الاثنين، 31 يوليو 2017

الريبيّة الملَطَّفة عند هيوم؛ موسى وهبه، تقديم الدكتور جمال نعيم.



الريبيّة الملطّفة.

الرّيْبِيّة المُلَطَّفة، عنوان المقطع الأساسيّ من تقديم موسى وهبه لترجمته كتاب هيوم، مبحث في الفاهمة البشريّة، حيث تضمَّن هذا التقديم أيضًا، معالم في سيرة هيوم وهذه الترجمة.
والنص الذي نقوم بنشره نصٌّ قصير، لكنّه يُوضح، بدقة، إسهام هيوم في الفلسفة، وتحديدًا في الفلسفة الأمبيرية، وفي الفلسفة الانجليزيّة بعامة، وهو إسهام فَعَلَ فِعْلَه في تاريخ الفلسفة، وما زال، بحيث قال عنه كنط:" لقد أيقظني هيوم من سباتي".
د. جمال نعيم


الريبيّة الملطّفة
بقلم موسى وهبه

-1-
يرتبط اسم هيوم، في تاريخ الأفكار، بنقد مبدأ السببية وتفكيك فكرة الاقتران الضروري. وذلك ما يشكل إسهامه الرئيس في تنامي الفلسفة الأمبيرية الإنكليزية وبلوغها أوجها.
والأمبيرية تسمية تطلق على مذهب في المعرفة ينطلق من تقرير أنَّ الخبرة الحسية هي المصدر الوحيد لما نعلم، وذلك في مواجهة المذهب العقلاني القائل باستناد ما نعلم عن العالم وعن أنفسنا الى " الأفكار الفطرية" و"مبادىء الذهن" القبلية.
ويستند المذهب " المعرفي" ذاك الى رذل أيّ دعوى بعلمان ما يتعدى الخبرة والتجربة، وأيّ كلام عقلاني عليه، أي الى رذل ما يسمّيه "الميتافيزيقا" مورثًا بذلك لبْسًا سوف يتناقله العصر اللاحق ولن يبدّده التنبيه الكنطي نفسُه.
فالأمبيرية، مع هيوم بخاصة، تخرج الكلام على "الكائن بما هو كائن" والبحث عن " العلل الأولى" من دائرة التفلسف، وتنهي نقد الأُفهوميْن " سبب وجوهر"، فتسم الفلسفة الحديثة، على ما يذكر مؤرخو الأفكار، بمَيْسم "نسيان" السؤال عن الكون والانهمام بالسؤال: ما المعرفة؟ وكيف نعرف؟ وتنهي النظر الى الذات بوصفه جوهرًا مفردًا وتستبدله بالنظر إليه بوصفه مجرّد صَبْدجيكْت (subject ) للمعرفة، أي ما عليه تحمل المعرفة وإليه تسند().
- 2 -
ويتوسل هيوم في عرض آرائه والدفاع عنها التحليل السيكولوجي النقدي لـ " الأفكار المجردة" المستند الى حصر إدراكات الذهن في صنفين: الانطباعات والأفكار. وهو يوضح ذلك بالقول: "أعني ... بلفظ انطباع كل ما هو أكثر حياة في إدراكاتنا حين نسمع ونرى ونلمس ونحب ونكره ونرغب ونريد. وتتميز الانطباعات من الأفكار التي هي ما هو أقل حياة في إدراكاتنا وما نعيه عندما نفكر بأي من الإحساسات " تلك.
​أما الأفكار فليست سوى نُسخ عن الانطباعات : سواء كانت ذكريات عن انطباعات سابقة أم استباقات للمخيلة عما سنحس به؛ فلا تبلغ البتة قوة الانطباعات وحيويتها. وهذا يعني أنه لا يمكن إثبات صواب الأفكار ومدلولها إلا بالصلة مع الانطباعات التي عنها صدرت.
​وهذا الكلام ينطبق بخاصة على الأفكار البسيطة. أما الافكار المركبة التي هي حصيلة عمل الذهن فيمكن أن تكون مركبة من أفكار بسيطة وفقًا لقوانين تداعٍ معروفة مثال "مكتب المدير"، أو تكون ناتجة لفعل التفكير والمخيلة والعادة مثال أفكار " الله" و"المكان والزمان" والضرورة السببية".
- 3 -
​ويتم عمل الذهن بدءًا، استنادًا الى مبادىء ثابتة في تداعي الأفكار هي: "التشابه، والتجاور في الزمان أو في المكان، والسبب أو الأثر... فاللوحة تذهب بأفكارنا، طبيعيًّا، الى الأصل؛ وذكر المنزل في المبنى يؤدي، طبيعيًّا، الى التحرّي عن المنازل الأخرى أو الكلام عليها. وإذا ما فكّرنا في الجرح نكاد لا نستطيع الامتناع عن التفكير في الألم الذي يليه".
وإذا كان التداعي يعني انتقال الذهن مما هو معطى في إدراكي الحاضر وما هو غير معطى وفقًا للمبادىء الثلاثة، فإنّ علاقة السبب بالأثر تستدعي انتباهًا خاصًّا؛ فهي تتضمن بدءًا علاقة تجاور في الزمان والمكان وعلاقة تتالٍ، إذ نفرض، حين يكون السبب والأثر متباعديْن، حلقات وسيطة تصل ما بينهما لتجعلهما متجاوريْن. لكنَّ التجاور ليس السببية؛ فهذه تتضمن، إضافةً، اقترانًا ضروريًّا بين السبب والأثر: إن وجد الأول فلا بد أن يحصل الثاني. فما هي طبيعة هذه الضرورة ومن أين أتت؟
​ترى العقلانية أن هذا الاقتران ضرورة منطقية وأنَّ السَّبب يتضمن العلَّة الكافية للأثر. لكنَّ هيوم يرد بالقول: إن الملاحظة لا تفيدنا قط بفكرة الاقتران الضروري. ويبيِّن هيوم موسِّعًا أنه لا يمكن أن نستدل، قبليًّا، من السبب على أيِّ أثر، وأنَّ التتالي تعلمنا به الخبرة والتكرار، وأنَّ الاعتقاد بضرورة حصول الأثر عن السبب هو شعور يرسخه في الذهن التكرار والتعوّد وحسب.
- 4 -
​إنّ عدّ الضرورة، وهي العلامة العقلانية الأوثق للحقيقة، مجرَّد شعور يرسخه التَّكرار والتعوُّد، كفيل بزعزعة وثوقية البنيان العقلاني بأسره. ولعلَّ ذلك ما قصده كنط عندما قال: "لقد أيقظني هيوم من سباتي الدغمائي".
​إلا أن رد الضرورة الى التعوُّد لا يفتح الباب نهائيًّا على المجهول عند هيوم؛ فصحيح أنه لم يعد ثمة من مطلق نستند اليه؛ فلا حقيقة مطلقة ولا أخلاق مطلقة ولا ضرورة مطلقة بل مجرد انطباعات وأحاسيس وأفكار واعتقادات، إلا أن ثمة قدرة أصلية للطبيعة بحيث لا تتضمن أي مصادفة على ما تعلمنا به التجربة، بل هي تظهر، على العكس، انتظامًا يجعلنا قادرين على التنبُّؤ بكثير من الأحداث باحتمال صدق يكبر ويصغر تبعًا لحالات التكرار.
إنّ القول: " الشمس ستشرق غدًا " هو مجرد فَرْض ولا يمكننا الإتيان بأي إثبات يقيني له. هذا صحيح، لكن من ذهاب العقل أن لا نصدقه وأن لا نتصرف بموجبه. وتصديقنا له هو لازم بما يكفي لممارسة الحياة اليوميَّة.
​ذاك ما يُسمَّى بالرَّيْبيَّة الملطّفة. فهيوم يجعلنا نرتاب بكل نظرية ورواية لا تثبتها التجربة، ويدعونا الى الإقرار بجهلنا طبيعة الأشياء والاقتران الكمن بين الأحداث، وبعجزنا عن اختراق أسرار إوالية هذه الماكينة الكبرى التي تسمّى العالمين.
​لكن هيوم يرى، في الوقت نفسه، أن هذه الشكوك الميتافيزيقية لا تطاول الحسَّ العام، وأن ضرورات الحياة العملية تكنس كل الشكوك المفرطة، وأنه ليس من الممكن الاستمرار في الشك المنهجي حيث يقتضي التصديق، بل المطلوب الأقصى هو عدم قبول التفسيرات التجريدية والخروج من الكسل الذهني الناجم عن الركون الى ما تعودّنا عليه.

(موسى وهبه)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق