الثلاثاء، 20 يونيو 2017

هيجل .. ولادة فلسفة غيرت العالم؛ عن جريدة "الشرق الأوسط"



هيجل .. ولادة فلسفة غيرت العالم

رابط المقالة


نزع الطابع التاريخي الحي عن الفكر الفلسفي أساء كثيرا لصورة الفلسفة في العالم العربي.
لكي تكون فيلسوفا حقيقيا ينبغي أن تقول كلاما غامضا عموميا، لا يفهمه أحد. وكلما زاد غموض كلامك، اصبحت فيلسوفا أكبر من سواك! هذه الصورة عن الفلسفة ينبغي أن تنتهي ليس فقط لأنها تعرقل مسيرة الفكر العربي، وانما لأنها ببساطة ليست صحيحة.
الكتب المؤلفة عن هيجل او الفلسفة الهيجلية اكثر من ان تعد او تحصى. ولكن الشيء الذي يزعج القارئ في الكثير منها هي انها تجريدية، عويصة، انها تتحدث عن الفيلسوف وكأنه شخص خارج الزمان والمكان، وكأنه لم يولد في بيئة ما، ولم يتعذب ولم يحب كما يحصل لأي شخص في العالم. ثم يقدمون لك مصطلحات الفلسفة ومفاهيمها وكأنها نازلة من السماء ولا علاقة لها بالتجربة المحسوسة لكائن ينبض بالحياة ويواجه مشاكلها وهمومها يوما بعد يوم. ان نزع الطابع التاريخي الحي عن الفكر الفلسفي أساء كثيرا لصورة الفلسفة في العالم العربي وجعلها تبدو وكأنها شيء يستغلق على الفهم او ينبغي ان يستغلق بالضرورة. فلكي تكون فيلسوفا حقيقيا ينبغي ان تقول كلاما غامضا، وعموميا، لا يفهمه أحد. وكلما زاد غموض كلامك اصبحت فيلسوفا اكبر من سواك! هذه الصورة عن الفلسفة ينبغي ان تنتهي، ليس فقط لأنها تعرقل مسيرة الفكر العربي، وانما لأنها ليست صحيحة بكل بساطة. فالفيلسوف كائن من لحم ودم، وكل مصطلحاته وأفكاره التي تبدو تجريدية للوهلة الاولى هي في الواقع وليدة تجربته الشخصية ومسار حياته المتعرج والمعقد. هذا على الأقل ما يعلمنا اياه الكتاب الذي أصدره «هورست ألتوس» عن فلسفة هيجل، والذي صدرت ترجمته الفرنسية مؤخرا. والمؤلف هو استاذ في جامعة كولونيا وقد اشتغل طويلا في قسم الارشيف او المحفوظات. كما انه احد الاختصاصيين المعدودين في فكر القرن التاسع عشر. وقد ألّف كتبا مهمة عن فاغنر ونيتشه، وكذلك عن التاريخ السياسي لالمانيا. وفي هذا الكتاب يشرح لنا كيفية ولادة فلسفة هيجل درجة درجة، مرحلة فمرحلة، ونفهم من كلامه ان هيجل عانى طويلا قبل ان ينتقل من اللاهوت الى الفلسفة. فقد درس في كلية اللاهوت البروتستانتي في البداية وكان موجها لأن يصبح كاهنا او قسيسا بعد تخرجه. ولكن تأثير كانط وجان جاك روسو وكل فلسفة التنوير عليه جعله يغير مشروعه كما حصل لزميليه الآخرين شيلنغ وهولدرلين. يقول المؤلف بالحرف الواحد: «عندما درس كانط كان هيجل يهتم اولا بكتابه الصادر عن المسألة اللاهوتية والذي يحمل العنوان التالي: الدين مفهوم ضمن حدود العقل فقط. وفي هذا الكتاب يقوم كانط بتفحص عميق لمفهوم الدين المسيحي منظورا اليه من خلال الفلسفة النقدية والتنويرية: أي فلسفته هو بالذات. وقد فهم هيجل فورا ان هذا الكتاب يفتح آفاقا واسعة على العصر الكوني المقبل والجديد للبشرية الاوروبية».
في الكتاب صفحات رائعة ومؤلمة عن علاقة هيجل بهولدرلين: أي اكبر فيلسوف بأكبر شاعر (او ما سيصبح اكبر فيلسوف واكبر شاعر في تاريخ المانيا). لقد ساعدا بعضهما البعض كثيرا من الناحية الحياتية والمعيشية، وربما كان هولدرلين هو الذي ساعد اكثر. وقد عابوا على هيجل فيما بعد تخليه عن صديقه بعد ان جُنّ وفقد قواه العقلية كما هو معروف. ويبدو انه لم يزره ولا مرة واحدة، وانما كان يسأل عن اخباره من بعيد او بنوع من الخوف والوجل. ولكن ماذا كان يستطيع ان يفعل بالنسبة له بعد ان غطس كليا في ليل الجنون؟ لا ريب في انه كان يتذكره من حين لآخر ويتذكر هذه الابيات الرائعة التي ترهص بالخطر العظيم:
ولكن كُتِب علينا ألا نستقر في أي مكان نحن أبناء الفجيعة نترنّح، نسقط بشكل أعمى من ساعة الى ساعة كماء الصخرة من صخرة الى صخرة منبوذا .. من قبل السنين مرميا في الهاوية السحيقة ولكن سوف تتذكر الأبدية لاحقا ان الشعر والفكر لم يتجاورا في اي يوم من الايام مثلما تجاورا وتعايشا في جامعة «توبنجين» عندما كان هيجل وهولدرلين شابين صغيرين مليئين بالوعود والفرحة بالحياة! وعندما كانا يسكنان في نفس الغرفة وينخرطان في مناقشة فلسفية لا نهاية لها. واذا كان احدهما قد سقط في عزّ الشباب ولم يستطع ان يكمل الطريق فانه خلّف وراءه من القصائد ما يكفي لتخليده الى ابد الآبدين.
لكن لنتابع الرحلة مع هيجل الذي بقي وحده في الساحة لكي يضيء لالمانيا ـ ولاوروبا كلها ـ الطريق. ولنتوقف عند لحظة اساسية: تاريخ ظهور كتابه الأشهر «فينو مينولوجيا الروح». المقصود بالروح هنا العقل او الفكر البشري وكيف يتجلى عبر العصور منذ اقدمها وحتى اليوم: اي عن لحظة هيجل بالذات. كيف يصعد الفكر البشري، كيف تصعد الروح درجات الفكر درجة فدرجة، مرحلة فمرحلة، لكي تصل الى مرحلة النضج: الى المعرفة المطلقة، الى الفلسفة الهيجلية.. انه كتاب ملحمي ذو نفس وثَّاب واسلوب شاعري لا يضاهى. كتاب استعصى فهمه حتى على «غوته» استاذ هيجل وحاميه والوصي على أموره في الاوساط الثقافية والجامعية. كتاب عندما تقرأه تتساءل: هل هذا فكر؟ هل هذا شعر؟ من نفس الرحيق تشبع فكرا وشعرا وتسكر حتى الثمالة!.. يقول المؤلف: «كما اوليس لدى هوميروس، او فاوست لدى غوته، انطلقت الروح لاكتشاف المجاهيل عبر المغامرة الكبرى للوجود..». هذه هي «فينو مينولوجيا الروح» التي كتبها شاب صاعد لا يتجاوز عمره السابعة والثلاثين عاما. ولو انه مات بعدها مباشرة لبقي كأحد كبار الفلاسفة في التاريخ. انها «ضربة معلم» كما يقال. ضربة معلم تمت في ابشع الظروف بالنسبة لهيجل. فقد كان مهددا بالفقر والبطالة وفقدان اي أمل في المستقبل، وكان مهددا بولادة طفل غير شرعي من مؤجرته، صاحبة البيت، وكانت مدافع نابليون تدك مدينة «يينا» في معركة طاحنة تصل اصداؤها الى غرفته وهو يكتب آخر صفحات المخطوطة. ولكن هل كان نابليون فاتحا في المجال العسكري اكثر مما كان هيجل فاتحا في المجال الفكري؟ من يستطيع ان يقرر من هو الفاتح الأكبر بينهما؟ لقد كتب هيجل رائعته الفلسفية عندما وصلت أزمته الوجودية مع نفسه الى ذروتها القصوى، كتبها وكأنه خارج من العدم، من هنا أصالة الكتاب او جدّته التي ادهشت الكثيرين وحيرتهم. فالكتاب خرج من فوهة العدم وكأنه لا سابق له في تاريخ الفكر. يقول المؤلف: في هذا الكتاب الفريد في نوعه استطاع هيجل ان يتجاوز كانط وفيخته عن طريق الأخذ بعين الاعتبار لبعد أساسي من أبعاد الفكر: العدم. لكأنه أراد ان يقول للجميع: ينبغي ان نأخذ مسألة العدم بعين الاعتبار. فالطبيعة، بجوهرها، عدم. ولكن هذا العدم بحد ذاته شيء كبير. ان العامل العدمي ينخر في احشاء الطبيعة والكينونة وينقض ما كان راسخا. من هنا اكتشاف هيجل للديالكتيك او بالأحرى للحظته الثانية: لحظة النقض، نقض الاطروحة، فالجدل الهيجلي مؤلف كما هو معلوم من ثلاث لحظات: لحظة الاطروحة، ونقض الاطروحة، والتركيبة التي تجمع بينهما وتتجاوزهما لكي تشكل اطروحة جديدة تُنقض بدورها لاحقا، وهكذا دواليك.. وبالتالي فلا يمكن فهم الكينونة أو الوجود اذا لم نأخذ بُعد العدم بعين الاعتبار. لا يمكن فهم حركة التاريخ اذا لم نقبل بالعدم، بالفناء، بالدمار كأحد العوامل المؤسسة للتاريخ البشري. ومن يريد ان يتقدم بدون ان يهدم او يدمر اي شيء في الماضي او تراكمات الماضي فليذهب وليشتغل شغلة اخرى، يقول له هيجل. كل شيء يتجدد عن طريق العدم، والعدم يصبح، في لحظة ما، الشرط الاساسي للولادة الجديدة. وبالتالي فالعدم مفهوم ايجابي لا سلبي، ولا ينبغي ان يخيفنا بعد اليوم. والموت قد يصبح في لحظة ما الطريق الوحيدة للحياة، للانبعاث.
يقول المؤلف: ان كتاب «فينو مينولوجيا الروح» هو كتاب فاوستي، فقد نما وترعرع في ظل غوته. لقد نما وترعرع في ظل السؤال الاساسي التالي: كيف يمكن ان تعرف ما الذي، في العمق، يمسك العالم؟ وعندما نقول العالم فإننا نقصد الانسان، أو الروح، أو الحياة، والموت، أو الحرية، أو الرغبة في العدم والفناء، أو العمل، أو السيد والعبد، أو الاصل الأولي، أو الوعي بالذات، .. الخ. ثم يقول هيجل هذه العبارة الرائعة: الروح دائما في حالة حركة، الروح لا تستريح ابدا، انها دائما تتقدم.. وحتى عندما نعتقد بأن التاريخ واقف تكون هناك اشياء تعتمل فيه من الداخل ولا نراها. ولكن يبقى صحيحا القول بأن الروح حطت برحالها في أوروبا في العصور الحديثة وهجرت الشرق الذي راح يغطس في جموده الدهريّ. والروح عندما تحطّ في منطقة ما تنيرها، تنعشها، تحييها، من هنا روعة الحضارة الأوروبية وصعودها الذي لا يقاوم. لكن الروح حطت سابقا في اماكن اخرى وولدّت حضارات اخرى: كالحضارة الاغريقية، أو الرومانية، أو المسيحية، أو العربية ـ الاسلامية، الخ.
وفي عصر هيجل حطت الروح في فرنسا، بلد الثورة الفرنسية، وفي المانيا بلد الثورة الفلسفية الكانطية، والمثالية الالمانية عموما. بل وتجسدت الروح في شخص واحد يدعى: نابليون، من هنا عبارة هيجل الشهيرة: «رأيت الامبراطور، روح العالم، على حصان..». وكان قد رآه بالفعل من بعيد وهو يخترق مدينة «يينا» منتصرا فاتحا. وأُعجب به ايَّما اعجاب على الرغم من انه يغزو بلاده! فقد رأى فيه انتصارا للروح المدنية، روح الثورة الفرنسية، روح الحرية، على النظام الاقطاعي الالماني العتيق... لقد قضى نابليون على النظام الأوروبي القديم وقوضه تقويضا. وهذا العدم، هذا الفناء كان الشرط الذي لا بد منه للولادة الجديدة.. وفلسفة هيجل، في معظمها، ليست إلا شرحا أو ترجمة لهذا الحدث التاريخي الاعظم.
كيف يمكن ان اختم هذا العرض السريع بالضرورة بدون ان اقول كلمة عن فلسفة التاريخ لدى هيجل؟ ومعلوم انه احد كبار فلاسفة التاريخ على مرّ العصور. لقد كان يقرأ التاريخ وكأنه كتاب مفتوح أمامه. كان يطلّ عليه من علٍ وكأنه تحته ثم يلخصه بعبارة واحدة أو يفهم زبدته وعصارته. كان هيجل يقول العبارة الاساسية التالية: «الفكرة الوحيدة، التي أتت بها الفلسفة هي تلك التي تقول بأن العقل يحكم العالم، بأن مجرى التاريخ الكوني هو بحد ذاته عقلاني». وعندما تحتج على البروفيسور هيجل وتقول له: وهل الجرائم والمجازر والفظائع التي تحصل في التاريخ هي عقلانية؟ فإنه يجيبك فورا: نعم، كل ما هو واقعي عقلاني! بمعنى ان له ضرورته المسجلة في احشاء الواقع ولحمة التاريخ. فلولا الحروب الاهلية التي اكتسحت أوروبا وطحنتها طحنا لما شعر الناس بالحاجة الى توليد فكر جديد ونظام سياسي جديد ولولا الظلامية ومحاكم التفتيش لما كان التنوير. وبالتالي فلا شيء يذهب عبثا، أو مجانا، في التاريخ. كل شيء له ضرورته، العامل السلبي كما العامل الايجابي. هذا ما يعلمنا اياه الديالكتيك الهيجلي. ولا بد دون الشهد من ابر النحل... ومن يريد ان يتحرر ويصل الى التقدم والنظام العقلاني الحضاري بدون ان يدفع الثمن، ودون ان يمرّ بالويلات والآلام، فليذهب وليشتغل شغلة اخرى.. وبالتالي فلا ينبغي ان نخشى ما يحصل في مجتمعاتنا العربية ـ الاسلامية حاليا من انهيارات واحوال. فالولادة الكبرى لا تتم إلا بعد المخاض العسير والشعوب لا تهتدي الى الوضوح الى الحقيقة إلا بعد عذاب مرير. هذا هو على الاقل ما يقوله لنا هيجل. كل شيء يتوقف على كيفية تفسير حركة التاريخ، أو حركة الروح في التاريخ. فالروح، بحسب هيجل، هي قوة تقدم جوهرها الحرية. والحرية هي الغاية النهائية للتقدم التاريخي. ويرى المؤلف ان الحرية بصفتها غاية التاريخ أو تتويجا له هي اكتشاف هيجلي. فلا كانط، ولا فيخته، ولا شيلنغ، فكروا فيها بمثل هذا الالحاح. أو قل انهم فكروا فيها ولكنهم لم يعبروا عنها بمثل هذا الوضوح والسطوع. ولكي نفهم فلسفة التاريخ عند هيجل ينبغي ان نأخذ المصطلح التالي بعين الاعتبار: «روح العالم»، اي الروح التي تحرك العالم بشكل خفي وتؤدي الى تقدم التاريخ، الى الانجازات الكبرى في التاريخ. وهي عادة تتخذ بعض الشخصيات الاستثنائية، بعض الابطال، كأداة لتنفيذ اغراضها أو لدفع حركة التاريخ الى الامام. وهذه الشخصيات لا تكون واعية تماما بما تفعل. وكثيرا ما تعتقد بأنها تنفذ اهدافا فردية أو غايات شخصية خاصة بها في حين انها تنفذ الارادة العامة للتاريخ. وما ان تنتهي مهمتها حتى يصبح وجودها لاغيا. انها مجرد اداة لقوة كبرى تتجاوزها. نضرب على ذلك مثلا نابليون الذي كان يجسد حركة التاريخ دون ان يشعر. وقل الأمر ذاته عن ابطال آخرين عديدين استطاعوا ان يحركوا التاريخ أو يتقدموا به خطوة الى الامام عن طريق تحريك الملايين. وهنا يكمن دهاء العقل أو مكره، فهو يستخدم الابطال بكل اهوائهم الجامحة والانفعالات الهائجة والحماسة المنقطعة النظير التي يثيرونها في صفوف الجماهير، لكي يحقق اهدافه الخاصة بالذات. وكذلك يستخدم المجازر والحروب الاهلية لتحقيق ذات الغرض. ألم نقل بأن العقل يحكم التاريخ؟


هيجل ولادة فلسفة ما HEGEL. Naissance d"une Philosophie المؤلف: هورست التوس HORST ALTHAUS الناشر: سوي، باريس Seuie. PARIS (600) ستمائة صفحة من القطع المتوسط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق