الجمعة، 7 أكتوبر 2016

قراءة في مقالة ليورغن هابرماز./ محمد عبدالله العجمي.


قراءة في مقالة ليورغان هابرماس
-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-_-
محمد عبد الله العجمي
(عن الفيسبوك)
--------------------------
لا يختلف كثيرون على أن الفيلسوف وعالم الإجتماع يورغن هابرماس هو أعظم من تبقى من فلاسفة ألمانيا الكبار اليوم، ويعتبره الكثيرون في ألمانيا فيلسوف ألمانيا الموحدة الجديدة ووريث فلاسفة مدرسة فرانكفورت النقدية بل وأهمهم وأكثرهم تأثيرا في الحياة السياسية والاجتماعية والعلمية في ألمانيا ما بعد الحرب. المقالة التي أنوي تقديمها هنا هي المقالة الأولى في الكتاب "الفلسفة الألمانية والتصوف اليهودي" والذي ترجمه نظير جاهل ونشره المركز الثقافي العربي في 1994 في حوالي تسعين صفحة؛ وذلك تحت عنوان "ما الفائدة من الفلسفة؟"، ونفس هذه المقالة ظهرت كمقدمة كتبها هابرماس لكتابه "لمحات فلسفية وسياسية" والذي نشر لأول مرة 1983 ويضم مجموعة مقالات كتبها هابرماس من 1958 وحتى 1979، والتي سجل فيها انطباعاته ورؤاه عن فلاسفة ألمانيا المعاصرين ومنهم أساتذته في مدرسة فرانفورت كأدورنو وهوركهايمر ومركوزه وإيريك فروم.
يتطلب تقديم قراءة لمقال أو كتاب من كتب هابرماس إطلاعا واسعا على كتبه الأخرى، وهضما ولو نسبيا لنظرياته الجديدة التي اجترحها، وبدون ذلك فالقراءة ستكون بلا شك تميل لتكون سطحية لا تقترتب من العمق الذي يحرك هابرماس نحو الكتابة. وسأكتفي هنا بتقديم قراءة أحاول أن أقارب فيها أفكار ورؤى هابرماس التي يطرحها حول الفلسفة المعاصرة وأهميتها والدور الذي يمكن أن تلعبه في ألمانيا. ولا أخفي هنا تحفظي على انتزاع هذه المقالة من كتاب كبير لهابرماس وترجمته مع مقالة أخرى ضمن عنوان يبدو كما لو أن هابرماس يقصد تأليفه؛ في الوقت الذي كان هم هابرماس هو تسجيل مجموعة انطباعات ورؤى حول فلاسفة ألمانيا المعاصرين وذلك على مدى ما يزيد عن عشرين سنة، وليس تقديم دراسة حقيقية متكاملة حول تأثير التصوف اليهودي على الفلسفة الألمانية المعاصرة كما أوحى المترجم بذلك. كما أتحفظ حتى على عنوان المقالة العربية المترجمة نفسها، إذ أنه يوحي بأن المراد منه هو الحديث عن فوائد الفلسفة بشكل عام، بينما ما يركز عليه هابرماس هو الحديث عن التطورات التي طالت الفلسفة الألمانية منذ هيجل إلى ألمانيا ما بعد الحرب، والأدوار التي يمكن أن تلعبها الفلسفة الألمانية المعاصرة في المستقبل، لهذا فضلت أن أجعل عنوان مقالتي هذه هو "تطور الفلسفة الألمانية المعاصرة ومستقبلها".
يطرح هابرماس في هذه المقالة آراءه وأفكاره حول أي دور يمكن أن تلعبه الفلسفة في المجتمع الألماني، وهو ينطلق في طرح ذلك من لحظة غياب الفلسفة الشاملة بموت هيجل في 1831، ومن ثم يلاحق هذه الفلسفة ويتابع أهم تطوراتها بشكل مكثف جدا. لم تعد الفلسفة بعد هيجل قادرة على إقناع الجمهور بأنها معنية بالمطلق، كما لم تعد صورة الفيلسوف ذلك الرجل الكلي ذو النفوذ العظيم والسلطان الواسع على القلوب والأمزجة، وعوضا عن ذلك فقد تم استبدال هذه الصورة بنموذج مجموعة المفكرين والفلاسفة الذين يخدمون حقلا فلسفيا ما ويقتلونه بحثا ودراسة، وأصبحت الفلسفة أقرب لتكون حقل أبحاث عوضا عن رؤية كلية شاملة، وبهذا الشكل فقط تغلب الفلاسفة على نبوءة ماركس بموت الفلسفة. ويشير هابرماس هنا إلى أربع ملاحظات رئيسية استوحاها من تطور الفلسفة الألمانية خلال فترة الخمسين سنة الأخيرة. الملاحظة الأولى هي حول التداخل والاتصال الشديد بين مختلف التيارات الفلسفية في ألمانيا والتي يوجزها في خمس تيارات هي:
 ظواهرية هوسرل وهايدجر،
 فلسفة جاسبر الممتدة من الهيجلية المحدثة إلى الوجودية،
ومدرسة الأنثروبولوجيا الفلسفية عند شيلر وبلسنر وكاسيرر،
 والفلسفة الاجتماعية النقدية عند لوكاش وبلوخ وهوركهايمر،
 وأخيرا الوضعية المنطقية عند كارناب وفيتخنشتاين.
 هذا الاتصال الذي يعني لدى هابرماس أن الفلسفة هي شكل آخر للعقل التواصلي الذي من خلاله يحاول هابرماس أن يؤسس لحداثة جديدة.
الملاحظة الثانية التي يبديها هابرماس حول الفلسفة الألمانية هو نزوعها نحو اللاتشخص، فهي وإن كانت ما تزال ملتصقة بأسماء أشخاص من خلال أوجه الخطاب الفلسفي الشائعة؛ إلا أنها تتجه نحو المزيد من العلموية، بمعنى أن الجمهور يتلقى الفلسفة كما يتلقى العلم، بالطريقة التركيبية التي تعتمد على تجميع مختلف النتائج والأبحاث لصناعة المشهد الكامل، والذي سيوصف لاحقا منفصلا عن الأشخاص. ويقل تدريجيا وهج الأسماء الكبرى لصالح جماعات الفلاسفة والتجمعات السكولائية. الملاحظة الثالثة تركز على تأثير الفاشية الأوروبية على التفكير الفلسفي لفلاسفة ألمانيا، ويبرر لذلك بعدة مشاهدات منها المسؤولية الفكرية التي ألقت بظلها على مداهني الحزب النازي ومنهم هايدجر وجهلن وجاسبر، وتساؤلهم الذي ظل مفتوحا عن العلاقة السببية بين المحتوى المعرفي الذي تنتجه الفلسفة والممارسة العملية المترتبة على هذا المحتوى، فمن يتحمل مسؤولية تحويل تلاميذ الفيلسوف وأتباعه لفلسفته إلى مشاريع عملية؟ وهنا يؤكد هابرماس أن هذا التساؤل ظل مفتوحا ولم يجد أية فلسفة تمتلك الجرأة على الإعتراف بأخطائها، بل ويستنتج أن من يعترف بأخطاءه فإنه يغامر بفقد هويته.
الملاحظة الرابعة والأخيرة تتعلق ببروز تيار نقدي تجاوز الفلسفات الكلاسيكية الأكاديمية إلى فلسفة أكثر قلقا وأكثر جرأة وقدرة على النزول إلى الشارع، كالأنثروبولوجيا الفلسفية وعلم الاجتماع النقدي اللذين تبنيا الكثير من مضامين العلوم التجريبية، وأخذت مدارس أخرى كالتحليل الألسني والأبستمولوجيا الوضعية والوجودية تهتم بقضايا ذات طابع عملي كالإعلام والسلوك العقلاني. وهكذا اتسمت الفلسفة في ألمانيا بعد الحرب بالجرأة النقدية والطابع الثقافي التشاؤمي في تناول مشاكل الحضارة، فأصبحت أقل اتساقا واتفاقا مع النظام السياسي والاجتماعي العام. يخلص هابرماس من هذه الملاحظات الأربع إلى الاقتناع بوجود خصوصية التفكير الفلسفي في ألمانيا يتمثل في امتزاج المثالية بالصيرورة، ويستشهد على ذلك بمجموعة نظريات وظواهر أساسية منها تأخر الرأسمالية في ألمانيا، وهزيمة الفلاحين، واستبدال البروتستانية الرسمية بالسلطة المدنية، وتأخر بروز الوحدة الوطنية، وبطء ترسخ نمط الإنتاج، والتسوية بين البورجوازية وطبقة النبلاء، والدور الذي لعبته النزعة الإنسانية الثقافية كبديل للدين، وقيود البيروقراطية على الفكر، وانتشار النخب الثقافية الطليعية، بالإضافة إلى تسلط أيديولوجيا الدولة. كل ذلك أسهم في رأي هابرماس في وجود ازدواجية عجيبة داخل المجتمع الألماني بين تعلقه بالمطلق من جهة وبين استجابته الملحوظة للتغيير الرأسمالي الصناعي وتحولاته الثقافية المصاحبة، لهذا لا يستغرب هابرماس من وجود هتلر والحزب النازي العنصري وفي نفس الوقت من تجاوز ألمانيا لكل الدمار الذي لحق بها في غضون عقدين من الزمن لتصبح من الدول الست الأكثر ليبرالية على مستوى العالم.
من هذا الجو ينتزع هابرماس سؤاله الأول حول دور الفلسفة في المستقبل، إذ يعود السؤال ليطرح نفسه من جديد وبقوة داخل ألمانيا؛ بعد كل ما لحق بالفلسفة الشاملة النسقية بعد هيجل، وبعد كل التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع الألماني. ويحاول لأجل الإجابة على هذا السؤال أن يثبت أربع قضايا رئيسية حول الفلسفة تمثل توجهاتها الأساسية، وينطلق في سبيل ذلك من أن نشأة التفكير الفلسفي لدى اليونان جاء من نزعتهم نحو الإحاطة بالكون والحياة والإنسان، والفلسفة لديهم ذات طابع أسطوري من خلال عنصر الثبات الشديد الذي تنزع الفلسفة نحوه بقوة انطلاقا من التفكير العقلاني لا الروائي في تصميم تأويلات كلية للطبيعة والإنسان في آن واحد. ومن هذا الفرق بين الأسطورة والفلسفة ككيانين يقدمان أنظمة أفكار تفسيرية؛ الأول يتسم بالثبات وتكريس النظرية بينما يتسم الثاني بإيجاد قنوات للتفاعل بين النظرية والممارسة؛ يدخل هابرماس في قضاياه الأربع التي يريد إثباتها. والهدف الأبعد لهابرماس من استعراضه لهذه القضايا أن يحدد التغيرات والتطورات المهمة التي طرأت على الفلسفة، وهذه ستفيد كثيرا في رأيه في تحديد فائدتها حاليا ومستقبلا.
تتعلق القضية الأولى بالعلاقة بين الفلسفة والعلم وفيما بينهما من اتحاد وافتراق، وينتهي هابرماس في ذلك بنتيجة الافتراق بينهما وبعدم قدرة الفلسفة على إنتاج تصورات ذات أهمية عن الكون والحياة، واتكالها على العلوم في ذلك وخصوصا العلوم ذات المنحى التجريبي. ولا ينفي هابرماس أن ما تبقى من الفلسفة ويفيد العلم هو الأبستمولوجيا؛ ولكن على حياء، فالعلم منذ انفصل عن الفلسفة فضّل أن يجاملها بالاستعانة بالنظرية من جهة وبالتأثير على ما تبقى من الفلسفة ليكون عمليا، وهذا الجزء الأخير تحديدا هو ما أسهم أكثر في تعجيل تنازل الفلسفة عن مجدها القديم.

القضية الثانية تتعلق بعلاقة الفلسفة بالتراث؛ وتحديدا بالتراث الذي يمد السلطة بالروح التي تجعلها فاعلة ومستمرة، فالفلسفة حتى هيجل؛ وإن كانت تبدو تناقض هذا التراث في أغلب موضوعاتها إلا أنها لم تخرج عن نفس الإطار الذي يعمل فيه هذا التراث لمد السلطة بالتصورات الكلية للكون والمجتمع، وهذا ما جعل الفلسفة في موضع المحاكمة عند تلامذة هيجل والأجيال التالية لهم، وما عزز ذلك؛ القطيعة التي وقعت بين الفلسفة العملية التي تحولت إلى علم تجريبي وبين الفلسفة النظرية التي تحولت إلى علم شكلي Formal Science مثلها مثل المنطق والرياضيات واللغويات التطبيقية. وهذا كله أسهم في أن تتحول الفلسفة تدريجيا إلى نوع من أنواع النقد والتمرد على السلطة، وأصبحت عامل تغيير للواقع بدلاً من تفسيره وتبريره، ومن ذلك نشأت مصطلحات كالفلسفة الثورية والفلسفة الرجعية.
القضية الثالثة التي يثيرها هابرماس متصلة بالعلاقة بين الفلسفة والدين، ويؤكد بداية على أنه رغم التقاء الفلسفة مع الدين في التعلق والاهتمام بالخلاص والحقيقة المنقذة والعلاقة بين الوحي وبين المعرفة الفلسفية؛ إلا أنه يشير إلى افتراقهما من جهة أن الفلسفة لم تهتم بتقديم المؤاساة والأمل في الخلاص، ولم ترغب في أن تكون معرفة يقينية بالنجاة. فإذا كان الدين اهتم بأن يستعد الإنسان للموت؛ فإن الفلسفة اهتمت بتعليم الإنسان كيف يموت. هذا الافتراق تحول لاحقا إلى افتراق أكثر حدية عندما تحولت الفلسفة إلى ناقدة لفكرة الإله الواحد وفكرة الخلاص المتصل به. وبالرغم من أن الفلسفة الميتافيزيقية كانت تنافس الدين في تقديم تصور كلي للخلاص والنجاة؛ إلا أنه حتى هذه الميتافيزيقيا قد تم تجاوزها لصالح إفراغ الدين من المعنى كليا. ومن هنا أخذت الفلسفة منذ القرن التاسع عشر في تفكيك العقائد اليهودية والمسيحية. ومع افتراق الفلسفة العملية عن النظرية، وانتقال مبادئ الخلاص إلى الفلسفة العملية؛ في نفس الوقت الذي أخذت الفلسفة النظرية تصبح طوباوية، ما جعل الفلسفة تتحول إلى الاهتمام بالتفكير النقدي في التاريخ البشري، ومنه عادت إلى الاهتمام بالخلاص؛ ليس أمام المطلق العظيم، بل أمام الإنسان نفسه هذه المرة.
القضية الرابعة تتعلق بجمهور الفلسفة، ففي الوقت الذي ظلت الفلسفة وإلى عصر هيجل متعلقة بالنخبة الذكية التي لديها متسع من الوقت لكي تمارس دور الدارس للقضايا الكلية والمسائل الشمولية للمجتمع والإنسان؛ أصبحت الفلسفة مع اهتمامها بالنقد الذاتي أكثر قدرة على الانتشار وأن تكون حديث الشارع في المجتمع. إن فكرة نخبوية الفلسفة منذ أفلاطون كانت هي المغذي الرئيسي لحصر السلطة في يد المتميزين بالذكاء، ولكن هذه الفكرة بدأت تهتز مع إصلاح التعليم في ألمانيا في القرن التاسع عشر؛ وخصوصا التعليم الثانوي؛ وتحسن أدواته وأساليبه ورقي مواضيعه، الأمر الذي أدى إلى تكوّن شريحة بورجوازية مثقفة لعبت دورا مهما في تشكيل الأيديولوجيات الطلائعية والتي فعّلت بدورها الفلسفة كأداة تغيير ونقل المجتمع إلى الأمام، ومع شيوع الفلسفة الماركسية وانتشارها بين العمال؛ أخذت نخبوية الفلسفة في التآكل، وهذا ما عناه ماركس عندما قال أنه لا بد من تجاوز الفلسفة لتحقيقها. وتحت تأثير هذه المتغيرات؛ بدأت الفلسفة تتخلى عن ادعاءاتها في تفسير الوجود لصالح اعتبار نفسها المرجعية الفكرية للنشاط الاجتماعي، ولتحقيق ذلك أخذت في نقد مبانيها القديمة وادعاءاتها في تمثيل المطلق الكلي أمام المجتمع، ونقد كل ما يتعلق بهذا المطلق كالتراث الديني، ونقد نخبويتها نفسها.
ينتهي هابرماس وبعد استعراض ما فعلته الفلسفة في نفسها؛ ينتهي مرة أخرى للتساؤل الذي بدأه عن دور الفلسفة في المجتمع؛ وينتقل هنا لمناقشة جملة من المؤشرات حول بعض ما يمكن للفلسفة أن تفعله وتقدمه، ويفترض هابرماس هنا أن الفلسفة وبعد كفاح طويل نجحت في الوصول إلى مرتبة النقد الذي ورث ما تبقى من موضوعات حية في الفلسفة، لهذا كل ما يتعرض له من أهمية للفلسفة يتناوله باعتبار أن النقد هو الوريث الشرعي لحوالي خمسة وعشرين قرناً من عمر الفلسفة. وينطلق في ذلك تحديدا بالتفصيل في أهمية وعلاقة الفلسفة للعلم إذ كما يبدو أن هابرماس يعتقد أن أجلى فوائد الفلسفة اليوم توجد في العلم. يتناول هابرماس مفهوم العلموية باعتباره نتاجا لاستقلال العلم وانفصاله عن الفلسفة، ويعني به إيمان العلم واعتداده بنفسه بصفته المصدر الوحيد للمعرفة، فالمعرفة إما أن تكون علمية أو لا تكون. إن الأبستمولوجيا بصفتها ما تبقى من فلسفة نظرية بعد موت الميتافيزيقيا؛ ظلت مخلصة للعلم إلى عهد قريب حتى بدايات القرن العشرين، غير أن التوسع التكنولوجي ونمو العلوم الإجتماعية والإنسانية جعلت هذه الأبستمولوجيا تعيد النظر في علاقتها بالعلم، وأصبحت شروط العلم ثقيلة بل وقاتلة للحضارة. وهكذا أخذت العلموية تخفض جناحها تدريجيا لصالح العلوم الإجتماعية تحت تأثير السياسة التي أصبحت على صلة وثيقة جدا بمنتجات العلم والوظائف التي يخلقها.
عادت المعرفة النظرية غير التجريبية للصدارة مع الضغط السياسي والاجتماعي على العلم، وأصبحت الإرادة التي تسعى السياسة لتحريكها؛ متوقفة على حجم الاتصال ما بين النظرية والممارسة، أو بصورة أخرى؛ بين منتجات التقنية وبين الفكر النقدي المصاحب لها. هذه العلاقة بين التقدم العلمي والتقني وبين الممارسة الاجتماعية أصبحت غير خاضعة بشكل كامل للتحليل التجريبي، ولا يمكن عقلنتها وضبطها مخبريا لاعتباطيتها الواضحة، وهذا جعل القضايا الاجتماعية والظواهر الإنسانية مما لا يمكن إخضاعها للمنطق العلموي، وهنا يفتح هابرماس نافذة أخرى؛ أو بالأحرى نوافذ أخرى، يستطيع النقد كوريث للفلسفة أن يؤدي مهام في غاية الأهمية، ومنها نقد علموية العلم والتقدم التقني، ونقد التصورات الموضوعية التي يقدمها العلم عن نفسه؛ بما يفسح المجال لإعادة ترتيب البيت العلمي ليتضمن مناهج العلوم الاجتماعية، كما يمكن للنقد أن يضطلع بمهمة الكشف عن أو توليد صور للعلاقة بين منطق البحث العلمي والتقني من جهة وبين منطق أنماط تشكل الإرادة من جهة أخرى. ولا يغفل هابرماس هنا عن الإشارة إلى الارتباط الوثيق بين الوعي التكنوقراطي كشكل من أشكال الحكم وبين تأثير العلاقة بين الممارسة والنظرية في نشوء الإرادة، ويعتبر ذلك حقلا آخر يمكن أن تنشط فيه الفلسفة لتقدم تصوراتها عن تبادل التأثير بين العلم والسياسة. وبشكل عام يجب على هذا النقد أن يعيد توحيد الفلسفة النظرية والفلسفة العملية من خلال تركيزه على نظرة العلم لنفسه بحيث يكون النقد في آن واحد نظرية علوم وفلسفة عملية.
ويلخص هابرماس رؤيته هذه بأن يحدد أنه لو قدر لفلسفة لا ينطرح حولها السؤال: ما الفائدة من الفلسفة؟ أن توجد؛ فلن تكون إلا فلسفة غير علموية حول العلم، أي فلسفة متواضعة ولا تتعالى بحجة اليقين التي لديها وفي نفس الوقت لا تنتظم في صورة مجموعة من العقائد تدرس، بل تكون في صيرورة بحثية مستمرة تصاحب العلم؛ تسبقه أحيانا ويسبقها أحيانا أخرى. فهي فلسفة حوارية تهتم بمد الجسور مع العلم وتلعب بذلك دورا سياسيا يمد التكنوقراط بالفكر النقدي المصاحب للتخصصات العلمية العالية بما يجعلهم أقدر على تشكيل وتحريك الإرادة. وفي الأخير يختتم هابرماس مقاله هذا بالإشارة إلى أهم تحد يواجه الفكر الفلسفي اليوم، وهو أفول الوعي الديني، فالفلسفة ظلت منذ فجر التاريخ رديفة الدين في صنع الوعي البشري، ومع ضعف حضور الدين في المجتمعات الأوروبية، وعدم قدرة الفلسفة على تقديم الأمل والمواساة والخلاص؛ فقد الإنسان الأوروبي الجزء الأكبر من هويته التي يستمدها من حواره مع الله، ما يجعله يعيش في سجن حقيقي كبير اسمه الحياة، لا يوجد منه خلاص، ومع هذا الشعور؛ فقد احساسه بالسعادة، ومال أكثر إلى التعويض عن هذا النقص بالبدائل الصغيرة عن الدين كالجماعات التأملية والتجمعات شبه الثقافية والنشاطات ذات الطابع السياسي اللاهوتي وجمعيات الحقوق وأحيانا بتشكيل تجمعات ذات طابع فوضوي عدمي ولاغائي. وأمام هذا التحدي الضخم؛ ستكون الفرصة الوحيدة المتاحة للفكر الفلسفي لمواجهة كل هذا الدمار للهويات الفردية والجمعية؛ هي بتحريك وتنشيط وحدة العقل الهشة بين المتغير والثابت بما يضمن حوارا عقلانيا مستمرا يستثير الروح الإنسانية التائهة لتصنع وتستمد الخلاص هذه المرة من عمقها المتمدد. وهنا هابرماس يقصد تحديدا نظريته الأساسية التي طرحها كتصحيح لنقدية مدرسة فرانكفورت، وهي فكرة العقل التواصلي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق