الذاكرة والعدل: موقف بول ريكور
الزواوي بغورة
يعتبر كتاب بول ريكور: الذاكرة، التاريخ، النسيان، من الكتب الأساسية التي أسهمت في تأسيس مفهوم جديد للذاكرة، قائم على ما سماه بفينومينولوجيا الذاكرة التي تتماشى مع اتجاهه الفلسفي العام، وهو الفينومينزلوجيا، ومنهجه التأويلي القائم على نوع من التداولية اللغوية. وعملا على تحقيق هذا المفهوم الجديد، صنف بول ريكور الذاكرة في ثلاثة مستويات هي:المستوى المرضي–العلاجي المتعلق بالذاكرة المَعُوقة، والمستوى العملي المتعلق بالذاكرة المحرَّفة والمتلاعب بها، والمستوى الأخلاقي والسياسي المتعلق: "باستحضار الذاكرة تعسفيا حين يتناغم الاحتفال بالذكرى مع إعادة التذكر"[1]. وعلى الرغم من أهمية هذه المستويات، إلا أننا سنهتم بالمستوى الأخير، وذلك نظرا إلى صلته المباشرة بمسألة سياسة الذاكرة العادلة التي تعد من المواضيع السياسية والأخلاقية الآنية، فماذا تعني هذه السياسة؟ لا تعني سياسة الذاكرة العادلة الوقوف عند مطلب (واجب الذاكرة) فقط، وإنما تحيل إلى مختلف المبادرات المتصلة بالوفاق والمصالحة في الحاضر والمستقبل، وإنزال الماضي في منزلته المحددة، وذلك درءا لتجاوزات استخدام الذاكرة، وهو ما يتطلب تضافر البحث العلمي والموقف الأخلاقي والسياسي. وإذا كان البحث العلمي من مسؤولية علم التاريخ، فإن الموقف الأخلاقي والسياسي يجب أن يقوم على مثل وقيم أساسية، ومنها على - وجه الخصوص- قيمة العدل والإنصاف والحرية، وعلى كل ما يسمح بتأسيس مواطنة حرة وعادلة ومشاركة في مؤسسات النظام الديمقراطي، وذلك لأنه من دون هذه المواقف والمبادئ، فإن سياسات المصالحة والوفاق الوطني سيكون مآلها الفشل.
لذا، فإن بعض القرارات الشجاعة تصبح لازمة لإنجاح كل سياسة مصالحة، وعلى رأس هذه القرارات الاعتراف بالآخر وبذاكرته وبحقه في ذاكرة مشروعة[2].
على أنه يجب علينا قبل أن نسترسل في هذا التحليل، أن نشير إلى معطى واقعي وسياسي متصل بهذه الدعوة إلى سياسة الذاكرة العادلة، ويتمثل فيما سبقت الإشارة إليه باسم سياق ثقافي وسياسي متميز بكثافة الذكريات أو بفائض الذكريات والمذكرات والاحتفالات التذكارية. وتكفي الإشارة هنا إلى موضوع المحرقة أو الهلوكوست، وما يثيره من جدل و نقاش، ليس أقله موضوع نفي الذاكرة(négationnisme)، وإلى سياسات العفو الدولية والوطنية الناتجة عن النزاعات والحروب الأهلية وما حملته من عنف وتجاوزات وجرائم بلغ بعضها حد جرائم الإبادة، مثل ما حدث في رواندا والبوسنة، والحروب الأهلية أو شبه الأهلية التي عرفها العالم العربي، وبخاصة في لبنان والسودان، والجزائر، وسوريا التي عرفت أشكالا من العسف والاستبداد.
لقدتطلبت هذه الأحداث المأساوية إجراءات سياسية وقانونية، ومنها موضوع المصالحة الوطنية وشروط قيامها على الحقيقة والعدل والإنصاف والحرية. من هنا أصبح التفكير في ذاكرة عادلة موضوعا مفضلا عند العديد من العلماء والمفكرين والكتاب والفلاسفة، ولقد تأثر ريكور ببعض هذه الأعمال، كما ناقش بعضها الآخر[3]. لا يمكن إقامة سياسة عادلة للذاكرة من دون تجاوز بعض أشكال الذاكرة، ومنها على وجه التحديد الذاكرة المعاقة (empêcher)، والذاكرة المتلاعب بها(manipuler)، والذاكرة الإلزامية (obliger).
تتصل الذاكرة الأولى بالتحليل النفسي، وتواجه مقاومة من قبل جراح الماضي وآلامه ؛ وتنتج الثانية من خضوعها للتشويه من قبل الأيديولوجيات والاحتفالات؛ أي التذكر بالقوة أو التذكر المجبر؛ وتخضع الثالثة لمبدأ الواجب والإلزام. ولذا، فإنها تتحول إلى أداة؛ أي يجب تذكر هذا وليس ذاك.
وإذا كانت الذاكرة تقع تحت تأثير الأمراض، وهو ما بينه علم الأعصاب وعلم النفس والتحليل النفسي، فإنه يمكن أن تخضع للتلاعب والمساومة، كما يمكن لها أن تحظى ببعض الحالات السعيدة، من بينها: حالات الاعتراف، والتذكر الارتدادي، والحالات التي تسمى بعمل الذاكرة التي تقوم بها بعض المؤسسات، والتي أطلق عليها فرويد (Freud) ، الذي يستعين به ريكور، اسم عمل العزاء(travail de deuil )[4].
إن الاهتمام بالذاكرة يحيل إلى الذاكرة المعطوبة، وإلى آليات الكبت التي تحجب ما أصابها من آلام وصدمات (traumatisme)، سواء على مستوى الذاكرة الفردية أو الجماعية، وما يتطلبه فعل التذكر أو ما يسميه بعمل الذاكرة (travail de la memoire)، وواجب الذاكرة (devoir de memoire)، وإن كان ريكور يفضل العملية الأولى على الثانية؛ أي خدمة الذاكرة على واجب الذاكرة. ولكن هذا لا يعني إنكاره أو التقليل من حكمة العهد القديم القائلة: تذكر(souviens toi)!
ويكمن سبب تفضيل ريكور لعمل الذاكرة عن واجب الذاكرة في المعطى السياسي، أو كما قال ذلك: "إننا لا نستطيع أن ننسى الظروف التاريخية التي طلب فيها واجب الذاكرة؛ أي أن الأمر حصل في أوربا الغربية وعلى الأخص في فرنسا، بعد عقود من الأحداث الرهيبة التي وقعت في منتصف القرن العشرين"[5]. وهذا ما أشرنا إليه سابقا باسم الأحداث التاريخية، وبخاصة حادث المحرقة، وما أصاب فرنسا من هزيمة أمام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وتشكيل حكومة موالية للنظام النازي. وفي هذا السياق، تمت المطالبة بالقيام بواجب الذاكرة الذي رأى فيه ريكورواجبا مفعما بالالتباس.
وللقيام بخدمة الذاكرة، وفي سياق تأسيس سياسة عادلة للذاكرة، استعان ريكور بما قدمه الكاتب والناقد الأدبي تزفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov)، وبخاصة في دعوته إلىضرورة: "استخراج قيمة مثالية من الذكريات الصادمة المؤلمة، وهذا لا يتم بحق إلا عن طريق تحويل الذاكرة إلى مشروع، وإن كانت الصدمة تحيلنا إلى الماضي من أجل الذاكرة، فإن القيمة المثالية توجهنا نحو المستقبل"[6]. لذا، يرى ريكور أن واجب الذاكرة يجد مغزاه ويتحرر من الإكراه، عندما يرتبط بفكرة العدالة. لماذا؟
أولا، لأن: "العدالة هي التي تستخرج من ذكريات الصدمة قيمتها المثالية، فتقلب الذاكرة إلى مشروع، ومشروع العدالة هذا بعينه هو الذي يعطي لواجب الذاكرة شكل المستقبل والأمل"[7].
ثانيا، لأن: "فضيلة العدالة، من بين كل الفضائل هي الفضيلة التي تتجه بطبيعة تكوينها وامتيازها نحو الغير، بل يمكننا أن نقول إنّ العدالة تشكّل العنصر المكون لغيرية كل الفضائل، وهي التي تنقذها من اختصار الطريق بين الذات عينها والذات عينها. إن واجب الذاكرة هو واجب إقامة العدل عن طريق الذكرى لآخر غيرنا"[8].
ثالثا، لأن هنالك مفهوما أساسيا متصلا بالذاكرةوالعدل، ألا وهو مفهوم الدَّين، يقول ريكور: "إن فكرة الدين لا تنفصل عن فكرة الميراث. إننا ندين لأولئك الذين سبقونا بقسم مما نحن عليه. إن واجب الذاكرة لا يقتصر على الاحتفاظ بالأثر المادي الكتابي أو غير المكتوب للوقائع الغابرة، بل ينمي الشعور بأننا ملزمون نحو هؤلاء الآخرين الذين سنقول عنهم لاحقا إنهم لم يعودوا موجودين، ولكنهم سبق أن كانوا. دفع الدَّين، كما نقول، ولكن كذلك إخضاع الميراث إلى تصفية حساب"[9].
رابعا، إعطاء الأولوية الأخلاقية للضحايا، مع ضرورة الانتباه إلى أن: "وضعية الضحية تميل نحو أن تغلق جماعة تاريخية على مأساتها الخاصة، وأن تقطع عنها معنى العدالة"[10] .
وبناء عليه، فإنه إذا كانت الذاكرة ترتبط بالعدالة أو بالأحرى بواجب الإنصاف والعدلنحو الآخر من خلال التذكر، فإن هنالك الدَّين الذي ندين به لأسلافنا، وهو دين يجب علينا أن نؤديه. وللضحايا في هذه العملية الأفضلية والأولية، سواء من حيث التذكر أو الدَّين، على أن يقوم التاريخ بنوع من التصحيح الدائم للحقيقة كما تظهر في الذاكرة.
لا يتعلق العدل في نظر ريكور، بوضع سلم لاستحقاق، وإنما بالمساعدة على أن يجد كل واحد مكانته مع الحفاظ علىالمسافة التي تبعده عن خصومه. كما يعني العدل إنصاف الضحايا، وأن لا أحد أهم من الآخر، وهذا يعني الاحتكام إلى مبدإ المساواة. وفي تقدير ريكور، فإن الذاكرة المجروحة لا تلتئم جراحها فقط بعمل الذاكرة، وواجب الذاكرة، وإنما كذلك بشيء يسميه: القيام بالعزاء والحِداد. ويتميز الحداد عن الشكوى والحزن والنواح من حيث أن الحداد/العزاء هو القبول بفقدان عزيز لا يعوض؛ أي القبول بما: "يتعذر ترميمه وإصلاحه في ملكيتنا وحيازتنا، وبما لا يمكن إصلاحه في نزاعنا، وبما لا يمكن فك رموزه في أقدارنا"[11].
وبما أن ريكور يفضل خدمة الذاكرة على واجب الذاكرة، فإنه يرى أن أفضل استعمال لجراح الذاكرة يبدأ بممارسة عمل الذاكرة، والعقبة التي يجب مجابهتها وتجاوزها في هذه المهمة هي بلا أدنى شك عقبة النسيان، وبخاصة انمحاء الأثر، وصعوبة تذكر التجارب المؤلمة والمخزية.
من هنا، وجب التحلي بالشجاعة في مواجهة النسيان ومحو الأثر، والعمل على جمع الذكريات وحفظها بواسطة مؤسسات وقوانين وأدوات وإمكانيات وطرائق في البحث والحفظ. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن القيام بذلك؟ ليس هنالك من سبيل غير تشجيع السرد والرواية والحكي والقص والاستمرار فيه ومداومته، مع ضرورة الوفاء بكل ما يتصل بالجوانب السياسية والأخلاقية، وبخاصة فيما يتعلق بموضوع العدالة. يقول ريكور: "يجب إنصاف أولئك الذين عرفناهم، وأولئك الذين نجهلهم>>[12]. و بالتالي، فإن ما يسمى واجب الذاكرة يقتضي بالأساس واجب عدم النسيان، وهذا يعني أن الجزء الأساسي من البحث عن الماضي، يكمن في تعليم عدم نسيانه.
إن التحدي الأكبر في كل عملية تذكر، يتمثل في ما توجهه الذاكرة من تلاعب واستغلال (instrumentalisation/exploitation)، وما يؤدي إليه من ظهور أشكال سلبية من الذاكرة كالذاكرة الزائدة (trop de mémoire)، أو قلة في الذاكرة (pas assez)، وبخاصة من جهة ارتباطها بالهوية، حيث تظهر الذاكرة هشاشتها وسهولة تعرضها للاستغلال والتلاعب. فما هي العوامل التي تؤدي إلى هذا التلاعب؟
يقدم ريكور ثلاثة عوامل أساسية متصلة بهشاشة وضعف الذاكرة، وبالتالي سهولة خضوعها للاستغلال والتلاعب، وهذه العوامل هي: العلاقة بالزمن، والعلاقة النزاعية بالآخر، وأخيرا العلاقة بميراث العنف التأسيسي. و يعني هذا العامل الأخير، أنه لا وجود لجماعة تاريخية ولدت من دون علاقة أصيلة بالعنف والحرب، وهو ما يتم الاحتفال به باسم الأحداث المؤسسة، وهي عبارة عن أفعال عنيفة تم صبغها بصبغة الشرعية من خلال قيام الدولة، كالاحتفال على سبيل المثال بأعياد الاستقلال والتحرير[13].
وممّا لا شكّ فيه، أن هنالك عوامل عديدة تقف وراء التلاعب بالذاكرة، وبخاصة عندما يتعلق بالمطالبة بهوية معينة وبالتعبير العلني عن الذاكرة. ومن أهم هذه العوامل التي يتوقف عندها ريكور عامل الأيديولوجية[14]، فإذا كان معروفا دور الأيديولوجية في النظم السياسية والاجتماعية، فإن ما يجب الإشارة إليه هو دورها في إعطاء صبغة شرعية للنظام السياسي، والدفاع عن مصالحه ورؤيته، وتوحيد المتنوع داخل المجتمع في نسق رمزي واحد، وتقديم أساس للفعل والعمل المشترك.
وتقوم القصص والروايات أو السرد عموما بدور ووظيفة تثبيت الذاكرة المؤدلجة من خلال القصص التأسيسية التي تروي المجد والإذلال، والانتصار والهزيمة، والكرامة والهوان. وبالطبع، فإن العنصر الأيديولوجي حاضر في عملية التشويه والتزوير والتحريف، وذلك من خلال لعبة القسمة بين تاريخ مسموح به ورسمي، وتاريخ مرفوض ومنسي، كما يتم تثبيت الذاكرة والتدريب عليها من خلال مؤسسة التعليم[15].
وما يعنينا في هذا السياق هو ما تقوم به الأيديولوجية من استغلال وتلاعب بالذاكرة بطرق عديدة وبمواد مختلفة أهمها التصوير السردي؛ وذلك لأن السيطرة أو الهيمنة لا تكتفي بالإكراه الفيزيائي، وإنما بالترغيب الخيالي. يقول ريكور: "حتى الطاغية يحتاج إلى خطيب متصنع، وإلى سفسطائي كي يعطي سندا كلاميا لمشروعه في الإغراء والترهيب"[16]. يظهر هذا جليا في عمليات السرد المختلفة، حيث يتم الربط بين الذاكرة وتشكل الهوية، وتشكيلها بمواد سردية معترف بها، وبرفض أو عدم الاعتراف بهويات أخرى أو تشويهها أو نفيها، وذلك كله يعود إلى الطابع الانتقائي للسرد المدعوم بإستراتيجية ماكرة للتذكر والنسيان. ولذا، فإن الهيمنة التي تضمن بعض جوانبها الأيديولوجية لا تقتصر في نظر ريكور، على الرقابة الفيزيائية، وإنما تتعدى ذلك إلى الجوانب الرمزية لحياة الإنسان، وكما قال: "فإن السرد المفروض يصبح أداة مفضلة لهذه العملية"[17].
ويتصل التلاعب بالذاكرة بواسطة الإيديولوجية، باستغلال آخر للذاكرة يظهر على مستوى التعليم والتربية، ويتمثل ذلك في الذاكرة المفروضة من خلال جهاز التعليم الذي يشخص بشكل مباشر في ما يعرف بالتاريخ الرسمي، أو التاريخ المسموح به، أو التاريخ المعلن، أو التاريخ المحتفى به. وما ينبغي أن يكون منا على بال هو أن كل ذاكرة متلاعب بها أو مستغلة، تتميز بأنها ذاكرة محددة ومغلقة ومسيَّجة، وهو ما يؤدي إلى تحديد وغلق الهوية ذاتها[18]. والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن حفظ الذاكرة من الاستغلال والتلاعب الأيديولوجي؟ وكيف يمكن استعمالها استعمالا منصفا وعادلا؟ إن الاستعمال العادل للذاكرة، يفترض أن تكون الهوية متنورة وواعية بتجاوزات الذاكرة، من هنا وجب القيام بما يسميه بعمل الذاكرة؛ فهل يعني ذلك حصرها في عمل المؤرخين؟
يرفض ريكور حصر خدمة الذاكرة في عمل المؤرخين، ويؤكد على أن الذاكرة يخدمها الجميع[19]. ولقد استعان في هذا السياق بمفهوم الفيلسوفة حنة ارندت (Hanna Arendt) للمجال العام، حيث تلتقي الهويات الذاتية والجماعية، وحيث تترابط الذكريات الخاصة والجماعية، كما ظهر ذلك في حدث الثورة الفرنسية على سبيل المثال.
وتتميز خدمة الذاكرة بملمحين، هما: الطابع الإلزامي الخارجي والداخلي على السواء. يجيء الإلزام الخارجي بناء على طلب من سلطة معينة، ولكن قد يجيء من رغبة داخلية تصبح ملزمة. وهنا تطرح مسألة العدالة في عملية التذكر وعلاقتها بمؤسسة القضاء. وهذا يستوجب التساؤل عن علاقة العدالة بخدمة الذاكرة.
أشرنا إلى صلة واجب الذاكرة بالعدل، حيث أكد ريكور على مفهوم العدل من حيث علاقته بالآخر، واستعماله لمفهوم الدَّين والميراث، وإعطاء الأولوية للضحايا، والقيام بعملية سردها وروايتها. وباختصار، فإن العدل يتحقق بأمرين، هما: إنصاف الضحايا بسرد ذكرياتهم، واعتماد مبدإ المساواة. على أن هنالك وجها آخر يطرحه ريكور في سياق عملية خدمة الذاكرة، ويتمثل في الآتي: إذا كانت الذاكرة هي ضمان شيء ما قد حدث، وذلك وفقا لما نتذكره، فإن هنالك خطرا يحدق بهذه العملية، ألا وهو خطر الوقوع في الخطأ، لذا وجب الحذر، لأن من الممكن للذاكرة أن تؤدي إلى نوع من التجاوزات. وبعض التجاوزات مَرَضِيَّةٌ، وذلك لأن الذكريات ليست ملك يميننا، وليست تحت تصرفنا، وإنما نبحث عنها، وهنالك صعوبات في التذكر، كما أن هنالك ما يسمى بمقاومة التذكر. من هنا وجب أن تتوافر في بعض الأحيان، المساعدة على التذكر، وهو ما يتم إنجازه في التحليل النفسي، أو ضمن سياسة عادلة للتذكر.ونظرا إلى كل هذه المحاذير، فإن ريكور لا يتردد في الإقرار بأن رأيه في هذا الموضوع متوافق مع رأي المؤرخ بيير نورا (Pierre Nora) القائل بغرابة الذاكرة، وبتحويل الذكريات إلى سياسات وطنية (patrimonialisation de la mémoire) بمعنى توطين الذاكرة. وعلى الرغم من التلاعب والاستغلال ومكر الأيديولوجية ومخاطر النسيان، فإن ريكور يرى أن هنالك إمكانيات عديدة للاستعمال المناسب لجراحات الذاكرة، ويحدد بعضها في الآتي:
أولا: ضرورة النظرة الكلية والشاملة.
ثانيا: ربط الذاكرة الفردية بالذاكرة الجماعية، واعتبار جراحوالآم الذاكرة شخصية وجماعية.
ثالثا: أفضل استعمال للذاكرة هو خدمتها والاهتمام بها، وبخاصة في مواجهة النسيان بمختلف أشكاله، وبخاصة النسيان التعسفي الذي يأخذ أشكالا مؤسساتية متمثلة في العفو(amnistie) والعفو الشامل (amnistie générale)، حيث يتم تجاوز النسيان، ويمكن أن يتحول إلى موضوع للمتابعة القضائية. وبلا شك، فإنه أمام النزاعات السياسية العنيفة لا تملك البشرية إلا سياسة العفو، لأنها السياسة الوحيدة التي يمكن أن تحقق ما يسميه بهدوء الذاكرة، مستشهدا في هذا السياق بالديانات السماوية التي تتحدث عن إله رحيم.
ولكن ما العمل إزاء النسيان القسري والمفروض، ونعني بذلك النسيان المتمثل في العفو العام؟ هنالك كما هو معلوم حق العفو الرئاسي، وهو امتياز يتمتع به الملك أو الرئيس ولا يعمل به إلاَّ من حين لآخر بحسب تقدير رئيس الدولة. وهنالك العفو العام الذي تكون مهمته إنهاء فوضى سياسية خطيرة تؤثر على السلم الأهلي قصد وضع حد للعنف القائم، وهو ما يسمى في بعض الأدبيات السياسية والقانونية بالعدالة الانتقالية. ويعتبر ريكور العفو العام بمثابة نسيان رسمي أو مؤسساتي. يقول: "غير أن العفو العام، بما هو نسيان مؤسساتي، يصل إلى جذور السياسي نفسها، ومن خلال هذا الأخير يصل إلى العلاقة الأعمق والأكثر اختفاء والمتعلقة بماض قام حوله المنع"[20] .صحيح أن العفو العام يهدف إلى المصالحة، ولكنه يؤدي إلى فقدان الذاكرة، وليس هنالك عائقواضح أمام اجتياز الخط الدقيق يحول بين العفو العام، وبين فقدان الذاكرة. يقول: "إذا حصل أن وقع هذا، فإننا نحرم الذاكرة الخاصة والجماعية من أزمة هوية إنقاذية، تسمح بإعادة استملاك مستنير للماضي مع عبء صدمته"[21]. وعليه، فإن العفو العام هدفه المنفعة على حساب الحقيقة والعدالة.
وإذا كان التحليل السابق يشير إلى تحفظ ريكور على العفو العام، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما البديل؟ يرى ريكور أن الحد الفاصل بين العفو وفقدان الذاكرة هو الصفح. على أنه يجب أن نميز بين الغفران الذي يتم بين الله وعباده، والعفو الذي يتم بين الحاكم والمحكوم، والصفح الذي يتم بين الإنسان وأخيه الإنسان[22]. والمقصود بالصفح عند ريكور ليس إسكات الشر، وإنما واجب قوله بصيغة هادئة ومسالمة، وبالتالي يعد الصفح حلا لمشاكل الذاكرة والتاريخ والنسيان معا.
نعم، إن الصفح ليس سهلا، ولكنه ليس مستحيلا، إنه في الحقيقة صعب، يقول: "إن كان صحيحا أن على العدالة أن تأخذ مجراها، حتى لا يكرس عدم معاقبة المذنبين، فإن الصفح لا يستطيع إلا أن يلجأ إلى مبادرات غير قادرة على أن تتحول إلى مؤسسات. هذه المبادرات التي تشكل مجهول الصفح تشير إلى المكان الحتمي للاعتبار الواجب نحو كل إنسان، خصوصا نحو المذنب"[23]. هذا، ونشير إلى اتصال طلب الصفح بالعطاء والهبة والوعد. وتسمح هذه العناصر في مجملها بإقامة ما يسميه بالذاكرة السعيدة.
لا ينتمي الصفح إلى المنظومة القضائية أو السياسية، كما لا ينتمي إلى مسألة الحق، وإنما يرتبط أكثر بالإحسان، ولذا فإنه ينتمي إلى ما يسميه باقتصاد الهبة أو العطاء (économie du don). وعليه، فإن الصفح ليس قيمة أخلاقية فقط، وإنما هو قيمة فوق-أخلاقية (supra-éthique). فما المقصود بذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال، يرى ريكور ضرورة الإجابة عن سؤال آخر، وهو: من يمارس الصفح؟ يقول: "لا يمكن أن تكون ممارسته إلا من طرف الضحية حتما، ومن هذه الجهة، فإن الصفح لايعدّ أبدا من المستحقات، إذ إنه لا يمكن أن يكون مطلوبا، بل إن طلبه يمكن أن يرفض بصورة شرعية"[24] .وبالطبع، فإن الصفح يرتبط بالذاكرة. لماذا؟ لأنه يشكل: "نوعا من شفاء الذاكرة، وهو إنهاء لحدادها، حيث إنها إذا ما تخلصت من عبء الدين، فإنها ستتحرر من أجل مشاريع كبرى؛ فالصفح يمنح للذاكرة مستقبلا"[25]. وبهذا المعنى، فإن الصفح يعد سندا ضروريا للعدالة، وتأسيسا للحق، وإشعاعا لروح السلام، وعاملا أساسيا في تحقيق ذاكرة سعيدة.
[1]- بول ريكور، الذاكرة،التاريخ، النسيان، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت-لبنان، 2009، ص 104
[2]- Eamonn Callan, Réconciliation et éthique de la mémoire publique, in, Philosophiques, vol. 29, N°2, 2002, p.326
[3]- انظر على سبيل المثال:
-Tzvetan Todorov, Les abus de la mémoire, Paris, Arlea, 1995.& Pierre Nora, Les lieux de mémoire, Paris, Gallimard, 1984.
[4]- François Dosse, Le moment Ricœur de l’opération historiographique, in, Vingtième siècle : revue d’histoire, N° 69, janvier-mars 2001, p.148
[5]-بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مصدر سابق، ص 145
[6]- المصدر نفسه، ص 144
[7]- المصدر نفسه، ص 174
[8]- المصدر نفسه، ص 148
[9]- المصدر نفسه، ص 148
[10]- المصدر نفسه، ص 149
[11]- Paul Ricœur, Le bon usage des blessures de la mémoire, in, Les résistances sur le Plateau Vivarais-Lignon(1938-1945); Témoins, témoignages et lieux de mémoires. Les oublies de l’histoire parlent, Editions du Roure, 2005.
[12]- Id.
[13]- Paul Ricœur, La mémoire, L’histoire, L’oublie, op-cite., p.99
- انظر حول هذا الموضوع: ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة الزواوي بغوره، دار الطليعة، بيروت-لبنان، 2003.
[14]- خص ريكور الأيديولوجية بكتاب عنوانه، - L’idéologie et L’utopie, Paris, Seuil, 1997
[15]- بول ريكور، الذاكرة،التاريخ، النسيان، مصدر سابق، ص 143
[16]- المصدر نفسه، ص 143
[17]- المصدر نفسه، ص 98
[18]- يحيل ريكور في هذا السياق إلى دراسة المفكر والناقد الأدبي تزفيتان تودروف، تعسف الذاكرة،1995.
[19]-يشير في هذا السياق إلى ما أنجزه أحد علماء الاجتماع الأمريكان، وهو: مارك اوزيال<Mark Osiel> الذي بحث في أثر أحكام القضاة في الرأي العام. ص 145
-[20] المصدر نفسه، ص 655
-[21] المصدر نفسه، ص 659
-[22] أجرينا هذا التمييز لأن جورج زيناتي مترجم كتاب: الذاكرة، التاريخ،النسيان، يستعمل كلمة الغفران ذات الدلالة الدينية المسيحية بدلا من الصفح المحايدة نسبيا. انظر ص 661
-[23] المصدر نفسه، ص 663. وحول صلة الصفح بالعطاء انظر، ص 691-700
-[24] المصدر نفسه، ص 254
-[25] المصدر نفسه، ص 254
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق