , والتنشئة الواعية , وخلق أجواء ملائمة لتسهيل التكيّف . كذلك تلعب طرائق التعليم دوراً مهماً في اكتشاف قدرات الطفل وميوله وإمكاناته , ما يساعد على تتبعها وتنميتها ...
ت- الوسط الإجتماعي : وذلك من خلال علاقات صداقة وجوار وزمر الألعاب , إضافة إلى مؤثرات الإعلام والإعلان والتلفزيون والإنترنت ما يساعد في نمو عواطف الطفل وقدراته الفكرية وتوجيه ذكائه وتنويعه.
إن سياسة الدولة أو فلسفتها تشكل الإطار التربوي العام الذي تنمو فيه قدرات الأفراد:
فتأمين التعليم الإلزامي والمجاني وتوفير الشروط الصحية داخل المدارس , وتجهيز المدارس بالوسائل التعليمية الحديثة إضافة إلى تعهّد الأذكياء وتوجيههم , كل ذلك يعمل على تنمية الذكاء.
ث- العامل الفيزيولوجي : إن الأحوال الفيزيولوجية للطفل لجهة الصحة السليمة أو عدمها والإعاقة الفيزيائية أو عدمها، وسلامة وظائف الغدد الصماء . كل ذلك يلعب دوراً هاماً في نمو الذكاء والشخصية معاً.
ج- العامل النفسي أو الشخصي : إن العامل الفطري المتعلق بطباع الطفل وميولهم وإمكاناتهم الطبيعية , كذلك العوامل المكتسبة التي يحصل عليها الفرد من تجاربه الشخصية وأحداث حياته التي تشكل سيرته الذاتية وتكوّن تاريخه الفردي , كل ذلك يشكّل جزءاً مهماً من تكوين بنيته النفسية وتوازنه العاطفي والفكري في شخصيته وعاملاً مهماً في نمو ذكائه.
الآثار السلبية للذكاء:
رغم الإنجازات العظيمة التي حققها الإنسان عبر الزمان بفضل ذكائه النظري والتطبيقي , فقد نجمت آثار سلبية عديدة تشهد على الوجه الآخر اللاأخلاقي واللاإنساني الذي يمكن أن يتخذه صاحبه...
- صحيح أن الإنسان بفضل ذكائه , طوّر أدواته وابتكر وسائل تقنية هائلة باتت في غاية الأهمية , إلا أنها سبّبت ضرراً كبيراً على صحته وعلى البيئة ,بسبب الإفراط في الإعتماد عليها فقد أصابت الناس بنوع من الخمول البدني والفكري (كالإعتماد المفرط على السيارة والحاسوب...) مع أنها يسّرت للإنسان أعماله ووفرت عليه الوقت والجهد كي ينصرف إلى وظائف فكرية وفلسفية أخرى.
- التقدم الذي حققه ذكاؤه في صناعة الأسلحة نتج عنها آثار تدميرية على البشر والبيئة معاً , كما تجدر الإشارة إلى كافة مظاهر التلوث البيئي التي دفعها الإنسان ضريبة لذكائه الجشع.
- ثم إن ضروب الإحتيال والكذب والشطارة هي أيضاً من دلالات الذكاء.
لكن المشكلة لا تكمن في الذكاء نفسه بل في الدافع وراء إستخدامه . من هنا يلعب التوجيه دور الإرشاد باتجاه أخلاقي وإنساني , حينها يلعب الذكاء دوره فقط بما فيه خير الفرد والمجتمع...
مسألة الأنواع المتعددة للذكاء الإنساني:
حصر الفلاسفة القدماء الذكاء في حقلين:نظري وعملي . والنظري في رأيهم أعلى مستوى من العملي. إلا أن "ثورندايك" أضاف إليهما نوعاً ثالثاً هو الذكاء الإجتماعي.
- العملي : نجده عند الطفل والراشد والحيوان وهو يقوم على التعامل مع عالم الأشياء (المحسوس).
- الإجتماعي : يتطلب مجموعة من المهارات الإجتماعية بما فيها الطلاقة اللفظية وقوة الإقناع والأسلوب في التعامل وكذلك آداب السلوك, يضاف إليها صفات كالمشاركة الوجدانية والفهم الحدسي للآخر.
أما "غاردنر" فقال بوجود سبعة أنواع من الذكاء الذي هو قدرة متعددة الجوانب ومتعددة الأشكال:
- الذكاء اللفظي , الذكاء المنطقي , الفني , المكاني (الطيّار الذي يعرف الأمكنة بسهولة )
- الذكاء الحركي (يختص بكل المهارات اليدوية والرياضية والبهلوانية)
- الذكاء الذي يقيم علاقة مع الذات (كيف أنظر إلى نفسي وكيف أنمي طاقاتي)
- الذكاء العلائقي (الإجتماعي) أي المهارة في إقامة العلاقات مع الآخرين والنجاح في ذلك.
خلاصة: ليس الذكاء ملكة مستقلة , بل هو حصيلة تفاعل عناصركثيرة : نوع التربية , طرائق التعليم , أساليب التنشئة , والأوضاع الشخصية والإجتماعية للفرد , ونوع ثقافة المجتمع الضاغطة , والحالة الصحية الجسدية والنفسية , وقوة الذاكرة التي تختلف من فرد إلى آخر والمعطيات العضوية.
والذكاء ليس معطىً ثابتاً لدى الأفراد , كما أن مستواه أيضا ًليس ثابتاً , ثمة إمكانات واسعة لتنمية الذكاء وتطويره من خلال دور العائلة والمدرسة والوسط الإجتماعي الواسع , كذلك العامل الفيزيولوجي والعامل النفسي والشخصي.
والإنسان لا يستعمل سوى قدر قليل من طاقاته الذكائية وحتى هذا القليل الذي يستعمله فإنه لا يحسن إستعماله بالكامل ! من هنا فإن التعليم يأخذ دوراً أساسياً في إنماء الذكاء : بالمساعدة, والتوجيه الصحيح والتنشئة
http://www.philomalek.yolasite.com/zaka2.php
مقدّمة:
إذا كانت الكائنات الحيّة، لاسيما
الإنسان والحيوان، تتمتّع بمهارات واستعدادات تستخدمها لتذليل صعوبات طارئة، وحلّ
مشكلات عملية، والتكيّف مع وقائع مستجدّة، فما يتمتّع به الإنسان في هذا المضمار
يتفوّق كمًا ونوعًا على الحيوان. ذلك أنّ الذكاء هو الأساس في الحياة المعرفية،
وإذا امتلك الحيوان درجة دنيا من الذكاء، فالإنسان وحده يمتلك الذكاء الخلاّق
الموصل إلى المعرفة.
فما هو الذكاء؟ وبماذا يختلف عن الغريزة
والعادة؟ وبالتالي هل هنالك ذكاء حيواني أم أنّ الذكاء ينتسب إلى الإنسان فقط؟ وما
هي نقاط الإختلاف بين ذكاء الإنسان وذكاء الحيوان؟ وأخيرًا هل نستطيع قياس الذكاء؟
I. تعريف الذكاء:
الذكاء هو
القدرة على القيام بتفكير تجريدي؛ القدرة على التمييز والفهم والتعليل. إنّه قدرة
يتمتّع بها الفرد للتصرّف بهدفية، والتفكير بعقلانية، والتعاطي الفعّال مع محيطه.
يقول لالاند:
"الذكاء في معناه العام، يشمل سائر الوظائف التي تهدف إلى المعرفة"
وبالتالي فهو يشمل الإدراك والذاكرة والخيال، إلى جانب العقل، فضلاً عن القدرة على
اكتشاف العلاقات بين الأشياء. أما في يومنا هذا فيُعرّف الذكاء بالقدرة على
التكيّف. وبهذا المعنى يقول هارتمن "الذكاء هو القدرة على تكييف الوسائل مع
الغايات".
II. الغريزة والذكاء:
لكلّ حيوان
مهارة سلوكية خاصة به تنضج عندما تبلغ أعضاءه هي الغريزة. فبماذا تتميّز هذه
الغريزة عن الذكاء؟ وهل هي ذكاءً حيوانيًا؟
أ- السلوك الغريزي يسعى إلى التكيّف، ولكنّه فطري قاسٍ بعيد
عن المرونة، آلي وأعمى. فبعض الحيوانات تظهر سلوكًا يدلّ على الإبداع لكنّها في
المقابل تظهر غباءً مطلقًا أمام موقف بسيط مُستجدّ. مثلاً: الدبابير تبني أعشاشها
بمهارة فائقة وتجمع فيها الحشرات، لكنّها تستمر في وضع الحشرات حتى ولو أحدثنا لها
ثقبًا في الجهة المقابلة وسقط كلّ ما جمعته.
أمّا السلوك الذكي فهو يتميز بكونه مرن أي
أنّه يتكيّف بتبدّل الوضعيات ويتجدد دائمًا.
ب-السلوك
الغرائزي ثابت وجامد ونهائي، فالطيور تبني أعشاشها بنفس الطريقة منذ أن وُجدت.
أمّا السلوك الذكي فيتطوّر باستمرار.
ت-السلوك
الغريزي هو سلوك متخصص في وضعية محددة، فالنحلة لا تعرف أن تفعل ما يخرج عن نطاق
بناء القفير وجمع الرحيق، وهي إذا ما وُجدت في عبوة عنقها باتجاه الظلمة، فإنّها
لا تقوى على الخروج؛ هذا ما دفع فولتير للقول: "النحلة خارج خليتها مثل
الذبابة". أمّا السلوك الذكي فيختلف باختلاف الوضعيات وينتقي سلوكًا جديدًا
لوضعية جديدة.
ث-تختلف
الغريزة عن العادة، بأنّ الغريزة هي معرفة فطرية بينما العادة هي آلية عمل مكتسبة.
فالعادة ممكن تغييرها في بدايتها بينما الغريزة ثابتة لا تتغيّر.
III. الذكاء الحيواني:
في ظلّ هذا
الإختلاف الكبير بين الغريزة والذكاء هل يمكننا أن نتكلّم عن الذكاء الحيواني؟
لا نستطيع أن ننكر وجود شيء من الذكاء عند الحيوان.
وقد أثبتت الدراسات أنّ الحيوانات الفقرية هي أذكى من الحشرات، كما أنّ الشمبانزي
هو أذكى الحيوانات الفقرية، وذلك من خلال دراسات أجراها كوهلر في هذا المجال، إذ
تمكّن الشمبانزي من القيام ببعض الأعمال المعقّدة وهي:
أ- الإلتفاف أو الدوران حول عائق للوصول إلى الطعام.
ب-إزاحة
العوائق من أمامه للوصول إلى الطعام.
ت-إستعمال
الأدوات مثل العصا لتقريب الطعام إليه.
ث-تحضير أدوات
بتركيب أجزاء منفصلة لتقريب الطعام.
ويمكن القول بالإضافة إلى هذه المهارات أنّ
للحيوان قدرة على التعلّم، وسرعة في التعلّم بعد عدد من المرّات. غير أنّه تجدر
الإشارة إلى أنّ اكتشاف الرابط بين الأداة والطعام أو بين العناصر عند الحيوان
يتمّ بشكل حدثي تلقائي ولا يمكن أن تتمّ عملية الربط إلاّ إذا كانت العناصر موجودة
امامه.
IV. الذكاء الإنساني:
وإذا انتقلنا
إلى الإنسان فهناك فرق ما بين الذكاء الإنساني والذكاء الحيواني، إذ أنّ الإنسان
يتجاوز الحيوان على مختلف الأصعدة، ولكي نظهر الفارق بينهما لا بدّ من التحدّث عن
أنواع الذكاء البشري.
أ- الذكاء العملي:
يتجاوز ذكاء
الإنسان ذكاء الحيوان بأنّه لا يكتفي باستعمال الآلات بل إنّه ينتجها، وهو يخترع
آلات أكثر تعقيدًا من تلك التي يركّبها الحيوان. ويمكن للإنسان أن يكتشف روابط بين
العناصر بسرعة تفوق سرعة الحيوان حتّى ولو كان بعض هذه العناصر غائب من أمامه، فهو
قادر أن يستعيد من الماضي خبراته السابقة، بما يساعده على التكيّف الحاضر. كما أنّ
للإنسان القدرة على إعادة النظر في عمله إذا ما شابه أي خلل، فالقائد العسكري
الذكيّ يعدّل خطة عمله بحسب ما يستجد في ساحة القتال. وهكذا نرى أنّ الإنسان مهندس
يصمم وتقني ينفّذ. ولهذا السبب فإنّ العالم الإنساني سوف يستمرّ في التطوّر بعكس
عالم الحيوان. قالب برغسون: "الذكاء أداة تبدع أدوات متنوّعة، أمّا الغريزة
فهي أداة لا تعرف إلاّ أن تبدع نفسها".
ب- الذكاء النظري:
للإنسان ذكاء
نظري إلى جانب الذكاء العملي، وهو القدرة على التفكير بواسطة المفاهيم، وإقامة
روابط بين الأفكار. فذكاء الطفل يبدأ عمليًا ويتحوّل إلى نظري وتجريدي أثناء فترة
نموه. والوصول إلى التجريد يعني الوصول إلى اعتماد اللغة، والتي تُعتبر نظام من
الرموز والإشارات لتأمين التواصل البشري، وحفظ المعرفة وتوسيعها إلى أبعد حدود.
قال ديكارت "الحيوان لا يفكرّ لأنّه لا يتكلّم". ويظهر ذكاء الإنسان من
خلال قدرته على بناء علاقات مع الآخرين والتواصل معهم. وهكذا فإنّ ذكاء الإنسان
يتميّز عن ذكاء الحيوان بالدرجة والطبيعة، لأنّه قادر على صنع الآلات والتجريد
والتواصل بواسطة المفاهيم.
إضافة إلى هذين
النوعين من الذكاء فقد أضاف بعض العلماء أنواعًا جديدة، إذ اعتبر ثورندايك أنّ
هناك نوعًا ثالثًا من الذكاء هو الذكاء الإجتماعي. ومع بداية القرن العشرين بدأنا
نسمع عن أنواع جديدة من الذكاء، فالمهندس والفنان والأديب والمحامي يتمتّعون
بأنواع مختلفة من الذكاء، وقد أعرب غاردنر عن وجود سبعة أنواع من الذكاء بما فيها
الذكاء الجسدي عند الرياضيين والراقصين.
V. قياس الذكاء:
وضع الأميركي
كاتل أوّل إختبار لقياس الذكاء. إلاّ أنّ الإختبار الذي يتناول قياس ذكاء الأولاد
بحسب أعمارهم، هو من وضع بينيه الفرنسي ومساعده سيمون. وقد اعتمد فيما بعد عالم
النفس شتيرن طريقة لقياس حاصل الذكاء عند الفرد، إنطلاقًا من مقارنة العمر الفعلي
بالعمر العقلي حسب المعادلة التالية:
العمرالعقلي
-------- × 100= حاصل الذكاء
-------- × 100= حاصل الذكاء
العمر الفعلي
إذا كان الحاصل
أكثر من مئة فهذا يعني أنّ الفرد متفوّق في ذكائه، وإذا كان أقلّ فإنّ هذا يعني
أنّه متخلّف، وإذا كان مئة فهذا يعني أنّ الفرد سويّ عاديّ. أُدخلت بعض التعديلات
على هذا الرائز بسبب الإعتراضات عليه بأنّه لا يأخذ بعين الإعتبار البيئة
الإجتماعية التي يعيش فيها الولد بل يساوي بين كلّ الأولاد. لذلك يبقى هكذا نوع من
القياسات ناقصًا رغم كلّ التعديلات، إلاّ أنّه يعطي نوعًا من المقاربة الصحيحة
لذكاء الإنسان.
خلاصة:
ليس الذكاء
خاصّة مستقّلة في شخصية الإنسان، بل هو نتيجة تفاعل عناصر كثيرة: نوع التربية،
وطرائق التعليم، والأوضاع الشخصية... فالنتائج المدرسية ليست الدليل القاطع على
مستوى الذكاء، وينبغي البحث في حال التأخّر المدرسي عن عوامل عديدة: كجوّ العائلة،
وطريقة التعليم، وحال المعلّمين...
والذكاء ليس
ثابتًا عند الإنسان، إذ يمكن تنميته وتطويره، فالإنسان لا يستعمل إلاّ قدر قليل من
ذكائه، وحتّى هذا القليل فإنّه لا يحسن اختياره. وبالتالي فإنّ للتعليم الدور
الأساس في تنمية الذكاء وخلق أجواء لتكيّفه.
الذكاء الحاد: كيف أسهم
تشكيل الأدوات في بناء عقولنا؟
ديفيد روبسون
٤ نوفمبر ٢٠١٤
كيف أصبحنا الكائنات الأذكى على كوكب الأرض؟ يمكن التعرُّف على قصة
القفزات العقلية لأسلافنا من خلال الأحجار؛ ودليلنا في ذلك أحد العاملين الحاليين
في مهنة تشذيب الأحجار.
تطايَرَ «الشررُ» عند احتكاك حجر
مع آخَر، وكانت شظايا ناجمة عن هذا الاحتكاك ترتدُّ من الأثاث الذي يحيط بي كلما
اصطدمتُ به. كل ضربة جعلتني أجفل، ولكن بروس برادلي كان مثالًا حيًّا على التركيز
ورباطة الجأش وهو يكحت رأس الفأس التي يصنعها. على أي حال هي مهارةٌ ظلَّ برادلي
يصقلها منذ وقت طويل يصعب عليه تذكُّره. يقول برادلي: «لقد كنتُ أشذِّب الحجارة
منذ نعومة أظفاري. قد تسخر من ذلك إذا أردْتَ، ولكنني لديَّ مقطع فيديو يثبت ما
أقول.» ويضيف برادلي قائلًا إنه عندما كان طفلًا كان عادةً ما يُرَى وهو يضرب
حجرًا بحجر في حديقة والديه. بعد ذلك، عندما انتقلَتْ عائلته إلى ولاية أريزونا،
طَوَّرَ برادلي من قدراته من خلال محاكاة أنصال السهام المنتشرة في الصحراء، التي
كان يصنعها سكان أمريكا الأصليون.
بعد مرور عقود من الزمان، صنَعَ برادلي
أدواتٍ حجريةً كنماذج لتلك التي ظهرت على امتداد التاريخ البشري. تعجُّ ورشة عمله
في جامعة إكستر بالمملكة المتحدة بهذه الأعمال اليدوية؛ حيث توجد هناك أكوام من
الأحجار موضوعة بجوار الحوائط، ويوجد في أحد الجوانب جِلْدُ ظبيٍ عليه بقعة داكنة،
مُعلَّقًا في إطارٍ خشبيٍّ. يخبرني برادلي بأن هذا الظبي ذُبِح باستخدام بعض
الأدوات اليدوية التي صنعها فريقه. يقول برادلي: «لدينا ثلاجة هناك ممتلئة بقطع
اللحم، يمكنك تناوُلها إذا أردْتَ.»
لكنني كنتُ مهتمًّا بمكان آخَر،
فلم تكن الأدوات الحجرية الموجودة أمامي على الطاولة مفيدة فحسب، بل إنها تروي
أيضًا رحلةَ تطوُّرِنا من مجرد قرد إلى إنسان مُفكِّر يمتلك عقلًا. اعتمدَتِ
المحاولاتُ السابقة لتتبع تاريخ العقل على التكهُّن بقدر ما اعتمدَتْ على الأدلة
الدامغة. لكن، على مدار السنوات الثلاث الماضية، اتَّبَعَ مشروع برادلي الذي بعنوان
«خبرات معرفية شكَّلَتْ عقل الإنسان» نهجًا أكثر دقةً في استكشاف أدمغة البشر
الذين صنعوا هذه الأدوات. يمكننا الآن من خلال وضع النتائج التي توصَّلْنا إليها
بشأن تشكيل الأدوات الحجرية جنبًا إلى جنب مع علم الأعصاب وعلم النفس وعلم الآثار؛
أن نضع تقديرات تتعلق بأصول القدرات العقلية التي يمتاز بها البشر كتحديد الوقت
الذي بدأنا فيه للمرة الأولى ترتيبَ أفكارِنا وأفعالنا، ومتى ازدهر تخيُّلنا
البصري، ومتى بدأنا التفكير في الماضي والمستقبل، ومتى كانت أول مرة مارسنا فيها
الألعاب التمثيلية (التخيُّلية)، بل إن هناك أيضًا تلميحاتٍ حول الوقت الذي نشأَتْ
فيه قدرتنا على الصبر والشعور بالخجل والشك وكذلك طبيعة أحلام أسلافنا.
الحجم ليس كل شيء: يتعلَّق الذكاء
البشري بتنظيم مناطق المخ أكثر مما يتعلَّق بالحجم الكلي للمخ. من الممكن أن تكون
الأدوات قد شكَّلت دورًا رئيسيًّا في تكوين أجزاءٍ من هذا العضو المعقَّد.
اعتقَدَ الناس لفترة طويلة في
وجود «مُكَوِّن سرِّيٍّ» يتفرَّد به الذكاءُ البشريُّ، والذي قد يفسِّر قدراتنا
المعرفية الاستثنائية. ومنذ وقت ليس ببعيد، سُلِّطَتِ الأضواء على حجم المخ، أو
بعبارة أخرى على فكرة أن امتلاك مخٍّ كبيرٍ يُعَدُّ السرَّ وراء تميُّز قدراتِنا
المعرفية. مع ذلك، يتضح أكثر فأكثر أنه ليس هناك مُكَوِّن سرِّيٌّ، بل إن طريقتنا
المميزة في التفكير تنبع من إعادة تنظيم الأجزاء المختلفة للمخ بقَدْر ما تنبع من
نمو حجمها (انظر الرسم بعنوان «الحجم ليس كل شيء»). فضلًا عن ذلك، حدثَتْ عمليةُ
إعادة تنظيم الأجزاء المختلفة للمخ قبل أن نتطوَّر ونتشعَّب عن الشمبانزي بوقتٍ
طويلٍ؛ نحو ستة ملايين سنة. في الواقع، يمكن ملاحظة تغيُّرات مشابهة ولكن أخف حدةً
لدى أقرب أقربينا على سلم التطوُّر في طائفة الرئيسيات. يقول يورون سمارز من جامعة
ستوني بروك في نيويورك، الذي عقد مقارَنةً العام الماضي بين ١٧ نوعًا من الرئيسيات
من حيث تطوُّر المخ: «بدرجةٍ ما، نحن لا نعدو كوننا قردة أكثر تطوُّرًا.»
إذن، ما الذي عَجَّلَ بهذا
التطوُّر في سلسلة أسلافنا بما يتجاوَز ما كان يحدث في القردة الأخرى، وكيف ساعَدَ
هذا الأمر في ظهور طُرُقٍ جديدة للتفكير؟ لا يمكننا تحديدُ معالم هذا المسار إلا
من خلال إعادة فحص السجلات الأثرية (انظر التسلسل الزمني أدناه). لهذا السبب أنا
متواجِد في ورشة عمل برادلي.
توقَّفَ برادلي عن مواصلة عمله
لفترةٍ وجيزةٍ كي يعرض عليَّ ثلاث أدوات حجرية، كانت أولاها وأكثرها بدائيةً هي
الصخر المُسنَّن الذي ربما يشير إلى أول لحظة فارقة في تلك الرحلة. كان أسلافنا الأوائل، إلى جانب
سَيْرهم على القدمين، يشبهون القردة إلى حدٍّ كبيرٍ، وربما كان استخدامهم للأدوات
استخدامًا محدودًا مثلهم مثل الشمبانزي والرئيسيات الأخرى؛ حيث كانوا يلتقطون
الحجارة الصغيرة من على الأرض لسَحْق ثمار الجوز. لكن، تغيَّرَتِ الأمورُ منذ نحو
٢٫٦ مليون سنة مع ظهور قرد أسترالوبيثيكوس جارهي؛ فبدلًا من الاكتفاء بالاستفادة
من الطبيعة بالحالة التي وجدوها عليها، بدأت هذه القرود في إدخال تعديلات على
الطبيعة؛ حيث استخدموا ببراعة حجرًا واحدًا في تشذيب طرف حجرٍ آخَر، واستعملوا
الحافة الحادة الناتجة في ذبح الحيوانات. إن فكرة استخدام أداةٍ معيَّنَةٍ من أجل
ابتكار أداة أكثر نفعًا منها تُعَدُّ في حدِّ ذاتها قفزةً مفاهيميةً. لكن الأمر الذي لا يقل أهميةً هو
حقيقة أن ابتكار أداة مسنَّنة على غرار أدوات الحضارة الألدوانية يتطلَّب براعةً
وتحكُّمًا في الحركة، وهما شيئان لا يتوافران لدى الأنواع الأخرى من القردة؛ فهذا
الأمر يتضمَّن عمليةَ تنسيقٍ لأطرافك بحيث تكون لكلِّ يدٍ وظيفةٌ مختلفة عن
الأخرى. تقول ندى خريشة، زميلة برادلي: «ستحتاج إلى استخدام يدٍ في الدعم وأخرى في
الطَّرْق.» وتلك حركات يجد الشمبانزي صعوبةً في إتقانها، حتى مع التدريب. إذا كان
هذا التحكُّم في الجسد يبدو كوثبةٍ بسيطةٍ أكثر من كونه قفزةً كبيرةً؛ فتأمَّلْ
جميع الفُرَص الجديدة التي أتاحها — بما في ذلك ابتكارُ أدواتٍ أفضل — والتي من
الممكن أن تعزِّزَ مستويات ذكاء البشر؛ مما يزيد من سرعة تطوُّرهم مقارَنةً
بالأنواع الأخرى من القردة. يقول برادلي: «أنا على استعدادٍ للمراهنة بأنه لم يكن
ليتواجد الوعي والإدراك على هذا الكوكب لو أنه لم يكن لدينا أحجار قابِلة لتقطيعها
إلى رقائق.»
إلا أن أسلافنا
كانوا يتطوَّرون ببطء حتى مع وجود ذلك العامل المحفِّز. فلم يكن هناك تغيُّر ملحوظ
إلا مع ظهور الإنسان المنتصب القامة، بعد مرور نحو مليون سنة. الإنسان المنتصب القامة له أهمية؛
نظرًا للعديد من الأسباب، فقد عاش في جماعاتٍ أكبر من أسلافه، إلى جانب أنه كان
يمتلك جسمًا مُشابِهًا إلى حدٍّ كبير لجسم الإنسان الحديث. إن نجاح العيش في
جماعات يستلزم التعاون والقدرة على الكشف عن المخادعين الذين يحاولون الحصول على
شيء دون بذل جهد ومعاقبتهم. وفقًا لرأي إيفا جابلونكا من جامعة تل أبيب في إسرائيل،
من الممكن أن تكون تلك التحديات قد حفزت عملية تطوُّر الأحاسيس المعقَّدَة مثل
الشعور بالخزي والإحراج، التي من شأنها أن تساعد الأفراد على الانصياع للأوامر. تقول إيفا: «لقد تطوَّرَ لدينا
الجانبُ العاطفيُّ قبل أن يتطوَّرَ الجانبُ المعرفي.» لكن ما يميِّز بالفعل طريقةَ
التفكير لدى الإنسان المنتصب القامة يكمن في الأداة الثانية من الأدوات الثلاث
الموجودة أمامي، وهي الفأس الحجرية في المرحلة الأشولية؛ وهي أداة مميزة تشبه ورقة
النبات.
أفضل من حيث التصميم
نحن لا نعلم مصدرَ الإلهام الذي يقف
وراء هذا التصميم الثوري، فربما أُوحِيَ بفكرته في منام. كانت المحاولات الأولى
التي ترجع إلى نحو ١٫٥ مليون سنة، بسيطة للغاية، ولكن على مدار المليون عام التي
أعقبت تلك الفترة، أصبحت الفئوس الأشولية أكثر رفعًا وتناسقًا؛ حيث بدأت في تجسيد
أسلوب عمل أكثر تنظيمًا واتساقًا. أوضح برادلي أنه لكي تشكِّلَ تصميماتٍ أكثرَ
تعقيدًا ودقةً، ستحتاج إلى تجهيز سطح الحجر عن طريق إزالة رقاقات أصغر حجمًا من
أجل تشكيل زاوية قبل الطَّرْق على الرقاقات الأكبر حجمًا والأكثر تسطُّحًا. قال
برادلي وهو يزيل رقاقات من الحجر الذي أمامه: «لقد تطلَّبَ تصميمُ هذه الفئوس
الكثيرَ من التخطيط والفهم للقوة.» إن تقسيم هدفٍ ما إلى مجموعة من الأفعال الأكثر
بساطةً على هذا النحو يشير إلى بدايات التفكير الهرمي. إن تقسيم أفعالنا إلى أقسام
وترتيبها ترتيبًا متسلسلًا يمثِّل على ما يبدو جوهرَ الطريقة التي نستخدمها في
أدائنا للأنشطة المختلفة في الوقت الحالي — سواء كنَّا نصنع كوبًا من الشاي أو
نملأ حوضَ الاستحمام بالمياه — مما يعني أنه يكاد يكون من المستحيل تخيُّلُ عقولنا
تعمل بأي طريقة أخرى. لكن التصميمات المصقولة للفئوس الأشولية تقدِّم بعضَ الدلائل
الأولية على أن قدرة أسلافنا على تنظيم أفكارهم بهذه الطُّرُق الأكثر تعقيدًا كانت
في بداية تطوُّرها. إن هذا التجديد في
تصميم الفئوس يرتبط بنقلة مرحلية أخرى مهمة في الإدراك المعرفي البشري، أَلَا وهي
اللغة؛ إنه نظام معقَّد للغاية يعتمد على العديد من عمليات التفكير المختلفة،
لدرجة أن أصوله تُوصَف في بعض الأحيان بكونها اللغزَ الأكبرَ في مجال التطوُّر،
لكن هناك بعض الأدلة تشير إلى أن صنع الأدوات ربما كان عاملًا حافزًا. يشير أحدُ المتعاونين مع برادلي، وهو
ديتريش ستاوت من جامعة إيموري في أتلانتا بولاية جورجيا، إلى أن النطق بوضوحٍ
يتطلَّب حركةً دقيقةً للشفتين واللسان. لا يمتلك الشمبانزي والرئيسيات الأخرى
القدرةَ على القيام بذلك، ولكن عند أسلافنا، حفَّزَ صُنْعُ الأدواتِ عمليةَ تطوُّر
مناطق المخ التي لها دور في التحكُّم في الحركة، والتي أُسنِدَتْ إليها لاحقًا
مهمةُ التحكُّم في الكلام. يشير ستاوت أيضًا إلى أن التفكير التتابعي اللازم
لابتكار الفئوس الحجرية التي على شكل ورقة نبات يتشَابَه مع التفكير الذي يتيح لنا
فهم الجمل وبناءها.
لاختبار مدى صحة
هذه النظرية، أجرى ستاوت فحوصاتٍ على المخ في محاولةٍ منه لتحديد المهارات
المعرفية المستخدَمَة في كل نوع من أنواع صُنْع الأدوات. كما هو متوقَّع، أظهرَتْ
فحوصاتُ المخ أن الأشخاص الذين يصنعون نُسَخًا مطابقةً للأصل من الأدوات التي كانت
تُصنَع في الحضارة الألدوانية، يكون لديهم أعلى درجة من النشاط في مناطق المخ المرتبطة
بالتحكُّم في الحركة اللازمة للتحدُّث، في حين أن نشاط المخ لدى الأشخاص الذين
صنعوا أدواتٍ تحاكي تلك التي كانت تُصنَع في العصر الأشولي المتأخِّر يُظهِر
تداخلًا بينه وبين نشاط المخ الذي يرتبط عادةً بالقواعد اللغوية. وهذا يشمل
التلفيف الجبهي السفلي على طول الجزء السفلي من الفص الجبهي؛ وهي المنطقة التي
نمَتْ سريعًا لدى الجنس البشري مقارَنَةً بالأنواع الأخرى من القردة.
من ثَمَّ، يمكن
القول بأن اللغة هي السمة التي نتفرَّد بها، وظهورها هو الذي وضع حدًّا فاصلًا
بيننا وبين جميع الأنواع الحيوانية الأخرى، ولكن لسوء الحظ، نقطة التحوُّل هذه في
رحلتنا تكاد لا تُذكَر في السجلات الأثرية. لم يتمكَّنْ برادلي من أن يُظهِر لي
الأدواتِ التي تدلُّ على نحوٍ قاطعٍ على الكلمات الأولى التي نَطَق بها أسلافنا،
لكن هناك تلميحات بأن أسلافنا بدءوا الكلامَ في الوقت الذي يُعتقَد فيه أن النوع
المنقرض من إنسان هايدلبرج، قد تطوَّرَ من الإنسان المنتصب القامة منذ نحو ٦٠٠ ألف
سنة على الأقل.
مما لا شك فيه أن
إنسان هايدلبرج كان أكثر شبهًا بالإنسان الحالي من جوانب أخرى؛ فقد كان حجم المخ
لدى إنسان هايدلبرج ١٢٠٠سم٣ وهو أصغر بفارقٍ
طفيفٍ جدًّا عن حجم المخ البشري الحالي؛ مما أعطاه قوةً معرفيةً تتجلَّى في مختلف
الأدوات التي كان يستخدمها، بما يشمل الفئوس الحجرية والسواطير وأنصال الرماح
المصقولة. لا بد أنَّ
تَخَيُّلَ مسألة تحويل كتلةٍ من الحجارة لا شكلَ لها إلى هذه الأشكال والأنماط
المختلفة قد تطلَّبَ إدراكًا مكانيًّا جيدًا، وربما يشير هذا إلى نشأة التخيُّل
البصري لدى البشر. لقد تردَّدَ إنسان
هايدلبرج على أماكن محدَّدة مرارًا وتكرارًا، مُخلفًا في بعض الأحيان الفئوس
اليدوية في أنحاء شتى من الأرض. هذا الإهدار المتعذِّر تفسيرُه لأعمالٍ يدويةٍ
جيدة يراه البعضُ محاوَلَةً مبكِّرةً لتحديد المواقع المهمة، وهذا يقترب من طريقة
التفكير التي تُعَدُّ ضروريةً لاستخدام الرموز. الأمر المهم أن إنسان هايدلبرج كان
يتمتع بجهاز صوتي أكثر تطوُّرًا؛ على سبيل المثال، تشير الآثار الموجودة في العظام
إلى أن إنسان هايدلبرج كان لديه عدد أكبر من الأعصاب التي تربط بين المخ واللسان
مقارَنةً بأسلافه، ويبدو أن صندوق الصوت لدى إنسان هايدلبرج لا توجد به زائدةٌ
أشبه بالبالون تعيق النطقَ كما هو الحال في الأنواع الأخرى من القردة. إن هذين
التغييرين لازمان من أجل إصدار الأصوات بوضوح والتحدُّث بطلاقة.
في أي وقت ظهرَتْ
فيه اللغة جلبَتْ معها مجموعةً جديدةً كاملة من التحديات العقلية. تقول جابلونكا:
«عندما أروي لك قصةً، من الممكن أن أجعلَكَ تشعر بالخوف بسهولةٍ شديدةٍ، ويجب عليك
أن تتحكَّمَ في هذا الخوف.» من السهل التسليم جدلًا بتلك القدرة، لكن الشمبانزي فشل في التمييز على
نحوٍ جيدٍ بين الرموز والأشياء الحقيقية؛ فهو على سبيل المثال، يُثَار بشدةٍ عندما
يرى صورةً لثمرة موز. بالمثل، قد يكون
أسلافنا جاهدوا في بداية الأمر من أجل فهم الصور العقلية التي تستحضرها اللغة.
تقول جابلونكا إنه كي يتعامل أسلافنا مع ردود أفعالهم العميقة والمباشِرة؛ يجب أن
تكون قد تطوَّرت قدرتُهم على التحكُّم في انفعالاتهم. وعليه فإنهم ربما يكونون قد
تعلَّموا خلال ذلك كيف يكونون أكثر شكًّا وارتيابًا في الآخَرين. بالإضافة إلى
ذلك، هم احتاجوا إلى ذاكرةٍ لفظيةٍ أَفْضَل كي يتمكَّنوا من تذكُّر ما قاله
الآخَرون لهم، للتفريق بينه وبين ما حدَثَ في حياتهم الخاصة. تقول جابلونكا إنه
انطلاقًا من هنا، نشأَتْ لدى الإنسان
القدرةُ على «رواية قصته؛ أي: سيرته الذاتية». إذا كانت جابلونكا على صواب، فإن
اللغة ساهمَتْ في شعورنا بالذات.
صُنِعت بإتقان
الأرجح أن أسلافنا
كانوا لا يزالون يحاولون التعامُل مع هذه الصعوبات في الوقت الذي اقترَبَ العقل
البشري فيه من المرحلة الأخيرة من رحلته. يلفت برادلي انتباهي إلى الأداة الثالثة
الموجودة على الطاولة أمامنا؛ وذلك من أجل أن يسلِّط الضوءَ على هذه القفزة
العقلية النهائية. هذه الأداة الجميلة المصنوعة وفقًا لطريقة لوفالوا في تشكيل
الحجارة نُحِتَتْ من حَجَرٍ أسودَ لامعٍ، وتبدو مع النُّقَر الصغيرة التي تبطِّن
حافتَها أشبه إلى حدٍّ ما بصَدَفة محار. يخبرني برادلي بأن هذه الأداة تشبه الفئوس
الحجرية الأكثر بدائيةً إلى حدٍّ كبيرٍ؛ حيث تُستخدَم هي الأخرى في تقطيع اللحم
وتقسيمه إلى أجزاء صغيرة، ربما كانت قيمة هذه الأداة جماليةً أكثرَ منها عمليةً.
لِصُنْع هذه الأداة، يُشكَّل حجرُ الأساس في صورةٍ دائريةٍ قبل إزالة «الغطاء»
بطَرْقةٍ واحدةٍ، إن تلك الحرفة تتطلَّب مهارةً وصبرًا كبيرين؛ وفقًا لما توصَّلَ
إليه تلامذة برادلي وخريشة المتدرِّبون على هذه الحرفة في العصر الحديث. تقول
خريشة: «الناس يحبون صنع الفئوس الحجرية، ولكنهم يكرهون صنع أدوات لوفالوا.» بما
أن هذه العملية تضمُّ العديد من المراحل المختلفة، وغالبًا ما يحتاج المتدرِّبون على
هذه الحرفة إلى تعليمات محدَّدة، فإن العقل الذي تمكَّنَ في المقام الأول من
ابتكار هذه الأداة كان على الأرجح قادرًا على التفكير الهرمي المتطوِّر والتواصُل
المعقَّد اللازمين للتعليم. ظهرَتْ هذه الأشياء المعقَّدَة للمرة الأولى منذ ٣٠٠
ألف عام على الأقل، لكن على الرغم من وجودها ضمن الآثار التي خلفها نوعُنا
البشريُّ، إلا أنها تقترن على نحوٍ أكثَرَ شيوعًا بإنسان نياندرتال.
تقدِّم أدوات
لوفالوا بعضًا من أفضل الأدلةِ التي تشير إلى أن إنسان نياندرتال كان يتقاسَم
الكثيرَ من قدرات الإدراك المعرفي التي كان يملكها البشر الذين كانوا يعيشون في
الوقت ذاته. هنا يكمن اللغز، يقول برادلي: «أيًّا كانت القفزة المعرفية التي
حقَّقَها إنسان نياندرتال، فإنها توقَّفَتْ ولم تستمر.» إذن، لماذا طوَّرْنا
ابتكاراتٍ أكثر طموحًا وثقافاتٍ فنيةً ثريةً بالرغم من توقُّف إنسان نياندرتال عن
التطوُّر؟ أجِبْ عن هذا السؤال وسوف تتعرف على المرحلة النهائية من تطوُّر العقل
البشري.
يعتقد البعضُ أن
الإجابة عن هذا السؤال تكمن حرفيًّا في اللعب الذي يمارسه الأطفال. فبينما أخذ أسلافنا في التشعُّب عن
الرئيسيات الأخرى، أخذَتْ مرحلة الطفولة تطول على نحوٍ مستمرٍّ؛ مما أعطى للمخِّ
المزيد من الوقت للتطوُّر خارج الرحم. يبدو من بقايا العظام والأسنان أن أطفال
الإنسان البدائي استغرقوا وقتًا أطول في التطوُّرِ والنموِّ مقارَنةً بأطفال إنسان
نياندرتال. تقول أليسون جوبنيك، أستاذ علم نفس الطفل في جامعة كاليفورنيا في
بيركلي، إن الوقت الإضافي الذي استغرقه أطفال إنسان نياندرتال في اللعب ربما يكون
قد ساعَدَهم على تطوير نوعٍ جديدٍ من التفكير وهو «التفكير المخالِف للواقع»؛ وهو
القدرة على التفكير فيما قد تبدو عليه الأشياء، وليس الكيفية التي تبدو عليها
فعليًّا فحسب. تقول أليسون إن ذلك
الأمر أتاحَ لهم تخيُّلَ البيئة بطُرُقٍ أكثر إبداعًا؛ مما أعطاهم تحكُّمًا أكبر
فيما يحيط بهم. نتيجةً لذلك، أصبح بإمكانهم القيام بأمور ربما لم تتبادَر إلى
أذهان الإنسان في العصور البشرية الأولى، مثل ابتكار أدوات جديدة وبناء أماكن
إيواء. من وجهه نظر فريدريك كوليدج وتوماس وين من جامعة كولورادو في مدينة
كولورادو سبرينجز، فإن هناك عاملًا محفزًا أكثر تأثيرًا. يقول فريدريك وتوماس إن
القفزة المعرفية الأخيرة كانت تعود إلى طفرةٍ وراثيةٍ حدثَتْ بالصدفة زادَتْ من
قدرتنا على تذكُّر العديدِ من الأفكار والتعامُل معها، حتى لدى البشر في العصر
الحديث، فإن هذه «الذاكرة العاملة» تقتصر على نحو سبعة أشياء. مع ذلك، فإن زيادةً
ضئيلةً ربما كان لها نتائج هائلة. إنَّ قدرة الإنسان المتطوِّرة على تذكُّر ما قد قِيلَ أمامه للتوِّ
ربما تكون قد أدَّتْ إلى زيادة تعقيد وتطوُّر المحادثة؛ مما يسمح باستخدام قواعد
نحوية أكثر تعقيدًا بجملٍ عديدةٍ ومختلفةٍ؛ وذلك يعني أنه يمكنك التفكيرُ
والتخطيطُ على نحوٍ افتراضيٍّ باستخدام عباراتٍ؛ مثل: «ماذا لو؟! …» و«إذا … فإن
…»
ترتبط الذاكرة
العاملة أيضًا بالابتكار والإبداع؛ وذلك لأنها تسمح لك بالاكتشاف الذهني للحلول
المختلفة لمشكلةٍ ما. يُشِير وين وكوليدج أيضًا إلى بَحْثٍ يوضِّح أن الذاكرة
العاملة المتطوِّرة كان من الممكن أن تُحسِّن ذاكرتنا الطويلة المدى والتخطيط
المستقبلي؛ وذلك لأنها تُقَدِّم ما يشبه «لوحًا ذهنيًّا أسود» أكبر حجمًا، يمكننا
أن نجمع ونسجِّل عليه تفاصيلَ تجاربنا السابقة، وأن نعتمدَ عليه في التوصُّل إلى
أفضل طريقةٍ للمضيِّ قُدُمًا في المهمة.
وصفة لتحقيق النجاح
لقد دعمَتْ موجةٌ من الأدلة المقترنة
بظروفٍ معينةٍ هذا الافتراضَ خلال السنوات الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال، ألقَتْ لين
وادلي من جامعة ويتووترسراند في جوهانسبرج في جنوب أفريقيا نظرةً على خطواتِ
صناعةِ مواد الغِرَاء المُستخدَمَة في لصق نصل الرمح في عصاه. إن البشر في العصور
الأولى كانت لديهم مواد لاصقة بسيطة مثل الصمغ النباتي، لكن وادلي وجدَتْ أن البشر
الذين كانوا يعيشون في كهف سيبودو في جنوب أفريقيا بدءوا منذ نحو ٧٠ ألف عام في
صنع توليفة من عصارة الشجرة مع مادة غروية حمراء وشمع النحل؛ مِنْ أَجْلِ إنتاج
غراء ممتاز لا يتكسَّر إلى أجزاءٍ عند تعرُّضِه للاصطدام، ولا يذوب في الماء.
وجدَتْ وادلي عندما حاولَتْ أن تكرِّر
الوصفات المعقَّدَة أنه يتعيَّن عليها أن تأخذ في الاعتبار العديدَ من العوامل
المختلفة، من بينها درجة حرارة النار والرطوبة والنِّسَب المختلفة من المكونات؛
اعتمادًا على جودة عصارة الشجرة. تقول وادلي: «لقد تطلَّبَ الأمرُ الكثيرَ من
التنسيقِ من أجل ضمان نجاح الوصفة.» وهو أمرٌ لا يمكن حدوثه إلا مع وجود ذاكرةٍ
عاملةٍ متطوِّرةٍ من أجل تذكُّر جميع العناصر المختلفة في نفس الوقت.
يُستمَدُّ المزيد من الأدلة من الطعام
الذي كان يتناوله هؤلاء الناس؛ ففي ذلك الوقت تقريبًا، بدأ الإنسانُ البدائيُّ
الحديثُ في اصطياد الطرائد البرية الصغيرة؛ مثل أنواع الغزلان الصغيرة والقوارض.
جرَّبَ كلينت جانيوليس — الخبير السابق في مجال أساليب نجاة أفراد الجيش في الظروف
الصعبة، الذي يعمل في الوقت الحالي في جامعة أوكسفورد — الطُّرُق التي استخدموها،
ووجد أنه بحاجة إلى وضع من ١٠ إلى ١٥ فخًّا من أجل التقاط ما يكفي من الطعام ليكون
الأمرُ جديرًا بالعناء. يقول كلينت: «يمكنك في خلال بضع ساعات نصب عدد من الفخاخ
الكافية للحصول على طعامك، وربما لشخصٍ آخَر لمدة يوم واحد.» لكن هذا الأمر
يتطلَّب نوعًا من التروِّي، إضافةً إلى أن تتبُّعَ مواقعهم يحتاج إلى هذا النوع من
الإدراك المعرفي المتطوِّر الذي أشار إليه كلٌّ من وين وكوليدج.
إن توقيت حدوث هذه التطوُّرات منذ ٧٠
ألف عام يُعَدُّ أمرًا ذا أهمية خاصة؛ وذلك لأنها أعقبَتِ اندلاع بركان توبا
الهائل في إندونيسيا، والذي أدخل العالم في عصر جليدي قصير وتسبَّبَ في انخفاض عدد
السكان في أفريقيا. من الممكن أن تكون جميع الطفرات الوراثية المفيدة التي حدثَتْ
لدى العدد الصغير المتبقِّي من السكَّان قد انتشرَتْ سريعًا تاركةً أثرًا باقيًا
في سلالتهم. يقول كوليدج: «إنَّ جميع البشر الباقين على قيد الحياة هم سلالة هؤلاء
البشر البالغ عددهم ٢٠٠٠ أو نحو ذلك.» إذا كان وين وكوليدج على حقٍّ، فإن اندلاعَ
بركان توبا كان بمنزلة نقطة البداية للمرحلة الأخيرة الموصِّلة إلى التفكير
الحديث. وبفَضْل تسلُّحنا بهذا النوع من التفكير المتميِّز نوعًا ما، تركنا
أفريقيا واستحوذنا على العالم، بينما انقرَضَ إنسان نياندرتال وغيره من أبناء
عمومتنا في عملية التطوُّر.
بالطبع رحلتنا لم تنتهِ، ومن المثير
التكهُّنُ بالكيفية التي سيتطوَّر بها عقل الإنسان في المستقبل. يتساءل وين إذا ما
كنَّا سنرى المزيدَ من التغيُّرات في الذاكرة العاملة أم لا، ويقول: «إن الذاكرة
العاملة متغيِّرة ما بين السكان.» ويضيف قائلًا: «نحن نظنُّ أنها قد لا تزال تخضع
للتغيُّر التطوري.» من الممكن أن تغيِّر التطوراتُ في مجال التكنولوجيا التحدياتِ
العقليةَ التي نُواجِهها تغييرًا جوهريًّا، تمامًا مثلما فعلَتِ الأدوات الحجرية
في الماضي. إن الادعاءات القائلة بأن الإنترنت يجعلنا أغبياء ثبت أنها لا أساس لها
من الصحة حتى الآن، لكنَّ طريقةَ تفاعُلِنا بعضنا مع بعض تخضع بالتأكيد إلى
التغيُّر، وكذلك المهارات العقلية المرتبطة بالنجاح أيضًا.
يهتم برادلي بالماضي أكثر من اهتمامه
بالمستقبل. كان الهواء ممتلئًا بغبار حجر الصوان عندما أعطاني برادلي الفأس بعد
انتهائه من صنعه. يقول برادلي إنه لا يزال هناك العديد من الأسئلة التي تحتاج إلى
إجابات بينما نحاول استكمال الحلقات الناقصة من سلسلة التطور المعرفي. ويضيف
برادلي: «من وجهة نظرنا، هذه مجرد دراسة للجوانب السطحية لما يُمكن القيام به.»
لكنه تمكَّنَ فعليًّا من تحقيق أحد أهدافه، أَلَا وهو رغبته في تعليم جيل جديد من
العاملين في تشذيب أحجار الصوان المهاراتِ التي كان يصقلها منذ طفولته.
هناك أيضًا فرصة لأنْ تَجِد أعمالُ
برادلي اليدويةُ مكانًا لها إلى جانب تلك القِطَع الأثرية التي طالما أُعجِبَ بها
برادلي. يقول برادلي إن مؤسسة سميثسونيان الكائنة في واشنطن العاصمة تهتم بجَمْع
أعماله اليدوية التي صَنَعها طوال حياته من أجل إظهار مدى التقدُّم الذي يُحرِزه
المشتغِل بمهنة تشذيب الحجارة في العصر الحديث. يقول برادلي مازِحًا: «جسدي أيضًا
قد يكون أحد المعروضات الدائمة في مؤسسة سميثسونيان عند وفاتي.» ستكون هذه المؤسسة
مرقدًا ملائمًا لبرادلي الذي عمل بمهنة تشذيب الأحجار «منذ نعومة أظفاره»، وقضى
حياته محاولًا فهم الكيفية التي شكَّلَتْ بها الخبراتُ التراكميةُ تفكيرَ الإنسان.
قياس الذكاء؛ نقد
À en juger par sa notoriété, on pourrait
croire le fameux QI entré dans les mœurs et inoxydable. En réalité, pas du
tout : les psychologues l’utilisent avec une prudence grandissante, quand ils
ne préconisent pas de le supprimer. Mais que lui reproche-t-on ?
91 pour George W. Bush, 140 pour Madonna, paraît-il. Qui dit
mieux ? Le grand public semble aujourd’hui friand du quotient intellectuel
(QI), censé mesurer l’intelligence. Chacun étant curieux de connaître le sien,
des magazines, des sites Internet et des émissions télévisées proposent de le
calculer en quelques minutes pour le comparer à celui de personnalités du show-biz. On pourrait en
sourire, si cette vogue n’avait des effets pervers : les psychologues sont de
plus en plus souvent confrontés à des parents demandant qu’on leur fournisse le
QI de leur enfant afin de savoir quel avenir lui est promis… Or le QI n’est ni
un jeu ni un thème astral.
Le QI ne constitue pas une évidence mathématique : il a une longue histoire. Alfred Binet (1857-1911) et Théodore Simon (1873-1961) proposent en 1905 leur échelle métrique de l’intelligence, destinée à repérer les enfants promis aux plus grandes difficultés scolaires, afin de prévoir les aménagements pédagogiques qui leur seront dispensés.
Le QI ne constitue pas une évidence mathématique : il a une longue histoire. Alfred Binet (1857-1911) et Théodore Simon (1873-1961) proposent en 1905 leur échelle métrique de l’intelligence, destinée à repérer les enfants promis aux plus grandes difficultés scolaires, afin de prévoir les aménagements pédagogiques qui leur seront dispensés.
Le QI, source de bien des malentendus
L’échelle de Binet-Simon permet d’attribuer à chaque sujet son
« âge mental », c’est-à-dire l’âge auquel des enfants « normaux » accomplissent
des performances analogues aux siennes. Le retentissement de ces travaux sera
immense aux États-Unis. En 1916, une version élaborée par Lewis M. Terman
(1877-1956), inspirée du psychologue allemand William Stern (1871-1938), ajoute
le QI, en l’occurrence le rapport entre l’âge mental et l’âge réel, multiplié
par 100. Enfin, en 1939, pour faciliter l’utilisation de l’échelle sur les
adultes, le psychologue américain David Wechsler (1896-1981) modifie le mode de
calcul du QI, qui conserve son nom bien qu’il ne soit plus un quotient.
Le QI de type Wechsler, régulièrement actualisé, s’est imposé comme échelle d’évaluation de l’intelligence… mais constitue la source d’un premier malentendu. Le chiffre obtenu laisse croire que chacun disposerait d’une certaine dose de facultés intellectuelles. Or, le QI Wechsler ne mesure pas l’intelligence comme on mesure la taille ou le poids, mais classe (avec une marge d’erreur) un individu selon ses performances, par rapport à ses pairs de même âge. Le QI a donc une valeur statistique, et non pas métrique. Une autre idée reçue veut qu’il soit acquis une fois pour toutes dès 6 ans, ce qui signifie que malgré le développement de son intelligence, un individu occuperait toujours le même rang dans sa tranche d’âge. En fait, le QI n’est pas immuable : il peut varier considérablement si l’environnement socioculturel est lui-même modifié. Par exemple, une étude se penchant sur l’évolution intellectuelle des petits Américains a montré que le QI d’enfants pauvres peut chuter de 5 points entre 6 et 11 ans, tandis que celui d’enfants plus favorisés reste stable. Selon les chercheurs, aucun autre facteur que l’environnement ne semble expliquer ce chiffre (1). La valeur prédictive du QI est donc faible : un praticien ne peut se fonder sur un QI ancien pour apprécier l’intelligence actuelle ou future d’un patient.
Le QI de type Wechsler, régulièrement actualisé, s’est imposé comme échelle d’évaluation de l’intelligence… mais constitue la source d’un premier malentendu. Le chiffre obtenu laisse croire que chacun disposerait d’une certaine dose de facultés intellectuelles. Or, le QI Wechsler ne mesure pas l’intelligence comme on mesure la taille ou le poids, mais classe (avec une marge d’erreur) un individu selon ses performances, par rapport à ses pairs de même âge. Le QI a donc une valeur statistique, et non pas métrique. Une autre idée reçue veut qu’il soit acquis une fois pour toutes dès 6 ans, ce qui signifie que malgré le développement de son intelligence, un individu occuperait toujours le même rang dans sa tranche d’âge. En fait, le QI n’est pas immuable : il peut varier considérablement si l’environnement socioculturel est lui-même modifié. Par exemple, une étude se penchant sur l’évolution intellectuelle des petits Américains a montré que le QI d’enfants pauvres peut chuter de 5 points entre 6 et 11 ans, tandis que celui d’enfants plus favorisés reste stable. Selon les chercheurs, aucun autre facteur que l’environnement ne semble expliquer ce chiffre (1). La valeur prédictive du QI est donc faible : un praticien ne peut se fonder sur un QI ancien pour apprécier l’intelligence actuelle ou future d’un patient.
Une mesure mise à mal par les intelligences multiples
Certes, nulle épreuve psychologique ne prétend être parfaite.
Mais il existe un autre argument scientifique de taille contre le QI : il
constitue l’héritage du début du xxe siècle, au temps où l’on définissait l’intelligence
comme une faculté globale, unique, ou comme un ensemble d’aptitudes dotées d’un
dénominateur commun (le « facteur g »). Or, cette
conception est aujourd’hui battue en brèche : de nombreux psychologues
considèrent plutôt l’intelligence comme un ensemble d’aptitudes indépendantes,
inégalement exprimées dans chaque individu. Le QI ne serait un indicateur
correct que pour les performances intellectuelles requises dans un contexte
scolaire. La vie ne se résumant pas à l’école, plusieurs chercheurs jugent donc
indispensable, depuis deux décennies, de considérer d’autres formes
d’intelligences. C’est le cas de Howard Gardner, qui a proposé, en 1983, de
prendre en compte sept types d’intelligences (les « intelligences multiples »)
associées aussi bien aux aptitudes aux relations interpersonnelles qu’à la
musique, à la kinesthésie qu’à la morale. Il en suppose huit aujourd’hui, voire
neuf, bien qu’elles n’aient pas fait l’objet de validations scientifiques, H.
Gardner étant opposé aux évaluations psychométriques traditionnelles. Robert
Sternberg, pour sa part, défend depuis 1985 sa « théorie triarchique », fondée,
elle, sur des mesures empiriques. Il distingue trois formes d’intelligences :
une analytique (mesurée par le QI), mais aussi une intelligence pratique et une
créative. Le QI n’a pas été prévu pour rendre compte d’une telle complexité.
D’ailleurs, D. Wechsler lui-même percevait les limites d’un QI prétendant rendre compte, par un seul chiffre, de compétences disparates. C’est pourquoi il défendait la division du QI global en deux autres, l’un verbal et l’autre non verbal. Aujourd’hui, la dernière version des épreuves pour enfants de type Wechsler, si elle maintient la possibilité de calculer un QI global, privilégie quatre indices différents (compréhension verbale, raisonnement perceptif, mémoire de travail, vitesse de traitement). D’autres batteries utilisées sur le terrain par les psychologues, comme le K-ABC, distinguent également plusieurs sous-échelles inspirées par les avancées de la psychologie cognitive, mais négligent le calcul du QI global. L’important, alors, n’est pas ce que l’enfant a acquis ou non, mais comment il le fait. L’évaluation de ses capacités d’apprentissage prime sur celle de ses connaissances.
D’ailleurs, D. Wechsler lui-même percevait les limites d’un QI prétendant rendre compte, par un seul chiffre, de compétences disparates. C’est pourquoi il défendait la division du QI global en deux autres, l’un verbal et l’autre non verbal. Aujourd’hui, la dernière version des épreuves pour enfants de type Wechsler, si elle maintient la possibilité de calculer un QI global, privilégie quatre indices différents (compréhension verbale, raisonnement perceptif, mémoire de travail, vitesse de traitement). D’autres batteries utilisées sur le terrain par les psychologues, comme le K-ABC, distinguent également plusieurs sous-échelles inspirées par les avancées de la psychologie cognitive, mais négligent le calcul du QI global. L’important, alors, n’est pas ce que l’enfant a acquis ou non, mais comment il le fait. L’évaluation de ses capacités d’apprentissage prime sur celle de ses connaissances.
Racisme biologique ou angélisme béat
Le
QI est donc un instrument complexe, aussi bien dans son évaluation que dans son
interprétation : tel est le message qu’a voulu faire passer une poignée de
praticiens français réunis autour du psychologue Robert Voyazopoulos, en 2005,
dans un article-pétition qui, depuis, s’est attiré le soutien de près de 700
confrères (2). Les auteurs rappellent qu’un psychologue ne se basera jamais sur
le seul QI pour évaluer l’intelligence d’un enfant : le QI n’a pas de valeur en
soi, mais doit s’insérer dans une évaluation globale incluant d’autres tests
(et pas seulement d’intelligence), ainsi que des données qualitatives
(cliniques, socioculturelles, biographiques…). Tout cela ne s’improvise pas, et
nécessite un intervenant dûment formé. Celui-ci, d’ailleurs, devrait se
réserver le droit de ne pas communiquer le QI à la famille ou à l’intéressé :
les attentes sociales sont telles en matière d’intelligence que la
stigmatisation pour un faible QI, par exemple, est un danger réel.
Le psychologue Jacques Lautrey va plus loin que ses collègues : trop peu informatif, trop vieux, voire pernicieux, le QI n’aurait plus de raison d’être. Autant le supprimer purement et simplement (3) ! Nous n’en sommes pas là, le QI étant solidement ancré dans la pratique des psychologues.
D’ailleurs, certains s’en satisfont tout à fait et ne voient pas l’intérêt de mettre en doute sa pertinence, surtout aux États-Unis, où il a toujours servi à classer les individus. Là-bas, les personnes au QI le plus bas ont souvent des profils opposés à celui des chercheurs : noires et pauvres. Pour peu que le QI soit considéré comme infaillible et suffisant pour expliquer les aptitudes intellectuelles et le destin d’un être humain, certaines conclusions radicales peuvent dès lors être avancées sous couvert d’objectivité statistique : tel ou tel groupe social, voire ethnique, sera par définition défavorisé puisque biologiquement déficient, quelle que soit la politique menée à son égard. Le débat revient ponctuellement, et les accusations de racisme biologique ou d’angélisme béat fusent de part et d’autre.
Le QI n’est décidément pas un instrument anodin : il ne constitue pas seulement une méthode de mesure d’une certaine intelligence, mais peut aussi véhiculer une idéologie lourde de conséquences pour notre représentation du corps social.
Le psychologue Jacques Lautrey va plus loin que ses collègues : trop peu informatif, trop vieux, voire pernicieux, le QI n’aurait plus de raison d’être. Autant le supprimer purement et simplement (3) ! Nous n’en sommes pas là, le QI étant solidement ancré dans la pratique des psychologues.
D’ailleurs, certains s’en satisfont tout à fait et ne voient pas l’intérêt de mettre en doute sa pertinence, surtout aux États-Unis, où il a toujours servi à classer les individus. Là-bas, les personnes au QI le plus bas ont souvent des profils opposés à celui des chercheurs : noires et pauvres. Pour peu que le QI soit considéré comme infaillible et suffisant pour expliquer les aptitudes intellectuelles et le destin d’un être humain, certaines conclusions radicales peuvent dès lors être avancées sous couvert d’objectivité statistique : tel ou tel groupe social, voire ethnique, sera par définition défavorisé puisque biologiquement déficient, quelle que soit la politique menée à son égard. Le débat revient ponctuellement, et les accusations de racisme biologique ou d’angélisme béat fusent de part et d’autre.
Le QI n’est décidément pas un instrument anodin : il ne constitue pas seulement une méthode de mesure d’une certaine intelligence, mais peut aussi véhiculer une idéologie lourde de conséquences pour notre représentation du corps social.
NOTES
(1)
Naomi Breslau et al., « Stability and change in children’s intelligence
quotient scores: A comparison of two socioeconomically disparate communities »,
American Journal of Epidemiology, vol. CLIV, n° 8,
2001, cité par Jacques Grégoire, L’Examen clinique de
l’intelligence de l’adulte, Mardaga, 2004.
(2) Collectif, « Des psychologues s’interrogent sur le QI et certains de ses usages », Journal des psychologues, n° 230, septembre 2005.
(3) Jacques Lautrey, « Pour l’abandon du QI : les raisons du succès d’un concept dépassé », in Marie Duru-Bellat et Martine Fournier, L’Intelligence de l’enfant. L’empreinte du social, Sciences Humaines Éditions, 2007.
(2) Collectif, « Des psychologues s’interrogent sur le QI et certains de ses usages », Journal des psychologues, n° 230, septembre 2005.
(3) Jacques Lautrey, « Pour l’abandon du QI : les raisons du succès d’un concept dépassé », in Marie Duru-Bellat et Martine Fournier, L’Intelligence de l’enfant. L’empreinte du social, Sciences Humaines Éditions, 2007.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق