الجمعة، 4 نوفمبر 2016

الحداثة ومولد الإنسان كذات؛ محسن المحمّدي.


الحداثة ومولد الإنسان كذات
محسن المحمدي

إن لفظة حداثة أصبحت من الميوعة إلى حد يستعصي القبض على دلالتها ويزداد الأمر تعقيدا عندما يضاف لها «ما بعد» المضللة، فيكثر اللغط دونما ضوابط، فإذا كانت شعوبنا العربية الإسلامية قد تعرضت لصدمة الحداثة التي شوشت على منظومة تفكيرها بالإحراج والإرباك، فالأمر ازداد استفحالا عندما دخل العالم في الحداثة الفائقة فتبعثرت الأوراق فأصيب معها الإنسان العربي بالدوار حد الغثيان.
إن الغالبية من الناس ينظرون للحداثة على أنها مجرد تجاوز للقديم بمعنى أن كل جديد هو حداثة، لكن الأمر في الحقيقة يتجاوز ذلك كما سنرى، كما أن البعض يخلط خلطا فاضحا ما بين الحداثة كنموذج موجه للرؤية والسلوك وبين نتائج هذه الحداثة التقنية، وفي الغالب تقبل الثمار مفرغة من قوالبها النظرية فيحدث الشرخ إلى حد الانفصام الثقافي. كما أن البعض الآخر يعتقد أن الحداثة اختيار، بينما الأمر عكس ذلك تماما فالانتقال الحداثي كان بإملاء مجموعة من المتغيرات أهمها على الإطلاق ظهور العلم الحديث. فما المرتكزات والثوابت البنيوية التي يستند إليها التصور الحداثي؟

* ميلاد الإنسان كذات
تشكل الحداثة صيغة ومنوالاً جديداً بدأ يتبلور بوضوح في القرن السابع عشر وهو قرن العلم الحديث بامتياز حيث برزت أسماءٌ لامعة كغاليليو وديكارت وكبلر ونيوتن..، هذا المنوال وجه الرؤية والسلوك في منحى مختلف تماما عما كان في العالم القديم، فكان إطاراً نظرياً ونظاماً معرفياً قلب الأمور رأساً على عقب، وإذا ما كنا نود البحث عن الثابت البنيوي فيها فسنجده في الذات، فإليها أصبحت الرجعى دائما وبها تصنع وتشيّد الحقيقة، فاعطني الذات وخذ كل شيء. هﺫا هو لب الحداثة، وهي الفكرة التي وجدت صداها الواضح عند مفكري عصر الأنوار، أمثال (ديدرو، فولثير، مونتسكيو، روسو، كانط...) حيث كان أكبر همهم هو نشر فكرة استقلال الذوات وقدرتها على أخد المبادرة اقتصاديا، سياسيا، أخلاقيا.. بمعزل عن كل وصاية ما عدا وصاية العقل المشترك. الذي تم اعتباره «أعدل قسمة بين الناس» على حد تعبير ديكارت. ولربما استطاع الفيلسوف كانط أن يوضح فكرة الذاتية بعبارة جامعة كانت هي تعريفه للأنوار باعتباره: "خروج الإنسان من وضع الحَجْرِ الذي هو نفسه مسؤول عنه. وهذا الحجْر يعني عجز الإنسان عن استعمال عقله دون وصاية غيره"
لقد قامت الحداثة إذن على نزعة إنسانية ترى في الإنسان تلك الذات الحرة والفاعلة، المطلقة الطليقة، صانعة عالمها، المنتجة لمواردها والموجهة للتاريخ نحو تقدم محتوم، إنها بانية الحضارة والمسؤولة عن كل حراك يحدث. باختصار، إن الذات هي صاحبة السلطة وكلمتها هي العليا.
لكن ما المتغير الذي دفع إلى بروز الإنسان بهذه المواصفات سالفة الذكر؟ أكيد ليس الأمر اختياراً بل الأمر هو نتاج تغير في الإطار النظري فكيف ذلك؟ سنقف فقط عند مرتكز واحد وهو ظهور النزعة الآلية للعالم.

* النزعة الآلية للعالم
إن المتأمل في تفكير الإنسان تجاه الطبيعة قبل الزمن الحديث يجد أنه كان يغلب عليه ما يسمى النزعة الإحيائية، والمقصود بذلك ملء الطبيعة بالحياة والفاعلية (فالطبيعة تغضب، تفرح، تحب، تكره تتربص، تنتقم..) وهي أمور إنسانية كان يضفيها الإنسان على العالم، ولم يكن له من إمكان غير ذلك قصد تفسير ألغاز الظواهر التي تحدث أمامه إلى درجة أنه كان يتوسل للطبيعة ويترجاها ويتقرب منها عاطفيا وطقوسيا علّها ترأف به وتجود عليه بسخاء وتلين تجاهه عندما تقسو عليه.
لكن المشهد سينقلب رأسا على عقب وبشكل كلّي بعد ظهور الثورة العلمية الحديثة خاصة مع الفيزياء الغاليلية المؤسسة على مبدأ القصور الذاتي القائل بأن الجسم المادي لا حول له ولا قوة فهو إذا ما عزل عن كل القوى الممكن أن تؤثر عليه، سيبقى إما ساكناً أو في حركة مستقيمة منتظمة، لذلك فهو عاطل وقاصر عن الفعل لوحده دونما تأثير خارجي، إنه بكلمة واحدة كسول، خامل ودون إرادة.
وإذا ما سلمنا بهذا المبدأ الذي سيؤمن به علماء القرن السابع عشر بل هو سيكون القانون الأول ضمن قوانين نيوتن فهذا سيعني مباشرة أن العالم المحيط بنا عاطل وخامل وقاصر، وكل حركة جسم فيه لا تتم بملء إرادته بل هناك قوة قد تربصت به، فالعالم إذن مجرد آلة صماء ومن هنا المنطلق للنزعة الآلية، التي ستصبح التصور السائد في القرن السابع عشر، بل ستصبح نموذجا للتفسير أو باراديغما سيفرض نفسه على العقول قِوامه أن المادة عاطلة ولا تخفي بداخلها أسراراً أو كيفياتٍ سحريةً أو قوىً غريبة. فحينما صرح الفيلسوف ديكارت في كتابه مبادئ الفلسفة قائلا: «لا توجد بالأحجار والنباتات قوى خفية ومتوارية عنا، كما لا تخفي أسرارا، كالتجاذب والتنابذ، فلا شيء يوجد بالطبيعة إلا ويرد إلى أسباب جسمية محض، لا دخل للأرواح أو الأفكار فيها» فإنه كان ينوب عن الجميع وينطق باسم عصر بأكمله. إن مبدأ القصور الذاتي سيعطي المسوغ النظري لإفراغ العالم كليا من كل إرادة ومن كل حرية ومن كل فكر ومن كل قرار لتعود للإنسان كاملة، فالإنسان كان يضفي سابقا خصائصه ومواصفاته على الطبيعة فكان غريبا على ذاته، لكن بعد بزوغ العلم الحديث، سيسترجع الإنسان تلك الخصائص غير منقوصة فما للطبيعة هو للطبيعة وما للإنسان هو للإنسان. للطبيعة القصور والعطالة وللإنسان الحرية والفاعلية بكلمة واحدة لقد تم إفراغ العالم من الروح، أو هكذا اعتقد الإنسان، ليتم ضخ تلك الروح كلية في جوفه.
إن مبدأ القصور الذاتي للمادة الذي يعد أساسا للفيزياء الميكانيكية، جعل نظرة الإنسان للعالم تتغير فهو أصبح مجرد آلة ضخمة أو لنقل هو ساعة كبيرة مفرغة من الغاية تحكمها الضرورة فحسب (سبب←نتيجة)، فهو خاضع للحتمية ولا مجال للحرية فيه، فالوحيد الذي له الغاية هو الإنسان لأنه يختار، وما دام أن العالم قاصر، إذن وجب التحكم فيه والسيطرة عليه.
لقد مهد التصور الآلي للعالم الطريق للإنسان نحو الاجتياح والسيطرة دون توقف لأنه آمن أن الطبيعة قاصرة والقاصر لا حول له ولا قوة، وآمن أيضا أن الحرية هي ملك خالص له لا يشترك فيها معه أي مكون من مكونات الطبيعة، فهو أصبح ﺫلك الفاعل الوحيد، القادر على التحرر من قبضة الحتميات المتربصة به من كل الجوانب، فيكفيه أن يفكك ساعة العالم ويعرف أسبابها القريبة ليتحكم فيها. إن النزعة الآلية نحو العالم جعلت الإنسان يغادر التعامل مع الطبيعي نحو الاصطناعي، فلا شيء جاهز بل كل شيء يبنى. فالعلم المزود بهذا الأفق الآلي أصبح من القوة بحيث يكتسح ويحرج ويربك كل حسابات التفكير القديم، إنه اليد الطولى التي تستأسد به المنظومة الحداثية ويكفي كمؤشر على ذلك الحديث عن أبرز ما أصبح يشغل بال البشرية وهو الثورة الجينية، فالعلم البيولوجي دخل إلى دهاليز الخلية، وسبر أغوار نواتها وفكك صبغياتها فضبط الشفرة الوراثية مما مكنه من التحكم وإقامة التعديلات والهندسات الجينية،...، إلى درجة أنه الآن أصبح الطريق معبدا لتحويل النسل وتبديله فالعلماء قادرون على جعل الطفل ينجب ويولد بالمواصفات التي يشتهيها الآباء (الطول، لون البشرة، ولون العين وطرد الأمراض الوراثية...).
نخلص إلى أن الحداثة بغض النظر عن سلبياتها تنطلق من أساس نظري صلب قوامه ما عبر عنه عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر الذي كان مفتونا بسؤال: لماذا الحضارة الغربية مختلفة؟ بقوله «نزع الطابع السحري عن العالم» وإفقاده قداسته، فهو مجرد آلة صماء، الأمر الذي أعطى للذات الإمكانية والجرأة على اقتحامها وفض حجبها وهتك أسرارها وإرغامها على البوح بمكنونها وأحيانا إلى درجة الاستباحة وهو ما جعل النقد يوجه للحداثة وبقوة في خطاب ما بعد الحداثة وذلك حديث آخر.

(عن جريدة الشرق الأوسط)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق