الخميس، 27 يوليو 2017

ماذا عسانا نصنع بكنط بالعربيّة اليوم؟! بقلم موسى وهبه، مع تقديم للدكتور جمال نعيم.




ماذا عسانا نصنع بكنط بالعربيّة اليوم؟! بقلم موسى وهبه

نص المحاضرة التي ألقاها الرّاحل الكبير موسى وهبه في تونس، في شباط من العام ٢٠٠٤، في النّدوة التي رعاها المعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بتونس، احتفاءً بالمئويّة الثانية لوفاة إيمانويل كنط، وقد نُشرت أعمال النّدوة كاملةً في كتاب بعنوان:
Kant, les lumières et nous بإشراف Abdelaziz LABIB et Jean FERRARI
​والمحاضرة جديدة بمضمونها ولافتة ومثيرة للإنتباه، بحيث يقرأ موسى وهبه كنط قراءة مختلفة، بالعربيّة هذه المرّة، قراءة تستغل إمكانات اللغة العربيّة، اللغة الوحيدة الحيّة التي ما تزال تحتفظ بصيغة المثنّى في نحوها، ومن خلال هذه القراءة المغايرة، يكاد يطرح وهبه ميتافيزيقا جديدة، تُغني التفلسف العالمي، وتستجيب لمطلب العقل الدائم بإضفاء المعنى على السّعي البشري.
د. جمال نعيم

ماذا عسانا نصنع بكنط بالعربية اليوم؟!
موسى وهبه


1 - العربية اليوم
أطرح هذا السؤال البسيط كيف يمكن أن نقول كنط بالعربية، أي بلغةٍ أقدم منه؟ بلغة لا فاصل فيها بين ضمير الفاعل والفعل أو هي لا تذكره حتى تضمره (قلت للتو أطرح لم أقل أنا أطرح مع إمكان قول ذلك إنما بمعنى مختلف). بل كيف يمكن اليوم أن نقول كنط بالعربية مع عودة هيمنة البلاغة الأشعرية التي لا تحسب الفاعل الظاهر في مثل قولك. حلّ الولد المسألة فاعلاً على الحقيقة، بل مجرد فاعلٍ على المجاز، لأن لا فاعل حقيقيًّا الا الله؟!
بل كيف يمكن أن نقول فعل التفكير، وهو فعلٌ مركزيٌ في "النقد" وفعلٌ متعدٍ (transitif direct) عند كنط؟ حيث "فكّر" فعلٌ لازم، بالعربية، لا يتعدَّى الفاعل نفسه ولا يجاوز بنا الى أي مفعولٍ به. فأنت تقول فكَّرت في المسألة وتفكَّرت بها. والمسألة هنا قائمة بمعزلٍ عن التفكير بها، مثلما هي قائمة أشياء التفكير ( أغراض القول) بمعزلٍ عن القائل وقوله.
واذا كان هذا هو شأن ميتافيزيقا اللغة الواقعية فكيف لي أن أقول "ترانسندانتال" بالعربية، واللفظ، كما هو معلوم، أفهوم مركزي عند كنط؟
لقد قالت العربية أرسطو من دون مشكلاتٍ بمثل هذه الحدة، فهل يمكنها أن تقول كنط القائم في مدونة لغويةٍ أخرى، بل المخترع، نوعًا من الإختراع، مدوَّنة لغوية جديدة (بمشكلاتها وصيغها اللغوية) بالنظر الى كل ما سبق؟
واذا ما أمكن بشطارة ما، شطارة في التجاوز اللغوي، والإشتقاق والإستخراع (الإختلاق) المستشري اليوم بالعربية بضغطٍ من الحاجة إلى قول التفلسف والتفكير المعاصرين – أقول: إذا ما أمكن تجاوز العائق اللغوي بطريقةٍ ما، فأي كنط سنقوله بالعربية اليوم، ما اليوم؟
اليوم،
يوم العولمة وأحادية القطب والمعلوماتية والقرية العالمية، من جهة الغالب، ويوم عودة هيمنة البلاغة الأشعرية على مجال القول بالعربية. أي يوم الغلبة المطلقة لمبدأ المرجعية (principe d'autorité) الذي بدأت الحداثة بنقده.
اليوم، أي كنط ليقال ويقرأ بالعربية؟
وماذا عساها العربية تصنع بكنط بعد قطع رأس " الشيء في ذاته " مثلًا، وأي مستند سوف تجده للحرية الإنسانية بعد ذلك؟ أو بعد نسخ التمييز الكنطي وزمّه الى مجرد تمهيدٍ للجدل المنتصر مع هيغل ومن سار مساره (وما أكثرهم وأقوى سلطانهم). بل ماذا عسانا أن نصنع بكنط منظِّرًا للمعرفة او ابستيمولوجيًّا حين يكون تقدم العلوم وتوسعها قد قضَيَا بتعسفهما التكنولوجي على آخر دور للفلسفة في تأسيس المعرفة البشرية (على ما يشخص هيدغر)؟ وأية خدمة – بلغة الوضعيِّين – تُرتجى للعلوم من فلسفة بيَّنت الثورات العلمية المتتالية قصور مضمونها المعرفي (منطلقات فروضها التفسيرية )؟ وماذا عسانا نصنع بكنط بادئًا فلسفة التَّناهي البشري المتمحورة حول ذهنٍ متلقٍ وليس تلقائيًّا على ما يريد هيدغر؟ ولماذا تصلح فلسفة الذات الكنطية بعد كلّ "العنف" المعاصر لفلسفة الذات وتدمير سلطة الوعي وإعلان موت الإنسان نفسه بعد موت الله، وبعد أن تمّ تلخيص الانهمام الكنطي في سؤالٍ واحد أحد: ما الإنسان؟... فهل لم تعد تجوز على كنط سوى الرحمة؟
2 – أيّ ميتافيزيقا اليوم؟
لكن، يقول المعترض: لا داعيَ لكل هذا التشاؤم. فكنط، رغم ذلك، ينتفض من ترابه ويعود معافىً ملهمًا، وأبلق فردًا في زمن انهيار العمارات الفلسفية الكبرى:
ألم يستلهمه جون رولز في عدالته؟ ألا يبني عليه هابرماس في نظرية الفعل التواصلي؟ أليس هو قائم في أساس آطيقا الحوار وتجاوزية آبل؟ أليس هو أخيرًا حصان السِّباق المفضَّل لدى لوك فيري وآلان رينو والعودة الى إنسية ما جديدة؟!
أجل. كلّ ذلك صحيح تقول العربية. لكن رولز يستحضر كنط الأخلاقي والحقوقي وحسب. وهابرماس ينتقي من كنط مقاصد وحُدُوسًا تفيده في "الفهم المعاصر للحقوق". في حين أنه لا هو ولا آبل مهتمان بميتافيزيقا كنط التي لم تعد تعني لهما شيئًا. أما الفرنسيان فيري ورينو فيشترطان "أنسية من دون ميتافيزيك" ويبحثان في كنط عن مجرد نصاب فلسفي متماسك لوعد الحرية، وعن حل لمسألة الذات والعقل في العلاقة مع الآخر...
يستلهم كنط الاخلاقي والحقوقي اذن. وترذل ميتافيزيقاه، أي يرفض جوهره (على تعبير هيغل).
فماذا عسانا نصنع بكنط مخلَّصًا من الميتافيزيقا؟ إنّ لدى العربية معينًا لا ينضب من المعاني الأخلاقية، وخزانة فيها من الكنوز ما يكفي ليضيء لغات أخرى: بدءًا من التعارف، والتَّسامح، والإباحة وصولاً إلى الحريَّة وسيادة العقل والتعقل. وبدءًا من المعتزلة الى المعري وابن رشد وصولاً الى كبار المتصوفة. والسؤال ليس هناك، بل في مكانٍ آخر هو: ما الأساس الميتافيزيقي الذي سوف يسند هذه القيم جميعها؟ ما النصاب الذي يجمع معرفتي بالعالم الى تصرفي فيه وآمالي الممكنة؟!
بالعربية، واليوم، لا أفهم هذا الغضب المعمَّم من الذات والوعي. لا أفهمه لكني أرى حصيلته: تخليص التفلسف من الذاتية (العزيزة على نيتشه) ليصير صالحًا للخدمة في بلاطٍ ما.
ولا يروقني اليوم كذلك هذا الرذْل المعمّمُ للميتافيزيقا وكأن ليس يمكن قيام ميتافيزيقا إلا كميتافيزيقا جواهر والحقيقة أن ليس ثمة من جواهر عند كنط (يبين ألان رينو أن كنط ينزع عن الذات صفة التجوهر). أقول ليس ثمة من جواهر عند كنط. والميتافيزيقا عنده ليست علمًا بالمعنى المتعارف عليه. وبلغة كنط: ليست علمًا نظريًّا، فهي لا تخبر شيئًا عن موضوعها، ولا تضيف معلومات وإن كانت في جانب منها تشير الى وجهة تنظيم هذه المعلومات. وهي لا تقول في الأحوال جميعًا إنَّ هذا هكذا، بل "كما لو أنّ". وهي في جانبها الأساسي اقتراح حلول ممكنة لمعضلات مطروحة على العقل في مختلف ملكاته.
بتعبير أوضح: لم يكن كنط النقدي فيلسوف أخلاق من جهة وفيلسوف معرفة من جهة أخرى وفيلسوف غائية من جهة ثالثة، بل كان صاحب ميتافيزيقا وحسب. قوام هذه جملة من المزاعم المقترحة لإخراج العقل البشري من مأزقه، لتخفيف وطأة إرهاق الاسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل نفسه، لمعالجة انهمامه die sorge) ) إن جاز القول.
وأتدبر، بالمناسبة، فهمًا آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علمًا للكائن بما هو كائن، ولا سؤالًا عن الكون، ولا مبحثًا في الغيبيات، ولا تلك الشجرة الوارفة الظل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشجرة، وجذورها المخفية في الأرض، إن صح لنا استثمار الاستعارة الديكارتية مرة أخرى.
أقول: الميتافيزيقا هي سستام المزاعم اللازمة للعقل البشري في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعته.
وجملة هذه المزاعم قد تكون إما مضمرة وسرّية وإما مُعْلَنة ومصاغة. وما فعله كنط هو إعلان معظم هذه المزاعم، مثال: الشيء في ذاته، والمكان والزمان، ولوحة الأحكام ولوحة المقولات الخ.. وطرحها في كتب النقد مع امتداداتها المباشرة.
3- المثنَّى والتفكير:
لكن ثمة جذور لم تعلن أو لم تُصغ باعتبارها تحصيل حاصل. وثمة جذر أساس لم يكشف عنه بعد ولم يجد مكانًا في الصياغة هو مزعم المثنَّى.
وكنت تنبهتُ الى ذلك المزعم بفضل نص / درس ألقاه جيل دولوز ربيع 1973 بعنوان: " الثنائية والواحدية والكثرات". وللمرة الاولى أرى دولوز خارجًا عن طوره، غاضبًا على الإثنين، مبجِّلا للواحد والكثير، حاسبًا أن الوحدة والكثرة شيءٌ واحدٌ في النهاية. وحين يكون المرء بمهارة جيل دولوز يسهل عليه أن يبين أنّ الوحدة تؤدي الى الكثرة ولا بدّ، وأن الكثرة هي نفسها الوحدة أو الواحد. " أليس سبينوزا ملك الفلاسفة! يتابع جيل دولوز: الفكر إما أن يكون مع الواحد أو مع الكثرة وفي هذا امكان له. أما مع الاثنين فلا فكر البتة".
فالإثنان عدو التفكير (le deux est l'ennemi de la pensée) ويستخدم جيل دولوز ذلك لدكّ ثنائية ديكارت وجر ذلك على التحليل النفسي الفرويدي واللاكاني. فالثنائية في النهاية ليست سوى انشطار الذات الى ذي المقول وذي القول. (sujet de l’énoncé et sujet de l’énonciation)، ولذلك حكاية واحدة يقول دولوز خلاصتها: أنت من يأمر، أنت تبلغ سُدّة القيادة ( الأمر) بقدر ما تخضع للأمر الذي لست صاحبه (sujet) الا بقدر ما تكون مشرِّعًا: إنه أمر الديمقراطية الشهير. ويتابع: ليس من المصادفة أنّ الذي رفع هذا المذهب الى أقصاه، الى شكلانيته، هو وريث ديكارت من وجهة نظر الكوجيتو أعني من حيث يكون الخضوع للعقل يُعرض علينا بوصفه الطريق التي بها نصير مشرِّعين... إنَّ هذا الخضوع للعقل من أجل أن نصير مشرِّعين يحيلنا أبدًا الى قسمة الذات الى ذي المقول وذي القول (المنصوص عليه والناص).
قلت: ينبهني دولوز الى محاولة هذا التجريب، الى المجازفة التي جازفها كنط ذات مرة فأقول: ربما كان الاثنان، ربما كان المثنَّى غير مناقض للتفكير. أكثر: ربما كان التفكير بالمثنى وتفكير المثنى المجال المازال مفتوحًا للخوض فيه. ربما كان لا يزال ثمة معنى، اليوم، لقراءة أخرى بالعربية هذه المرة لاستلهامٍ آخرَ لكنط بوصفه فاتح عهد التفكير بالمثنى، وعهد تفكير المثنى فيما يتعدَّى الركون الى الوحدة الأصلية، والتوحيد الصائر، والتناقض الثنائي والثالث الناسخ، وزغاريد الاختلاف والفرق والتعددية والكثرة. ربما كان لا يزال ثمة معنى لقراءة عربية لكنط بوصفه معبِّدًا لدرب الحداثة التي لا رجوع عنها ومبدعًا لميتافيزيقا أخرى.
وأبدأ بتمييز المثنَّى الكنطي من الثنائية الديكارتية، وأحسب أنَّه لا يمكن جرّ النَّقد الممارس ضد ديكارت على كنط نفسه من دون إغفال "الثورة الكوبرنيقية" نفسها وتضييع الانعطاف المنفرد الذي أحدثه كنط والذي ربما لا يزال قابلاً للاستلهام في البحث عن شبه شيمٍ للعالم الحاضر (بوصفه ماضي الأيام الآتية).
فمن المعلوم أنَّ ثنائية ديكارت هي، على ما شخص ج. دولوز، انشطارٌ لجوهرٍ واحدٍ، أو كما تقول المدرسة هي ثنائيّة نوعيّة لجنسٍ واحدٍ، أو ثنائية تحليلية خاصة بالذهن البشري، الذي ليس يسعه أن يدرك سوى صفتين من صفات الجوهر الواحد (سبينوزا).
كنت في ردٍ توهَّمتُه لكنط ضد هيغل قد أشرت الى ذلك جزئيًّا في مثنَّى الحدس الحسيّ عند كنط، حيث أثبت كنط، ضد هيغل وربما أيضًا ضد هيدغر ومن نَهَل منهما أن قوله : إنّ أجزاء المكان تقوم معًا لا قربى له البتة بمعيَّة الزمان simultanéité. فَمعيّة الزمان أوان مكوِّن من آونة الزمان في حين أن كون أجزاء المكان تقوم معًا هو مجرد وصف تحليليّ لحدس المكان وليس أوانًا مكوِّنًا فيه. ممَّا يعني وجوب فهم الحساسية كقدرة تلقٍ يكوِّنها عنصران مستقلان بنيويًّا ومتميزان بحيث لا يمكن رد الواحد منهما الى الآخر، ولا إعلان أوليَّة الزمان على المكان كما فعل هيغل ومن بعده هيدغر وبخاصة هيدغر استنادًا الى نصوص فاضحة " في نقد العقل بالذات بدءًا من تصريح كنط أنّ الزمان هو الحدث الأكثر يونيفرسالية وصولًا الى دوره الأساسي في مزعم الشَّيْمية. ممّا يستدعي بعض التاويل، من مثل الانتباه الى أنَّ الأكثر في الأكثر يونيفرسالية قد لا تعني المقارنة البتة بالمكان، ومن مثل إن عدم تساوي صورتي الحدس ماثل في الوظيفة التي يلعبانها في عملية الحدس الحسيّ وحسب. فآونة الزمان القابل للتعيين شَيْمات مجاوِزة "ترسنداتالية" بعلاقة مع المخيّلة المنتجة. إنّ هذا الاختلاف لا يشير الى أي علاقة اتحاد أو تداخل بين الزمان والمكان ولا يدل على أي تبعيَّة بل يؤكد شيئًا واحدًا هو افتراقُ الواحد عن الآخر بنيويًّا وعدم استعدادهما لتأليفٍ ناسخ على الطريقة الهيغلية.
4- كنط بالمثنى:
ما أجربه هنا في قراءتي العربية لكنط هو أنَّ المثنَّى هو البنية الأساسية لرؤية كنط لكل كائنات (بمعنى هيدغر) النظرية النقدية بدءًا من نقد العقل المحض وصولًا الى نقد (عَطشان،م.
وأتوقف قليلًا الآن مع بنية نقد العقل المحض وحسب بالنظر الى ضيق الوقت والى تقدم البحث نفسه. فالكتاب حسب طبعته الثانية والنهائية قائم على مفصلين مرقمين بالرومانية I وII.
وحسب: تعليم العناصر المجاوز وتعليم المناهج المجاوز
والأول جزءان: الجزء الاول: الاستطيقا المجاوزة، والجزء الثاني: المنطق المجاوز.
والجزء الأول فصلان: فصل في المكان وآخر في الزمان.
والجزء الثاني قسمان: قسم أول: التحليلات الترسندالية (كذا). والقسم الثاني: الجدليات المجاوزة.
والقسم الأول كتابان: الكتاب الأول: تحليلات الأفاهيم. والكتاب الثاني: تحليلات المبادئ.
والكتاب الأول بابان: الخيط الهادي لاكتشاف الأفاهيم – تسويغ الأفاهيم.
والكتاب الثاني بابان أيضا، شَيْمِيَّة الأفاهيم – وسيستام المبادئ كلها.
القسم الثاني: الجدليات: كتابان.
كتاب أوَّل: في أفاهيم العقل المحض.
كتاب ثانٍ: في استدلالات العقل الجدلية.
الى آخره. حتى إذا ما دخلنا في التفاصيل رأينا لوحة الأحكام شأنها شأن لوحة المقولات صنفان: الرياضية والديناميكية.
والعرض شأنه شأن التسويغ اثنان: ميتافيزيقي ومجاوز.
اللافت في هذا المثنَّى المعمَّم هو أن المكوِّنين لا يتشابهان ولا يتوازيان ومن ثم لا ينتسخان في ثالث أعلى – بالإذن من هيغل..... بل يثبتان كمكونيْن فارقيْن في مظهر الواحد. الواحد (الكائن) هو المظهر وحسب وليس الظهور. المظهر الذي على التحليل أن يبدِّده ليتبيّن اثْنينيَّتَه.
لكن إثبات هذا التكوين الثنائي لكائنات نقد العقل المحض يواجه صعوبات متفاوتة: فإذا كان من الممكن بسهولة ردّ التقسيم الرباعي الى ثنائي كما فعلت بالأحكام والمقولات وردّ كل رباعية لاحقة الى ذلك، فإن ما هو أصعب هو التقسيم الثلاثي البارز مثلا في عدد المقولات في كل خانة وفي عدد أماثيل العقل.
لكن يمكن تأويل هذا التقسيم الأخير الى أنَّ في الحقيقة ليس 1+1+1 بل 2+1 بحيث يوزع الـ 2 الى 1+1 ويبحث في الواحد الثالث عن عنصريه. مثال: مقولات الكم: الواحد والكثرة = 2 + الجملة التي هي في جزء الفرد كفرد وفي آخر الفرد في مجموعة في جملة. هذا الثالث الذي قد يلتبس أمره في عده تأليفًا للإثنين السابقيْن يشدد كنط تشديدًا كثيرًا على فرادته ويرفض عده بمثابة تأليف.
ويمكن إجراء هذا التمرين في مواضع كثيرة لتبيُّن اثنينيَّتها.
إن توكيد هذا المثنى بوصفه امتياز كنط يبدو لي تجريبًا ممكنًا لمنظورية مختلفة تخرج العقل أخيرًا من تعوّده (بمعنى هيوم) الثلاثي الذي يتعايش بسهولة مع الواحدية والتعددية أو الكثرة التي بدأت هي الأخرى تصير تعوّدًا والتي بين بصددها دولوز أن الوحدة تؤول الى الكثرة والكثرة الى الوحدة.
بل ربما يحلّ تجريب المثنى كل تلك الجدالات المعاصرة حول إمكان الخروج من الأناوَحْديّة الى البَيْذويَّة.
ولعل هذا التجريب ممكن اليوم بالعربية بوصفها اللغة الما تزال حية، والحاملة لصيغة المثنى بل تلك التي تعنى بالمثنى عناية فريدة منذ قفا نبكِ. وتعطيه علامة الألف والنون التي يمكن إدخالها على أي اسم بحيث يعلو على الصرف ويصير علمًا أو يعامل معاملة المفرد فيحتفظ بألفه ونونه الا في حالات استثنائية (بداعي السترة ربما) مثال إيَّان مثنى أي في إياك أعني وإياه أستعين الخ. ويصاغ على فِعلان وفُعلان والصفة منه فَعلان: مثال الميزان بكفتين والعرضان أو الطولان (الطول والعرض) والثعبان (الذكر والأنثى) الإنسان (أيضا للمرأة والرجل) ومثال (عَطشان، عَطِشَ مرتين) وتعبان(تعب مرتين) وملآن (مليء جدًّا).
وربما أمكن حل صعوبات ما تزال مستعصية في قراءة كنط بالعربية باستثمار هذه الميزة مثال Apperception-savoir و subject - Selbstbewustsein فيقال: استنادًا الى عبقرية المفرد المثنى بالعربية عِلمان (لشمول العلم والمعرفة) وبِصْران (للإدراك وإدراك الادراك) وذويان (للذات المجاوزة والذات الأنا) ووِعيان (لوعي الوعي) الخ.. وربما صحّ قياسًا القول حِدسان بدلًا من حدس الذي يوافق l’intuitionner بوصفه المصدر النوعي بالأحرى.
وبناءً على ما تقدم، ربما يكون قول كنط بالعربية ليس مجرد خدمة تقدّم لأهل العربية وانشغالاتهم الحياتية الجديرة بالنظر بكل تأكيد، بل أساسًا خدمة تقدم للتفلسف نفسه في هذا القرن المنفتح على الغموض. لم يكن السؤال ماذا عسانا نصنع بكنط اليوم وبالعربية سؤالًا تقنيًّا. إذن لم يكن ليلبي حاجة وجودية ما، ولم يكن بالأحرى سؤالًا إقليميًّا، بل كان يطمح في ذهني الى أن يكون سؤالًا اعتباريًا spéculatif. وأحسب أن على الإجابة عنه أن ترى كيف يمكن مراوغة الأمبيري النثري كي لا يقلبها ويحولها عن التفلسف وكيف يمكن تحويل الانهماك الكبير وإن أخلاقيًّا الى انهمام يونيفرسالي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق