الجمعة، 7 أكتوبر 2016

إيمان العقلاني؛ برتراند راسل./ ترجمة عديّ الزعبي.




إيمان العقلاني



ترجمة: عدي الزعبي


هذا المقال هو الثاني في سلسلة من أربع مقالات للفيلسوف البريطاني برتراند راسل، عن الحرية والليبرالية والدين والعقلانية، ستنشرها الجمهورية تباعاً؛ وستصدر قريباً، مع ست مقالات أخرى لراسل، في كتاب بالتعاون بين مجموعة الجمهورية ودار ممدوح عدوان للنشر.


كان راسل معادياً لكافة الأديان بشدة، ولكن من منطلق عقلاني و ليبرالي. أولاً، من منطلق عقلاني، يرى راسل أن لا أدلة لدينا في المسائل الدينية، من قبيل وجود الخالق مثلاً. لذا يصرّ راسل على كون إيمان العقلاني لا-أدرياً و ليس ملحداً. ثانياً، من منطلق ليبرالي، يدافع راسل عن حق المؤمنين والملحدين في عرض آرائهم بحرية كاملة. من هنا، انتقد راسل بشدة الاتحاد السوفييتي الذي فرض الإلحاد على الناس، كما انتقد الديمقراطيات الغربية التي، في عصره، كانت تتشدد مع الملحدين، على الأقل على المستوى الاجتماعي.1

في العقلانية، اتبع راسل تعاليم سلفه ديفيد هيوم، الذي رأى أن العقل محدود في شؤون الأخلاق. لذا، كون المرء عقلانياً يعني أن يسلّم بأن هناك الكثير من الأمور التي لا نعرفها. هذا يؤدي إلى موقف متسامح منفتح في شؤون الدين والأخلاق.

في المقابل، تيارات لاعقلانية، كفلسفة نيتشه، عادت المسيحية و دعت إلى أخلاق القسوة والوحشية؛ و قد استخدم النازيون نيتشه بنجاح باهر كما نعلم. التيارات التاريخانية، التي تدعي أنها تثبت أن الدين بأكمله خاطئ، وينتمي إلى مرحلة تاريخية مختلفة متخلّفة، كفلسفة ماركس وأتباعه وغيره من التاريخانيين، أدت إلى فرض الإلحاد، ورفض التسامح، طالما أنها تملك الحقيقة. موقف راسل العقلاني الليبرالي المنفتح، هو في العمق موقف متسامح قائم على قبول الآخر واحترام رأيه. نتمنى من القارئ أن يفكر ملياً في هذه المواقف الثلاثة، وفي مآلاتها في الفلسفة الغربية والتاريخ الغربي، وفي انعكاساتها على ثقافتنا. 

في هذا المقال يعرض راسل بعضاً من آرائه في الدين والحرية والعقلانية والليبرالية.

نتمنى أن يفتح هذا المقال باباً للنقاش الحر في شؤون الدين والعقل. 2

عدي الزعبي

*****

لا نحتاج إلى قوى خارقة للطبيعة كي نجعل الإنسان ودوداً

 نشر هذا النص لأول مرة عام 1947.

عندما أحاول أن أبحث في المصادر الأصلية لآرائي، سواء العملية أو النظرية، أجد أن أغلب هذه الآراء تنبع بشكل كبير من إعجابي بخصلتين: المشاعر الطيبة والتطابق مع الوقائع. لنبدأ بالمشاعر الطيبة: تنشأ معظم الشرور الاجتماعية والسياسية في العالم بسبب غياب التعاطف وحضور الكراهية، والحسد، أو الخوف. تنتشر هذه المشاعر العدائية بين الأمم؛ وفي أحيان كثيرة بين الطبقات المختلفة والعقائد المختلفة داخل الأمة الواحدة؛ في الكثير من المهن يكون الحسد عائقاً أمام الاعتراف بالأعمال المميزة؛ كراهية اليهود، وقمع الزنوج، واحتقار كل من هو ليس أبيض، جلبت وما زالت تجلب عذاباً هائلاً على المضطهِدين كما على المضطهَدين. يولّد كل فعل أو شعور عدائي ردّ فعل يزيد من حدته ويولّد سلسلة من العنف والظلم لها حيوية مريعة. يمكن التغلب على هذا فقط إذا زرعنا في أنفسنا وفي الشباب مشاعر الصداقة بدلاً من العداء، والأماني الطيبة بدلاً من الضغينة، والتعاون بدلاً من التنافس.

إذا سُئلتُ «لم تؤمن بذلك؟» لن ألجأ إلى أية سلطة خارقة للطبيعة، بل فقط إلى الرغبة العامة بالسعادة. العالم المليء بالكراهية هو عالم مليء بالأسى. كل فريق، عندما توجد الكراهية المتبادلة، يتمنى أن يعاني الفريق الآخر فقط، ولكن هذا نادراً ما يحصل. وحتى أكثر المضطهِدين نجاحاً يمتلئون بالخوف؛ ملّاك العبيد، على سبيل المثال، يهجسون بالخوف من تمرد العبيد. من وجهة نظر الحكمة الدنيوية، المشاعر العدائية وتقييد التعاطف حماقة. الثمار ستكون الحرب والموت والقمع والعذاب، ليس فقط للضحايا الأصليين، بل أيضاً، وعلى المدى الطويل، للجناة أو لأحفادهم. أما إذا تعلمنا جميعاً كيف نحب جيراننا فسيتحول العالم إلى فردوس لنا جميعاً بسرعة.

التطابق مع الوقائع، والذي أقدّره تالياً فقط للمشاعر الطيبة، يتضمّن بشكل عام أن نصدّق فقط ما نجد دليلاً عليه، وليس لأن الإيمان بشيء ما مريح أو يشكل مصدراً لمتعتنا. في غياب التطابق مع الوقائع، ستخسر المشاعر الطيبة غالباً عن طريق خداع الذات. كان من الشائع أن يقول الأثرياء إما أنه من الممتع أن تكون فقيراً أو أن الفقر ناتج عن الكسل. يرى بعض الأصحاء أن كل الأمراض سببها الانغماس بالملذات. لقد سمعت من بعض صائدي الثعالب أن الثعالب تحب أن تُصطاد. من السهل جدّاً على من يملكون سلطة استثنائية أن يقنعوا أنفسهم بأن النظام الذي يستفيدون منه يجلب سعادة أكبر لضحاياه من أي نظام آخر أكثر عدلاً. وحتى عندما لا يوجد أي انحياز، فقط عن طريق التطابق مع الوقائع نستطيع الوصول إلى المعرفة العلمية المطلوبة لبلوغ غاياتنا المشتركة. تذكّروا أننا اضطررنا للتخلي عن الكثير من الأحكام المسبقة المحبوبة لتطوير الطب والصحة. لنأخذ مثالاً آخر: كم من الحروب كان من الممكن تجنّبها لو أن الطرف المهزوم قد قيّم قدراته بدقة بدلاً من الغرور والأماني الكاذبة.

عرّف لوك 3 مذهب التطابق مع الوقائع، أو حب الحقيقة، على أنها «عدم قبول أية قضية بثقة أكبر مما يسمح به الدليل الذي يدعمها». هذا التعريف مقبول لكل الأمور التي من المعقول أن نبحث عن برهان لها. ولكن بما أن البراهين تتطلب مقدّمات، من المستحيل إثبات أي شيء إلا إن قبلنا بعض الأمور دون إثبات. لذا يجب أن نسأل أنفسنا: ما هو نوع الأشياء التي من المعقول أن نؤمن بها دون برهان؟ يجب أن أجيب: حقائق التجربة الحسية وأسس الرياضيات والمنطق، بما فيها المنطق الاستقرائي المستخدم في العلوم. هذه أمور من الصعوبة بمكان الشك فيها، ونجد اتفاقاً كبيراً عليها بين البشر. ولكن في الأمور التي نختلف فيها، أو التي تتذبذب فيها قناعاتنا، علينا أن نبحث عن براهين، أو، إن لم نستطع البرهنة عليها، فعلينا أن نعترف بجهلنا. يعتقد البعض أن التطابق مع الوقائع يجب أن يكون محدوداً. بعض الإيمان، يقولون، مريح ومفيد أخلاقياً في آن معاً،  بالرغم من غياب أي أرضية علمية صالحة لافتراض صحته؛ هذا الإيمان، بحسب ما يقولون، يجب ألا نبحث فيه بشكل نقدي. أنا نفسي لا أستطيع القبول بمثل هذه الآراء. لا أستطيع أن أصدّق بأن البشرية ستتحسن إن امتنعنا عن البحث في هذا أو ذاك السؤال. أي أخلاق محترمة لا تحتاج لتؤُسس على المراوغة، والسعادة المستقاة من الإيمان غير المبني على أية قاعدة إلا الاستمتاع به لا يمكن قبوله دون تحفظ.

 ما سبق ينطبق بشكل خاص على الإيمان الديني. تربّى معظمنا على الإيمان بأن الكون أوجده خالق حكيم وقادر، وغاياته خيرة وإن بدت لنا أحياناً شريرة. لا أعتقد أننا يجب أن نرفض اختبار هذا الإيمان كما نختبر معتقداتنا الأقل مساساً بمشاعرنا من هذا الإيمان. هل هناك أي دليل على وجود مثل هذا الكائن؟ بلا شك، الإيمان به مريح وكان له بعض الآثار الأخلاقية الحسنة على السلوك والأشخاص. ولكن هذا ليس بدليل على صحة الإيمان. من جهتي، أعتقد أنه فقد كل معقولية كان يملكها منذ اكتشفنا أن الأرض ليست مركز الكون. طالما اعتقد الناس أن الشمس والكواكب والنجوم تدور حول الأرض، كان من الطبيعي الاعتقاد بأن للكون غاية متعلقة بالأرض، وبما أن الإنسان كان أكثر ما يجلّه الإنسان، افترض أن تلك الغاية مجسّدة في الإنسان. ولكن علم الفلك والجيولوجيا تحدوا كل هذا. الأرض كوكب ضئيل تابع لنجم ضئيل من بين ملايين النجوم في مجرة هي نفسها واحدة من ملايين المجرات. حتى في حياتنا على الأرض، وجود الإنسان مؤقت وسريع. وُجدت الحياة اللاإنسانية لأزمان لا تحصى قبل أن يأتي الإنسان في دورة التطور. الإنسانية، حتى لو لم تنتحر علمياً، ستفنى بسبب قلة الماء أو الهواء أو الحرارة. من الصعب تخيل أن القدرة الكلية بحاجة إلى كل هذا التحضير من أجل نتيجة صغيرة وانتقالية كهذه.

بغض النظر عن ضآلة وضحالة النوع البشري، لا أشعر أنه قمة مناسبة لهذه المقدمة الهائلة. هناك عجرفة مقرفة وغرور مقيت في الحجة القائلة بأن الإنسان باهر لدرجة أنه دليل على حكمة وقدرة خالقه. أولئك الذين يستخدمون هذه الحجة دائماً يركزون على بعض القديسين والحكماء؛ و يجعلوننا ننسى نيرون وهتلر وأمثالهم، وملايين الجبناء الذين يدين الأولَين بسلطتهما لهم. وحتى ما هو الأفضل فينا قد يؤدي إلى كوارث. الأديان التي تعلّم الحب الأخوي استُخدِمت للقمع، وأروع إنجازاتنا العلمية تحوّلت إلى أسلحة للدمار الشامل. أستطيع أن أتخيل أن شيطاناً ساخراً خلقنا ليستمتع، ولكني لا أستطيع أن أضع على كاهل الكائن الحكيم الرحيم القادر وزر هذه الوحشية والعذاب والخزي المعيب لما هو الأفضل فينا، وقد شوه تاريخ الإنسانية بتسارع يتساوى مع تسارع تحكم الإنسان بمصيره.

هناك مفهوم مختلف وأكثر غموضاً للغاية الكونية، ليس كغاية كلية القدرة والإحاطة، بل كغاية تشق طريقها تدريجياً عبر المادة الجامدة. هذا المفهوم للإله أكثر معقولية، والذي برغم كونه قادر ومحب، خلق قاصداً كائنات معرضة للكثير من العذاب والوحشية كما هي حال معظم الجنس البشري. أنا لا أدّعي أنني أعرف أنه لا يوجد مثل هذه الغاية؛ معرفتي بالكون محدودة جداً. ولكنني أقول، وبثقة، أن معرفة الناس الآخرين محدودة أيضاً، وأن لا أحد يستطيع البرهان على أن للعمليات الكونية غاية ما. برهاننا غير الدقيق أبداً، وإلى الدرجة التي بإمكاننا الوثوق به فيها، يشير إلى الجهة المعاكسة. يبدو أن الطاقة تتوزع بشكل متساو أكثر وأكثر، بينما كل ما يمكن أن يكون له قيمة يعتمد على التوزيع غير المتساوي. لذا، في النهاية، يجب أن نتوقع التماثل الباهت، حيث سيستمر الكون إلى الأبد دون حصول أي حدث له أدنى أهمية. لا أقول أن هذا ما سيحدث؛ بل أقول فقط أنه، وبناءً على معرفتنا الحالية، هذا أكثر التخمينات معقولية.

الخلود، إن آمنا به، سيمكننا من التخلص من هذه السوداوية بالنسبة للعالم الفيزيائي. يجب أن نقول أن أرواحنا، بالرغم من أنها في رحلتها القصيرة على الأرض مقيدة بالمادة وبالقوانين الفيزيائية، تعبر عند الموت إلى عالم أبدي يقع خلف إمبراطورية التفسخ الذي يبدو أن العلم يكشفها لنا في العالم الحسي. ولكن من المستحيل الإيمان بهذا إلا إذا سلّمنا بأن الإنسان ينقسم إلى قسمين، الجسم والروح، ويمكن فصلهما بحيث يمكنهما الاستمرار مستقلين عن بعضهما البعض.

للأسف كل الأدلة ضد ذلك. ينمو العقل كالجسم؛ كالجسم يرث بعض خصال الأبوين؛ ويتأثر بالأمراض التي تصيب الجسم وبالمهدّئات؛ ومرتبط بشدة بالدماغ. لا يوجد سبب علمي لافتراض أن الروح أو الجسم ستستقل عن الدماغ في حين أن كليهما مرتبطان به في الحياة. لا أدّعي أن هذه الحجة نهائية، ولكنها كل ما نملك باستثناء الأدلة الضعيفة من الأبحاث النفسية.

يخشى الكثير من الناس أنه بغياب الإيمان النظري، الذي أجد نفسي ملزماً برفضه، سيختفي الالتزام الأخلاقي الذي أقبله. هم يشيرون إلى ازدهار الأنظمة الوحشية المعادية للمسيحية. ولكن هذه الأنظمة، التي نمت في جو مسيحي، لم تكن لتنمو لو وجدت المشاعر الطيبة أو عادة البحث عن التطابق مع الوقائع؛ إنها أساطير شريرة، تقودها الكراهية ولا يسندها أي دليل علمي. يميل الناس إلى الإيمان بما يناسب أهواءهم. فقط الناس الودودون يؤمنون بإله ودود، وهم ودودون على أية حال. الحجج الداعمة للأخلاق التي أتمنى أن تسود، وهنا أتفق مع الكثير من الناس الذين يحملون معتقدات أكثر تقليدية، هي الحجج التي تتعلق بمجرى الأحداث في هذا العالم. لقد شهدنا نظاماً ضخماً من الأكاذيب الوحشية، أي النظام النازي، والذي قاد أمةً إلى خراب كبير على حساب ضحاياها. لن تجلب مثل هذه الأنظمة السعادة؛ وحتى دون أي وحي، من السهل أن نرى أن رفاه الإنسان يتطلب أخلاقاً أقل وحشية. يتزايد الناس الذين لا يستطيعون القبول بالإيمان التقليدي مع مرور الوقت. إذا اعتقدوا، بغض النظر عما يؤمنون به، بأنه لا يوجد سبب للسلوك الودود ستكون النتائج مؤسفة. لذا من الهام أن نبرهن أننا لسنا بحاجة إلى قوى خارقة للطبيعة لجعل الناس ودودين، وأنه فقط عن طريق الود ستبلغ الإنسانية السعادة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق