الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

حقيقة الجمال.. ما هي؟ / زكي نجيب محمود.


 حقيقة الجمال ... ما هي؟
زكي نجيب محمود.
(مقالة مأخوذة من كتاب "نافذة على فلسفة العصر".)
 


الجمال يبدأ شعورًا محسوسًا، ثم فكرة معقولة، ثم يتدرّج فوق ذلك درجات في ...سبيل الخير، في سبيل الكمال، في سبيل الله.
ما أيسر على الإنسان أن يقف أمام الشيء فيقول: الله، ما أجمله! يقول ذلك عن السماء لمعت أنجمُها في الليلة الظلماء، ويقول عن البحر اصطخب فيه الماء أو سكن، وعن الشمس مشرقة وغاربة، وعن الجبل والزهر. ثم يقوله عن فاتنات النساء، وعن روائع الأدب وبدائع الفن، وعن ألوف الألوف من مخلوقات الله وعن مصنوعات الإنسان، نعم ما أيسر على الإنسان أن يقول عن هذه الأشياء كلها إنها «جميلة » تروعه بفتنتها.

حيرة المتسائل في الجمال
حتى إذا ما عنّ له - كما يعنّ للفلاسفة عادة - أن يسأل نفسه ماذا يكون في الشيء عندما يكون الشيء جميلا؟
فعندئذ تراه في حيرة لا يدري من حقيقة الأمر شيئًا، إلا أن يطيل الوقوف ويطيل التحليل. فما هو باليسير عليه ولا على الفلاسفة أنفسهم، أن يقع أو يقعوا على الصفة التي لابد من توافرها في هذه الألوف من مختلف الأشياء التي يقال إنها «جميلة »، إذ ما دمنا نطلق هذه الكلمة الواحدة لتصف هذه الأشياء كلها بالجمال، فلابد أن يقابل تلك الكلمةالواحدة
جانب واحد مشترك يدخل في طبيعته كل ما هو جميل: السماء، والبحر، والشمس، والجبل، والزهر، والغادة الفاتنة،  ولوحة المصور، وقصيدة الشاعر!! فماذا عسى أن يكون هذا الجانب الواحد المشترك بين أمثال هذه المختلفات؟


الجمال في محاورات أفلاطون
لعل أفلاطون Plato أن يكون في مقدمة الفلاسفة الذين طرحوا هذا السؤال على أنفسهم ليحاولوا عنه الجواب المحكم الدقيق. طرحه أفلاطون في مواضع كثيرة من محاوراته، لكنه اختص به محاورة بأكملها، هي محاورة «هبياس الكبير: » بدأ سائل بقوله إن الأشياء الجميلة إنما توصف بالجمال لشيء فيها، فما هو؟ ثم مضى الحوار على الطريقة الأفلاطونية المعروفة، فيجيب مجيب عن السؤال المطروح، لكن إجابته سرعان ما يُتبين فيها شيء من عدم الدقة، ويظل المتحاورون يدخلون على العبارة تعديلا في أثر تعديل حتى يستقيم الأمر ويتضح.

الأشياء جميلة، بسبب شيء مشترك مجسّم فيها
وكان أول ما لفت أنظار المتحاورين في هذه الحالة، هو ضرورة أن تكون هنالك حقيقة «واحدة » هي التي نراها  متمثلة في هذه الأمثلة الكثيرة من الأشياء «الجميلة »، فمهما تعددت هذه الأشياء، فهي جميعا تشارك في فكرة واحدة،  أو في صفة واحدة. كأفراد الأسرة ينتمون جميعًا – على اختلاف أفرادهم - إلى أم واحدة. فالفرس الجميلة، والقيثارة
الجميلة، والإنسان الجميل )وهذه هي الأمثلة نفسها التي ساقها أفلاطون في محاورته المذكورة( كلها - على بعد  ما بينها من اختلاف - تنتمي إلى أسرة واحدة هي أسرة «الجمال »، فهل يكون ذلك إلا أن تكون هذه الأشياء كلها  مجسّدة لفكرة واحدة وإن اختلفت المادة المجسّدة في كل حالة؟
الأشياء تتفاوت جمالا، بنسبة ما فيها من عامل الجمال المشترك. ولكن هل يكون معنى ذلك أن هذه الأشياء الجميلة كلها على درجة سواء من الجمال ما دامت كلها جسّدت فكرة بعينها؟ كلا، فنظرة سريعة تكفي للدلالة على أن الجمال  فيها درجات تتفاوت بتفاوتها في قسطها من الحقيقة التي جسّدتها. فما من شك في أن الفتاة الجميلة والفرس الجميلة لا تقاس إليهما القيثارة والإناء في جمالهما. وها هنا يستشهد سقراط Socrates )في المحاورة( برأي ينسب إلى هرقليطس Heraclitus ، وهو أن أجمل القردة قبيح إذا قورن بالإنسان.
فيستطرد هبياس Hippias قائلاً: وكذلك أجمل الأواني قبيح إذا قورن بفتاة جميلة. ثم هكذا يقال في أجمل الفتيات  إذا قورنت بالإلاهات.

جمال الشيء لا يَرِد إلى نفاسة المادة التي صنع منها
ترى ما هو ذلك الشيء الذي تسهم فيه الأشياء الجميلة بأنصبة متفاوتة؟
أيكون مردُّ الأمر إلى نفاسة المادة التي هي قوام الشيء الجميل؟ وعندئذ يكون ما صنع من ذهب «أجمل » مما صنع
من نحاس أو من خشب أو من حجر؟
كلا! فنظرة سريعة أخرى تبين أن حجر التمثال قد يكون أجمل من أي شيء آخر صنع من الذهب، وها هو ذا فدياس يصنع تمثالاً رائعًا لأثينيٍّ، فيقد العينين من الحجر، وكان في مستطاعه أن يصوغهما عاجا، فهل يقال: إنه لو صاغهما من العاج لكانتا أجمل منهما وهما من الحجر؟

أيكون الجمال ملاءمة الشيء لما أريد منه أداؤه؟
لا، إن نفاسة المادة لا شأن لها بجمال الشيء المصنوع منها، وإذن فننتقل إلى فرض آخر، أفيكون مرجع الجمال
إلى ملاءمة المادة لما أريد منها أن تؤديه؟
وبهذا تكون كل مادة جميلة إذا ما وضعت في موضعها الصحيح، فالذهب جميل في موضعه الملائم، كما أن الحجر  جميل في موضعه الملائم، وهكذا... إنه لو كان الأمر كذلك وكفى، لكان جمال الشيء ليس نابعا من طبيعته، بل كان  جماله مرهونا بما ليس منه، كما نكسو الرجل الدميم بثياب جميلة، ثم نقول ها هو ذا قد أصبح رجلاً جميلاً، مادام
محوطا بمحيط جميل! إن إجابتنا عن حقيقة الجمال لا تكمل إلا إذا كان الجميل جميلاً مخبرا ومظهرا في آن معًا.

ثم أيكون جمال الشيء بسبب ما فيه اكتمال نفعه؟
لكننا نعود إلى فكرة ملاءمة الشيء للعمل الذي أريد له أن يؤديه، فنقف وقفة قصيرة حيالها، لنسأل: أيكون  جمال الشيء كائنًا في نفعه، وعندئذ يكون الجميل هو النافع والنافع هو الجميل؟ ألا إنها لفكرة تستحق النظر،  لأن الأمثلة على صوابها كثيرة... فالعين الجميلة لا تكون عمياء، أي أنه إذا ما عجزت العين عن أداء ما جاءت لتؤديه
استحال عليها في الوقت نفسه أن توصف بالجمال. وكذلك قل إن الجسم الجميل هو الجسم الخفيف الحركة القوي  القادر. وكذلك قل أيضًا في عالم الحيوان: إذ ماذا يكون الحصان الجميل إلا أن يكون هو الحصان الذي توافرت  فيه الصفات المطلوبة من سرعة وقوة. وقل هذا نفسه أيضًا في الأشياء بعد أن قلناه عن الإنسان والحيوان: فالعربات والسفن وآلات العزف وغيرها لا توصف بالجمال إلا لحسن أدائها لوظائفها. بل قل هذا نفسه عن النظم وطرائق العيش، كالنظم السياسية ونظم التعليم وأوضاع الحياة العملية من تجارة وصناعة وزراعة وغيرها، تجد كل شيء «جميلا » إذا هو أدى إلى الغاية منه خير أداء.
ولو صح هذا كله لصح أن نقول إن جمال الشيء هو نفعه وملاءمته لوظيفته، فالقدرة جمال والعجز قبح، والمعرفة جمال والجهل قبح، والقوة جمال والضعف قبح، والصحة جمال والمرض قبح.

مجرد الأداء لا يكفي، لأنه وسيلة وغاية  لكن المتحاورين في محاورات أفلاطون سرعان ما ينتبهون إلى أن الأداء مجرد الأداء لا يكفي، إذ قد يؤدى الشيء سوءا وشرا، أفنقول عندئذ إنه جميل؟ كلا، فلابد أن يضاف شرط مهم، وهو أن يكون الشيء قادرًا على أداء ما هو خير لكي يستحق أن يوصف بالجمال. غير أننا ها هنا بإزاء طرفين، هما: الشيء الذي هو أداة، ثم الفعل الذي يؤدى، أي أننا بإزاء علة ومعلول، فهل نطلق كلمة الجمال على الطرفين معا وفي وقت واحد؟ إننا لو فعلنا لوقعنا في خلط فكري يدمج جانبين مختلفين في شيء واحد، وإذن فلابد أن نُبقي من الطرفين على أحدهما دون الآخر، ولا مندوحة  لنا أن نبقى على الغاية لا على وسيلتها، والغاية هي – كما قلنا - الخير المرتجى لبلوغه عن طريق تلك الوسيلة، وإذن  فالخير في ذاته هو نفسه الجمال.
ثم ما بال الأحاسيس، ومتعتها بالشيء الجميل؟
على أن هذه النتيجة قد بدت للمتحاورين كأنما هي تتجاهل عنصرًا مهمًا في الأشياء «الجميلة » وهو المتعة  الحسية التي يستمتع بها مَن يرى الجميل أو يسمعه أو يلمسه أو يتصل به بأي حاسة أخرى غير البصر والسمع  واللمس؟ فما من شك في أن الْتذاذ حاسة معينة في كل حالة من حالات الجمال هو جانب من الموقف لا يجوز تجاهله
وإهماله عندما نبحث عن طبيعة الجمال، وإلا فهل يجوز أن أتجاهل استمتاع الأذن بـ «الصوت » في الموسيقى، والعين بـ «اللون » في التصوير؟ هل يجوز أن أغض النظر عن متعة «الحواس » بالتمثال الجميل وبالشعر المنظوم وبالقصص يُروى فيفتن؟... أقول إن المتحاورين في حقيقة الجمال كان لابد لهم أن يتنبهوا إلى هذه المتعة الحسية فيفسروها على ضوء النتيجة التي انتهوا إليها، وهي أن الجمال هو نفسه الخير.
فكان لابد لهم بادئ ذي بدء أن يفرقوا بين لذاذات الحواس المختلفة، لأن لذة الطعام والشراب والجنس لا تجعل من هذه الأشياء أشياء «جميلة »، ولأن الحاستين الوحيدتين اللتين لا تتعارض اللذة فيهما مع الجمال، هما حاستا البصر والسمع، فبالبصر يشهد المناظر الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء كذلك.

الجمال مزاوجة بين المتعة والفائدة
ولكن هل يكون المرئي جميلاً لأنه مرئي بالعين، والمسموع جميلاً لأنه مسموع بالأذن؟ إننا لو أجبنا بالإيجاب لكنا  بمنزلة من غض النظر عن أهم مشكلة في الموضوع كله، ألا وهي: ما هو الجانب «المشترك » بين المرئي والمسموع، الذي جعلهما معا يندرجان في مجموعة واحدة يطلق عليها اسم واحد، هو اسم «الجمال »؟ إنه لا مفر من الاعتراف بأن مصدر الجمال «المشترك » بين البصر والسمع، لابد أن يكون شيئًا غير البصر والسمع، شيئًا وراءهما يتخذ من البصر وسيلة كما يتخذ من السمع وسيلة، وذلك الشيء لا يكون إلا «الخير » أو إن شئت كلمة أدنى إلى أفهامنا اليوم فقل هو «النفع » أو «الصلاحية » أو الزيادة من لياقة الإنسان للقيام بوظائفه الحيوية بحيث يصبح إنسانًا أكمل.
وبهذا يتحدد معنى الجمال بالمزاوجة بين المتعة والفائدة، فلا الذي يمتع بغير فائدة ذو جمال، ولا الذي يفيد بغير  متعة بذي جمال، بل لابد من اجتماع الجانبين معا، على أن يُفهم من «الفائدة » معنى «الخير » بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من سمو وكمال.

كيف تستخدم الفكرة الأفلاطونية في تقويم مظاهر الجمال؟
هذا هو رأي شيخ الفلاسفة - أفلاطون - في حقيقة الجمال، كما ورد في محاورته «هبياس الكبير »، وإني لأوثر  ألا أقف بك عند حد الفكرة وسردها فذلك إن أفاد من الناحية العقلية الصرف، فجدواه قليلة من ناحية الذوق الفني  وغرسه وتدريبه، فكيف تستخدم هذه الفكرة الأفلاطونية في تقويمك لمظاهر الجمال على اختلافها؟

كيف تصنع وأنت إزاء شيء جميل، يُرَى؟
إنك - في ما أرى - لتحسن صنعا، وأنت إزاء شيء جميل - في الطبيعة أو في الفنون - إذا أنت ارتفعت في موقفك عندئذ درجة في إثر درجة، فتبدأ أول الأمر بإمتاع الحاسّة المعنيّة بالجانب الحسي الظاهر من ذلك الشيء الجميل،  فإن كان منظرًا - في الطبيعة أو في الفن - فاملأ بصرك بادئ ذي بدء بأطياف اللون كما تقع على حاسة البصر،
ولا تتعجل هذه الخطوة لأنها أساسية ومهمة، حاول أن تمعن النظر في شتى درجات اللون، وستجدها تعد في  المنظر الواحد بالمئات ولا أقول بالعشرات أو بالآحاد، ثم حاول أن تدرك ما بين تلك الدرجات اللونية من تشابك  وامتزاج، حتى إذا ما أمتعت حاسة البصر بما أنت حياله من بناء لوني، أخذت بعد ذلك تنظر - بعين العقل هذه المرة
لا بعين الجسد - تنظر إلى ما قد يؤدي إليه هذا المنظر الذي أمامك من فكرة وراءه، فأنت عندئذ لم تعد تنظر إلى الجزئية الواحدة التي أمامك على أنها غاية في ذاتها، تقف عندها ولا تنفذ خلالها، بل تنظر إليها على أنها أحد الأمثلة الكثيرة التي جاءت لتجسّد فكرة بعينها، فليست هي بذات قيمة جمالية إلا إذا أوصلتني بواسطة التأمل العقلي إلى مستوى أعلى من مستواها، أي إلى المستوى المعقول الذي هو أعلى درجة من مستواها المحسوس. ولو استطعت هذا الصعود في مدارج عن طريقها، ازددت لها تقديرا بقدر ما تمكنني من أن أجاوزها وألا أقف عندها مكتفيا بها.
وإلى هنا تكون قد نظرت إلى المنظر على بعدين: البعد الحسي، والبعد العقلي.
ثم ماذا؟
ثم تحاول بعد ذلك أن تنظر إلى الفكرة العقلية التي وصلت إليها، لا على أنها نهاية الطريق، بل على أنها بدورها مرحلة وسطى، أتخطاها إلى ما هو أعم منها في مدارج الأفكار، ثم إلى ما هو أعم، وهكذا دواليك حتى تبلغ القمة العليا في الصعود، وما تلك القمة العليا - عند أفلاطون – إلا الخير، لأنه إذا كان العالم كله مستهدفا في سيره هدفا،
فإنه إنما يستهدف ما فيه كماله بعد نقص، وهذا الكمال المنشود هو الخير في لغة أفلاطون.
وتستطيع أن تقول عنه إنه هو الله إذا أردت لغة أخرى أقرب إلى الفهم.
فتأمّل الجمال الذي يبدأ - كما رأيت - من مشهد مرئي بالعين، ينتهي بالمتأمل إلى حالة من الشهود الصوفي، الذي  شأنه أن يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال.

كيف تصنع وأنت بإزاء شيء جميل يُسمع؟
وأضرب لك مثلا تطبيقيًا آخر بشيء «مسموع » بعد أن ضربت لك مثلا بشيء «مرئي ». فافرض أن الشيء الجميل  الذي أنت بإزائه هو قصيدة من الشعر - ولتكن قصيدة
أبي العلاء:
غير مُجدٍ في ملّتي واعتقادي
نوْحُ باكٍ ولا ترنّم شادي.

إلخ - كيف أتذوقها مستعينًا بالرأي الأفلاطوني الذي بسطته لك عن حقيقة الجمال؟
تبدأ بالمركَّب الصوتي الذي تتلقاه الأذن من تلاوة القصيدة بصوت مسموع، ومرة أخرى أوصيك ألا تتعجل هذه المرحلة من مراحل الطريق، لأنها أساسية ومهمة. فأنصت إلى كل نبرة صوتية تأتيك من كل حرف منطوق، حتى تملأ سمعك بالنبأ الصوتي كله كيف تتشابك نبراته على تأليف مركب موسيقي واحد.
حتى إذا ما فرغت من هذه المرحلة الحسية كنت بمنزلة من جاوز عتبة الدار، لا ليقف عندها، بل ليوغل صاعدا في طبقاتها العليا. فها هنا تصعد من مستوى «المحسوس » إلى مستوى «المعقول »، أعني أن تحاول إدراك الفكرة التي
جاءت هذه القصيدة لتجسّدها، فكأنما هذه القصيدة أداة من أدوات كثيرة غيرها، مهمتها أن توصلنا إلى إدراك فكرة بعينها.
وأحسب أن الفكرة التي نصل إليها وراء السطح الصوتي في هذه القصيدة، في حيادية الحقيقة الكونية الكبرى حيال عواطف الإنسان على اختلافها، فبكاء الباكي وترنيم الشادي كلاهما عند الحقيقة الكونية - وإن شئت فقل عند العلم الطبيعي - موجات من الصوت تقاس أطوالها وترسم مساراتها وتحسب سرعاتها... وهكذا. وأما أن يكون بعضها مبطنا بحزن وبعضها الآخر مبطّنا بسرور، فذلك شيء يَرِد في حياة الإنسان الخاصة، ولا يرد في الحقيقة الكونية الموضوعية الخارجية التي في خضمها تنطمس معالم الأفراد. وإن القصة لتؤكد هذه الفكرة في صور متلاحقة، فصوت النعيِّ وصوت البشير كلاهما «صوت » لا أكثر ولا أقل، وهديل الحمامة على غصنها «صوت » كذلك، ربما سمعته أنت فخلعت عليه من عندك بطانة عاطفية فتقول إنه بكاء أو إنه غناء، وأما عند الحقيقة الكونية فلا هو  هذا ولا ذاك، ولكنه «صوت » وكفى، والصوت من ظواهر الطبيعة التي يضبط العلم قوانينها.
بعد مستوى الحس، ومستوى الفكر، نصعد إلى آخر الشوط: الكمال ... وصلنا إذن إلى مستوى «فكري » بعد المستوى «الحسي » في قراءتنا لقصيدة أبي العلاء.
ثم ماذا؟
ثم نمضي في الطريق نفسها، فلا نترك الفكرة التي بلغناها متوحدة معزولة كأنما هي صخرة في فلاة، بل ننظر في صلاتها بغيرها من الأفكار، صاعدين من تخصيص إلى تعميم، حتى نبلغ آخر الشوط، وهو دائمًا – عند أفلاطون - حالة الكمال التي يسعى إليها الكون بكل ما فيه من متناقضات ظاهرة ومن جزئيات ماضية عابرة.
إننا بهذا الصعود من المستوى الحسي أولا، إلى المستوى العقلي ثانيا، ثم إلى المستوى الخلقي ثالثا، نكون قد اعتصرنا  كل ما نستطيع أن نعتصره من جمال في الشيء الجليل الذي ننظر إليه نظرة متفوقة عميقة، نهتدي فيها بالفكرة الأفلاطونية عن حقيقة الجمال.

وإني لأعلم أنني بمحاولة التطبيق ربما أكون قد بعدت قليلا أو كثيرًا عن الفلسفة الأفلاطونية بمعناها الذي يعرفه الدارسون في قاعات الجامعات، لكن شفيعي في ذلك هو أن أزيد من القدرة على «تذوق » الجمال عند القارئ، إلى  جانب الزيادة من حصيلته «العلمية » المجردة.
وموعدنا مقالات أخرى، نبسط فيها مذاهب أخرى في حقيقة الجمال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق