هيباتا فيلسوفة الاسكندريّة.
(عن مجلّة "مناجل")
العداء
للمعرفة والتعصب الديني
*طلعت رضوان *
*طلعت رضوان *
عن
اغتيال الفيلسوفة المصرية هيباتيا كتب ول ديورانت أنّ كبير الأساقفة سيريل Cyril أمر
أتباعه الرهبان بطرد اليهود من الإسكندرية. فغضب حاكم المدينة أرستيز، فكان عقابه
أنْ رموه الرهبان بالحجارة. ثم اتهموا هيباتيا بأنّ لها نفوذ وتأثير على حاكم
المدينة الذى لم يعتنق المسيحية مثل هيباتبا التى هجم عليها جماعة من المتعصبين
يتزعمهم أحد موظفى كبير الأساقفة. جرّدوها من ملابسها وقطعوا جسمها إربًا فى مرح
وحشى شنيع (م6ج2 ص248) وكتب مارتن برنال أنّ اغتيالها كان بتحريض من القديس كيرلس
(أثينه السوداء - ص237) .
عندما دخلت المسيحية مصر آمن بها كثيرون وتخلوا عن ديانة جدودهم . وعانوا من اضطهاد الرومان 2500 سنة. إلى درجة تقديمهم للوحوش فى الملاهى الكبرى . استمر الاضطهاد والقتل إلى عام 313 بصدور إعلان ميلان الذى نصّ على (التسامح الدينى) واستقر الوضع أكثر بعد أنْ اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية. ثم أصبحتْ هى الديانة الرسمية لكل الدول الخاضعة لروما.
كان المنتظر أنّ من عانى الظلم ينشأ لديه وجدان يرفض أنْ يكون ظالمًا. ولكن ماحدث هو العكس ، إذْ مارس الأساقفة الاضطهاد ضد الذين رفضوا اعتناق المسيحية وظلوا على إيمانهم بالديانة القديمة. كما شمل الاضطهاد بعض الطوائف المسيحية وشمل تحطيم التماثيل بإعتبارها (وثنية) وتحويل المعابد إلى كنائس . وتحطيم معبد السرابيون ، وهو تحفة معمارية . وكانت قمة التصاعد المأساوى عندما قرّر المؤمنون بالمسيحية الأتقياء اغتيال الفيلسوفة هيباتيا .
هيباتيا (370- 4155) فيلسوفة مصرية وعالمة فى الرياضيات. وهى ابنة (ثيون) أستاذ الرياضيات فى متحف الاسكندرية. وكتب عنها ديورانت فى قصة الحضارة- المجلد الثانى. وجورج سارتون وادوارد جيبون وبرتراند رسل وآخرون. ومن المصريين د. توفيق الطويل ود. زكى نجيب محمود. غير الروائيين والشعراء الأوروبيين. ووصل اهتمام العالم المتحضر بهذه الفيلسوفة المصرية أنْ أصدرت جامعة الينوى الأمريكية مجلة فلسفية اسمها (هيباتيا) وفى أوروبا وأمريكا عشرات الجمعيات والمجلات العلمية والفلسفية التى تحمل اسم جدتنا (هيباتيا)
كانت هيباتيا ذات جمال أسطورى ، ورغم ذلك رفضتْ كل عروض الزواج وفضّلتْ التفرغ للعلم والفلسفة. وكتبتْ عنها دائرة المعارف البريطانية أنها جمعتْ بين التواضع والجمال والقدرة العقلية ((فجذبتْ عددًا هائلا من التلاميذ)) وكان من تلاميذها أساتذة وفلاسفة ، كانوا يأتون من أكثر من دولة ليستمعوا إلى محاضراتها ، من بينهم الفيلسوف اليونانى (دمشيوس) والعالم (سينسيوس) الذى اعترف بفضلها عليه فى تثقيفه وأنها شرحتْ له مؤلفات أرسطو وأفلاطون وبعض العلوم الطبيعية مثل الفلك والميكانيكا والرياضيات. وكانت تـُكرس لأهمية الحب الروحى لا الجسدى . ويقول عنها معاصروها أنها كانت تتربع بشرف ((على قمة الأسرار الفلسفية)) وذكر د. إمام عبدالفتاح إمام أنّ هيباتيا أنجزتْ حسب ما كتب سويداس فى معجمه ثلاثة كتب : شرح على كتاب ديفونطس السكندرى فى علم الحساب. والثانى شرح على كتاب بطليموس (المجموع الرياضى) الثالث شروح على (قطوع المخروط) أبولونيوس البرجى . كما أنها اخترعت (البلانسفير) وهى خريطة ذات ثلاثة أبعاد لنصف الكرة السماوية. أو الآلة الفلكية القديمة المسماة الاسطرلاب . والاختراع الثانى هو جهاز قياس الوزن النوعى للسوائل . وهو نوع من الهيدرومتر.
ولأنّ الأصوليين فى كل دين متعصبون أحاديون منغلقون ، لذلك جاءتْ النهاية الدامية لهذه الفيلسوفة التى كانت تنادى بترسيخ قيم الحب والعدل والجمال كما تعلــّمتها من الفلسفة المصرية. ولكن لأنها رفضت اعتناق المسيحية ، ولأنّ شهرتها فاقت فى الأهمية شهرة رجال الدين ، فقد دبّر رئيس الأساقفة خطة اغتيالها ، عندما أطلق إشاعة هو مصدرها تقول أنّ هيباتيا هى العقبة الوحيدة للتوفيق بين الحاكم أورستس ورئيس الأساقفة كيرلس . ولأنّ المتدين يُصدق رمزه الدينى ، صدّق المسيحيون ما يقوله كيرلس من بذاءات وافتراءات ضدها إلى أنْ جاءت لحظة اغتيالها فى شهر الصيام الكبير. وعن مشهد الاغتيال كتب د. إمام عبدالفتاح ((اعترضتْ جماعة من رهبان صحراء النطرون ، الذين قضوا فى الصحراء سنوات طويلة يصارعون قوى الشر كما يقولون ويديرون معركة صراع باطنى ضد شهوات الجسد ، اعترضوا عربة هيباتيا بإيعاز من كبيرهم كيرلس ، فأوقفوها وأنزلوا الفيلسوفة الشابة الجميلة. ثم جروها إلى كنيسة قيصرون حيث تقدّمت مجموعة من هؤلاء الرهبان وقاموا بنزع ثيابها حتى تجردت من ملابسها لتصبح عارية. وتقدم بطرس قارىء الصلوات فى الكنيسة وقام بذبحها وهى عارية. وقد أمسك بها مجموعة من الرهبان ليتمكن قارىء الصلوات من ذبحها. ثم عكف الرهبان (الأتقياء القلب) على تقطيع جسدها مستمتعين بما يفعلون. ثم راحوا يكشطون اللحم عن العظم بمحار حاد الأطراف . ثم أوقدوا نارًا وقذفوا فى النار بأعضاء جسدها وهى ترتعش بالحياة كما يقول الفيلسوف برتراند رسل . حتى تحول الجسد إلى رماد وهم يتحلقون حوله فى مرح وحشى شنيع على حد تعبير ديورانت)) ويرى د. إمام أنّ ((الرهبان عجزوا عن قمع شهوات الجسد. ولما كان يصعب الوصول إليه ، فإنه يسهل عليهم تمزيقه)) .
هذا هو درس التعصب : اغتيال الفيلسوفة والعالمة التى يعتقد بعض المؤرخين أنّ العالم كوبر نيكوس تأثر بنظريتها فى علم الفلك. وأنّ الروائى الإنجليزى تشارلز كنجزلى كتب رواية اسمها (هيباتيا) وكتب عنها الأديب الفرنسى Gille Menage فى كتابه الفلاسفة من النساء قصيدة قال فيها ((لابد لكل من يشاهد ويتأمل بيتك الطاهر/ الخالى تمامًا من كل زخرف أوزينة/ أنْ ينشغل بأمر الثقافة/ حقــًا ، لقد انشغلتِ أنتِ بالسماء/ هيباتيا.. أيتها المرأة الحكيمة/ لغتك عذبة.. ونجمك متألق فى سماء الحكمة)) (د. إمام عبدالفتاح إمام- نساء فلاسفة- مجلد 4 ) وكتبتْ عنها ماريا ذليسكا ((لن يقدرالموت يومًا / أنْ يُميتها / إنها قائمة هناك.. بسكونها / الموت لا يقدر أنْ يُميت مثلها / الموت يقدر فقط / أنْ يُبعثر هذا الزمن / بعوالمه المرتجفة / أما هى ستظل دائمًا هى)) (د. مرفت عبد الناصر- لماذا فقد حورس عينه- دار شرقيات- عام 2005 ص 82)
ألا تـُذكرنا مأساة هيباتيا بمأساة المفكر الفارسى ابن المقفع الذى كان مصرعه بتقطيع جسده وهو ينظر إلى أعضائه وهى تـُلقى فى النار. وبالنهاية المأساوية لعبد الحميد الكاتب الذى قتله العباسيون بوضع طست محمى على رأسه. و بمحنة الإمام أبى حنيفة الذى رفض أوامر ابن هبيرة الذى طلب منه تأييد تصرفه بقتل أحد الأشخاص ، فقال أبوحنيفة ((كيف أقبل هذا العمل؟ تأمر أنت بقتل إنسان ظلمًا أو مصادرة ماله وأختمه أنا. هذا لن يكون أبدًا)) وكانت النتيجة أنْ أمر ابن هبيرة صاحب الشرطة بحبس أبى حنيفة وأنْ يُضرب كل يوم عشرة أسواط . وفى عهد أبى جعفر المنصورأيضًا تم جلد الإمام مالك . وفى عهد الرشيد كاد الإمام الشافعى أنْ يُقتل لأنه اختلف مع أتباع الإمام مالك . وفى العهد الأموى قال الجعد بن درهم أنّ القرآن مخلوق ومحدث. فأتى به الوالى خالد بن القسرى إلى مسجد الكوفة مقيدًا بالأغلال يوم عيد الأضحى . وصلى خالد بالناس صلاة العيد وقال فى آخر خطبته ((اذهبوا إلى بيوتكم وضحوا تقبل الله منكم . أما أنا فإنى أريد أنْ أضحى بالجعد بن درهم . ونزل من على المنبر وقتل الجعد بن درهم مُطيحًا برأسه بالسيف . ثم يجيىء المأمون ويتبنى فكر المعتزلة حول خلق القرآن . واعتقل كل من رفض تأييد رأيه وكان من بينهم الإمام أحمد بن حنبل الذى ظل فى السجن 28 شهرًا وكان يُضرب بالسوط إلى أنْ يُغمى عليه. لدرجة أنه لم يكن يشعر بنغز السيف.
ويصل التعصب إلى درجة اغتيال الصوفى الكبير الحلاج الذى حاول التوفيق بين الدين والفلسفة اليونانية. فكان مصيره السجن 8 سنوات وضربه بالسياط وحرق جثمانه. ورغم أنّ القضاة حكموا بتكفيره ، فقد كان من الصالحين فى نظر الجماهير. والتعصب ينهش صدور الفقهاء ضد السهروردى فيتآمرون عليه لدى صلاح الدين الأيوبى الذى أمر بقتله. وبعد نفى ابن رشد إلى اليسانه كتب الخليفة الأندلسى المنصور منشورًا أمر فيه الجماهير بعدم الاشتغال بالفلسفة. والعداء للمختلف لم يتوقف فيكون اغتيال فضيلة د . محمد حسين الذهبى وفرج فوده ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ . والموقف من الفلسفة لم يتغير، إذْ فى عهد عبد الناصر يُصدر وزير التعليم كمال الدين حسين قرارًا بإلغاء مادة الفلسفة من المرحلة الثانوية. ومع بداية الألفية الثالثة أصدر وزير التعليم قرارًا بأنْ تكون مادة الفلسفة اختيارية. وهكذا يتلازم ثنائى الشر المطلق : العداء للمعرفة (بمراعاة أنّ الفلسفة هى المدخل للمعرفة) واغتيال كل صاحب فكر. وصدق من قال ((من يبدأ بحرق الكتب. ينتهى بحرق البشر)) ومع ذلك فإنّ الأحرار فى كل مكان مازالو يبحثون عن أية معلومة عن الفيلسوفة المصرية هيباتيا . ويعيش سقراط فى الوجدان وفى الكتب . ونقرأ ما كتبه الحلاج والسهروردى وابن المقفع وابن الراوندى . وصدق الفيلسوف هيجل فى قوله الحكيم الذى لخص مأساة التعصب المصحوب بالدم فى جملة تحمل الأمل لذوى الضمائر الحية.
(إنّ الخنجر لا يقتل الأفكار))
عندما دخلت المسيحية مصر آمن بها كثيرون وتخلوا عن ديانة جدودهم . وعانوا من اضطهاد الرومان 2500 سنة. إلى درجة تقديمهم للوحوش فى الملاهى الكبرى . استمر الاضطهاد والقتل إلى عام 313 بصدور إعلان ميلان الذى نصّ على (التسامح الدينى) واستقر الوضع أكثر بعد أنْ اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية. ثم أصبحتْ هى الديانة الرسمية لكل الدول الخاضعة لروما.
كان المنتظر أنّ من عانى الظلم ينشأ لديه وجدان يرفض أنْ يكون ظالمًا. ولكن ماحدث هو العكس ، إذْ مارس الأساقفة الاضطهاد ضد الذين رفضوا اعتناق المسيحية وظلوا على إيمانهم بالديانة القديمة. كما شمل الاضطهاد بعض الطوائف المسيحية وشمل تحطيم التماثيل بإعتبارها (وثنية) وتحويل المعابد إلى كنائس . وتحطيم معبد السرابيون ، وهو تحفة معمارية . وكانت قمة التصاعد المأساوى عندما قرّر المؤمنون بالمسيحية الأتقياء اغتيال الفيلسوفة هيباتيا .
هيباتيا (370- 4155) فيلسوفة مصرية وعالمة فى الرياضيات. وهى ابنة (ثيون) أستاذ الرياضيات فى متحف الاسكندرية. وكتب عنها ديورانت فى قصة الحضارة- المجلد الثانى. وجورج سارتون وادوارد جيبون وبرتراند رسل وآخرون. ومن المصريين د. توفيق الطويل ود. زكى نجيب محمود. غير الروائيين والشعراء الأوروبيين. ووصل اهتمام العالم المتحضر بهذه الفيلسوفة المصرية أنْ أصدرت جامعة الينوى الأمريكية مجلة فلسفية اسمها (هيباتيا) وفى أوروبا وأمريكا عشرات الجمعيات والمجلات العلمية والفلسفية التى تحمل اسم جدتنا (هيباتيا)
كانت هيباتيا ذات جمال أسطورى ، ورغم ذلك رفضتْ كل عروض الزواج وفضّلتْ التفرغ للعلم والفلسفة. وكتبتْ عنها دائرة المعارف البريطانية أنها جمعتْ بين التواضع والجمال والقدرة العقلية ((فجذبتْ عددًا هائلا من التلاميذ)) وكان من تلاميذها أساتذة وفلاسفة ، كانوا يأتون من أكثر من دولة ليستمعوا إلى محاضراتها ، من بينهم الفيلسوف اليونانى (دمشيوس) والعالم (سينسيوس) الذى اعترف بفضلها عليه فى تثقيفه وأنها شرحتْ له مؤلفات أرسطو وأفلاطون وبعض العلوم الطبيعية مثل الفلك والميكانيكا والرياضيات. وكانت تـُكرس لأهمية الحب الروحى لا الجسدى . ويقول عنها معاصروها أنها كانت تتربع بشرف ((على قمة الأسرار الفلسفية)) وذكر د. إمام عبدالفتاح إمام أنّ هيباتيا أنجزتْ حسب ما كتب سويداس فى معجمه ثلاثة كتب : شرح على كتاب ديفونطس السكندرى فى علم الحساب. والثانى شرح على كتاب بطليموس (المجموع الرياضى) الثالث شروح على (قطوع المخروط) أبولونيوس البرجى . كما أنها اخترعت (البلانسفير) وهى خريطة ذات ثلاثة أبعاد لنصف الكرة السماوية. أو الآلة الفلكية القديمة المسماة الاسطرلاب . والاختراع الثانى هو جهاز قياس الوزن النوعى للسوائل . وهو نوع من الهيدرومتر.
ولأنّ الأصوليين فى كل دين متعصبون أحاديون منغلقون ، لذلك جاءتْ النهاية الدامية لهذه الفيلسوفة التى كانت تنادى بترسيخ قيم الحب والعدل والجمال كما تعلــّمتها من الفلسفة المصرية. ولكن لأنها رفضت اعتناق المسيحية ، ولأنّ شهرتها فاقت فى الأهمية شهرة رجال الدين ، فقد دبّر رئيس الأساقفة خطة اغتيالها ، عندما أطلق إشاعة هو مصدرها تقول أنّ هيباتيا هى العقبة الوحيدة للتوفيق بين الحاكم أورستس ورئيس الأساقفة كيرلس . ولأنّ المتدين يُصدق رمزه الدينى ، صدّق المسيحيون ما يقوله كيرلس من بذاءات وافتراءات ضدها إلى أنْ جاءت لحظة اغتيالها فى شهر الصيام الكبير. وعن مشهد الاغتيال كتب د. إمام عبدالفتاح ((اعترضتْ جماعة من رهبان صحراء النطرون ، الذين قضوا فى الصحراء سنوات طويلة يصارعون قوى الشر كما يقولون ويديرون معركة صراع باطنى ضد شهوات الجسد ، اعترضوا عربة هيباتيا بإيعاز من كبيرهم كيرلس ، فأوقفوها وأنزلوا الفيلسوفة الشابة الجميلة. ثم جروها إلى كنيسة قيصرون حيث تقدّمت مجموعة من هؤلاء الرهبان وقاموا بنزع ثيابها حتى تجردت من ملابسها لتصبح عارية. وتقدم بطرس قارىء الصلوات فى الكنيسة وقام بذبحها وهى عارية. وقد أمسك بها مجموعة من الرهبان ليتمكن قارىء الصلوات من ذبحها. ثم عكف الرهبان (الأتقياء القلب) على تقطيع جسدها مستمتعين بما يفعلون. ثم راحوا يكشطون اللحم عن العظم بمحار حاد الأطراف . ثم أوقدوا نارًا وقذفوا فى النار بأعضاء جسدها وهى ترتعش بالحياة كما يقول الفيلسوف برتراند رسل . حتى تحول الجسد إلى رماد وهم يتحلقون حوله فى مرح وحشى شنيع على حد تعبير ديورانت)) ويرى د. إمام أنّ ((الرهبان عجزوا عن قمع شهوات الجسد. ولما كان يصعب الوصول إليه ، فإنه يسهل عليهم تمزيقه)) .
هذا هو درس التعصب : اغتيال الفيلسوفة والعالمة التى يعتقد بعض المؤرخين أنّ العالم كوبر نيكوس تأثر بنظريتها فى علم الفلك. وأنّ الروائى الإنجليزى تشارلز كنجزلى كتب رواية اسمها (هيباتيا) وكتب عنها الأديب الفرنسى Gille Menage فى كتابه الفلاسفة من النساء قصيدة قال فيها ((لابد لكل من يشاهد ويتأمل بيتك الطاهر/ الخالى تمامًا من كل زخرف أوزينة/ أنْ ينشغل بأمر الثقافة/ حقــًا ، لقد انشغلتِ أنتِ بالسماء/ هيباتيا.. أيتها المرأة الحكيمة/ لغتك عذبة.. ونجمك متألق فى سماء الحكمة)) (د. إمام عبدالفتاح إمام- نساء فلاسفة- مجلد 4 ) وكتبتْ عنها ماريا ذليسكا ((لن يقدرالموت يومًا / أنْ يُميتها / إنها قائمة هناك.. بسكونها / الموت لا يقدر أنْ يُميت مثلها / الموت يقدر فقط / أنْ يُبعثر هذا الزمن / بعوالمه المرتجفة / أما هى ستظل دائمًا هى)) (د. مرفت عبد الناصر- لماذا فقد حورس عينه- دار شرقيات- عام 2005 ص 82)
ألا تـُذكرنا مأساة هيباتيا بمأساة المفكر الفارسى ابن المقفع الذى كان مصرعه بتقطيع جسده وهو ينظر إلى أعضائه وهى تـُلقى فى النار. وبالنهاية المأساوية لعبد الحميد الكاتب الذى قتله العباسيون بوضع طست محمى على رأسه. و بمحنة الإمام أبى حنيفة الذى رفض أوامر ابن هبيرة الذى طلب منه تأييد تصرفه بقتل أحد الأشخاص ، فقال أبوحنيفة ((كيف أقبل هذا العمل؟ تأمر أنت بقتل إنسان ظلمًا أو مصادرة ماله وأختمه أنا. هذا لن يكون أبدًا)) وكانت النتيجة أنْ أمر ابن هبيرة صاحب الشرطة بحبس أبى حنيفة وأنْ يُضرب كل يوم عشرة أسواط . وفى عهد أبى جعفر المنصورأيضًا تم جلد الإمام مالك . وفى عهد الرشيد كاد الإمام الشافعى أنْ يُقتل لأنه اختلف مع أتباع الإمام مالك . وفى العهد الأموى قال الجعد بن درهم أنّ القرآن مخلوق ومحدث. فأتى به الوالى خالد بن القسرى إلى مسجد الكوفة مقيدًا بالأغلال يوم عيد الأضحى . وصلى خالد بالناس صلاة العيد وقال فى آخر خطبته ((اذهبوا إلى بيوتكم وضحوا تقبل الله منكم . أما أنا فإنى أريد أنْ أضحى بالجعد بن درهم . ونزل من على المنبر وقتل الجعد بن درهم مُطيحًا برأسه بالسيف . ثم يجيىء المأمون ويتبنى فكر المعتزلة حول خلق القرآن . واعتقل كل من رفض تأييد رأيه وكان من بينهم الإمام أحمد بن حنبل الذى ظل فى السجن 28 شهرًا وكان يُضرب بالسوط إلى أنْ يُغمى عليه. لدرجة أنه لم يكن يشعر بنغز السيف.
ويصل التعصب إلى درجة اغتيال الصوفى الكبير الحلاج الذى حاول التوفيق بين الدين والفلسفة اليونانية. فكان مصيره السجن 8 سنوات وضربه بالسياط وحرق جثمانه. ورغم أنّ القضاة حكموا بتكفيره ، فقد كان من الصالحين فى نظر الجماهير. والتعصب ينهش صدور الفقهاء ضد السهروردى فيتآمرون عليه لدى صلاح الدين الأيوبى الذى أمر بقتله. وبعد نفى ابن رشد إلى اليسانه كتب الخليفة الأندلسى المنصور منشورًا أمر فيه الجماهير بعدم الاشتغال بالفلسفة. والعداء للمختلف لم يتوقف فيكون اغتيال فضيلة د . محمد حسين الذهبى وفرج فوده ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ . والموقف من الفلسفة لم يتغير، إذْ فى عهد عبد الناصر يُصدر وزير التعليم كمال الدين حسين قرارًا بإلغاء مادة الفلسفة من المرحلة الثانوية. ومع بداية الألفية الثالثة أصدر وزير التعليم قرارًا بأنْ تكون مادة الفلسفة اختيارية. وهكذا يتلازم ثنائى الشر المطلق : العداء للمعرفة (بمراعاة أنّ الفلسفة هى المدخل للمعرفة) واغتيال كل صاحب فكر. وصدق من قال ((من يبدأ بحرق الكتب. ينتهى بحرق البشر)) ومع ذلك فإنّ الأحرار فى كل مكان مازالو يبحثون عن أية معلومة عن الفيلسوفة المصرية هيباتيا . ويعيش سقراط فى الوجدان وفى الكتب . ونقرأ ما كتبه الحلاج والسهروردى وابن المقفع وابن الراوندى . وصدق الفيلسوف هيجل فى قوله الحكيم الذى لخص مأساة التعصب المصحوب بالدم فى جملة تحمل الأمل لذوى الضمائر الحية.
(إنّ الخنجر لا يقتل الأفكار))
مقتل هيباتيا والتاريخ - مقال بجريدة القاهرة
تعليقًا على مقال طلعت
رضوان
د. صموئيل طلعت أيوب
طالعنا الأستاذ طلعت رضوان بمقال يتحدث فيه عن
الفيلسوفة المصرية هيباتيا وفاجعة اغتيالها على أيدى بعض المسيحيين. واتفق معه أن
الجهل والتعصب هما سبب اغتيال الفلسفة والعلم، لكننى اختلف معه فى بعض التفاصيل
بناءًا على قراءاتى التاريخية.
فى أى بحث تاريخى عن
حدثٍ ما، على الباحث أن يعود إلى المصادر الأولية والثانوية التى ذكرت هذا الحدث
ويدرسها قبل أن تخط يداه حرفًا، لكن للأسف فإن الأستاذ طلعت رضوان لم يعتمد على
المصادر الأولية انما على مراجع معاصرة، فذكر ول ديورانت ومارتن برنال والفيلسوف
برتراند راسل وغيرهم. لكننى سأحاول فى هذا المقال أن أوضح ما الذى ذكرته المصادر
القديمة عن هذه الفيلسوفة.
لم يصلنا سوى شذرات عن
فاجعة مقتل الفيلسوفة هيباتيا، ولم تشر المصادر الأولية بأصبع الاتهام للبابا
السكندرى كيرلس، فأولى تلك المصادر وأوثقها هو سقراط المؤرخ فى كتابه "تاريخ
الكنيسة"، حيث يقول: "إنها [هيباتيا] سقطت ضحية للغيرة السياسية
التي سادت في ذلك الوقت لأنها كانت تقابل أُورستس كثيراً وشاع بين عامة المسيحيين
أنها هي التي تمنع أُورستس عن مصالحة البطريرك وبسبب هذه الغيرة أسرع بعضهم وعلى
رأسهم قارئ يسمى بطرس وهي في طريقها لمنزلها وجروها من مركبتها وأخذوها لكنيسة
تسمى قيصرون حيث جردوها تمامًا من ملابسها ثم قتلوها ومزقوا جثتها إلى قطع، ثم
أخذوا أطرافها المهترئة إلى مكان يدعى سينارون وأحرقوها. وقد جلبت تلك القضية
الخزى لا على كيرلس وحده بل على كنيسة الأسكندرية كلها. وبالتأكيد لا شئ أبعد عن
روح المسيحية أكثر من المذابح والمقاتلات والأعمال من ذلك القبيل. وقد حدث ذلك فى
شهر مارس فى السنة الرابعة لأسقفية كيرلس [أى عام 415م]." (ك7، ف15) وفى
الفصلين السابقين لإيراده القصة، نجده تحدث عن خطين من الأحداث: الأول هو زيادة
عنف الرعاع، والثانى هو زيادة الشقاق بين كيرلس وأُورستس. ويكتب سقراط فى مقدمته
لذينك الفصلين: "إن عامة الشعب السكندرى يسعد بالشغب عن أى شعب آخر؛ ففى أى
وقت تسنح له الفرصة يندفع بطريقة مفرطة ومبالغ فيها، ولا يتوقف إلا بإراقة
الدماء." (ك7، ف13).
من ثم، فإن أقدم المصادر التاريخية التى تذكر
فاجعة اغتيالها تؤكد أنها سقطت كضحية سياسية لا دينية، وأن الذين قتلوها هم عامة
المسيحيين، حيث لا دخل للبابا كيرلس بالأمر، بل إن الأمر جلب عليه وعلى كنيسته
العار. وسقراط مؤرخ عُرف عنه الحياد فى الطرح،
بالإضافة لكونه معارضًا لكيرلس فليس هناك ما يبرر تكذيبه.
المؤرخ الثانى هو يوحنا النقيوسى، وعلينا أن
نشير أن يوحنا رجل دين يتبنى الرؤى الدينية المحافظة (وهذا يتجلى فى نظرته للوثنية
على أنها نتاج الشيطان وأيضًا فى حديثه عن العالم القديم) كتب النقيوسى: "وفى
هذه الأيام ظهرت امرأة وثنية فيلسوفة بمدينة اسكندرية اسمها أنباديا تخصصت لعمل
السحر وللأسطرلابات وأدوات اللهو فى كل وقت، وغررت بكثير من الناس بتموية الشيطان،
وكان حاكم المدينة [أُورستس] يكبرّها كثيرًا لأنها خدعته بسحرها." (عمرو صابر عبدالجليل، تاريخ
مصر ليوحنا النقيوسي: رؤية قبطية للفتح الاسلامي، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، 2003م، ص 127-128) ثم بعد ذلك يشرح الخلافات بين البابا كيرلس
والحاكم أُورستس، والنزاعات بين المسيحيين واليهود، ودور هيباتيا فى التأثير على
الحاكم، ثم يقص قصة مقتلها: "ثم قامت جماعة المؤمنين بالرب مع الوالي بطرس،
وكان بطرس هذا مؤمنًا تمامًا لكل ما ليسوع المسيح، وذهبوا للبحث عن هذه المرأة
الوثنية التي كانت تضلل أهل المدينة والحاكم بأسحارها. وحين عرفوا المكان الذى
كانت به ساروا إليها فوجدوها تجلس على كرسى، فأنزلوها من الكرسى وسحبوها حتى
أوصلوها إلى الكنيسة العظيمة التي تسمى قيسارية، وكان هذا فى أيام الصوم، ونزعوا
ملابسها، وسحبوها حتى أحضروها الي شوارع المدينة حتى ماتت، وألقوا بها فى مكان
يدعى نيكينارون وأحرقوا جسدها بالنار." (المرجع السابق، ص 129-130) نلاحظ اعتماد النقيوسى بشكل أساسى على رواية
سقراط المؤرخ، لكن الاختلاف بين الاثنين؛ أن سقراط اعتبر الجريمة عمل شنيع أبعد ما
يكون عن الروح المسيحية بينما النقيوسى اعتبره عمل تقي!، ومع ذلك فالاثنان اتفقا
على عدم مشاركة البابا كيرلس فى هذا العمل.
صمت أُورستس الحاكم (الذى فى خلاف مع كيرلس)
وسقراط المؤرخ (المعارض لكيرلس) عن اتهامه بالمشاركة فى هذه الجريمة الشنعاء. ولا
يمكن أن نغفل أنه بعد ثلاثة عشر عامًا اندلع النزاع الكريستولوجى بين كيرلس
ونسطور، حينها تقدم مجموعة من السكندريين الذين حرمهم البابا كيرلس بقائمة من
الاتهامات الأخلاقية ضده شملت عدم الأمانة، عدم مساعدة الفقراء، السرقة، سوء
معاملة والدته. فلو كانت هناك أى شائبة تربط البابا كيرلس بمقتل هيباتيا لاستخدمها
هؤلاء ضده، أو حتى استخدمها نسطور. لكننا فى المقابل نجد صمت الجميع حيال الأمر،
مما يدلل أنه ليس ثمة علاقة بين البابا كيرلس ومقتل الفيلسوفة هيباتيا.
وقد يتساءل القارئ: كيف نشأت فكرة مسئولية
البابا كيرلس عن هذه الجريمة؟ أول من أنحى باللائمة على البابا كيرلس هو داماسكيوس Damascius فيلسوف الأفلاطونية
المحدثة وآخر رئيس للأكاديمية قبل إغلاقها فى عهد جوستنيان عام 527م، فى كتابه
"حياة إيسيدور". لكن لا يمكننا أن نستند على شهادة وحيدة لفيسلوف وثنى
عاش 130 عامًا بعد الحدث، وقد كتب هذا فى عهد يوليانوس الامبراطور الذى أراد إحياء
الديانة الوثنية، فكتب ذلك لأجل تشويه الكنيسة ويظهر ذلك جليًا فى أسلوبه العدائى
للمسيحية والبابا كيرلس.
وعن داماسكيوس نقلت
الموسوعة البيزنطية Suda فى القرن العاشر
الميلادى قصة مقتلها، وعنها أخذ تولاند وجيبون. وعلينا أن نلاحظ طريقة استخدام
الاثنين للمأساة، فجيبون استخدمها فى نقده للمسيحية وتولاند فى نقده للكنيسة
الكاثوليكية.
لذلك لا يمكن حسبان هيباتيا كشهيدة لأسباب دينية، بل بالحرى يجب أن يُحسب موتها نتيجة مأساوية لعنف الرعاع نتيجةً للصراع السياسى بالأسكندرية.
لا يجب أن تقودنا العاطفة لتغيير التاريخ،
ولا يجب أن تحولنا المأساة لجناة.
وفى المقال المقبل،
سنناقش حقيقة اسهامات هيباتيا فى الفلسفة والعلوم طبقًا للمصادر التاريخية
القديمة.
ملحوظة: الصور هى إضافة من الجورنال حيث لم أرسل
أى صور للجريدة، لذلك نشروا صورة البابا كيرلس السادس بدلاً من البابا كيرلس
الأول، فعذراً عن هذا الخطأ غير المقصود من الجريدة ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق