الأربعاء، 26 يوليو 2017

كتاب "الوجود والزمان" (هايدغر)؛ مراجعة الدكتور زكريا ابراهيم.





كتاب "الوجود والزمان" (هايدغر)
مراجعة الدكتور زكريا ابراهيم
مجلة تراث الإنسانية 1965

 الرابط على مجلة "حكمة": 




من بحث لزكريا ابراهيم عن كتاب الوجود والزمن لهايدغر

أفاد هايدغر من فندلباند وريكرت (من الكانطية الجديدة) درسين هامّين: أولهما ضرورة التمييز بين "علوم الطبيعة" القائمة على "التفسير"، و "علوم الروح" القائمة على "الفهم". وثانيهما أهمية دراسة تاريخ الفلسفة الأوروبية منذ عهد الفلاسفة السابقين على سقراط حتى يومنا هذا، مع العناية بمناقشة المشكلات الأساسية الكبرى للفلسفة بوصفها مشكلاتٍ جوهريةً خالدة.
حينما بلغ هوسرل سن التقاعد خلفه هايدغر أستاذاً للفلسفة بجامعة فريبورغ عام 1929. وقد ظهرت له في ذلك العام ثلاثةُ كتبٍ قيّمة، أولُها كتابُه المشهور: "كانط ومشكلة ما بعد الطبيعة"، وهو الكتاب الذي قدّم لنا فيه تأويلاً جديداً لمؤلف كانط المعروف: "نقد العقل الخالص"،  فجعل من قوة  "المخيلة " الدعامة الأساسية للمعرفة، وقدمها على كل من الحدس والفهم. وقد أحدث هذا الكتاب دوياً كبيراً في الأوساط الفلسفية، وإن كان البعض قد أخذ عليه أنه يميل إلى تفسير فلسفة كانط في ضوء اهتمامات هايدغر الأنطولوجية نفسها..

ـ تحليل كتاب "الوجود والزمان"

إذا أردنا أن نفهم كتاب "الوجود والزمان" على حقيقته، فلا بد لنا من أن نتذكر بادئ ذي بدء أن هذا الكتاب إنما هو في صميمه جهد أراد به هيدغر أن يكفل لعلم الوجود (أو الأنطولوجيا) دعامةً متينة راسخة: ولئن كان هايدغر يريد أن يفهم "الوجود" بصفةٍ عامة، إلا أنه يرى في كينونة الموجود البشري سبيلاً مشروعاً لفهم حقيقة الوجود بوجه عام. ولما كان الفكر عنده ليس بمثابة علاقةٍ تقوم بين ذاتٍ حرّة لازمانية وموضوعٍ مجهول تحاول أن تنفذ إلى سرِّه، فإننا نراه يقرر منذ البداية أننا لا نفهم الوجود إلا عن طريق وجودنا أو في صميم كينونتنا. وبهذا المعنى يمكن القول بأن الأنطولولجيا هي وجودُنا نفسه!
وهيدغر يقرر هنا أن اليونان كانوا أول من اهتم بمشكلة الوجود، ولكنَّ اهتمامَهم بهذه المشكلة قد استحال في خاتمة المطاف إلى مجرد دراسة للمقولات التي تُفهَم على نحوها الأشياء. فلم يركز فلاسفة اليونان اهتمامهم على "الوجود" بصفةٍ عامة، بل هم قد انصرفوا إلى تحديد كيفيات "الموجود". وأما في العصور الوسطى فقد اقترن عجز الفلاسفة المدرسيّين عن التمييز بين "الوجود" و "الأِشياء الموجودة" بميلٍ مستمر نحو النظر إلى الإنسان على أنه "شيء" أو "جوهر" يتمتع بكيفيات محددة مندمجة في الزمان. ثم جاء الفلاسفة المحدثون فراحوا ينظرون إلى الشخص البشري نظرة عقليةً مجردة، وكأنما هو مجرد "ذهن" منعزل لا يحتك بالعالم إلا من خلال عملية المعرفة (التي هي عمليةٌ منفصلة). وهكذا اعتبر الفلاسفة المحدثون علاقة الذات بالموضوع علاقة جوهرية أساسية، ولم يهتموا بإثارة مشكلة الوجود، بل نظروا إلى "الوجود" على أنه مقولة منطقية أو محمول عادي، لعله أن يكون من أكثر المحمولات شكليةً ، وأكثرها تجريداً.
بيد أن "الوجود" ـ كما بيّن لنا أرسطو من قديم الزمان ـ ليس جنساً مجرداً، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يعد مجرد "صفة" أو "محمول". وإذاً فلا بد لنا من أن نعاود إثارة مشكلة الوجود، لكي نبحثها من وجهة نظر الدراسة الفينومينولوجية التي تهيب بنا العودة إلى "المعطيات" ذاتها. ولكن على حين أن العلوم الجزئية كعلم الطبيعة، وعلم النفس، وعلم التاريخ قد قصرت اهتمامها على دراسة طائفةٍ محددةٍ من الموضوعات، ألا وهي الموجودات العينيّة الجزئية، نجد أن هيدغر يريد للفلسفة أن تستخلص المقوّمات الأنطولوجية للوجود الإنساني بوصفه تلك "الكينونة" المتفتحة للوجود. ولما كان الإنسان هو الموجود الذي تنحصر كل ماهيته في وجوده نفسه، فليس بدعاً أن تتخذ منه الأنطولوجيا نقطة ارتكاز لها، خصوصاً وأن كل التحديدات الأساسية للموجود البشري هي مجرد أساليب كينونة أو "أنحاء وجود". ومعنى هذا أن الإنسان لا يهم الأنطولوجيا من حيث هو إنسان، بل من حيث هو ذلك الكائن الذي ينكشف من خلاله معنى الوجود. وإذاً فليس يكفي أن نقول إن الإنسان هو الموجود الذي يفهم الوجود، بل لا بد من أن نضيف إلى ذلك أيضاً أن هذا الفهم الإنساني للوجود هو نفسه "وجود"، بمعنى أنه ليس صفةً أو نعتاً للإنسان، وإنما هو أسلوبه في الكينونة. ولهذا يعزف هايدغر عن مفهوم "الوعي" أو "الشعور" كنقطة انطلاق لفلسفته، لكي يتخذ من "الكينونة" نفسها دعامة لفهم "الوعي" أو "الشعور"، فيمضي مباشرةً إلى دراسة البناء الأنطولوجي للموجود البشري.
أـ "الوجود ـ في ـ العالم"
يأخذ هايدغر عن أستاذه هوسرل فكرته عن "الإحالة"، على اعتبار أن الوعي هو دائماً شعور بشيء، فنراه يأبى أن يتصور الوجود البشري على أنه "ذاتية" مغلقة على نفسها، بل يتصوره على أنه موجه منذ البداية نحو العالم الخارجي. فالموجود البشري حقيقةٌ منفتحة على الوجود العام، وهو ـ بكل عواطفه وميوله ومقاصده ـ موجّه نحو العالم الخارجي. والواقع إن "الوجود" لا ينكشف للإنسان على صورة "موضوع" يتأمله، بل هو ينكشف له منذ البداية على صورة "توتر" يثير في نفسه الاهتمام والهم. وهذا هو السبب في أن الإنسان هو الموجود الوحيد الذي لا ينفصل وجودُه عن الاهتمام بهذا الوجود، والتساؤل عنه، والقلق عليه. وحينما يجعل هيدغر من "الوجود في العالم" أول مقوّم من مقوّمات الكينونة البشرية، فإنه يعني بذلك أن ما يميّز الإنسان إنما هو أولاً وقبل كل شيء انخراطه في عالم يمثل مجال اهتمامه. ولا يتصوّر هايدغر "العالم" على أنه جوهر متحيز أو كيان مكاني، بل هو يتصوّره على أنه بناء أنطولوجي للموجود البشري باعتباره كائناً في "وسط" أو "مجال". وبينما كان ديكارت يريد أن يفسّر معنى "العالم" بالالتجاء إلى مفهوم "المكان"، نجد هيدغر يقرر على العكس من ذلك أن مفهوم "العالم" هو الذي يحدد مفهوم "المكان".
وحينما يقول هايدغر إن الإنسان "موجود في العالم"، فإنه لا يعني بذلك أنه موجودٌ وجوداً مكانياً في العالم، على نحو ما يوجد الكرسي "في" الغرفة، أو على نحو ما يوجد عود الكبريت "في" علبة الكبريت، وإنما توجد بين الإنسان وبين العالم علاقةٌ وثيقة أو رابطة عميقة تجعل من المستحيل علينا أن نتصور إنساناً بدون عالم، أو عالماً بدون إنسان. والواقع أن العلاقة بين الإنسان والعالم ليست مجرد علاقة بين موجودين كائنين في المكان، أو مجرد صلة بين ذات وموضوع، وإنما هي علاقة وجودية قِوامها الشعور بالاهتمام. ومعنى هذا أن مجرد ارتباط الموجود البشري بالعالم هو الذي يجعل منه موجوداً "مهموماً" يحمل دائماً عبء وجوده. وعلى حين أن فلاسفة مثل ديكارت أو كانط قد شكّوا في حقيقة وجود العالم الخارجي، أو قد جعلوا من "فكرة العالم" فكرةً زائفة لا مقابل لها في الواقع التجريبي، نجد هايدغر يقرر أن "الوجود في العالم" (من حيث هو نسيج الوجود البشري) إنما هو الأصل في مفهوم "العالم". وقد يتوهم الناس أن "العالم" هو مجموع المواضيع التي تشتمل عليها الحقيقة الخارجية، ولكن من واجبنا ـ في ما يرى هايدغر ـ أن نفسر المواضيع بالعالم، لا العكس. فليس من سبيل إلى إدراك أي موضوع أو تصوره، إلا باعتباره منتسباً أو منتمياً إلى العالم. والعالم ـ بهذا المعنى ـ إنما هو ذلك "المجال" أو "الوسط" الذي نحن مندمجون فيه منذ البداية.
أما هذا "العالم" المحيط بنا، أو تلك "البيئة" التي نحيا في كنفها، فهي ليست تلك الدائرة المحدودة التي نعيش في محيطها، بل هي ـ بمعنىً ما من المعاني ـ عالمنا الخاص، بما فيه من موضوعات حضارية ومنتجات بشرية ومميزات تاريخية.. إلخ. ولكننا نحيا أولاً وقبل كل شيء في عالمٍ من "الموضوعات" التي تستثير اهتمامنا أو عنايتنا (das besorgte).
وليست هذه الموضوعات ـ في نظر هايدغر ـ مجرد "أشياء"، بل هي "أدوات". و"الأداة" في اصطلاح هايدغر ليست مجرد "آلة" يستخدمها العامل، وإنما هي "موضوع" يدوي يقع تحت متناولنا ويهيب بنا أن نستخدمه. وبهذا العنى تكون الفأس والمطرقة والحجرة والمنزل والقطار والصحيفة كلها "أدوات".
وليس في وسع الإدراك الحسي أن يحدد طبيعة وجود "الأداة"، فإن الرؤية الخالصة أو النظر الصرف ـ مهما كان من قوة نفاذه ـ لا يكفي للكشف عن طبيعة "الأداة". وإنما تنكشف لنا "الأداة" على حقيقتها من خلال الاستعمال، أعني عن طريق المعالجة اليدوية. وليس من طبيعة "الأداة" أن تحيلنا إلى غيرها من "الأدوات" فحسب، بل إن من طبيعتها أيضاً أن تحيلنا إلى "الموجود" الذي يستخدمها، فالمطرقة لا تفترض السندان فحسب، وإنما هي تفترض الحدّاد أيضاً، والإبرة لا تفترض الخيط فحسب، بل هي تفترض الحائك أيضاً. وإذاً فإن وراء "قابلية الأدوات للتناول" يكمن طابع آخر هو طابع "الإحالة" الذي يجعل منها موضوعاتٍ أخرى. فكل "أداة" إنما هي  "مجعولة" من أجل شيءٍ آخر، كالساعة التي هي مجعولة لبيان الوقت، أو كالحذاء الذي هو مجعول للاستخدام في المشي.. إلخ.
ولكن كل "أداة" أيضاً تستلزم ضرباً خاصاً من المعرفة، وتفترض طريقة خاصةً في الاستعمال، فهي تنطوي في ثناياها على معرفةٍ ضمنية أو مهارةٍ خاصة. ولهذا فإن "الأدوات" لا تمثل مجموعةً من "المواد"، بل هي تمثل استعمالات خاصةً لتلك "المواد". حقاً إن "أدواتِنا" تحيلنا دائماً إلى "مواد"، بدليل أننا نكتشف ابتداءً منها الطبيعة والغابات والمياه والجبال والمعادن والرياح، ولكننا نستخدم المياه كوسائل نقل أو قوى كهربائية، ونصنع من الغابات أخشاباً لصناعة الأثاث، ونتخذ من الرياح قوى محركة.. إلخ.
بيد أن هايدغر لا يذهب إلى حد القول بأن المواد التي نصنع منها أدواتِنا مجعولة لنا أو مخلوقةً من أجلنا، وإنما هو يجعل تلك "الأدوات" مشروطةً بوجودنا البشري، دون أن يدخل في صميم مذهبه فكرة "الغائية" التي بمقتضاها يكون الإنسان هو "غاية" الكون.
ومهما يكن من شيء، فإن هايدغر يقرر أن الإنسان وثيق الصلة بالعالم، كما أن العالم وثيق الصلة بالإنسان، لا لأن كلاً منهما يحيل إلى الآخر فحسب، بل لأن "الوجود في العالم" هو نفسه بمثابة "تحديدٍ أنطولوجي" من تحديدات الموجود البشري أيضاً.
وهايدغر يعلن بصراحةٍ أن كل المناقشات الفلسفية التي  طالما دارت حول وجود العالم الخارجي إنما هي مجرد لغوٍ فارغ: إذ لا يمكن أن يكون ثمة وجود بشريّ اللهم إلا إذا كانت "الذات" مرتبطةً ارتباطاً أولياً جوهرياً بحقيقة خارجية هي "العالم". وليس ثمة موضع للقول بوجود أيِّ ضرب من ضروب الانفصال بين الإنسان والكون، ما دامت الكينونة البشرية متفتحة منذ البداية للعالم. وبينما نلاحظ لدى فيلسوف مثل ليبنتس أن الجواهر الفردة (أو المونادات) لا تملك نوافذَ ولا أبواباً: لأن كلاً منها هو بمثابة عالمٍ مغلق قائم بذاته، نجد لدى هيدغر أن الموجودات البشرية لا تملك هي الأخرى أبواباً ولا نوافذ، ولكن لا لأنها منعزلة أو مغلقة على ذواتها، بل لأنها منذ البداية [هي] في الخارج، في علاقة مباشرة مع العالم، وكأنما هي بطبيعتها مكشوفةٌ تحيا في العراء!
وهايدغر يتصوّر "الوجود في العالم" على أنه "وجود ديناميكي" (بالمعنى الأصلي لهذه الكلمة)، فنراه ينسب إلى الموجود البشري إمكانيات عينيّة إيجابية هي بمثابة قدراتٍ على التعامل مع العالم الخارجي، ومهاراتٍ تتجلى في استخدام ما فيه من "أدوات".
ولا يتصور هايدغر "الإمكان" بالمعنى المنطقي السلبي الذي يعني "انعدام التناقض"، بل هو يتصوره بمعنى عيني إيجابي، فيقرر أن لدى الموجود البشري إمكانيات تدفعه إلى تحقيق وجوده عن طريق الخروج المستمر من ذاته  والاندماج الدائب في عالم الأدوات. ولا يمكن أن يكون موقف الإنسان من إمكانياته موقف الشيء الذي لا يكترث بما قد يعرض له من أعراض، وإنما هو موقف الشخص الذي يجد نفسه منذ البداية مندمجاً في صميم مشروعاته، متجهاً نحو تحقيق وجوده. [هذا يشبه ما سيقول به سارتر] فالوجود ـ بالنسبة إلى الإنسان ـ إنما يعني النجاح أو الفشل في تحقيق إمكانياته. والدعامة التي يستند إليها الوجود البشري إنما هي القدرة على تحقيق (أو عدم تحقيق) إمكانياته. وليس "الاهتمام" الذي يتحدث عنه هايدغر سوى مجرد انشغال الموجود بإمكانياته، وارتداده إلى نفسه من أجل سبر غور قدراته. ولكن الإنسان لا يقف من وجوده موقف المتأمل الذي يقتصر على معاينة إمكانياته، وإنما هو  يقذف بنفسه دائماً نحو الأمام من أجل تحقيق تلك الإمكانيات. فالإنسان لا "يملك" إمكانياته، بل هو "عين" تلك الإمكانيات. وإذا كان الإنسان ـ كما سنرى بعد حين ـ هو "على مبعدة" دائماً من ذاته، فذلك لأنه موجود الممكنات الذي هو باستمرار فيما وراء ذاته. وهكذا نرى أن وجود الإنسان في العالم إنما هو علاقة وجودية تربطه بإمكانياته، بحيث قد يحق لنا أن نقول إن "الإمكان أعلى من الواقعية" بالنسبة إلى ذلك الموجود الذي يتصوّر "وجوده" دائماً على أنه "مشروعُ" وجود! وسيكون علينا من بعد أن نحلل مفهوم "الإمكان" في ضوء نظرية هايدغر في "التعالي" أو "المفارقة".
ب ـ الوجود مع الآخرين: (Metsein).
قلنا إن الإنسان "موجود في العالم"، ولكن عالم الإنسان أيضاً عالم بشري يجد فيه المرء نفسَه جنباً إلى جنب مع موجوداتٍ أخرى بشرية مثله. ولا يعنى هايدغر نفسه بإثبات وجود "الآخر"، بل هو يمضي مباشرةً إلى وصف ذلك النسيج الاجتماعي للموجود البشري بوصفه موجوداً يحيا دائماً مع الآخرين.
و"الآخرون" أو "الغير" إنما هم أؤلئك الذين "أوجد" معهم، و"يوجدون" معي سواءٌ بسواء. وكما أن "الوجود في العالم" هو من مقومات الوجود الإنساني، فكذلك "الوجود مع الآخرين" هو أيضاً من مقومات هذا الوجود. ومعنى هذا أن الذات لا تجد نفسها مهجورةً قد خُلي بينها وبين وجودها الخاص فحسب، وإنما هي تجد نفسها أيضاً في عالم الآخر الذي لا بد من أن تتعامل معه وتعيش إلى جواره.
هنا نرى أن نظرية هايدغر التي قد تبدو لأول وهلة ذات نزعة فردية خالصة إنما هي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن الفلسفات الذاتية المتطرفة، نظراً لأنها تؤكد علاقتَنا الجوهرية بالغير، فلا تجعل من الوجود البشري مجرد "انطواءٍ على الذات"، بل تجعل منه "وجوداً مع الآخرين". بل إن هيدغر لَيذهب إلى أن شعورنا الفردي نفسه.. وهو ذلك الشعور الذي قد يوهمنا بأننا موجودون وحدنا دون الآخرين ـ إنما يبرز فوق "أرضية" من الشعور الجماعي، وهذا ما يعبر عنه هايدغر بقوله: "إن الوجود بدون الآخرين، هو نفسه صورة من صور الوجود مع الآخرين". ولكن لما كان كثير من الفلاسفة قد أهملوا طابع "المعيّة" الذي تتسم به علاقات الأفراد، فقد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى اصطناع الكثير من التأويلات من أجل تفسير أصل الجماعات وتحديد طبيعة الشعور الجماعي. ومثل هذه النظريات قد لا تقل تهافتاً عن تلك المناقشات الميتافيزيقية التي طالما أثارها الفلاسفة حول حقيقة وجود العالم الخارجي.
بيد أن إنسان العصر الحديث ـ فيما يقول هايدغر ـ قد أصبح يعيش في حالة جماعية زائفة، لأنه قد اتخذ من "الوجود مع الآخرين" ذريعة للتنازل عن وجوده الخاص، فلم يعد وجودُه سوى مجرد انغماس في عالم "الجمهور". وهكذا فقدَ إنسان العصر الحديث إنسانيته وحريته، وصار مجرد موضوع ينطق بلسان الآخرين، ويتحرك في مجال ذلك الوسط الاجتماعي الغفل!
وهنا يتحدث هايدغر عن ضربين من الوجود البشري: فيفرق بين وجود حقيقي أصيل ووجود زائف غير مشروع، على أساس التمييز بين ذاتٍ حرةٍ تأخذ على عاتقها مسؤولية وجودها، وذاتٍ غريبة على ذاتها فقدت حريتها فأصبحت تحيا على حساب الآخرين!
و"الوجود الأصيل" في نظر هايدغر إنما هو ذلك الوجود الحقيقي الذي تشعر معه الذاتُ بأنها قائمةٌ بنفسها، مسؤولة عن ذاتها، وأنه قد خلِّيَ بينها وبين حريتها، وأنه لا بد لها من أن تأخذ على عاتقها تبعة وجودها. وأما "الوجود الزائف" فهو ذلك الوجود العيني الذي تهبط فيه الذات بنفسها إلى مستوى الموضوع، فتميل إلى الانغماس في المجموع، آملةً من وراء ذلك التهربَ من حريتها، والتنصل من مسؤوليتها، والتخلص من شعورها بالقلق.
وحينما يتحدث هايدغر عن "الناس" فإنه يعني حقيقة جمعية غير شخصية تملك من السلطة ما قد تستطيع معه أن تسلب "الذات" شعورها بالمسؤولية. وهنا يجد الإنسان نفسه مدفوعاً إلى التخلي عن التزامه الشخصي، فيأخذ بأحكام الناس، ويتمسك بمعيار التوسط في الأمور، ويدين بكل ما يدين به الجمهور. وعندئذٍ سرعان ما تصبح حياتُه الشخصية صورةً من صور "المجموع"، وسرعان ما يتحول وجوده الذاتي الشخصي إلى وجود غفلٍ عديم الشخصية. وحينما يهبط الوجود الذاتي الخاص إلى هذه الدرجة العامية المبتذلة، فهنالك لا يعود "المرء" يعلق أدنى أهمية على مسؤوليته الشخصية، بل يوجّه كل اهتمامه نحو تلك المشاغل العادية التي قد تعينه على الانصراف نهائياً عن التفكير في مصيره الحقيقي.
وإن هايدغر لَيسخر سخريةً لاذعةً من تلك الحياة الجمعية المبتذلة التي تستحيل فيها "اللغة" إلى "ثرثرة"، ويتحول "حب الاستطلاع" إلى "فضول"!
و"الرجل الفضولي" ـ كما يصوره هايدغر ـ هو إنسان عصري لا يكف عن التنقل من موضوع إلى آخر، دون أن تكون لديه أية مقدرة على التوقف عند أي موضوع، من أجل الاهتمام ببحثه وإنعام النظر فيه، بدلاً من الاقتصار على النظر إليه بطريقة سريعة مهوّشة. ولهذا فإن "الرجل الفضولي" هو في العادة إنسان مشتت الذهن، موزع الخاطر، يظن في نفسه أنه صاحب نشاطٍ عقلي جبار، ولكنه في الحقيقة عاجز تماماً عن أن يديم النظر في أي موضوع. وقد يرضى "الفضولي" عن نفسه كل الرضىى، ولكنه في الواقع إنما يحيا حياةً مبتذلةً رخيصة، قوامُها التشتت الذهني، ورائدُها الغموض والالتباس، وشعارها الانتقال من مكان إلى مكان، دون التواجد في أي مكان!
وأما إذا أردنا لأنفسنا أن نصل إلى مرتبة "الوجود الأصيل"، فلا بد لنا من أن نرتد إلى ذواتنا، لكي نأخذ على عاتقنا مسؤولية وجودنا. حقاً إن "إمكانية التهرب" لهي إمكانية بشرية تدخل ضمن إمكانيات ارتباط الإنسان بالوجود، ولكنها في الحقيقة إمكانية تقضي على شعورنا بذواتنا، وإدراكنا لمعنى وجودنا. فلا بد للإنسان من أن يجد نفسَه مضطراً إلى مواجهة هذا الاختيار الأصلي الحاسم: فإما اغتراب عن الذات، وانحدار إلى مستوى "الشيئية"، وتنازل عن الوجود الحقيقي الأصيل، وإما استمساك بالذات الحقيقية، والتزام بالحرية والمسؤولية، وتسامٍ إلى مستوى الوجود الحقيقي الأصيل. ولَئِن كان الموجود البشري بطبيعته موجوداً واقعياً، عرضياً، معرّضاً في كل لحظةٍ لخطر السقوط، بمعنى أنه قد قُذف به إلى عالم الأشياء وسط غيره من الحقائق الواقعية، فهو مهدّد بالتالي بخطر الاغتراب عن الذات والسقوط في عالم الموضوعات، إلا أن في وسعه ـ عن طريق الحرية ـ أن يسترد ذاته الحقيقية، وأن يعمل على تحقيق وجوده الأصيل.
ج ـ الحرية وتجربة القلق:
.. إذا كنا قد رأينا في ما سبق أن مجرد ارتباط الموجود البشري بالعالم هو الذي يجعل منه موجوداً "مهموماً" يحمل عبءَ وجوده، فليس بدعاً أن نجد هايدغر يربط الحرية بتجربة "القلق". وحينما يتحدث هايدغر عن "القلق" فإنه لا يتحدث عن مفهوم عقلي أو تصور ذهني، بل هو يتحدث عن خبرة معاشة أو عاطفةٍ وجودية تكشف لنا عما في نسيج وجودنا من "همّ"، وتضعنا وجهاً لوجه بإزاء ذلك "العدم" الأصلي الذي يكمن من وراء وجودنا. فالقلق هو أسلوبٌ خاص في الكينونة يتضح للموجود البشري من خلاله عدم جدوى الموضوعات العالمية، وتفاهة شتى الأشياء الكائنة في هذا العالم، واتسام كل ما في الوجود الموضوعي بصبغة العدم أو اللاوجود!
ولئن كان "القلق" في صميمه عاطفةً أو اتجاهاً وجدانياً، إلا أن هيدغر يخلع عليه دلالةً وجودية، وينسب إليه بالتالي ضرباً من "الفهم". فالإنسان يدرك من خلال القلق "لاوجود" العالم، وضرورة الارتداد إلى "الذات"، وإن كانت هذه "الذات" لا تخرج عن كونها مجرد إمكانية عارية للوجود. ومعنى هذا أن "القلق" هو الذي يصرفنا عن عالم الموضوعات لكي يردنا إلى العنصر الأصلي في وجودنا، ألا وهو تلك الإمكانيات التي تتطلب التحقيق. وحينما يستولي على نفوسنا الشعور بالقلق، فهنالك لا بد من أن ندرك أنه قد قُذِف بنا إلى هذا العالم على الرغم منا، وأنه قد خلّي بيننا وبين ذواتنا، وأننا "مهجورون" لا نجد خلفنا أية داعامة نستند إليها، ولا نلمح أمامنا أي هدف ننزع إليه، ولا نرى فوقنا أية قوة عليا تعيننا على التحكم في مصيرنا. وهايدغر يحذو حذو كيركغارد فيميّز "القلق" عن "الخوف" أو "الجزع"، ويقرر أنه شعور غامض مبهم لا يمكن تحديد مصدره. وإذا كان "الخوف" ينبعث دائماً عن خطرٍ معيّن يتهددنا من الخارج، سواء أكان هذا الخطر موجهاً إلينا نحن شخصياً، أم كان موجهاً نحو الآخرين ممن نحن على اتصال وثيق بهم، فإن "القلق" هو في العادة غير ذي موضوع، اللهم إلا إذا قلنا إن موضوعه هو ذلك "العدم" الكامن في ما وراء وجودنا، والذي هو منه بمثابة فاعليةٍ باطنة هدامة.
ويعود هايدغر فيقرر في موضعٍ آخر أنه حينما يتملكنا الشعور بالقلق، فإن ما نرتعد له ليس هو "هذا" الشيء أو "ذاك". بل نحن نجد أنفسنا بإزاء تهديد عام موجود في كل مكان، دون أن يكون في أي مكان! فما يولّد في أنفسنا "القلق" هو "لا شيء"، أو هو غير موجود في أيّ مكان، ولكنه في الوقت نفسه حقيقةٌ تشيع في أنفسنا ضرباً من التيقظ العميق وتحيطنا بجوٍ من القسر أو الضيق. وليست هذه الحقيقة سوى "العالم نفسه من حيث هو كذلك"، أو هو بالأحرى "الوجود في العالم". ومعنى هذا أن القلق مرتبط بواقعة "وجودنا في العالم"، فإننا هنا بإزاء واقعة محضة، عارية، قاسية، ليس فيها هوادةٌ ولا رحمة. وهنا لا يكون ثمة موضع للاستغراق في التسلية أو الانصراف إلى اللهو أو الانغماس في تيار المجموع، فإن مجرد إدراكنا لوجودنا في العالم بوصفنا موجوداتٍ حرةً قد أعطيت لنفسها على صورة مجموعة من الإمكانيات، سرعان ما يضعنا وجهاً لوجه بإزاء تلك المسؤولية الخطيرة التي لا بد لنا من أن نفصل فيها لحسابنا الخاص.
وإذاً فإن "القلق" يفصلنا عن عالم الأشياء أو الأدوات، لكي يردنا إلى عالم الوعي أو الذات. وإذا كان من شأن "القلق" أن يعين الموجود البشري على فهم ذاته بطريقة صحيحة أصيلة، فما ذلك إلا لأن "القلق" هو الذي يرد الكائن الحر إلى إمكانية وجوده أعني إلى كينونته الخالصة بوصفها وجوداً خالياً من كل مضمون. فالقلق تجربة وجودية تكشف للذات عن حقيقة وجودها في العالم، باعتبارها ذاتاً فردية لا بد لها من أن تفصل في وجودها بمحض حريتها، ولا بد لها من أن تحقق إمكانياتها الخاصة دون الاعتماد على أي موجود آخر. وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إن موضوع "القلق" (إن كان للقلق موضوع) هو "الوجود في العالم" أيضاً.
ونحن لا نفهم ذواتَنا على حقيقتها إلا ابتداءً من تجربة القلق التي تردنا إلى ذواتنا، وتضطرنا إلى سبر أغوار إمكانياتنا. وما دام "القلق" هو الذي يمنع الموجود البشري من التشتت في غمرة الأشياء، فإن من حقنا أن ننسب إلى القلق وظيفة بنائية بوصفه الدعامة الصحيحة لكل وجودٍ بشري أصيل. والحق إن القلق هو الذي يعمل على إيجاد ذلك الموقف الذي تتجمع فيه كل البنايات الأنطولوجية للموجود البشري على صورة وحدة متكاملة. وهكذا يرد هايدغر وحدة البناء الوجودي للذات البشرية إلى تجربة القلق، فيجعل من "القلق" ركيزةً للوجود الإنساني الأصيل، ويقيم الحرية والمسؤولية على إدراك الذات لوجودها من خلال تلك الخبرة الوجودية الأساسية.
د ـ "الوجود من أجل الموت":
يمهد هايدغر لدراسته الأنطولوجية للزمان بدراسة أنطولوجية أخرى للموت، على اعتبار أن "الموت" هو وحده الكفيل بالكشف عن طبيعة "المستقبل".
هذا إلى إن "الموت إنما هو تلك "النهاية" التي يستطيع الموجود البشري عن طريقها أن يصبح "كلا". و"القلق" هو الذي يكشف لنا عن طابع وجودنا، باعتبارنا موجوداتٍ متناهية قد جُعِلت للموت. وليس الإنسان هو الموجود الوحيد الذي يعرف أنه فانٍ فحسب، بل إن الإنسان أيضاً هو الموجود الوحيد الذي يدخل الموت في صميم كينونته باعتباره أعلى ما لديه من إمكانيات. فهذا الحد الأليم ـ حد الموت أو الفناء أو التناهي ـ إنما هو الذي يحدد الوجود الإنساني ويميّزه، بحيث قد يكون من الممكن أن نقول إن الوجود البشري هو في صميمه "وجود نحو الموت"، أو "وجود للموت" أو "وجود من أجل الموت". وما لدى الإنسان من قدرة على استباق الموت أو توقعه، إنما هو الأساس الذي تقوم عليه كل محاولة من أجل إدراك وجوده ككل. وهايدغر لا يتحدث بطبيعة الحال عن "الموت" بصفة عامة، بل هو يتحدث عن توقع الفرد لموته أو استباقه لهذا الحدث.
ولو أننا نظرنا إلى "الموت" على مستوى الحياة العادية، لوجدنا أن الناس ينظرون إلى الموت على أنه مجرد "حدث" يقع للآخرين في العالم. وآية ذلك أننا نرى "الآخرين" يموتون، فنعتبر الموت هو موت "الآخر" (لا موت "الأنا")، ونحاول أن نخفي عن أنفسنا واقعة "وجودنا من أجل الموت"، عامدين إلى القضاء على كل "قلق" قد يساورنا بهذا الخصوص. ونظراً لِما للموت من طابع غير محدد، بسبب جهلنا بموعده، فإننا نميل إلى اعتباره نهايةً مجهولة لا موضوع لها في الوقت الحاضر! وهذا هو السبب في أن الموجود البشري العادي قلما يفكر في الموت، ما دام الموت مجرد حدث خارجي ليس لنا عليه يدان!
هذا إلى أن الموت لا يمثل ظاهرة تدخل ضمن ما تتداوله أيدينا من موضوعات أو أدوات، فليس بدعاً أن نرى الرجل العادي يتجاهل هذه الظاهرة بوصفها واقعة لا محل لها في حياتنا اليومية العادية. ولئن كان الرجل العادي يعرف جيداً أن كل إنسان لا محالة ذائق الموت، إلا أنه يلقي هذه المعرفة بشيء من عدم الاكتراث، لأنه لا يجد في نفسه من الشجاعة ما يستطيع معه أن يفكر في "موته" الخاص. فليس للموت موضع ضمن "إمكانيات" الرجل العادي، لأنه مندمج في عالم الأشياء والأغيار، دون أن يخطر على باله يوماً أن يتفهم حقيقة "وجوده من أجل الموت".
وأما إذا نظرنا إلى الموت على مستوى "الوجود الحقيقي" الأصيل، فسنرى أنه أعلى إمكانية من إمكانيات الموجود البشري، ما دام الموت هو تلك الإمكانية الفريدة التي تحول وجودي الكائن هنا والآن، إلى وجودٍ ماضٍ بحت قد أصبح في خبر كان! ولئن كنا هنا بإزاء إمكانية عارية (أو خالصة) لا تتطلب التحقيق كغيرها من الإمكانيات، إلا أن من شأن هذه الإمكانية ـ إذا تحققت ـ أن تجعل من المستحيل تحقق أية إمكانية أخرى. هذا إلى أن إمكانية موتي إنما هي إمكانيتي الخاصة، فليس في استطاعة أحد أن يموت بدلاً مني أو عوضاً عني. ومعنى هذا أنني حينما أتحدث عن "موتي" فإنني أتحدث عن "واقعة" شخصية لن يستطيع أحد أن يعانيها بدلاً مني. وحينما آخذ على عاتقي هذه "الإمكانية"، فإنني سرعان ما أجد نفسي في "عزلة" وجودية، تنقطع معها كل الوشائج التي تربطني بالعالم أو بالآخرين. وليس أمامي سبيل للتهرب من ذلك "القلق" الذي لا بد من أن يستولي على مجامع قلبي حينما أفكر في الموت. ومهما حاولت أن أخفي عن نفسي تلك الإمكانية بمختلف طرق المخادعة والمخاتلة، فإن نجاحي في هذه المهمة لا بد من أن يظل رهناً ببقائي على مستوى "الوجود الزائف". فالاغتراب عن الذات هو الشرط الأوحد للقضاء على كل تفكير في الموت، والانحدار إلى مستوى "الوجود الزائف" هو الضمان الأوحد لتجاهل حقيقة "وجودنا من أجل الموت".
وقد يشبه المرء "الموت" ـ كما فعل ماركوس أورليوس ـ بسقوط ثمرة تامة النضج، ولكن الحقيقة أن الإنسان مهدد بالموت في كل لحظة من لحظات حياته، إن لم نقل منذ بداية حياته. فليس "موتي" واقعةً تظهر في خاتمة حياتي، بل إنما هو واقعة ماثلة ـ على صورة إمكانية حادة ـ في كل لحظة من لحظات حياتي. ومعنى هذا أن الموت لا يكاد ينفصل عن كينونتي نفسها، ما دام الاندفاع نحو المستقبل لا بد من أن يكون بمثابة اتجاه نحو الوت. فليس "الموت" في نظر هايدغر مجرد فكرة تعبر عن "الخاتمة" أو "النهاية"، بل هو يرى فيه أعلى إمكانية من إمكانيات الموجود البشري. وليس الموت هو مجرد استحالة كل إمكانية، بل هو إمكانية الاستحالة نفسها! وحينما يتقبل الموجودُ البشري إمكانية الموت باعتبارها أكثر إمكانياته شخصية وفردية وتميزاً، فإنه بذلك إنما يجعل من موته حدثاً ذاتياً لا يخرج عن دائرة حريته. ولا تنحصر أهمية الموت ـ بالنسبة إلي ـ في أنه يظهرني على أن نهايتي حاضرة بمعنى ما من المعاني حتى قبل أن تحين ساعة الموت، وإنما تنحصر أيضاً في أنه يضعني أمام وجودي الخاص وجهاً لوجه، باعتباري تلك "الأنا" التي لا يمكن لأحد أن يوجد عوضاً عنها، أو تلك "الإنية" التي لا يملك الغير أن يأخذوا على عاتقهم مسؤولية وجودها. فليس تقبلنا للموت مجرد انتظار مستمر للحظة النهاية، بل هو مواجهة مستمرة لذلك العدم الذي يخلع على وجودنا طابعه الحاسم. والحق أن الموجود البشري حينما يتفهم "الموت" باعتباره أعلى إمكانية من إمكانيات وجوده، فإنه لا بد من أن يجد نفسه مضطراً إلى تصور ذاتيته الخاصة على أنها واقعة فردية لا بد من أن يأخذها على عاتقه، دون أن ينزل بنفسه إلى مستوى الكائن الغفل الذي لا اسم له! وهايدغر يربط "الوجود من أجل الموت" بما سبق له تقريره عن "الوجود الحقيقي" الأصيل، فيقول إن تفكير الذات في الموت (أو استباقها له عن طريق التصور) لهو الكفيل بعزلها عن الآخرين وردها إلى باطن وجودها. ومعنى هذا أن فكرة الموت تصرف الذات عن التفكير في هموم الحياة ومشاغل الاخرين، فتضعها وجهاً لوجه بإزاء وجودها الفردي الخاص. هذا إلى أن فكرة الموت تعين الموجود البشري على تصور وجوده ككل، لأنها تمده بالإطار الذي يستطيع في داخله أن يضع شتى إمكانياته. ولماكانت الذات التي تفكر في الموت سرعان ما تتحقق من يقين  هذه الواقعة، واستحالة التغلب عليها، فإن من شأن فكرة الموت أن تجيء فتلقن هذه الذات درساً هاماً في بطلان الحياة، وفناء الوجود. ومن هنا فإن الذات التي تدرك حقيقة الموت، لا بد من أن تشعر بتفاهة الاستمساك بأهداب الحياة، والتعلق بلذات وجودها العرضي المتناهي.
بيد أن هايدغر يرى أنه ليس للانتحار أي معنى: فإنه لا يغير شيئاً من طبيعة الوجود البشري بوصفه "وجوداً مجعولاً للموت". والذات الأصيلة تدرك معنى الوجود، فهي لا تتعجل الموت، ولا تقدم على الانتحار، بل تتقبل بحريتها ذلك "التناهي" المستمر الذي هو صميم وجودها. وهي إذا كانت تحيا في قلق وهمٍّ فذلك لأنها تعرف أن وجودها متناه، عرضي، موقوت، محدود، مجعولٌ للفناء.. والحق إن الإنسان حينما يبلغ مستوى "الوجود الصحيح" الأصيل، فإنه عندئذٍ لا بد من أن يعرف "أنه بمجرد ما يظهر الإنسان إلى عالم الوجود، فإنه سرعان ما تدب فيه الشيخوخة، وكأنما هو من الهرم بحيث يمكن أن يموت"!
وإذاً فالموت لا يعبر عن اكتمال أو تحقق، وإنما هو أسلوب في الوجود لا يكاد ينفصل عن كينونة ذلك الموجود البشري المجعول للفناء. وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إن فعل الحياة ـ بالنسبة إلينا ـ إنما يعني أن نحيا موتَنا! ولعل هذا هو السبب في أننا قد ننظر إلى الموت وجهاً لوجه، بل قد نعد نهايتنا حاضرةً بمعنىً من المعاني حتى قبل ان تحين ساعةُ الموت، فيكون تقبلنا للموت في هذه الحالة بمثابة انتظار مستمر للحظة النهاية. وحينما يعرف الإنسان أن الموت ممكن في كل لحظة، وأنه يسم بطابعه كل فعل من أفعاله، فإنه قد يشعر بما في الفعل من "بطلان" وبالتالي فإنه قد يفطن إلى قيمة "التنازل" أو "التخلي" عن كل شيء!
ولكن ليس معنى هذا أن هايدغر يدعونا إلى التهرب من أعمالنا العادية، أو الانصراف عن مهامنا اليومية، بل إننا لنراه يقرر ـ على العكس من ذلك ـ أنه لا بد للإنسان من أن يحشد كل قواه، ويعبئ كل إمكانياته، للاضطلاع بالمسؤولية الملقاة على عاتقه. بيد أن هايدغر لا يريد لمشاغلنا العادية أن تستأثر بفكرنا، فتصرفنا عن التفكير في الموت، والعمل على مواجهته، ولذلك نراه يقول إن الذات الواعية لا تقبل أن تكون فريسة لخداع المشاغل اليومية، بل هي تعرف كيف تعطي لكل شيٍ قيمته. وربما كانت القيمة الوحيدة لمشاغل الحياة العادية هي أنه ليس لها على وجه التحديد أدنى قيمة!
وهكذا نرى أن هايدغر لا يهتم  بالموت من حيث هو واقعة بيولوجية، أو حادثة طبيعية، بل هو يهتم به باعتباره داخلاً في نسيج الموجود البشري. وليس من شأن التفكير في الموت أن ينتزع الموجود البشري من تفاهات الحياة اللاشخصية المبتذلة فحسب، وإنما من شأنه أيضاً أن يعين الذات على تفهم حقيقة وجودها باعتبارها "إنية" فريدة لا يمكن لأحد أن يقوم مقامها أو أن يحل محلها. فالوجود من أجل الموت هو شرط وجودي من شروط تلك الإنّية البشرية التي تعدو دائماً وراء ذاتها، وبالتالي وراء مستقبلها. و"الموت" هو الإمكانية النهائية التي تنتظر الذاتَ في المستقبل، فهو ـ بمعنى ما من المعاني ـ أعلى إمكانية من إمكانياتها. ولما كان "المستقبل" في نظر هايدغر (كما سنرى بعد حين) هو شرط لعلاقة الذات بإمكانيتها. فليس بدعاً أن نرى هايدغر يصور لنا الذات مندفعة نحو مستقبلها، سائرةً (أو صائرة) حتماً نحو فنائها. ومن هنا فإن مشكلة الموت لا بد من أن تقودنا حتماً إلى إثارة مشكلة الزمان، ما دام الأصل في الموت إنما هو "زمانية" الوجود البشري.
هـ ـ مشكلة الزمان ونظرية التعالي:
رأينا أن "وجودي" هو الشيء الوحيد الذي أملكه، ولكنه أيضاً الشيءالوحيد الذي أنا معرض في كل لحظةٍ لفقدانه. وقلنا إنه لمن العبث أن يحاول الموجود البشري صرف نظره عن هذه الحقيقة الأليمة، فقد كتب عليه أن يمضي حتى النهاية في تعرف إمكانياته وسبر غور قواه وقدراته. ونستطيع الآن أن نضيف إلى هذا كله أننا نعلو دائماً على ذواتنا، متجهين نحو "المستقبل": لأن وجودنا هو في صميمه اتجاه ونزوع وشروع أو "مشروع". فالموجود البشري هو دائماً فيما وراء ذاته: لأنه موجود زماني يقذف بنفسه نحو إمكانياته، ويعدو دائماً خلف ذاته. وبعبارة أخرى يمكننا أن نقول إن الإنسان هو الموجود الذي عليه دائماً أن يوجد! وحينما يقول هايدغر إن وجودنا "مشروع وجودي" فهو يعني بذلك أننا نعمل دائماً على تحقيق إمكانياتنا، فنحن في توتر مستمر نحو المستقبل، إن لم نقل بأن "زماننا" نفسه إنما يبدأ بالمستقبل.
وهايدغر يحدثنا عن "انباثاقات" الزمان الثلاثة، فيبيّن لنا أن "المستقبل" لا يعني ذلك "الآن" الذي لم يحدث بعد، وأن "الماضي" لا يعني ذلك "الآن" الذي انقضى، كما أن "الحاضر" لا يعني ذلك "الآن" الذي ينقضي في اللحظة الراهنة؛ وإنما المستقبل والماضي والحاضر ثلاثة انبثاقات زمانية تعبر عن ارتباط الذات بوجودها، وانشغالها بصميم كينونتها، وتعاليها المستمر على ذاتها. فالقول بالزمانية عند هايدغر إنما هو مجرد تعبير عن همّ الزمان الذي لا يكاد ينفصل عن حركة الموجود البشري نحو الأمام أو نحو الخلف، مفارقته المستمرة لذاته ابتداءً من واقعة وجوده في العالم. فالإنسان يجد نفسه ملقىً في هذا العالم، ولكنه يشعر بأنه ليس ما هو كائنه الآن فحسب، بل هو ما كانه، وما سيكونه أيضاً. وشعوره بأنه دائماً فيما وراء ذاته هو الذي يجعله يهتم بالمستقبل، كما أن شعوره بأنه موجود من ذي قبل في العالم وأنه يحمل فوق ظهره أثقال أفعاله إنما هو الذي يجعله يهتم بالماضي. ولكن الإنسان لا يعدو أمام ذاته أو خلفها فحسب، بل هو يأخذ على عاتقه كل وجوده في اهتمامه بالعالم وتحقيقه لذاته، ومن ثم فإنه يشعر بحاضره أيضاً على صورة انشغال بما هو كائنه.
حقاً إن هايدغر يؤكد بصفةٍ خالصة أهمية "المستقبل" لأنه يلاحظ أننا نعمل دائماً من أجل ما لم يوجد بعد؛ ولكنه لا يقتصر على القول بأننا نعدو دائماً أمام ذواتنا، بل هو يقرر أيضاً أننا كثيراً ما نجري خلف ذواتنا. ومعنى هذا أننا لا بد دائماً من أن نعود إلى الوراء قليلاً، لكي نتقبل ماضينا، ونأخذه على عاتقنا. وهذا العود المستمر إلى "الماضي" لا يكاد ينفصل عن حركتنا الدائبة نحو المستقبل. والواقع أنه لما كان وجود الإنسان وثيق الصلة بعملية اكتشافه لذاته، فإنه لا بد لنا من أن نسبر غورماضينا، حتى نقف على ما فيه من "تحديدات" أصلية هي التي تعين مدى إمكانياته. وإذا كان حد "المستقبل" هو "الموت" فإن حد "الماضي" هو تلك الإمكانيات المعيّنة التي لم يتخيرها الفرد، والتي لا بد له من أن يتقبلها بوجه ما من الوجوه. وتبعاً لذلك فإننا لا نمضي فقط من مستقبلنا إلى ماضينا، أعني من دائرة النزوع والشروع إلى دائرة التذكر والتحسر، بل نحن نحاول أيضاً أن نستجمع ذواتَنا في "الحاضر"، بالربط بين مستقبلنا وماضينا. وما دام الإنسان لا بد من أن يوجد في "موقف"، فإنه لا بد من أن يستجمع ذاته في "الآن". وهكذا نجد أن "الحاضر" في فلسفة هايدغر الزمانية لا يجيء إلا بعد "المستقبل" و"الماضي" باعتباره نقطة تلاقي حركتين هما حركة الذات نحو الأمام وحركتها نحو الخلف. وحينما يقرر هايدغر أن "الماضي" ينبعث عن "المستقبل" لكي يولد "الحاضر"، فإنه يجعل الأولوية للمستقبل على غيره من أقسام الزمان، وبالتالي فإنه يقترب من كل من نيتشه وكيركغارد، إن لم نقل بأنه يقترب أيضاً من هيغل نفسه.
بيد أن أصالة نظرية هايدغر في الزمان إنما تنحصر في قوله بالتحام آنات الزمان، وتوحيده بين الكينونة البشرية وطابع الزمانية، وربطه "الوجود من أجل الموت" بتناهي الزمان، ورفضه لكل إحالة إلى الأبدية والحق أن الإنسان في نظر هايدغر لا يصبح ذاتاً حقيقية إلا حين يربط أقسام الزمان بعضها بالبعض  الآخر، وحين يجعل من وحدة الزمانية "بناءً كلياً" يرتكز عليه في تدعيم وجوده. ولكن هايدغر يؤكد "تناهي الزمان" فهو يقرر أننا عندما نسجل ذواتنا في الوجود، فكأننا بذلك إنما نسجل ذواتَنا في العدم. وعلى حين أن فيلسوفاً مثل أفلاطون كان يقرر أن الزمان هو الصورة المتحركة للأزلية الساكنة، نجد أن الزمان عند هايدغر لا ينطوي على أية إحالة إلى الأزلية. و"التناهي" في نظر هايدغر هو الشرط الضروري لتعالينا على ذواتنا، أو مفارقتنا لذواتنا.
وهنا يمكننا أن نلخص نظرية هايدغر في "التعالي" فنقول إن الموجودات البشرية في رأيه ليست كائناتٍ مغلقةً على ذاتها، أو موجودات منعزلةً قائمةً بذاتها، بل هي كائنات زمانية تحقق حركة مستمرة، أو موجوداتٌ زئبقيةٌ تعلو دائماً على ذواتها. ولكن "التعالي" الذي يتحدث عنه هايدغر ليس تعالياً رأسياً (على طريقة كيركغارد أو كارل ياسبرز، بل هو تعالٍ أفقيٌّ (على طريقة نيتشه). فنحن لا نخرج من ذواتنا لكي ننتقل نحو الله أو نحو أي موجود آخر متعال، وإنما نحن في حالة اتجاه مستمر نحو العالم، ونحو المستقبل، ونحو العدم.. إلخ.
ومن هنا فإن فكرة "التعالي" قد فقدت على يد هايدغر ذلك الطابع الديني الذي كانت تتسم به عند كيركغارد، فأصبحت بمثابة "مفارقة" باطنة في صميم العالم. ولما كان "التعالي" إنما يعبر عن زمانية الموجود البشري، وحركته المستمرة نحو العالم، واندفاعه الدائب نحو ممكناته، فليس بدعاً أن نجد هايدغر يؤكد أنه ليس للموجود البشري من ماهية، إن لم نقل بأن وجوده هو عين ماهيته. وبهذا المعنى يكون "الوجود" مرادفاً آخر للتعالي أو "المفارقة" ما دام الوجود خروجاً عن الذات، واندفاعاً نحو الممكنات، واتصالاً مستمراً بالعالم، واتجاهاً دائباً نحو المستقبل، وتناهياً يفضي بنا إلى العدم!
وما دامت حياتنا سيراً مستمراً نحو الموت، فإنه لا بد لنا من أن نعلو على ذواتنا متجهين نحو ذلك "العدم" الذي قد جُعِل منه وجودُنا نفسه! وإذاً فليس "العدم" (في رأي هايدغر) مجرد مفهوم مقابل لمفهوم "الوجود"، بل هو من مقومات "الوجود" نفسه باعتباره ملتحماً بنسيج وجودنا الزماني. وهكذا نرى أن الكلمة الأخيرة في كل فلسفة هايدغر الأنطولوجية ـ على نحو ما عرضها في كتابه "الوجود والزمان" ـ إنما هي لنظرية "التعالي" أو "المفارقة" التي تجعل من الموجود البشري بناءً معقداً من الممكنات، فتخلع عليه طابعاً زمانياً أصيلاً، وتصور لنا "وجوده" بصورة نافذ صغيرة نطل منها على البناء الأصلي للوجود العام.
4ـ قيمة كتاب "الوجود والزمان" في تراث الإنسانية:
اختلف النقاد في الحكم على قيمة كتاب "الوجود والزمان"، فذهب قومٌ منهم إلى أنه كتابٌ ممتاز في "الأنتروبولوجيا الفلسفية" [؟]، بينما أدرجه غيرهم في عداد الكتب الهامة التي عملت على ظهور "الفلسفة الوجودية"، وليس من شك عندنا في أن كتاب هايدغر في "الوجود والزمان" قد كان له أكبر الأثر على سارتر زعيم "الوجودية" الفرنسية، فضلاً عن أنه قد تضمن من الاتجاهات ما جعل مارتن بوبر Buber يفسح له مجالاً واسعاً في دراسته للأنتروبولوجيا الفلسفية المعاصرة. ولكن الحقيقة أن المشكلة الكبرى التي شغلت اهتمام هايدغر في هذا الكتاب لم تكن هي مشكلة الإنسان، بل كانت مشكلة الكينونة أو الوجود من حيث هو وجود. ولئن كان كتاب "الوجود والزمان" قد انطوى على الكثير من التحليلات "الفينومينولوجية" للوجود الإنساني، إلا أن هايدغر لم يهتم بالإنسان من أجل الإنسان، بل من أجل علاقته بالوجود العام. والواقع أن حديث هايدغر عن "الوجود" لم يكن حديثاً عن "موجود" ما بعينه، حتى ولا "الموجود المطلق"، وإنما كان حديثاً عن "الوجود" من حيث هو فعل، لا من حيث هو اسم، أعني أنه قد انصب في معظمه على فعل "الكينونة". ولم يثر هايدغر سؤاله الميتافيزيقي: "ما الوجود؟" إلا لأنه كان مؤمناً سلفاً بأن في إمكان الوجود أن يكشف لنا ذاته، أو أن يعلن لنا عن ذاته. ومثل هذا الكشف الأصلي للوجود ليس هو الشرط الجوهري لكل علاقة يمكن أن تقوم بيننا وبينه فحسب، وإنما هو التعبير الأوحد عن حقيقة الوجود أيضاً. والحقيقة ـ في نظر هايدغر ـ ليست شيئاً ينضاف إلى الوجود من الخارج ـ بفعل الإنسان ـ وإنما هي حدث باطنٌ في صميم الوجود نفسه. وليس الوجود الإنساني (من حيث هو مفارقة مستمرة وخروج عن الذات) سوى عملية تحقيق الحقيقة.
[لكن عرض زكريا ابراهيم لكتاب "الوجود والزمان" لم يتحدث إلا عن الوجود الإنساني، ولم يتحدث عن وجود العالم إلا انطلاقاً من حيث هو أداة للإنسان أو امتداد لوعيه، وكأن سؤال ما هو الوجود ما زال مطروحاً ولم تتم الإجابة عنه]
ومعنى هذا أن علاقة الإنسان بالوجود إنما هي في حد ذاتها "أونطولوجيا". وإذا كان الإنسان إنما هو في قلب المشكلة الفلسفية بمثابة المركز، فذلك لأن هناك حقيقة، ولأن هناك بالتالي فكراً. وبهذا المعنى يمكننا أن نقول إن الإنسان هو نور الحقيقة في ظلمات الكينونة.
حقاً إن الإنسان ـ من حيث هو موجود طبيعي ـ قد يبدو مجرد "موجود" كباقي الموجودات، ولكنه ـ من حيث هو موجود بشري ـ وجود يفهم معنى الوجود، لأن ثمة رابطةً جوهريةً تربطه بطبيعة الوجود العام. فالموجود البشري ـ في نظر هايدغر ـ هو ذلك الموجود المتعالي (أو المفارق لذاته) الذي يكشف لنا عن حقيقة الوجود. وحينما يقرر صاحب "الوجود والزمان" أن الوجود هو ماهية الإنسان، فإنه لا يعني بذلك أن الإنسان ذاتية خالصة، بل هو يعني أنه انبثاق أو خروج عن الذات. فالإنسان لا يقوم إلا خارج ذاته، في قلب الوجود العام. والإنسان أيضاً هو الموجود الأوحد الذي يبدو وكأن الوجود العام قد اصطفاه أو دعاه، ليكون في مصيره نفسه ناطقاً باسمه!
وإذا كان كثير من الباحثين قد خلطوا بين قول هايدغر بأن "وجود الإنسان إنما هو ماهيته"، وقول سارتر بأن "الوجود يسبق الماهية"، فإن من واجبنا أن نقيم تفرقة أساسية بين المقالتين: لأن الأولى منهما تعني أن الإنسان ليس في جوهره مجرد ذاتية محضة، بل هو خروج عن الذات، في حين أن الثانية منهما لا تشير إلا إلى عملية خلق الإنسان لذاته بمقتضى حريته [لكن هل خلق الإنسان لذاته بمقتضى الحرية لا تعني خروجه عن الذات، أو أنه ذات محضة تعيش بمعزل عن العالم؟ (م.ح)]. ولهذا فقد أعلن هايدغر أكثر من مرة أن فلسفته على النقيض تماماً من كل نزعةٍ ذاتية، كما أكد بكل قوة أنها لا تنطوي على أية نزعة عدمية. حقاً إن فكرة العدم ـ كما بيّن لنا هايدغر في موضعٍ آخرـ هي السبيل الأوحد الذي ينكشف لنا "الوجود" عن طريقه، ولكن "العدم" ليس هو محور اهتمام الفلسفة الأنطولوجية التي قدمها لناهايدغر في "الوجود والزمان". وقد يتوهم البعض أن الكشف عن الوجود لا يقتضي منا سوى أن نلقي بأنفسنا إلى عالم الأشياء باعتباره مستغرقاً للحقيقة أو متضمناً للواقع، ولكن مثل هذا الوهم لن يكون من شأنه سوى أن يجعلنا نخسر ذواتِنا!
وأما إذا عمدنا إلى تحليل وجودنا الحر، المتناهي، الزماني، فهنالك لا بد من أن ينكشف لنا الوجود نفسه. [هذا يؤدي بنا إلى نوع من المعرفة الصوفية]
وأصالة فلسفة هايدغر إنما تتجلى فيقوله بأن الإنسان هو محل "الوجود" أو مستقره. فليس في فلسفة هايدغر مثالية أو واقعية، وإنما هي جهد شاق من أجل الكشف عن طبيعة "الوجود" أو "الكينونة" من خلال ذلك "الكائن" الذي هو من الوجود وفي الوجود.
والحق أننا نرى جميع الكائنات الخرى تكتفي بالخضوع لقانون الوجود، فتنفتح وفقاً لما في باطنها من نظام، وتصبح ما هي بفضل ذلك القانون، في حين أننا نرى الموجود البشري ـ والموجود البشري وحده ـ يحمل رسالةً خاصة، ويحقق ـ بخروجه عن ذاته ـ ضرباً من المصير. فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي يدخل التساؤل عن الوجود في صميم وجوده، بحيث قد يحق لنا أن نقول: إن مشكلة الوجود هي مشكلته الخاصة. ولكن الإنسان أيضاً هو "راعي الوجود" (على حد تعبير هايدغر)، أو هو الموجود الذي يحيا من أجل حقيقة الوجود. وهذا هو السبب في أن هايدغر ينسب إلى الإنسان كرامةً كبرى وامتيازاً خاصاً ـ بين كافة الموجودات ـ حتى لقد اعتبره "النور" الذي يكشف عن ماهية الوجود نفسه. وقد رد هايدغر على الفلاسفة الذين اتهموه بالنزعة اللاإنسانية فقال: إن النزعة الإنسانية الحقة إنما هي تلك التي تفهم إنسانية الإنسان فهماً يقوم على أساس قربه إلى الوجود، وانشغاله بالوجود، وتحقيقه هذا الوجود من خلال تحقيقه لرسالته في الوجود، وليس من شك في أن هايدغر قد حاول في كتابه "الوجود والزمان" أن يعيد الفكر إلى أساسه وأصله، وأن يعاود البحث في مشكلة الوجود ابتداءً من النسيج الأنطولوجي للموجود البشري، فاستطاع بذلك أن ينقل الإنسان من حالة الوجود اللاإنساني الزائف، إلى حالة الوجود الإنساني الأصيل.
بيد أن هايدغر لم يواجه "مشكلة الوجود" في كتابه "الوجود والزمان" إلا من خلال الإنسان، فلا بد للقارئ الذي يريد أن يقف على فلسفة هايدغر الأنطولوجية من الاطلاع على باقي كتبه ورسائله، حتى يكوّن فكرة صحيحة عن نظرة هايدغر إلى الميتافيزيقا بصفةٍ عام، وإلى مشكلة الوجود بصفةٍ خاصة. وإذا كان بعض النقاد قد زعم أن هايدغر "رجل كتاب واحد"، فربما كان في وسعنا أن نقول إن هذا الكتاب الواحد نفسه لا يفهم إلا في ضوء الرسائل العديدة التي أصدرها هايدغر في ما بعد، وعلى رأسها بحثه المسمى باسم "ما الميتافيزيقا؟"، وحديثه عن "النزعة الإنسانية"، وكتابه الصغير عن "ماهية الحقيقة". والواقع أن شتى الاتهامات التي وجهت إلى هايدغر، بما فيها عداؤه للمنطق، وانتصاره للعاطفة، وإنكاره للقيم، ومناداته بنزعة عدمية هدامة، ومجافاته لكل نزعة إنسانية.. إلخ. نقول إن كل هذه الاتهامات سرعان ما تتبدد أدراج الرياح، بمجرد ما يسلط عليها المرء أضواء الدراسة الفاحصة المنصفة. وحسبنا مثلاً أن نعود إلى نظرية هايدغر في الحقيقة لكي ندرك اهتمامه باللوغوس، وعنايته بالغوص إلى أعماق الفكر، وحرصه البالغ على سبر أغوار البشرية.
ولئن كنا نجد في معظم كتابات هايدغر ولعاً كبيراً بتحليل الألفاظ، واشتقاق الصيغ، والبحث عن الحكمة الباطنة في اللغة، إلا أن هذا الولع ـ في حد ذاته ـ إنما هو الدليل القاطع على إيمانه بالفكر، وفهمه لعلاقة اللغة بالفكر، إن لم نقل علاقتها بالوجود نفسه.
ولو كان لنا أن نعبّر عن فلسفة هايدغر بعبارتنا نحن، لقلنا إن الوجود نفسه يفكر فينا وبنا، أو هو يتعقل ذاته من خلال لغتنا نفسها. فليس التفكير مجرد تعبير يستدرج الفكرة إلى شبكة اللغة، بل هو نطق بلسان حال الوجود، أو هو ـ على الأصح ـ تعبير عن كلمة الوجود غير المنطوقة! وهذا هو السبب في أن هايدغر يختم رسالته عن النزعة الإنسانية بقوله: "إنما اللغة لغة الوجود، كما أن السحب سحب السماء". ولا بد لنا من أن نتذكر ـ في خاتمة هذا العرض ـ أن الفلسفة العظيمة ليست هي تلك التي تستطيع أن تقول كل شيء، بل هي تلك التي تستطيع أن تقول شيئاً! ومهما كان من أمر المآخذ العديدة التي أخذها خصوم هايدغر على كتابه "الوجود والزمان"، فإن من المؤكد أن هايدغر قد استطاع أن يقول لنا شيئاً بل أشياء!
وكيف لمؤرخ الفلسفة المعاصرة أن يتجاهل أحاديث هايدغر في هذا المؤلف الضخم عن "الوجود في العالم" و"الزمانية"، و"الوجود من أجل الموت" و"القلق" و"الهم"، و"السقوط" و"التعالي" و"التاريخ".. إلخ؟ بل كيف لمؤرخ الفلسفة المعاصرة أن يتجاهل تأثير هايدغر على الفلسفة الوجودية بصفة عامة، وعلى وجودية سارتر بصفة خاصة؟ فلنقل إذاً إن ظهور كتاب "الوجود والزمان" كان حدثاص فلسفياً هاماً في القرن العشرين، ولندع لمؤرخ الفكر في المستقبل مهمة الحكم على مدى قيمة هذا الحدث.
5ـ نصوص مخارة من كتاب "الوجود والزمان":
أ ـ وجد هايدغر في إحدى أساطير الميثولوجيا اليونانية القديمة تعبيراً رمزياً عن نظريته في "همّ الزمان" فكتب يقول:
"كان الهمّ sorge يعبر ذات يومٍ نهراً من الأنهار، فلمح من بعيد قطعة صغيرةً من الطمي. وراح الهمّ يفكر ماذا عساه صانع بهذه القطعة الصغيرة من الطمي، حينما وجد نفسه وجهاً لوجه أمام جوبيتر. ومضى "الهم" يطلب إلى جوبيتر أن يسبغ الروح على تلك الصورة التي صنعها من الطين، فلم يتردد جوبيتر في إجابته إلى طلبه. ولكن "الهم" ما كاد يشرع في إطلاق اسمه على تلك الخليقة الجديدة، حتى احتج جوبيتر على ذلك بحجة أن اسمه هو أحق بأن يطلق على ذلك المخلوق! وبينما كان "الهم" و" جوبيتر" يتقارعان الحجج حول أحقيّة كل منهما بالتسمية، ظهرت "الأرض"، وراحت هي الأخرى تطالب بأن يطلق اسمُها على ذلك المخلوق! بدعوى أنها هي التي أعطته قطعةً من جسدها..
"ثم استدار الجميع نحو "ساتورن" (الزمان)، طالبين إليه أن يحكم بينهم بالعدل، فلم يلبث ساتورن أن أصدر الحكم التالي: بما أنك يا جوبيتر قد وهبت الروح لهذا المخلوق، فسيكون من حقك أن تستردها منه عند الوفاة. وأنت أيتها الأرض: بما أنك قد جدت عليه بالجسد، فسيكون من حقك أن تسترجعي هذا الجسد. وأما أنت أيها "الهم"، فلأنك أنت الذي كوّنته بادئ ذي بدء، فسيكون من حقك أن تتملّكه وتسيطر عليه طوال مَحياه! وحيث أن ثمة خلافاً حول الاسم الذي يعطى له، فلنطلق عليه اسم "آدم" (أو الإنسان) homo، لأنه من صنع "أديم" الأرض (أي من التراب)". (مارتن هايدغر: "الوجود والزمان"، ص 197).
ب ـ يطرح هايدغر في البند السابع والأربعين من الفصل الثاني مشكلة إمكان قيام خبرةٍ يكون موضوعها موت الآخرين، متسائلاً في الوقت نفسه عن إمكان إدراك الموجود الإنساني ككل فيقول:
"إن بلوغ الموجود البشري لحالة الاكتمال أو التمام بالموت، إنما هو في الوقت نفسه فقدان لواقعية  حضوره في الوجود العيني. فالتغيّر الذي ينتقل به إلى حالة "استحالة تحقيق أي حضور عيني" إنما ينتزعه هو نفسه من إمكانية الشعور بهذا التغير (أو الانتقال)، وبالتالي فإنه يحول بينه وبين فهم هذا التغير بوصفه حالةً معاشة يمكن الشعور بها. وإذاً فإن كل تجربة من هذا القبيل لا بد من أن تظل مستحيلة بالنسبة إلى أي موجود بشري، (ما دام من المحال لأي شعور أن يدرك موته الخاص). وأما في ما يتعلق بموت الآخرين، فإن الأمر قد يبدو على خلاف ذلك: لأن اكتمال الموجود البشري في هذه الحالة يصبح أمراً يمكن إدراكُه بطريقة موضوعية. ولما كان الموجود البشري في جوهره "وجوداً مع الآخرين"، فإن في وسعه أن يحصل تجربة عن الموت. ونظراً لأن الموت في هذه الحالة سيكون واقعً موضوعية، فلا بد من أن يكون في الإمكان أيضاً تحديد الحقيقة الكلّية للوجود البشري تحديداً أنطولوجياً.
وإذاً فنحن هنا بإزاء معلومات نستخلصها من أسلوب كينونة الموجود البشري، بوصفه "حضوراً مع الآخرين": إذ نجد في وجود "الآخر"، حين يصل في خاتمة المطاف إلى نهايته، موضوعاً يصلح كمعادل لتحليل الوجود البشري بوصفه حقيقة كلية مكتملة، وهو الموضوع الذي يبدو مغرياً للغاية. ولكن هل تكفي المعلومات التي نستخلصها عن هذا الطريق للوصول بنا إلى الهدف المنشود؟
الواقع أن وجود الآخرين، حينما يصل إلى حالة التمام أو الاكتمال، عن طريق الموت، فإنه هو الآخر لن يعود يحقق أية حضرة واقعية، بمعنى أنه لن يون في وسعه أن يحقق أي "وجود في العالم". أليس معنى الموت إنما هو الخروج من العالم، أو فقدان "الوجود في العالم"؟ ومع ذلك، فإن كون الميت يكف عن تحقيق أي وجود في العالم، إنما هو نفسه ضرب من الوجود..، وإن كنا هنا بإزاء وجود لم تعُد له سوى واقعية "الشيء المعطى" بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة حينما نتحدث عن الأشياء المادية التي نجدها متداولة بين أيدينا في العالم. وإذاً فإننا نستطيع ـ حينما نكون بإزاء موت الآخرين ـ أن نختبر ظاهرةً هامة من ظواهر الوجود، ألا وهي تلك الظاهرة التي نستطيع أن نحددها بوضفها ضرباً من التغير أو الانتقال الذي ينزع عن الموجود أسلوب الكينونة الخاص بالموجود البشري (أعني الحياة)، لكي يقتاده إلى الحالة التي لا يعود فيها يحقق أي حضور عيني. ونهاية الموجود بوصفه كائناً بشرياً إنما هي بداية ذلك الموجود بوصفه مجرد شيءٍ أو موضوع.
بيد أننا حينما نفسر هذا الانتقال من الكينونة البشرية إلى كينونة الشيء أو الموضوع (أو الحقيقة المعطاة) على النحو السابق، فإننا نتناسى جوهر الظاهرة لأن الموجود الذي يظل باقياً لا يمثل مجرد شيء مادي خالص (بل هو يمثل شيئاً أكثر من ذلك) وحتى لو نظرنا إلى جثة الميت التي قد تبدو مجرد موضوع أو شيءٍ ماثل أمامنا، لوجدنا أنها (حتى من الزاوية النظرية الصرفة) موضوع يصلح لتشريح الباثولوجي، وبالتالي فإننا لا نفهمها إلا في ضوء فكرتنا عن الحياة. ومعن هذا أن ما يبدو هنا مجرد "شيءٍ" خارجي، لا زال أيضاً أكثر من مجرد شيء مادي عديم الحياة. وآية ذلك أن ما نجده في جثة الميت إنما هو ذلك الجسد الهامد الذي آلت فيه الحياة إلى انحلال.
ولكن هذه السمة  الخاصة التي يتسم بها العنصر الباقي من الميت لا تكفي وحدها لإعطائنا فكرةً تامة مليئة عن الظاهرة التي نحن بصددها فيما يتعلق بالوجود البشري. وذلك لأن "المتوفى العزيز" الذي انتزعه الموت من وسط أحبائه ـ على العكس من أي ميت آخر ـ إنما هو موضع اهتمام أقربائه الذين خلفهم وراءه، فهم يحتفلون بموته، ودفنه، فضلاً عن أنهم يعنَوْن بقبره. والسبب في ذلك أن هذا "المتوفى" نفسه ـ من حيث أسلوب كينونته ـ إنما هو أكثر من مجرد سيئ أو أداة نعنى بها ونعمل على استخدامها في العالم المحيط بنا. وحينما يلتف حوله أولئك الذين خلفهم وراءه (بعد موته)، فإنهم ـ في لوعة حدادهم ـ إنما "يوجدون معه"، من خلال ذلك الموقف المليء بالاحترام والرعاية الذي يقفونه منه. وهذا هو السبب في أن نوع علاقتهم بالميت لا يمكن أن يتصور بأي حال ما من الأحوال على أنه شبيه بالعلاقة التي تقولم بين الإنسان وبين أية آلة (أو أداة) يعنى بها.
حقاً إن "المتوفى" لم يعد موجوداً في ذلك العالم البشري المشترك الذي يضم في رحابه الموتى أنفسهم، ما دام هو نفسه لم يعد يحقق أية حضرة عينية أو أي وجود واقعي. ولكن، لما كان العالم البشري المشترك إنما يعني دائماً تبادل العلاقات بين البشر، أو تحقيق ضرب من "المعيّة في عالم واحد بعينه، فإن في استطاعتنا أن نقول إنه وإن كان المتوفى نفسه قد ترك عالمنا، أو قد خلفه وراء ظهره، إلا أن أقرباءه لا زالوا يحققون معه ضرباص من "المعيّة"، لأنهم موجودون معه، ولكن ابتداء من ذلك العالم نفسه.
وإذا عرفنا الآن أن المتوفى ـ في صميم وجوده الظاهري ـ لم يعد يمثل أيّ حضور عيني، أمكننا أن نفهم كيف أن هذه المعيّة المتقاسمة مع الميت لا تسمح لنا بأن نعاني ـ على وجه التحديد ـ صميم خبرة الميت (في صورتها الصحيحة) حينما وجد نفسه على أبواب النهاية (أو الموت). حقاً إن الموت لينكشف لنا على صورة فقدان، ولكنه أكثر من ذلك "الفقدان" الذي يستشعره الأحياء في صميم خبرتهم بإزاء الميت. ولئن كنا نحن الأحياء قد نستشعر هذا الفقدان (أو هذه الخسارة)، فليس معنى ذلك أننا نستطيع أن نعاني خبرة ذلك الشخص الذي يموت، وإذاً فنحن لا نستشعر ـ بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة ـ موت الآخرين، وإنما كل ما في وسعنا أن نفعله هو أن نشهد موتهم!
وحتى لو كان في وسعنا (أو لو كان من الممكن) أن نكون لأنفسنا صورة واضحة سيكولوجياً عن موت الآخرين، بمجرد مشاهدتنا لموتهم، أو تواجدنا معهم لحظة احتضارهم، لما كان في وسعنا مع ذلك أن ندرك أسلوب وجود ذلك الشخص الذي يقترب من نهايته. وذلك لأن المشكلة إنما تتنحصر في معرفة المعنى الأنطولوجي لموت ذلك الشخص الذي يموت، على اعتبار أن هذا الموت إنما هو إمكانية وجود كامنة في صميم وجوده هو، لا مجرد صورة من صور "المعية" (أو الوجود المسترك) بين هذا الميت وبين أقربائه، أو مجرد أسلوب خاص من أساليبه في تحقيق ضرب من الحضور. وإذاً فإن الظن بإمكان الاستناد إلى الموت الذي يختبره الآخرون من أجل اتخاذه موضوعاً نرتكز عليه لتحليل نهاية الموجود البشري والوقوف على طابعه الكلي، إنما هو جهد ضائع لن يكون في وسعه ـ لا من الناحية الأونطية، ولا من الناحية الأنطولوجية ـ أن يمدنا بما نتوقعه منه.
بيد أنه لا بد لنا من أن نلاحظ ـ قبل كل شيء ـ أن ثمة افتراضاً سابقاً يكمن من وراء هذه الإحالة إلى موت الآخرين، بوصفه موضوع تعويض (أي موضوعاً نستعيض به عن تحليل موت الذات) يمكننا أن نمارس فيه تحليلنا الأنطولوجي لظاهرة تحقق الوجود واكتماله (أو تمامه). وهذا الافتراض السابق إنما يكشف عن تجاهل تام لأسلوب الكينونة الخاص بالموجود البشري. وذلك لأنه يقوم على الظن بأن في الإمكان استبدال إي موجود بشري بآخر، بحيث أن ما قد يبدو لي في تجربتي الخاصة شيئاً عسير المنال ليس لي عليه يدان، يصبح بالنسبة إلى غيري شيئاً قابلاً للإدراك أو أمراً يسهل الوصول إليه. ومع ذلك، فهل هناك حقاً ما يبرر الأخذ بمثل هذا الافتراض؟".
(وهنا يستطرد هايدغر فيبحث ظاهرة الاستعاضة أو الاستبدال التي كثيراً ما نشاهدها في حياتنا العادية، حينما تقوم ذات مقام غيرها من الذوات، أو حينما ينوب إنسان عن غيره من الناس، لكن لا يلبث أن يقول):
"ولكن مثل هذه الاستعاضة (أو الإنابة) لا بد من أن تصبح ضرباً من المحال حينما يكون موضوعها للو "إمكانية الوجود" التي تمثل بالنسبة إلى الموجود البشري حالة "بلوغ النهاية"، أعني تلك الإمكانية التي تحقق له اكتماله وتخلع عليه طابعه الكلي. فليس في وسع أحد أن يعهد بموته إلى آخر. حقاً إنه قد يحدث أن يمضي إنسان إلى الموت بدلاً من إنسان آخر، ولكن هذا لا يعني في جميع الأحوال سوى التضحية من أجل هذا الإنسان الآخر "بخصوص أمر محدد بعينه".
فالموت من أجلنا لا يعني مطلقاً أننا نتنازل عن موتنا لكي نعهد به إلى شخص آخر. وإنما لا بد لكل موجود بشري من أن يأخذ موته الخاص على عاتقه. وحينما يوجد الموت ـ بالنسبة إلي ـ فإنه لا يمكن أن يكون إلا موتي أنا. فما يعنيه الموت ـ بالنسبة إلي ـ إنما هو "إمكانية الوجود" التي تخصني أنا بالذات، وهي تلك الإمكانية التي توضع موضع التساؤل حينما تتزعزع أركان وجودي.. وإذاً فإن الموت ليس واقعةً موضوعيةً، بل هو ظاهرة لا بد من فهمها بطريقة وجودية". ("الوجود والزمان" الفقرة رقم 47).
ج ـ يتحدث هايدغر في الفصل الخامس من كتابه عن "الزمانية التاريخية" فيقدم لنا في البند الثاني والسبعين عرضاً أنطولوجياً ـ وجودياً لمشكلة التاريخ، وفي ما يلي الفقرة الأولى التي استهل بها هايدغر هذا الحديث:
"إن كل جهود التحليل الوجودي إنما تهدف إلى غرضٍ أوحد: أ وهو البحث عن إجابةٍ ممكنة على السؤال الخاص بمعنى الوجود من حيث هو وجود. وما يتطلبه تمحيص هذا السؤال إنما هو تحديد تلك الظاهرة التي تكون هي الكفيلة باقتيادنا إلى شيءٍ يشبه الوجود، ألا وهي ظاهرة فهم الوجود. وقد رأينا أن هذه الظاهرة إنما تخص الموجود البشري، من حيث أنها داخلة في مقومات وجوده. وعلى ذلك فإنه لا بد لنا ـ بادئ ذي بدءـ من أن نقوم بتأويل كينونة هذا الموجود تأويلاً يسمح لنا بالكشف عن طابعه الأصلي، لأننا عندئذٍ ـ وعندئذٍ فقط ـ نستطيع أن نتصور ظاهرة فهم الوجود التي ينطوي عليها هذا الموجود في صميم تكوينه الوجودي. وهذه هي الدعامة الوجيدة التي يمكن أن يرتكز عليها لاسؤال الخاص بالوجود (على نحو ما هو مفهوم أو متضمن في صميم كينونة  ذلك الموجود)، بل هذه هي الدعامة الوحيدة التي تسمح لنا بأن نقيم تساؤلنا على أساس من الافتراضات التي تتضمنها عملية "التفهم".
وليس من شك في أننا قد أغفلنا الكثير من مقوّمات الوجود البشري.ولكن ما دمنا قد أبرزنا طابع "الزمانية" بوصفه الشرط الأصلي لإمكانية الهمّ فإنه ربما يكون في استطاعتنا أن نقول إننا قد وصلنا إلى التأويل الذي ننشده، ألا وهو ذلك التأويل الذي يسمح لنا بأن نضع أيدينا على الوجود البشري في صميم أصله. وقد انكشفت لنا تلك "الزمانية" حينما كنا بصدد البحث عما في الوجود البشري من مقدرة أصيلة على "تكوين كلٍ موحد". ثم تأييد تفسيرنا الزماني للهمّ حينما أمكننا أن نبيّن كيف أن زمانية الموجود في العالم إنما هي بمثابة مظهر للانشغال بهذا العالم. وقد كشف لنا تحليلنا لتلك القدرة الأصيلة على تكوين كل موحد، عن ذلك الارتباط الثلاثي ـ المرتكز أصلاً على الهمّ والقائم على ضربٍ من المساواة الأصلية ـ بين الموت، والإثم، والضمير. وهنا قد يحق لنا أن نتساءل: أليس في الإمكان، عن طريق فهمنا لمشروع الموجود الحقيقي الأصيل، أن ندرك "الوجود البشري" على مستوى أكثر أصالة"".
(هايدغر يلاحظ هنا أنه قد اقتصر حتى الآن على دراسة "الوجود من أجل الموت"، في حين أن الموت ليس إلا الحد النهائي لهذا الموجود الذي يكون كلاً موحداً. ولهذا نراه يعود فيقول:)

"إن الموت ليس إلا واحداً من حدّين: لأنه ذلك الحد الذي يحصر الوجود البشري في نطاقه الخاص، وأما الحد الآخر فهو "البداية" أو "المولد". وما يمثل "الكل" الذي نحن بصدد البحث عنه إنما هو الوجود القائم بين الولادة والموت. وتبعاً لذلك فإنه على الرغم من أن تحليلنا قد اتجه نحو تلك الكينونة التي توجد على صورة كل، وعلى الرغم من أنه قد اهتم بتقديم تفسير صحيح للوجود الأصيل والوجود الزائف من أجل الموت، إلا أنه قد بقي مع ذلك تحليلاً من طرفٍ واحد. وآية ذلك أننا قد اقتصرنا في دراستنا للوجود البشري على النظر إليه بوصفه كينونةً تتجه نحو الأمام، مخلفة وراء ظهرها كل ما قد كان. ومن هنا فإننا لم نغفل "الوجود من أجل البداية" فحسب، بل قد أغفلنا أيضاً امتداده الوجود البشري من حيث أنه كينونة تمتد من المولد إلى الوفاة. فما ضربنا صفحاً عنه حتى الآن إنما هو "استمرار الحياة" الذي يسمح للموجود البشري دائماً أبداً بأن يتخذ هذا الأسلوب أو ذاك، في حين أن تحليلنا إنما ينصبّ على الموجود من حيث هو يمثل كلاً موحداً
ولكن، أي أمرٍ قد يبدو في الظاهر أكثر بساطة من وصف عملية "استمرار الحياة" ابتداءً من الولادة حتى الموت؟
أليس من الواضح أن هذا الاستمرار إنما ينحصر في عملية تتابع "الحالات المعاشة" في صميم الزمان؟.. فلنحاول إذاً أن ننفذ إلى باطن هذه الخاصية التي تتسم بها ظاهرة استمرار الحياة، لكي نتعمق دلالتها الأنطولوجية. وهنا سرعان ما تنكشف لنا ظاهرة هامة جديرة بالملاحظة، وتلك هي أنه ليس في هذا التتابع المستمر للحالات المعاشة أي عنصر واقعي أصيل، اللهم إلا تلك المعاشة الراهنة، أعني الحالة الفردية القائمة في كل لحظة على حدة. وأما الحالات المعاشة الماضية أو المستقبلة فهي لم تعد "واقعية" أو هي لم تصبح بعد كذلك، وأما المدة الزمانية التي تجد الذات نفسها قائمةً فيها (بين هذين الحدّين) فإنها تضطرها إلى الانتقال من "الآن" إلى "الآخر" غبر سلسلة طويلة من الآنات، أو اللحظات الراهنة. وهذا هو السبب في أننا نقول عادةً إن الوجود البشري وجود "زماني". ولكن الذات تظل محتفظة ـ عبر هذا التغير المستر للحالات المعاشة ـ بضربٍ من "الهوية".
(ثم يمضي هايدغر في مناقشة التفسيرات المختلفة لظاهرة "هوية الذات" إلى أن يقول:)
"إن المشكلة الخاصة باستمرار الوجود البشري إنما هي المشكلة الأنطولوجية الخاصة بتاريخية هذا الوجود. وإذا نجحنا في استخلاص هذا البناء التاريخي، والكشف عن الشروط الزمانية لاوجودية التي تجعله ممكناً، فسيكون في وسعنا عندئذٍ أن نصل إلى ضربٍ من الفهم الأنطولوجي للتاريخية." ("الوجود والزمان"، الفصل الخامس، الفقرة 72).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق