الخميس، 12 يناير 2017

الضحك مُسَاءَلٌ فلسفياً؛ عبد الصمد زهور.




الضحك مساءَلٌ فلسفياً.
*عبد الصمد زهور
هذه المحاولة التي سنقدم عليها الآن،(1) ما من شك أنها تتضمن الكثير من التعسف على الأقوال والشذرات التي ستجعل منها منطلقا لها، على اعتبار أننا سنتعامل معها بمعزل- في كثير من الأحيان- عن سياقات ورودها.
وهي السياقات التي رغم كوننا على علم بأن عدم احترامها فيه تعسف، فإننا لن نحترمها، بشكل قد يجعل من فعلنا تعسفا على التعسف؛ أي احتراما تاما، خصوصا أن الرابط بين كل ما سنتعسف عليه ليس شيئا آخر غير الضحك، من حيث هو، من وجهة نظرنا الخاصة، انقلاب على كل معقولية صارمة/ صورية ممكنة. ووسم الضحك مند البداية بهذه السمة ليس مصادرة على المطلوب، أو نتيجة لا تنضبط لأي مقدمات ممكنة، فما يبرر هذا الوسم هو مقدار الإحراج الذي نجد أنفسنا عليه ونحن نحاول كتابة هذه الورقة عن الضحك، ومقدار التأجيل الذي أحيط به هذا العمل، إلى أن بلغنا نهاية مهلة الكتابة/ القراءة الممكنة التي منحناها لأنفسنا. نحن إذن أمام محاولة تعي حدودها وقزميتها مقارنة مع حيوية وترحل وترسم موضوعها بكيفيات مختلفة كما يتجلى ذلك في العالم عبر إنسانه.
كيف يمكننا الانتهاء إلى شيء ما عن الضحك من خلال ما يلي:
 قول المعلم الأول أرسطو طاليس “الإنسان حيوان ضاحك”؛§
 قول الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا في (علم الأخلاق) “أن أضع حدا فاصلا بين الضحك والسخرية”؛§
 قول هنري برغسون في كتاب (الضحك) “لا شيء هزلي خارج ما هو بشري بشكل خاص”،(2)§
 وبالأخص§ نيتشه من خلال قبسه/ ومضته/ شذرته في كتاب (ما وراء الخير والشر) “سأغامر بتصنيف  الفلاسفة حسب ضحكهم”؟
ثم هل يشكل هذا الذي ورد لدى نيتشه تحليلا أم موضوع تحليل؟ على اعتبار أنه لا يتغيا تعريفا بل تصنيفا، فصاحبه لا يرصد موقفا وإنما يكتفي بجعل نفسه مصنفا، هل يمكن الاكتفاء فقط بهذا الذي أوردناه من نصوص أرسطو واسبينوزا وبرغسون ونيتشه دون العودة إلى الضحك كما هو متبلور في حياتنا اليومية، بشكل يجعلنا نفتح الفلسفة على الحياة؟ أولا تشكل هذه الأقوال والشذرات المذكورة ضربا من أضرب هذا الفتح؟
كل هذه أسئلة، وغيرها كثير، ما من شك أنها ستحكم مقاربتنا التحليلية هاته، ما دامت قد طفت على السطح، مند بداية مصافحة الرائي للمرئي/ الكاتب للموضوع/ القارئ للكتابة.

بالعودة إلى أرسطو نجد أنه تناول موضوع الضحك عندما كان بصدد عرض مقاربته للكوميديا، فعبر عن كون هذا الفعل يكون مرفوقا بالتلذذ. إذ نجده يقول “لما كانت التسلية وكل ضرب من ضروب الاسترخاء والضحك، أمورا لذيذة، فإن الأشياء المضحكة- أناسا كانت أو كلمات أو أفعال- هي لذيذة لا محالة”.(3) فكانت لديه على هذا الأساس مصادر المضحك ومنابعه ثلاثة “الشخصية éthos، اللغة lexis، الموقف prangs”.(4)  رغم كون الدراسات الحديثة للكوميديا كما يشير إلى ذلك عصام الدين أبو العلاء في كتابه (نظرية أرسطو في الكوميديا) تضيف “مثيرا رابعا من مثيرات الضحك وهو الحركة”.(5) هذا المثير الذي تعتقد هذه الدراسات أنها تضيفه سنعود للحديث عنه وكشف مدى معقولية وسمِه بالمضاف.
هكذا فبالوقوف عند مصادر المضحك الثلاث التي رصدها أرسطو، ننتهي إلى كونه يقصر فعل الإضحاك وفعل الضحك على الإنسان لا على الحيوان بعامة، وهو الذي يعبر عنه بشكل صريح قوله الذي انطلقنا منه، والذي يسم الإنسان بكونه حيوانا ضاحكا، فقد كان يلزم ذلك ضرورة خصوصا مع وجود اللغة كمصدر من المصادر الثلاث، فهو كذلك يعرف الإنسان بكونه حيوانا ناطقا، والنطق يقتضي التفكير والقدرة على التمييز والاختيار. هكذا يكون الذي يضحكنا حسب أرسطو عاقلا، رغم خروجه عن مبدأ الواقعية والمعقولية، وهو الخروج الذي لا يمكن فهمه دون النظر إلى التصور الأرسطي للحركة الإنسانية، بما هي حركة إرادية، فالإنسان حسبه هو الوحيد الذي يتميز عن سائر الموجودات: الجسم الطبيعي، النبات، الحيوان، الأجرام السماوية؛ بالقدرة على الحركة والسكون الذاتيين. فالجسم الطبيعي لا يغادر مكانه الطبيعي سوى بفعل قاصر، ويعود إلى مكانه الطبيعي فور انفصاله عن القوة/ الحركة القصرية التي أخرجته من مكانه الطبيعي. وكذلك بالنسبة للنبات فليست له القدرة على السكون الذاتي ولا الحركة الذاتية لأن حركته حركة نمو ونقصان. والحيوان أيضا لا يملك القدرة على السكون الذاتي، وهو الفعل الذي يتصف به الموجود الإنساني صاحب الحركة الإرادية/ الاختيارية، ومن ثم كان بإمكانه أن يضحك أقرانه، عندما يقوم بسلوكات يختص بها الحيوان أو النبات أو الجسم الطبيعي، لامتلاكه القدرة على الحركة والسكون الذاتيين، وليس ذلك بممكن لباقي الموجودات لمحدودية قواها النفسية والتي يتوفر عليها الموجود الإنساني.

على هذا الأساس تكون الحركة عنصرا مهما ومصدرا رئيسيا لفعل الإضحاك، فحركة الإنسان حركة إرادية اختيارية مصدرها القوة العاقلة، ومن ثم يكون المضحك عاقلا يعي خروجه عن مبدأ الواقعية، والضاحك كذلك عاقلا يرصد هذا الخروج. إلا أن هذا الربط الذي يقيمه أرسطو بين الضحك والعقل، لا يمنعه من ذم الضحك لحمولته الشريرة التي تستهزئ من ارتطام الإرادة بجلاميد الواقع، وتجعل من السلوكات المجسدة لهذا التعثر ومن الكوميديا مطلبا، ولذلك كانت الكوميديا في مرتبة دنيا مقارنة بالتراجيديا.
إلا أن هناك من يضع اليوم حدا لهذا التلازم الذي يقيمه أرسطو بين الكوميديا والضحك، فليس الضحك من جنس واحد “إذا بات بعض رواد المسرح ومشاهدي التلفزيون يعتقدون أن كل ما يضحك إنما هو كوميديا، حتى لو كان مجرد لعب بالألفاظ والنقاشات- ولا أقول البهلوانية- مما قد يصل في بعض الأحيان إلى حد الإسفاف”.(6) لذلك نجد اسبينوزا في كتاب (علم الأخلاق) الأخلاق يقول أنه يجب “أن أضع حدا فاصلا بين الضحك والسخرية”، بشكل يجعل الضحك معه ينطبع بنوع من السمو عن السخرية، وبشكل يجعلنا نقول أن ما كان أرسطو يقدح فيه هو السخرية وليس الضحك، حيث ينطبع هذا الفعل الأخير بقدر من البراءة، عكس السخرية التي تجمع صورة الضحك بحزن وضغينة داخليين. لذلك كانت فلسفة اسبينوزا كما يراها جيل دولوز فلسفة “مناهضة لثقافة الضغينة والتسلط في نفس الآن، ونضالا مطلقا ضد كل المشاعر الحزينة”.(7) وبالمرور من اسبينوزا إلى برغسون في علاقة بأرسطو نجد أن برغسون يدلي بقول يبدو للوهلة الأولى متفقا فيه تمام الاتفاق مع ما جاء به أرسطو، الذي ربط الضحك بالعقل، والعقل بالإنسان، حيث يقول برغسون “لا شيء هزلي خارج ما هو بشري”.(8) لكنه هنا، وكما هو واضح في كتابه عن (الضحك)، يوسع من مفهوم البشرية ومفهوم الإنسانية منتقدا أرسطو، لتشمل المعاقين جسديا واللذين لا يستخدمون عقلهم، بحيث قام أرسطو بإقصائهم عندما حدد مصادر الضحك في ثلاث. وحتى الحيوان حسب برغسون فهو يضحكنا عندما يتقمص شخصية إنسانية مثلما تفعل القردة. كما يضيف- وهو الذي لا يفرق بين الهزل والضحك- قوله بأن “الهزل لا يمكن أن يحدث هزة إلا إذا وقع على سطح نفس هادئة جدا متماسكة، إن اللامبالاة هي بيئة الهزل”.(9)
إلى هذه الحدود يجد المرء المحلل لهذه الأقوال نفسه أمام محاولة للإحاطة بموضوع يبدو أنه منفلت من خلال وجهات نظر مختلفة تعبر عن تكاملها في نفس الوقت، من حيث هي أساسا متعاقبات تحاول سد ثغرات بعضها البعض. لكن الأمر لا يسير بنفس الشاكلة بعد استحضار الشذرة/ الومضة/ الصفعة النيتشوية (المفاجئة والمرفقة بإحساس بالألم والفرح والتعجب) التي يوجهها نيتشه لكل قارئ، على الشاكلة التي يوجهها لأولئك اللذين يتحدث عنهم، رغم كونها صفعة لن تعطي مفعولها إلا بعد ألفي سنة غير قابلة للنقصان مهما انقضى منها. وهي الشذرة التي يقول فيها “سأغامر بتصنيف الفلاسفة حسب ضحكهم”. فما معنى أن يغامر المرء بالإدلاء بتصنيف من هذا القبيل؟ معناه أن يحتلوا درجات مختلفة بمقدار قربهم أو بعدهم عن إرادة القوة والحياة والمرح النيتشوي، فقد منح أغلب الفلاسفة كما يعبر عن ذلك كينتين سكينر في تحليله لنفس الشذرة،(10) سمعة سيئة عن الضحك، توماس هوبز في كتابه (مبادئ القانون The élément of law)، ومع ديكارت في كتابه (أهواء النفس Les passions du l’âme)، واسبينوزا في (علم الأخلاق) ورابليه والفيزيولوجين كذلك، فقد درسوا جميعا الانفعالات التي يثيرها الضحك، وتم ربطه بالفرح المعبر عن مشاعر الاحتقار والكراهية، وهو ما عبر عنه كاستيلون بصريح العبارة عندما قال أنه “في كل مرة نضحك فيها ونسخر من شخص ما ونحتقره، فإنما نسعى إلى الاستهزاء والاستخفاف بالعيوب”. وهو ما يعبر عنه أيضا هوبز وديكارت، حيث يربطان الضحك باحتقار الآخرين. إن كل هؤلاء وكما يراهم نيتشه ويضيف إليهم الحزين هيغل يجسدون “تاريخا يضاد قيم الحياة والاختلاف والغلمة والرقص”،(11) ويؤسسون لأخلاق مرضية وارتكاسية قائمة على مفاهيم الواجب والطاعة والاحترام وغيرها من القيم المرضية، التي ينكشف مخبؤها تحت مفعول المطرقة الجينالوجية التي تقف على مكامن السم في العلاج، فتشخصها وتصنفها لتأتي بالبديل الذي هو ليس شيئا أخر غير نيتشه نفسه طبيب الحضارة الذي يقول في سيرته الفكرية (هو ذا الإنسان): “إنني أملك الحق في أن اعتبر نفسي أول فيلسوف تراجيدي، أي النقيض الأقصى والضد المطلق للفيلسوف التشاؤمي”.(12) وفي هذا إخراج لفعل الضحك وللمرح والرقص من إطار الكوميديا إلى التراجيديا في مناقضة لقيم تاريخ الفلسفة الغربية وتصنيفاته الأقنومية.
إن نيتشه يُخرج الضحك من الأنساق ليفتحه ويفتحنا معه على الحياة، الضحك كما يتجسد فيها في تبعثره وتراجيديته التي يعبر عنها المثل الشعبي المغربي القائل بأن “كثرة الهم تضحك”. إن معادة الضحك من قبل الفلاسفة السابقين على نيتشه معادة تكشف حسب هذا الأخير عن انتصار بيّن للعدمية، فالحياة حسبه منبع للمرح الذي قتله هؤلاء على الشاكلة التي يقتله بها الرعاع (السياسة وشعارات الديمقراطية) فهؤلاء حسبه يسممون المنابع، إن الضحك انفتاح على الحياة واقتحام لمجالات الطابوهات. فالنكتة كمصدر من مصادر الضحك الممكنة، تشكل اقتحاما لطابوهات الجنس والسياسة…الخ في كثير من الأحيان. كما أن الضحك تجسيد لنوع من التصالح بين النفس والجسد، وهو التصالح الذي يتحقق بكيفيات ومراتب مختلفة كـ: الكتكتة، القهقهة، التبسم، الكركرة، الإهلاس وغيرها من أنواع الضحك ومراتبها التي لا يمكن حد انفلاتيتها بجرة قلم.
إن الضحك يفتحنا على الحياة في ينبوعها، وهو الانفتاح الذي يجعل من الإحاطة به معرفيا/ نسقيا أمراً غاية في الصعوبة إن لم يكن مستحيلا. فكيف لهذا الذي تكاثرت القسمات على جبهته وهو يحاول كتابة هذه الورقة أن يجسد لنا الضحك متفلسفا عبرها، وكيف له أن يكتب شيئا ما عن الضحك وهو لا يضحك…الخ؟ فالضحك كما يقول مشيل فوكو في كتابه (نظام الخطاب)، تعسف على اللغة العالمة. وهو كذلك تعسف على أنماط من الحياة الممكنة، أنماط يحكمها الشقاء والهم والتشاؤم، من حيث هو المنتهى الذي لا تتخلله إرادة القوة باعتبارها إمكان من إمكانات العيش فلسفيا على الأرض، عيشة فلسفية نتشوية ضاحكة ومضحكة.
على هذا الأساس يكون من الضروري على كل من انتهى من قراءة هذه الورقة أن يتركها على الفور، وأن يذهب إلى الحياة في مختلف تبلوراتها الممكنة، للبحث عن إجابات لتساؤلاته الممكنة حول الضحك… فبدون هذا لا يكون ذاك.
الهوامش
1- الشذرات التي ترتكز عليها هذه المحاولة أغلبها من اقتراح الأستاذ لحسن تفروت، أستاذ الفلسفة بجامعة القاضي عياض- المغرب، وقد جاءت في إطار برنامج التكوين المعتمد ضمن ماستر الفلسفة تأويل وإبداع.
2- هنري برغسون، الضحك، ترجمة علي مقلد، باريس (كانون الأول) 1924، ص: 10.
3- عصام الدين أبو العلاء، نظرية أرسطو في الكوميديا، مكتبة مدبولي، 1993، ص 49.
4- المرجع نفسه، ص 49.
5- المرجع نفسه، ص 49.
6- مولوين ميرسنت، كلبفورد ليتش، الكوميديا والتراجيديا، ترجمة علي أحمد محمود، مراجعة شوقي السكري، عالم المعرفة، العدد 18، يونيو 1979، ص 8.
7- عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2012، ص 68.
8- برغسون، الضحك، مرجع سابق، ص 10.
9- المرجع نفسه، ص 11.
10- راجع: كينتين سكينر، الفلسفة والضحك، ترجمة محمد المسعودي، مراجعة محمد بوعزة، في
 aslimnet- free.fr/aw/2005/massoudi 1. Htm. أصل هذه المقالة محاضرة ألقاها سكينر في جامعة السربون بفرنسا بتاريخ 12/ 06/ 2001.§
11- عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، مرجع سابق، ص 49.
12- F. Nietzche, Ecco Homo, Édition Gallimard, Paris, 1978, P 79.
 نقلا عن: عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، مرجع سابق، ص 47.§

المراجع المعتمدة مباشرة أو بتوسط
عادل حدجامي، فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 2012.
عصام الدين أبو العلاء، نظرية أرسطو في الكوميديا، مكتبة مدبولي، 1993.
كينتين سكينر، الفلسفة والضحك، ترجمة محمد المسعودي، مراجعة محمد بوعزة، في: aslimnet- free.fr/aw/2005/massoudi 1. Htm؛ و أصل هذه المقالة محاضرة ألقاها سكينر في جامعة السربون بفرنسا بتاريخ 12/ 06/ 2001.
مولوين ميرسنت، كلبفورد ليتش، الكوميديا والتراجيديا، ترجمة علي أحمد محمود، مراجعة شوقي السكري، عالم المعرفة، العدد 18، يونيو 1979.
هنري برغسون، الضحك، ترجمة علي مقلد، باريس (كانون الأول) 1924.
• F. Nietzche, Ecco Homo, idée, édition Gallimard, Paris, 1978.
_____________
*باحث في الفلسفة من المغرب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق