الأحد، 11 سبتمبر 2016

مقتطفات من مقابلة مطوّلة مع بول ريكور./ ترجمة حسن العمراني.


الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: من فالانس إلى نانتير
 




مؤسسة مؤمنون بلا حدود.


 


حاورهفرانسوا أزوفي، ومارك دولوني


ترجمةحسن العمراني              

 باحث ومترجم مغربي، رئيس تحرير مجلة "يتفكرون" التي تصدرها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث. نشرت له مجموعة من المقالات والبحوث المترجمة، من بينها: "المصالحة والتسامح" و"سياسات الذاكرة" و"الانتقاد والاعتقاد"، وبالاشتراك "الدين في عالمنا".




روابط مقالات إضافية:


الأخلاق والسياسة؛ بول ريكور؛ ترجمة عبد الحي أزرقان؛




كتابة التاريخ وتمثل الماضي؛ بول ريكور؛ ترجمة محمد حبيدة؛ http://mohamad-philo.blogspot.com/2016/07/blog-post_8.html


الذات المتعددة لدى بول ريكور؛ مصطفى بن تمسّك؛ http://mohamad-philo.blogspot.com/2016/07/blog-post_42.html


الترجمة الأمينة؛ مقابلة مع جورج زيناتي؛ http://mohamad-philo.blogspot.com/2016/07/blog-post_20.html

ـ ملاحظة: المقابلة طويلة جداً، وتقع في حوالي خمسين صفحة. لقد اخترت الجزء الأخير منها، والذي يتضمن علاقة ريكور بالفلاسفة وبالتيارات الفكرية التي عاصرها.
يمكن الاطلاع على المقابلة كاملةً على الرابط التالي:
http://mohamad-philo.blogspot.com/2016/09/blog-post_11.html

مَن مِن الفلاسفة الفرنسيين كان الأكثر حضوراً بالنسبة إليك؟
بول ريكور"غبريل مارسيل"، هو الشخص الذي نسجت معه العلاقة الأكثر عمقاً، منذ سنتي في التبريز، 1934- 1935، وأيضاً في ما بعد، وعلى مراحل، حتى وفاته سنة 1973. كنا خلال "أمسيات الجمعة" الشهيرة، نختار تيمة للنقاش الذي كانت تحكمه قاعدة تقضي بضرورة الانطلاق دوماً من أمثلة، والعمل على تحليلها، دون اللجوء إلى المذاهب، اللهم إلا إذا تعلق الأمر بدعم المواقف التي ندافع عنها. كنت أستمتع هنا بفسحة للنقاش كانت غائبة تماماً عن فضاء "السوربون". فالانطباع الذي يتولد، حين نكون بصحبته، هو أنّنا أمام فكر حي يتوسل بسلاسل الحجج. ولهذا، حين نقرأ "غبرييل مارسيل"، ينتابنا غالباً إحساس بأنّنا لسنا إزاء تدفق وانسياب للفكر، وإنّما بصدد مقاربة دينامية مهجوسة باجتراح الكلمات البكر وإيجاد دقيق العبارات. وهكذا نتناقش في كل أسبوع، حوالي ساعتين أو ثلاث ساعات، بطريقة نشطة وفعالة متجاسرين على ممارسة ذاتية للتفكير، وهو ما كان يشكل تعويضاً عن الثقافة التاريخية السائدة في "السوربون".

أعتقد أنّ هذا أساساً ما أدين به لهذا الرجل: فقد تعلمت منه كيف أجرؤ على التفلسف وممارسته بمسؤولية في وضع سجالي، وهذا هو وجه الشبه القائم في رأيه بين المسرح والفلسفة. وقد عبَّر عن كثير من أفكاره من خلال شخصيات المسرح. والحق أنّ مسرحياته، مهما كانت فكرته عنها، لم تكن بالجودة المطلوبة، وإن كان يرى أنّه من المجحف أن يحظى "سارتر" بالاعتراف والاحتفاء، فيما تبقى نصوصه عرضة للتجاهل. من الممكن اليوم أن أعامل مسرح سارتر بالقسوة نفسها التي عومل بها مسرح "غبرييل مارسيل"... أستحضر الآن مقالة جميلة جدّاً كتبها الأب "فيسار" (Fessard) بعنوانالمسرح والفلسفة، بسط فيها فكرة مؤداها أنّ كل الخصوم يملكون الحق في أن نستمع إليهم ـ دون أن يعني هذا أنّهم جميعاً على حق ـ طالما الكلام للجميع؛ وهو ما يسميه "العدالة العليا للمسرح"، وهي تميز، على الأقل نظرياً، المسرح الذي يقدم أطروحات عن المسرح الحقيقي الذي يملك فيه الجمهور حق إنشاء رأيه الخاص. يوجد "غبرييل مرسيل" في منتصف الطريق بين المسرحين، لأنّه مع ذلك، يمرر بعض قناعاته على لسان أحد شخوصه؛ إلا أنّه يمارس أيضاً نوعاً من توزيع الكلام، فالاهتمام البالغ الذي يعطيه "غبرييل مرسيل" للأشخاص كان مرتبطاً بتجربته خلال الحرب العالمية الأولى، حيث انهمك على حشد المعلومات الخاصة بالجنود المفقودين، وإعادة تشكيل مصائر فريدة.

أتوفر على بورتريه خاص به، الناظر إليه يحسبه قطاً. لقد كان رجلاً مرحاً جداً لاذعاً في سخريته، يهوى سرد الحكايات. غير أنّه له عدوٌّ، وهو ساتر الذي كان يبغضه، فيما هو يقدره على الرغم من تعرضه للتجريح من قِبله. كان سارتر موضوعاً دائماً للتجريح والنقد، ليس بسبب إلحاده فحسب، وإنّما لكونه يعتبر الإنسان عَدَمَ الأشياء. وهو مالم يستطيع "غبرييل مرسيل" التسليم به.

 ربما يعود ضعف اهتمامي بسارتر إلى غبرييل مرسيل، على الرغم من ميلي إلى إرجاع ذلك إلى تفضيلي لمرلوبونتي. لم أتوقف عن الالتقاء بشكل منتظم بغبرييل مرسيل إلى غاية العُشارية التي نظمناها على شرفه وحول أعماله في "سوريزي " (Cerisy)، قبل وفاته بقليل، وقد ظهر كعادته متواضعاً، إذ أبى إلا أن يتقدم بمساهمته مثل البقية، وإذا كنت قد ابتعدت عن فلسفته، فليس بسبب قناعاته الفلسفية العميقة، وإنّما لأنّي لمست عنده نقصاً على صعيد البنية المفاهيمية. إنّه صاحب فكر استكشافي للغاية، ينزلق من مفهوم لآخر، حيث تلعب الفكرة دور خلية موسيقية بالنسبة إلى متوالية من المتغيرات، فكر يتحقق عبر تجاور مفاهيمي، إذ تتحدد فكرة ما بالفكرة القريبة منها معنى ودلالة. لن أذهب إلى حد القول إنّ الأمر يتعلق بفكر ترابطي، لكنه يصدر عن آليات تناغمية، وأخرى تنافرية.

 وعموماً، فإنّ المسافات الفكرية التي تفصله عن أقرانه لم تنقص البتة من العطف الذي كان يكنه لهم. ولمّا ألفت كتابي حول فرويد، يجب أن أقول إنّه مع ذلك لم يتحمس له. وقد قال لي بوضوح شديد إنّي انسقت وراء ما أسماه "روح التجريد". وقد صرت أفهم بصورة أفضل حكمه هذا، على اعتبار أنّي أعاتب الآن نفسي لأنّي بَنيت كل شيء حول نصوص فرويد الأكثر نظرية (الفصل السابع من تأويل الأحلام، نصوص الميتاسيكولوجيا، إضافة إلى الأنا والهو) ولأنّي لم أحتك بما فيه الكفاية بالتجربة التحليلية من حيث هي كذلك: الرغبة التي تمتطي صهوة القول، والعلاقة مع الآخر ومع الأغيار الأوائل، المرور عبر الحكاية، الإكراه التكراري، وعمل الحداد. والحال، أنّي كنت أناقش المفاهيم، وهو الأمر الذي كان "غبرييل مارسيل" يناصبه العداء. يقول على الخصوص: إنّ الكوجيطو الديكارتي هو حارس عتبة المقبول فلسفياً ضد اللغز. بيد أني كنت دوماً حذراً من فكرة اللغز، متى كان المراد بها منعاً للعبور فيما وراء الحد، مخالفاً بذلك المبدأ الكانطي المنصوص عليه في: "نقد ملكة الحكم"، وحريصاً على أن أفرغ وسعي في التفكير. ومع ذلك، لا ينبغي أن يفوتنا أنّ غبرييل مارسيل كان يستكمل التعارض الذي يقيمه بين اللغز، الذي يشملني، والمشكل المطروح أمامي، بامتداح للتفكير من الدرجة الثانية، الذي يقوي نوعاً ما الحركة الأولى التي لا يمكن أن تكون إلا استشكالية. هذا على الأقل ما حرصت بنفسي على تأكيده عنده. وبالطبع، لم يحل بيني وبين الانتقال من مشكل الرمز إلى مشكل الاستعارة، لكي أجد سنداً سيميوطيقياً وأداة لغوية مشفرة ومعروفة عبر تاريخ البلاغة، فيما هو يتصور ذلك تضييعاً لنوع من الكثافة الرمزية التي يعتبرها أكثر أهميةً من بصمتها اللسانية على المستوى الاستعاري. أما بالنسبة إليّ، فقد اعتبرت الاستعارة تسمح بمعالجة النواة الدلالية للرمز. وفيما يتصل بالروح النسقية التي مافتئ غبرييل مارسيل يحذرني منها، فإنّي مازلت حريصاً على التشبث بها، على الرغم من أنّها أضحت عندي تنزع نحو نوع من الديداكتيكية، التي تجد جزءاً من تفسيرها في كون كل أعمالي الفكرية لم تنفصل قط عن التدريس الذي أعتبره أهم مِحَك لها. أعترف أنّي كنت دوماً في حاجة إلى النظام، وإذا كنت أرفض جميع أشكال النسق الشمولية، فإنّ ذلك لا يعني أنّي ضد نوع خاص من التنسيق.

أعتبر "غبرييل مارسيل" و"ميرسيا إلياد" (Mirecea Eliade) - اللذين سنتحدث عنهما مجدداً - أنموذجين للأشخاص الذين مارسوا عليّ تأثيراً من خلال علاقات الصداقة، لكن من دون أن أخضع على الإطلاق للإكراهات الفكرية التي يتعرض لها المريدون عادة. لقد صرت حرّاً بفضل هؤلاء الأشخاص. ربما كان بوسعي أن أنعم مع "جون نابير"[14] (Jean Naber)  بالمستوى نفسه من التبادل الجيد، إلا أنّ هذا الأخير لم يكن من النوع الذي يرتبط مع الآخرين بعلاقات دافئة. ففي إحدى السنوات التي تواجد فيها بمنطقة البريتاني، تَصادف أنّي كنت هناك أيضاً فقررت زيارته، بل ومباغتته. وصلت في منتصف النهار، فوجدت باب الحديقة مفتوحاً، وصندوق رسائله مملوءاً عن آخره بالأوراق. انتظرته ساعتين، قطفت خلالها بعض أزهار البنفسج، التي قمت بإعادة غرسها في حديقتي، ومازالت تزينها إلى الآن. ثم علمت عبر الصحف أنّه نُقل إلى المستشفى حيث سَيَلفظ أنفاسه الأخيرة. لم أجرؤ يوماً على زيارته، ولم أقم بذلك إلا يوم وفاته.

 

ما نوع العلاقات التي جمعتك، حين كنت في ستراسبورغ، بالفلاسفة الباريسيين؟

بول ريكورلم أكن باريسياً إلا بعد فترة متأخرة، وهكذا أفلتّ من أشياء كثيرة، لم أعرف بتاتاً وسط "سان جرمان- دي- بري *(Saint-German-des-Prés)، كما لم أتعرف على سارتر شخصياً. المرّة الوحيدة التي دخلت فيها معه في نوع من العلاقة ـ بين سنتي 1963 و1964 ـ تمت عندما كنت مشرفاً على المجموعة الفلسفية الصغيرة بمجلة Esprit؛ كان ذلك بعد إصداره لـ «مسألة المنهج»، وهو الكتاب الذي خصصنا له، أنا و"دوفرين"، سنة كاملة للنقاش داخل هذه المجموعة، لذلك دعونا سارتر، وهيأنا اثني عشر سؤالاً لنطرحها عليه. للإجابة على السؤال الأول تكلم ساعتين ونصف، ولم نتمكن أبداً من أن نطرح عليه السؤال الثاني. حضرت "سيمون دو بوفوار" (Simone de Beauvoir) هذا اللقاء، وكانت تراقب ما إذا كان الجميع ينصت بشكل جيِّد. وفي السجالات التي دارت بينه وبين "كامي"، ثم "مرلوبونتي"، كنت أقف إلى جانبهما. جمعتني بسارتر أيضاً علاقة مراسلة بمناسبة صدور واحدة من مسرحياته التي أثارت اهتمامي وسخطيالشيطان والإله الطيبكتبت حينها مقالاً تفاعل معه بطريقة ودية ونبيلة. بوسعكم الاطلاع على هذا المقال، الذي يبدو لي اليوم ساذجاً، في كتابي "قراءات"[15].

 

كيف كانت تتراءى لك باريس السان جرمان دي بْري منظوراً إليها من الريف الفرنسي؟

بول ريكوربدت لي كأسطورة سطحية. والحق أنّ هذا الشعور أيضاً لا يخلو من حكم مسبق قوي مضاد لكل ما هو باريسي وهو حكم تَقَوَّى بالمناخ الفكري لشامبو سور لاينو، ثم بـ"ستراسبورغ". غير أنّ هذه التجربة حَصَّنتني ضد كل ظواهر الموضة. أما في ما يتصل بمرلوبونتي، فقد تعرفت عليه عندما كنت في "شامبو سور لاينو" في الفترة الممتدة من 1945 إلى 1948؛ كان يُدَرِّس بـمدينة "ليون " (Lyon)، حيث التقيته عدة مرات كما قابلته مجدداً في "لوفان" (Louvain) ببلجيكا عند الأب "فان بريدا " (Van Breda)، في مركز "أرشيفات هوسرل " (Archives Husserl)، موسم 1946-1947، ثم في ندوتين: واحدة من محاضراته دارت حول الموضوع "فينومينولوجيا اللغة [16] (1956)، كان فيها مذهلاً. وبما أنّه قد حدَّد بصورة كاملة معالم حقل التحليل الفينومينولوجي للإدراك وآلياته، فإنّه لم يترك مفتوحاً، هذا ما اعتقدته في تلك المرحلة على الأقل، سوى المجال العملي. ففي هذا الحقل شرعت في إنجاز أبحاث ستجد تطورها اللاحق حينما تناولت مفهوم الشر والإرادة السيئة - أي ما يعرف في الخطاب الديني بـ "الخطيئة". الانطباع الذي كان عندي هو أنّه، في المجال الفينومينولوجي، لم يُعالج حتى ذلك الحين إلا الجانب التمثيلي من القصدية، في حين أنّ الحقل العملي برمته، والحقل الانفعالي، أي حقل العاطفة والانفعال ـ بالرغم من أنّي أعجبت كثيراً بكتاب سارتر حول الانفعالات ـ لم يقع حقيقة استكشافه.

واليوم تظهر لي اختياراتي الخاصة كما لو كانت محددة بصورة مثلثة. أولاً، مرلوبونتي الذي ترك حقلاً للاستكشاف أدواتُه التحليلية كانت متوفرة، ثم انتباهي واهتمامي الكبيران بالنقاش بين ديكارت، "ليبنتز" (Leibniz)، "سبينوزا " (Spinoza)، و"مالبرانش " (Malebranche)حول الحرية والحتمية، وأخيراً لأنّي كنت مشدوداً إلى إشكالية مستلهمة من "أوغسطين " (Augustin)، تتعلق بالشر والخطيئة، وهي التي قادتني إلى دراسة رمزية الشر.

عثرت على ملاحظات تعود إلى زمن الاعتقال، دَوَّنها بطريقة تكاد تكون حرفية واحد ممن كانوا يتابعون دروسي في المعتقل، وقد كانت دهشتي كبيرة لمّا لاحظت إلى أي حد اسْتَبَقْتُ ما أنجزته لاحقاً، لقد وجدت فيها تقريباً المحتوى الدقيق لـفلسفة الإرادة. فالبنية الأساسية للكتاب كانت خُطاطتها مبسوطة سلفاً وفيها: تيمة المشروع، دوافعه، ثم تيمة الحركة الإرادية مع التناوب بين العادة والانفعال، وأخيراً، الانتقال من الموافقة إلى الضرورة. لهذا أتممت أطروحتي بسرعة كبيرة، بعد عودتي من الاعتقال سنة 1945، وأكملتها سنة 1948. كانت هناك خمس سنوات من التفكير والتدريس شَكَّلت، دون أدنى شك، أساس هذه الأطروحة.

واختياري لهذا الحقل يعود إلى ما قبل هذا التاريخ، كما تشهد على ذلك محاضرة ألقيتها بـ"رين"، في بداية الحرب، بمناسبة إحدى الإنجازات، حول موضوع الانتباه، الذي هو التوجه الإرادي للنظرة. أعتقد أنّ اختياري للحقل العملي قديم جداً؛ فأنا لم أتوقف منذ زمن عن إبداء الإعجاب برسالة "لوثر" (Luther) حولالحرية المقيدة Serf Arbitre وحول الحرية المسيحية، فضلاً عن النقاش الكبير الذي كانت تُثمره مواجهاته مع "إرازم" (Erasme). ثم جاء السياق السياسي ليدعم توجهي نحو هذه الأسئلة المتعلقة بـ "الحرية"، و"الشر" و"المسؤولية". وأعتقد أنّي قبل ذلك بكثير كنت شغوفاً بالتراجيديا اليونانية، التي تضع في المقام الأول مشكلة القَدَر، ولا أنكر التأثير الذي مارسته على تكويني الأساسي الثيولوجيا الكالفينية حول القَدَر. واضح إذن أنّ اختيار حقلي المفضل للدراسة، الإرادة واللاإرادي، قد تضافرت عدة عوامل في تحديده.

 

في سنة 1956، تَمَّ تعيينك في السوربون، فغادرت ستراسبورغ.

بول ريكوركان بوسعي أن أبقى فيها، غير أنّي كنت أنتمي إلى جيل الهدف من مشواره الوصول إلى باريس. ترشحت للسوربون في المرة الأولى وقد قدمني "هيبوليت" وغالبية أعضاء شعبة الفلسفة؛ إلا أنّ المجلس انتقى "جون غيتون" (Jean Guiton). وفي السنة التالية، وقع عليَّ الاختيار، بعد أن شغر أحد كراسي الأستاذية. لم أشعر بأيِّ ارتياح داخل السوربون، لذلك اخترت في ما بعد الذهاب إلى نانتير. لم أجد في السوربون نظيراً للعلاقات التي نسجتها مع الطلبة في ستراسبورغ. فقد جسدت، بالنسبة إليّ، نقيض ستراسبورغ.

صحيح أنّ شعبة الفلسفة في السوربون كانت تضم أسماء لامعة جدّاً، مثل "أرون " (Aron)، "غورفيتش" (Gurvitch)، "يانكلفيتش "(Jankélévitch)، "فال " (Wal)، "غويي " (Gouhier)، "كانغليم" (Canguilhem)، "باشلار " (Bachelard)؛ وصحيح أيضاً أنّي كنت راضياً تمام الرضى عن نوع التدريس الذي قدمته. فالمدرجات كانت ملأى، والطلبة الذين لا يجدون مقاعد يجلسون قرب النوافذ لحضور دروسي حول "هوسرل، فرويد، نيتشه، سبينوزا"، سنوات 1956-1965. لكن، وبسبب هذا العدد الكبير، كان يصعب ضبطهم وتتعذر معرفتهم، فقد كان لدي شعور حاد بعدم تكيّف المؤسسة الجامعية وتناغمها مع مثل هذه الوضعية. وفي سنة 1956، بادرت إلى الإشراف على عدد من مجلة Esprit خصصت موضوعه للجامعة، حصيلته كانت جد قاسية، إذ أفضى إلى اقتراحات سيعاد طرح الكثير منها في موسم 1968-1969 (خصوصاً ما تعلق منها بتعيين الأساتذة من قِبَل كوليج السوربون بناءً على معايير بالية). يمكن الاطلاع عليها، اليوم أيضاً، لأنّي أعدت نشرها في الفصل الأخير من كتابي "قراءات1" (Lectures 1)، بصرف النظر عن طابعها الطوباوي الواسع، توخياً للصدق مع الذات والغير، وهو ما أنجزته في الإطار التحريري نفسه، بخصوص ملاحظاتي حول الصين وإسرائيل[17].

لكي أعود إلى تحفظاتي الفكرية، وإلى إحباطاتي ومشاريعي المتعلقة بالجامعة في السنوات التي سبقت 1968، أقول بأنّه كان عندي انطباع بأنّه يجري إهمال كلّي للمهمة التي تقضي بضرورة خلق جماعة تضم الطلبة والأساتذة؛ بل حتى العلاقات بين الأساتذة كانت تتلاشى يوماً بعد يوم، بحيث كنا لا نلتقي إلا بصورة عابرة. لم يكن هناك مكان نعقد فيه لقاءاتنا، باستثناء المناسبات التي تتيحها التجمعات العامة داخل الشعبة. كنا نجهل كل شيء عن حياة زملائنا، فما نعرفه عن بعضنا بعضاً لا يتجاوز معلومات تتعلق بالإنتاج الفكري لهذا أو ذاك. فلم يسبق لي أبداً أن تعرفت على السيد "ريمون أرون"، ولا على السيد "يانكلفيتش". فليس ثمة أعمال مشتركة تجمعنا، ولا سجالات أو نقاشات تتيح لنا الاحتكاك ببعضنا بعضاً. فالوضع شبيه بصحراء فكرية. ينضاف إلى ذلك، أنّه لمّا كنت غير متعود على الحياة الباريسية، ولا أنا من قدماء شارع أولم (Rue d’Ulm)، وجدتني منغمساً في أجواء تحددت معالمها منذ زمن طويل. الشيء الذي جعلني أشعر بذاتي كالجسم الغريب، منكَبّاً على أعمالي الخاصة، على الرغم من الانطباع الذي كان عندي بأنّي أحظى باستماع جيد من لدن الطلبة.

صحيح، مع ذلك، أنّ انشغالي الأساسي كان على صعيد شخصي: ما السبيل إلى رفع التناقض الذي تخلقه وضعيتي أمام تقاطع تيارين فكريين متنافرين، وهما: النقد الفلسفي والهرمنوطيقا الدينية؟ وما زاد مشكلتي تعقيداً هو رغبتي في معرفة ما إذا كان العمل الذي أنجزه داخل الحقل الفلسفي ليس ضرباً من ضروب الانتقاء، وما إذا كنت أفصل بشكل أصيل ونزيه بين مختلف المرجعيات التي يتألف منها إرثي الفلسفي: "غبرييل مارسيل، هوسرل، نابير"، دون أن ننسى فرويد والبنيويين. مشكل النزاهة الفكرية كان دوماً ما يؤرقني، فالمطلوب ألّا أخون ما أدين به للتيارات التي استلهمت منها كثيراً.

باسم هذه النزاهة الفكرية تصديت، في الستينات، إلى الهَرَمِ الفرويدي، لكي تختبر تأملاتك حول الوعي في ضوء التحليل النفسي.

بول ريكورإنّ الباعث الأول الذي حملني على إنجاز هذا العمل هو سؤال المسؤولية عن الجُرم، لأنّي خصصت الجزأين الثاني والثالث من كتابي فلسفة الإرادة لتيمة الضعف الإنساني ـ وهو ما أسميته بـ "القابلية للخطأ"، في علاقة مع المسؤولية عن الجرم ـ ورمزية الشر، أي للانتقال من ماهية الإرادة إلى رمزية الأساطير التي تعبِّر عن صور الشر وجنيالوجياته. وجدت نفسي أمام نوع من البقية المستغلقة على التحليل وعلى المنهج الفينومينولوجي؛ أقصد بذلك الجرم الطفولي، القديم، والباثولوجي. كنت أرى جيداً أنّ حقل المسؤولية عن الجرم لا تغطيه ـ في كليته ـ رمزية الشر هذه، المجسدة في الأساطير والروايات التوراتية، وبأنّه ما زال هناك شيء آخر. الباعث الثاني، يرجع إلى كوني رأيت في التحليل النفسي بديلاً للفينومينولوجيا، ولفلسفات الوعي بشكل عام. فالحد الأساسي للمشروع الديكارتي القائم على مسلمة الشفافية، طرح لي مشكلاً على الدوام. وفي النهاية، التقيت مع الدوافع الخاصة بـ "دالبييز"، الذي يَعتبر التحليل النفسي فرعاً من فروع فلسفة الطبيعة، أي الدراسة الفلسفية التي تأخذ بعين الاعتبار الطبيعة في الإنسان. كان الأمر مرتبطاً بمنظور مغاير للرمزية الدينية للشر ـ مسيحية كانت أم لا ـ وبتوجه يختلف، علاوة على ذلك، عن التوجه الذي بسطته الفينومينولوجيا.

مع شروعي في العمل، اعتقدت أنّني بصدد كتابة مقالة حول الشعور المَرَضي بالذنب. وإذ طبقت على فرويد عاداتي في القراءة الشمولية، ونظرت إليه كفيلسوف كلاسيكي، فإنّني وجدت نفسي بصدد إنجاز مُؤَلِّف ضخم[18] شَكَّلَ مناسبة لسجال داخلي، أو قل لتحليل نفسي ذاتي، أصفه الآن مازحاً بأنّه كان بأقل كلفة. والحق أنّ هذا العمل ساعدني على تجاوز الجانب الوسواسي العتيق لمشكل الشعور بالذنب، والذي تبدل عندي تدريجياً بسؤال المعاناة المفرطة التي باتت تُرهق العالم.

 

حين قررت الاشتغال على فرويد، وذلك قبل أن يتحول إلى موضة، هل كنت تشعر بنوع من العزلة؟

بول ريكوركان هناك، على أيّ حال، "دنيال لاغاش" (Daniel Lagache) و"ديديي أنزيو" (Didier  Anzieu)  و"جولييت بوتونييي " ((Juliette Boutounier، وجميعهم دَرَّسوا بالسوربون. لكن من المؤكد أنّي لم أتأثر بهم. فإشكاليتي كانت حقاً شخصية، علاوة على أنّي كنت دوماً أبدي كثيراً من الاهتمام، دون أن أكون بوبرياً [نسبة إلى «بوبر» (Popper)]، لفكرة "التكذيب"، وتساءلت ما الذي "يُكَذِّب" الفينومينولوجيا؟ كانت هذه هي نقطة القوة في بحثي، فيما رأى فيها الكثيرون إقحاماً للتحليل النفسي في الفينومينولوجيا؛ غير أنّي على العكس تماماً أكدت استحالة القيام بذلك، وأنّ هناك حتماً شيئاً يحول دون ذلك، فللفينومينولوجيا آخرها. في كتابي الإرادي واللاإرادي عالجت مشكل اللاشعور في إطار ما أسميته "اللاإرادي المطلق": أقصد ما يُوَجِّه مقاومة شاملة للتحليل وللتحكم الواعي. قمت بتجريد النظر في ثلاث صور من هذا اللاإرادي المطلق، وهي على التوالي: الطبع واللاشعور والحياة (أعني أن يكون المرء على قيد الحياة). لقد كان اللاشعور، ومنذ العمل المنجز سنة 1948، بمثابة النقطة العمياء للوعي بالذات التي تمتنع عن الإدماج ضمن دائرة الوعي، كما أنّها ليست بالوعي الأدنى بل هي آخر الوعي، وبهذا المعنى كنت دوماً فرويدياً بقوة.

 

هل كانت هي الفترة التي التقيت فيها بـ "مرسيا إلياد"؟

بول ريكوركنت أعرف "هنري بويش" (Henri Puech) و"جورج دومزيل " (George Dumézil)، تعرفت عن طريقهما على "مرسيا إلياد". شيء ما يبهر بصورة مطلقة في فضوله الذي لا سبيل لإشباعه وكرمه اللامحدود. كان شمولياً في معارفه، غزير الثقافة، كَتَبَ، وعمره لا يتجاوز الأربع عشرة سنة عن الخنافس  (Coléoptères)، كان يملك في حوزته مجموعة من الطوابع البريدية النادرة والمدهشة.

حين تعرفت عليه كان يُدَرِّس بباريس تحت إشراف "بويش". أعجبت أَيَّما إعجاب بتفرد عمله الأول الذي ظهر تحت عنوان: "رسالة في تاريخ الأديان"[19]، فيما كان الأمر يتعلق بالنماذج الدينية كما بيّن ذلك دومزيل نفسه في المقدمة التي صَدَّر بها هذا العمل، والتي أوضحت كيف يندرج ضمن تحليل تصنيفي، بنيوي. فعوض أن يتبع خطاطة تاريخانية كما جرت العادة في المنظور القديم لتاريخ الأديان المقارن ـ حيث تُرتب الأديان، ابتداءً بأكثرها بدائيةً وصولاً إلى أكثرها تبلوراً ونضجاً، وذلك وفق رؤية تطورية ـ قام بإعادة بناء أبحاثه حول التيمات المهيمنة، وخصوصاً التقاطبات الكونية الكبرى: السماء، المياه، الأحجار، الريح... إلخ، مستعيراً أمثلته من مختلف المتون المكتوبة، وصنوف الممارسات والطقوس. إنّ ما شدَّني إليه هو هذا النهج المعادي للنزعة التاريخانية. غير أنّ هذا التصور البنيوي يبدو كما لو كان مخنوقاً بهاجس يكاد يكون إيديولوجياً، وهو ما يجسده التعارض القائم بين الزوج: مقدس/مدنَّس. نتيجة ذلك أنّ التنوع الذي يطبع صور المقدس بدا مسحوقاً بنوع من النهج الرتيب الذي يطبع الأفضلية، كيفما كانت السياقات التاريخية، لمفهوم المقدس ولقطبية المقدس/المدنس؛ وبهذا أضعف ما كان يمكن أن يشكل نقطة القوة، من الناحية المنهجية في الفكرة التي تنطلق من رمزية متنوعة. لقد انتهى به المطاف إلى جعل الشمانية* بنية مُفَضَّلة فرضت نفسها على المستوى التاريخي كبراديغم مهيمن. اعتقد إلياد أنّ بمقدوره مقاومة النزعة التاريخانية عبر تأكيد ما كان يتصوره ديمومة المقدس. أظن بأنّه من اللازم أن نفهم جيداً العناية الكاملة التي يوليها لهذا الطابع المعادي لكل نزعة تاريخية: في العمق، سيظل المقدس مطابقاً لذاته في كل مكان، لكن هذا لن يتحقق إلا على حساب وضوح المفهوم.

لا ترتبط المشاكل الأساسية التي واجهته في النهاية بمحتوى أبحاثه، ولكن بتطور هذا التخصص ذاته: إنّ فكرة علم الأديان تكون له القدرة على الإحاطة بكل شيء، لم تفقد سحرها وبريقها فحسب، بل أضحت فكرة مشكوكاً فيها أكثر فأكثر. فالإجماع حاصل بين أهل الاختصاص على أنّه من غير الممكن أن نعرف حق المعرفة ديانات متعددة في الآن نفسه؛ حتى أنّ إلياد اتُهِم في الأخير بادعاء الموسوعية. ولدفع هذه التهمة وجد نفسه مضطراً لتقوية القطب المُنَظِّم، أقصد القطبية المتكونة من الزوج مقدس/مدنس. لقد حصل عندي الوعي بعمق هذه الصعوبة التي واجهته، والمتمثلة في ضرورة الإمساك بناصية علم يزداد غزارة ووفرة ـ يكفي مثالاً على ذلك المجال الهندوسي، الذي يستدعي فهمه الإحاطة بمتن يتكون من عشرات الآلاف من الصفحات.

من المؤسف أنّ "بيوش" و"دومزيل" لم ينجحا في إقناعه بالبقاء في باريس، لأنّه لو كان يملك الاختيار، لما ترك "إلياد" فرنسا. بيد أنّ جامعة شيكاغو لم تكن لتُضيِّع الفرصة، فمنحته كرسي الأستاذية وضَمَّته إليها. ومعلوم أنّ اللغة التي كان يتكلم بها وهو بين أفراد عائلته هي الرومانية، في حين كانت لغة ثقافته وتأليفه هي الفرنسية، أما الإنجليزية فلم تكن سوى اللغة التي يُدَرِّس بها. وأعتقد بأنّ كل أعماله المنشورة باللغة الإنجليزية هي في الأصل مترجمة إليها من الفرنسية. وقد سبق له أن تعلم اللغة السنسكريتية على يد "بيتازوني"(Petazzonni) ومعلميه الهندوسيين؛ ناهيك عن إقامته لمدة سنتين داخل دير "تيبيتي"(Tibétain)، حيث تَعَرَّفَ، بل مارس في بعض الأحيان، كما يمكن لإنسان غربي أن يفعل، الفنون الزهدية والتأملية. وهكذا اكتسب من الداخل معرفة بالحكمة الخاصة بديانات الشرق.

هل كان هذا موضوعاً لمناقشاتكم؟

بول ريكوربكل تأكيد، لقد كنا نتحدث على الخصوص حول إمكانية أن يسكن الإنسان في مواقع دينية مختلفة. من جهتي كنت أبدي كثيراً من التحفظ، لأنّه كان عندي دوماً شعور بأنّه من غير الممكن أن يحتك الإنسان بديانات مختلفة، تماماً كما لا يمكن أن يكون لنا إلا عدد قليل جداً من الأصدقاء: كنت أشاطر "مرلوبونتي" حذره، هو الذي كان يرى في سياق آخر أنّه من المتعذر امتلاك رؤية تنيف على الكل، وأنّه ليس في وسعنا سوى أن نسلك وفق منهج القرب. ينضاف إلى ذلك شعوري بمقاومة كبيرة للتقابل بين المقدس/المدنس، المرتبط بما اعتبرته استعمالاً مفرطاً للرمزية؛ وهو ما قادني إلى تفضيل مفهوم "الاستعارة"، الذي يجسد في نظري بنية بالوسع التحكم فيها أكثر. كان النقاش الدائر في ما بيننا يتحرك على ثلاثة خطوط: أبدأ بالإشارة إلى دقة التقابل بين المقدس/المدنس وملاءمته ـ وإن كنت أكثر اهتماماً بالتقابل الموجود بين الزوج طاهر/خطّاء؛ ثم بإمكانية بناء رؤية شمولية ـ وما أذهلني دائماً هو كون الديني لا يوجد إلا داخل مجموعات مهيكلة، تماماً مثلما أن ّاللغة لا توجد إلا داخل الألسن؛ وأخيراً هناك الدور الذي يلعبه النص والكتابة: كان يعتبرني مغالياً في تقدير دور النصِّية في توليد المعنى. فالمستوى النصي عنده، إن لم يكن سطحياً، فهو على الأقل ظاهرة مرتبطة بالسطح، وذلك قياساً إلى عمق تتشكل لُحمته مما هو شفوي ومن الإحساس. لقد اعتقد، وهذا ما أثار زوبعة من المقاومات لدى أهل الاختصاص، بأنّ الدائرة الدينية تتمتع بالاستقلالية، وأنّها مهيكلة ذاتياً عبر سيادة مفهوم المقدس. كان إلياد شديد التمسك بفرضية فَهْم محايث للظاهرة الدينية، حيث دافع عن فكرة مؤداها أنّ هذه الظاهرة تُفهم انطلاقاً من مفرداتها الخاصة؛ وليس في مستطاع المتخصص سوى الإقامة بنفسه، بلا مسافة، داخل الظاهرة التي يُحلّلها. وقد صرنا حالياً نعاين انتقاماً للمتخصصين؛ وحتى كرسي الأستاذية المخصص لتاريخ الأديان المقارن في السوربون قد غدا مُقَسَّماً إلى عدة شُعب مختلفة.

 

هل كان بدوره يتموقع داخل ديانة بعينها؟

بول ريكورينحدر إلياد من أصل أرثوذكسي، ومن الثابت أنّ المظاهر التعبدية والروحانية، عكس الكاثوليكية الرومانية والبروتستانتية اللوثرية، كانت تجعله قريباً من أفكار الشرق: قال لي أكثر من مرة: "ألا ترى إلى أيّ حد يؤدي تاريخ الإصلاح إلى تجذيره في قلب الغرب، في نسيان ثابت للشرق، مما جعله يتموضع فيما بعد ضمن الانشقاق الكبير عن الكنيسة الرومانية"؟. وهو نفسه كان في ريعان شبابه متأنِّقاً، منقطعاً إلى أبعد الحدود عن جذوره الدينية؛ ولم يعد إلى منابعه الرومانية والأرثوذكسية المسيحية إلا عن طريق الهندوسية، ولكن عبر أسلوب انتقائي. ومع ذلك، قد سمح له المعنى التعبدي للأرثوذكسية بالتأكيد على أنّ الاعتقاد سابق على المذهب، وأنّه قبل الاعتقاد هناك الشعائر، وقبل الشعائر يوجد التعبد.

أستطيع القول بأنّ صداقتي مع مرسيا إلياد كانت عميقة ووفية، وهو واحد من العناصر التي شكلت الثلاثي الروماني في باريس، الذي ضَمَّ إلى جانبه كلاً من "يونسكو" (Ionesco) و"شيوران" (Cioran). والصداقة بين هؤلاء الثلاثة لم تكن كلمة جوفاء، على الرغم من التباين الملحوظ بين شخصياتهم. كانوا، إلى جانب اشتراكهم في المصير نفسه، قريبين جداً من بعضهم بعضاً، وهو ما يفسر حرصهم على التلاقي باستمرار. أتذكر، خلال الحفل الذي أقيم على شرف "مرسياد إلياد" بمناسبة بلوغه سن الخامسة والستين، أنّ "يونسكو" سأله "هل تتذكر مرحلتنا الثانوية حينما كنتَ أكبر مني بكثير"؟. فبينما كان "يونسكو" خفيف الظل موسوماً بروح الدعابة، تميز "شيوران" بنزعة كلبية وقحة  (Cynisme)، فقد كان مثلاً يحب الذهاب إلى حفلات الافتتاح من أجل الوقوف على تفاهتها. آخر مرة رأيته فيها كان بمناسبة الحفل الذي أقيم أمام منزل "غبرييل مرسيل" في 23 شارع تورنون  (Tournon)؛ كنا قد نصبنا مرقباً صغيراً على الرصيف، لكنّ شيئاً ما انهار، فهرعنا لجمع أجزائه في الوقت الذي كنا نقرأ فيه مديحاً في حق الفيلسوف، وفيما كان المارة لا يتمالكون أنفسهم من الضحك، اكتفى هو بمعاينة المشهد وإطلاق ضحكات هازئة.

مَن مِن بين الفلاسفة الكبار الآخرين ظل الأكثر قرباً منك؟

بول ريكور "هانز جورج غادمير"، بكل تأكيد، على الرغم من المسافة الجغرافية التي تفصل بيننا. كنت في البداية قارئاً لغادمير باعتباره أحد الوجوه البارزة في التيار الهرمينوطيقي. لقد انخرطت في سجاله القديم مع هابرماس "الأول"، وكنت أتموقع بينهما، رافضاً على الخصوص التعارض بين الحقيقة/المنهج[20]. أما شاغلي الأكبر فهو إدماج اللحظة النقدية في التأويل، أقصد العلوم الإنسانية التي كان غادمير يقذفها باتجاه ما أطلق عليه اسم المنهج، وهو بالأحرى أقرب إلى النزعة المنهجية. واليوم أقر بأنّه كان على صواب خاصة في ما يتصل بعدائه لهيدغر الذي كان ينزع بعض الشيء إلى معاملته كما لو كان خائناً لنفسه ولهوسرل. وفي سيرته الذاتية[21] يبدي غادمير عداءً شديداً للقراءة الهيدغيرية لأفلاطون، التي اعتبر فيها الأفلاطونية نظرية دغمائية ـ نظرية المثل، التعارض بين المعقول والمحسوس،... إلخ. كان غادمير أكثر اهتماماً بالحركة الدائمة للحوارات. وهو لم يكن ينظر إليها كثوب بلاغي وإنّما بوصفها حركة الفكر ذاته. وفي المرحلة التي كنت أخوض فيها سجالاً مع البنيوية، ألفيت نفسي أبتعد عن غادمير لكي أبحث عن موقع وسط بين النقد وهرمينوطيقا التملك ـ طالما يتحدد مسعى النهج الهرمينوطيقي، عند غادمير، أساساً في تخفيض المسافة وتقليصها، بل وعند الضرورة إلغائها، سواء كانت المسافة على مستوى الزمن، أو على مستوى المكان، وهذا بالضبط ما كنت أقاومه معتقداً بأنّ معرفة الذات تقتضي أن نمر عبر الغير، مانحاً دوماً لهذا المرور النقدي عبرة.

فالرجل مدهش للغاية. إنّه فكر مفعم بالشاعرية، يحفظ عن ظهر قلب الشعر الألماني بأكمله حيث يستحضره بسهولة في حواراته: "غوته"، "شيلر"، "غريلبارزر" (Grillparzer)، "ستفان جورج" (Stefan Goerge)، "بول سيلان"(Paul Celan).  كما يتمتع بمعرفة عميقة بالتراجيديا اليونانية. إنّه يحيا حقاً داخل النصوص التي يسكنها من خلال الاستظهار. فعنده نوع من هرمينوطيقا الاستظهار الشفوي للمكتوب.

علاقاتنا اتسمت بالودِّية، غير أنّه كان يتملكني في الغالب إحساس بأنّه بقي متحفظاً إزائي، ظناً منه أنّي كنت في صف "هابرماس". أمضينا معاً أمسية عاصفة عندما أعدت، في ميونيخ خريف 1986، إلقاء محاضرات [22]Gifford Lectures. وقد حضر للاستماع إليّ، فيما كنت لا أشعر بارتياح كبير لأنّ ألمانيتي لم تكن بالجودة الكافية التي تسمح لي بالدخول معه في مناقشة نِدِّية، وقد أعطى بدوره بعداً سجالياً لهذا اللقاء، ومنذ ذلك الوقت التقيته مجدداً في باريس ثم في ألمانيا عدة مرات. بعدها شعرت بأنّ علاقتنا صارت هادئة. والآن ونحن بصدد الابتعاد عن مسرح العالم، نقوم بذلك بثبات وبكثير من المحبة المتبادلة. ولَكَمْ كانت سعادتي غامرة حينما شاركت، بدعوة كريمة منه، لإلقاء"الخطاب الشرفي" في الحفل الذي أقيم في هيدلبرغ، بمناسبة عيد ميلاده الخامس والتسعين.

 

لنعد، إذا سمحت، إلى التسلسل الزمني. مر بنا أنّك لم تكن مرتاحاً في السوربون للعلاقات بين الأساتذة وللعلاقات مع الطلبة. قلت بأنّك لم تتردد لحظة في قبول الدعوة التي وُجهت إليك للتدريس بجامعة "نانتير".

بول ريكورلم أعرف شيئاً عن المساومات المتعلقة بتأسيس هذه الجامعة التي كانت ملحقة بالسوربون، ولم يكن لها وضع مستقل بل يتكفل بإدارتها مجلس تدبيري فقط. تلقيت هذه الدعوة دون أن أكون مطلعاً على مداخل هذا المشروع ومخارجه، ولا حتى طبيعته. ففي أحد الأيام أخبر عميد السوربون الأساتذة بأنّ هناك جامعة جديدة سترى النور. والذين قبلوا الالتحاق بها كانوا ثلاثة ـ "بييرغرابان" (Pierre Grapin). "جون بوجو" (Jean Beaujeu)، وأنا ـ، وتناوبنا العمادة، التي كُلِّلت بالنجاح كما هو معلوم. أول من تولى هذا المنصب كان هو الجرماني"غرابان"، الذي تعرفت عليه في ستراسبورغ على المستويين المهني والسياسي ـ كان شيوعياً أو قريباً من الحزب الشيوعي، وأتذكر أنّي شاركت في اجتماعات مشتركة نُظِّمت، إلى حد ما، تحت رعاية حركة السِّلم، أعرف أنّها ليست بالمرجع الجيد، وإنّ ما كان يجمعنا هو نوع من القرب من اليسار، فضلاً عن إعجابي بأعماله الجرمانية، الوفية لـ "هاين" (Heine)، وبنزاهته الفكرية.

كانت أمنيتي ترك السوربون وخوض غمار تجربة أستطيع فيها مُجَدَّداً إنشاء علاقة حَيَّة مع الطلبة. حين ذهبت لأول مرة إلى نانتير، وكان الفصل شتاء، رفض يومها سائق التاكسي مواصلة الطريق إلى النهاية، بسبب كثرة الأوحال، فقال مُعلِّقاً: "هل تظن سيارتي زورق إنزال"؟.

أتذكر الفصل المضحك لوضع حجر الأساس. فقد قمت، بمعية "بيير غرابان"، بحمل هذا الحجر على سيارة تاكسي، دون أن نعرف ماذا سنصنع به، وضعناه في الوحل، ثم انصرفنا إلى حال سبيلنا. والغريب أنّي لم أنتبه من قبل لبؤس المكان. الراجح أنّه قد تملكتني نزوة عمالية جعلتني أعتقد أنّه لا بأس من استنبات جامعة وسط مدن الصفيح. غير أنّ نانتير جسدت بالنسبة إليّ تحولاً جذرياً بالمقارنة مع السوربون والحي اللاتيني. والغريب أنّي لم ألمح بشاعتها المعمارية، وهو ما يجعلني اليوم في منتهى الذهول.

اعتُمِد في إنشاء نانتير على قطع صغيرة من السوربون وزمرة من الأساتذة المستقدمين من الأقاليم، على رأسهم "ميكيل دوفرين". أَسَّسنا شعبة الفلسفة، وأفتخر بأنّي ضممت إليها ثلاثة أساتذة غير مبرزين، وهم: "هنري دوميري" (Henri Deméry) بشهاداته الكنسية، و"شلفيان زاك"(Sylvian Zac) الذي لم يتمكن من اجتياز مباراة التبريز، سنة 1935، بموجب القوانين الأولى لـ "الحماية" المُوجَّهة ضد اليهود الأجانب، والتي كانت تنص على أنّ الترشيح للتبريز يتطلب خمس سنوات من التجنيس؛ ثم "إمانويل ليفناس" الذي سبق لي الاطلاع على أعماله، إضافة إلى أنّه كان، في مدينة "بواتيي" (Poitiers)، زميلاً لـ "ميكيل دوفرين"، علاوة على التعيينات التي كانت تأتي بقرار رسمي، أذكر من ذلك عدداً من الزملاء المطرودين من الجزائر الذين تم تعيينهم دون أن يخضعوا لعملية انتقاء، وقد تم استقبالهم بحفاوة. إلا أنّه لم تكن لدينا أيّ استقلالية، طالما كان اختيار الأساتذة يصدر دوماً عن السوربون.

عشت تجربة موسمين جامعيين (1966 - 1967 و1967- 1968) خصبين وسعيدين إلى أبعد الحدود. فعدد الطلبة لم يكن كبيراً، وهو ما كان يسمح بسهولة التعرف عليهم وتتبع مسار تطورهم. كنا نمضي في الجامعة وقتاً أطول من الآن، بحيث نقضي فيها، باختيارنا، اليوم بأكمله. هذه كانت بالنسبة إليّ طريقة لاستعادة أجواء ستراسبورغ وبعثها في باريس. لم تبرحني قط فكرة تكوين جماعة تضم الأساتذة والطلبة، وهو ما قادني إلى دعم مشروع يقضي بإدماج الطلبة في مجلس الجامعة. أعتقد اليوم بأنّه كان خطأً فادحاً، فأن تكون طالباً ليس معناه الانخراط في سلك مهنة ما.

يعد النظام الأنجلوسكسوني، بهذا الصدد، أفضل بكثير، لأنّه يتوفر على منظمات طلابية قوية جداً، تُحاوِر من الخارج، لكنّها مع ذلك تملك وزناً أكبر مما لو كانت تائهة داخل المجالس الإدارية حيث لا تتخذ أيّ قرارات تحظى بالأهمية في تلك المرحلة التي كانت فيها كل الصلاحيات بيد الوزارات.

كنت سنة 1968 أستاذاً ورئيساً لشعبة الفلسفة. وكنت في المكان نفسه حينما اندلعت "الأحداث" كما يقال.

بول ريكورانطلقت الأحداث في نانتير لأسباب لا تتعلق بالتدريس، مثل حق الذكور في زيارة الإناث في أماكن إقامتهن، لقد كانت "الثورة الجنسية" هي الشرارة التي فجرت الأحداث. عانت نانتير من عائقين اثنين: الأول يرتبط باختيار التخصصات المتوفرة من مثل: الآداب والحقوق والعلوم الاقتصادية والعلوم السياسية، وقد كان لطلبة الآداب يسار قوي، فيما كان لطلبة الحقوق يمين نشيط، أما المواجهة بينهما فكانت محتومة. أما العائق الثاني فيقترن بجغرافية الاستقطاب الطلابي، حيث إنّنا نجد الطلبة المنحدرين من وسط بورجوازي، من الضواحي السكنية لـ"نويلي " (Neuilly)، ومن الدائرة VIХ وXVII، وهناك الطلبة القادمون من وسط شعبي، من نانتير والضواحي الأقل غنًى. بنات وأبناء البورجوازيين كانوا يساريين أما البقية فمن الشيوعيين الذين أبدوا تشبثهم القوي بالسير الجيد للمؤسسة، لأنّ الجامعة مازالت تمثل بالنسبة إليهم وسيلة تقليدية لتحصيل المعرفة والارتقاء الاجتماعي. أما البورجوازيون فقد كانوا، على عكس ذلك، يشعرون بأنّ الجامعة لم تعد العامل المفضَّل للارتقاء الاجتماعي. فلما كان آباؤهم قد اكتسحوا هذه المواقع، فإنّ أبناءهم سيتحالفون مع أولئك الذين تواجدوا في الجامعة، من دون أن تكون لهم أيّ وسيلة للنجاح، وشرعوا في التفكير في كيفية تدمير الأداة التي ما عادت، في نظرهم، وسيلة مضمونة للنجاح في المستقبل. وعندما أصبحتُ عميداً، في مارس 1960، استفدت من دعامتين إيديولوجيتين، إذا جاز لي قول ذلك: الشيوعيون المعادون للنزعة اليسارية والكاثوليك الملتزمون اجتماعياً؛ أما خصومي فكانوا بشكل مفارق، من البورجوازيين التقليديين والبورجوازيين اليساريين.

 

ماهو الحكم الذي كنت تصدره سنة 1968 حول ما كان يجري؟

بول ريكوركان الحكم إيجابياً في البداية، إذ كنت أُقدِّر أنّ الإيجابي سيتغلب على السلبي؛ لقد بدت لي تجربة تحرير القول، حيث أصبح الكل يتكلم مع الكل، وجميع مظاهر المشاركة في المأدبات رائعة. واليوم أتساءل ماذا حدث فعلاً؟ لاشيء أم الكثير؟ هل كان الأمر لا يعدو كونه حلم يقظة كبير؟ أم أنّه نوع من اللعب كما كان يذهب إلى ذلك "ريمون أرون"؟ أم أنّ شيئاً مهمًّا حصل لم يتمكن من إيجاد تصريف سياسي، لكنه يملك مع ذلك، دلالة ثقافية عميقة، كانت بمثابة كشف عن كل ما كان مخبوءاً أو مستوراً، وكل ما تمت الحيلولة بينه وبين الطفو على السطح ـ نوع من التحرير والانبجاس الاجتماعي؟ لماذا حدث هذا بشكل متزامن في كل أنحاء العالم، في باريس، وطوكيو، وبرلين، وفي كل المدن الجامعية الأمريكية؟ إنّ العنصر المشترك الوحيد بينها، في ما يبدو لي، هو النمو الديمغرافي السريع غير المتحكم فيه من قِبَل مؤسسة كانت نخبوية في الأصل، فوجدت نفسها، بسرعة فائقة، مُلزَمة بالخضوع لتوجه أكثر شعبية، مع أنّها ظلت عاجزة عن ملاءمة بنيتها النخبوية مع وظيفتها الجديدة المتمثلة في نشر عام للمعرفة. لا أجد سوى هذا العامل لتفسير ما حصل، خاصة أنّه القاسم المشترك بين الأنظمة الجامعية الأربعة التي شهدت أحداثاً مماثلة. أضف إلى ذلك، أنّ تحولات في العادات، التي تتقاطع على الرغم من تمايزها، قد أبرزت صعوداً قوياً لفئة عُمرية حال بينها وبين حلمها بالتحرر تبعية حقيقية على المستويين الاقتصادي والمالي ستزداد حِدَّتها في ما بعد.

هذا صحيح. غير أنّ هذه الظاهرة في فرنسا تجاوزت فضاء الجامعة.

بول ريكورأجل، وذلك لأنّ الطلبة نجحوا في تعبئة النقابات العمالية. غير أنّهم وفي الوقت نفسه لم يتفطنوا إلى كون النقابات تسيطر على الوضع بصورة أفضل منهم، وتعرف جيداً الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها. والأمر المُحيِّر، من جهة أخرى، هو الاعتدال الذي طبع أداء الشرطة. تردد على لسان بعضهم أنّها كانت عنيفة في تدخلاتها، إلا أنّها في الواقع أثبتت مهارتها وحنكتها، إذ لم تُسَجل أيّ حالة وفاة، وهو أمر مذهل، قياساً إلى عدد الأشخاص المشاركين في التظاهرات، وبالنظر أيضاً إلى عدد التظاهرات المنظمة.

 

متى شعرت بأنّ الأمور بدأت تخرج عن اختصاصك؟

بول ريكوربعد رجوع الجنرال دوغول في 31 ماي 1968. قبل هذا التاريخ كان هناك مشروع سياسي؛ صحيح أنّه مجنون بعض الشيء، لكنه لم يكن يفتقد إلى التماسك، إذ كان يقوم على فكرة مفادها أنّ المؤسسات سلسلة تُعتبر الجامعة حلقتها الأضعف، وأنّه بالانتقال من حلقة ضعيفة إلى حلقة أقل ضعفاً، ستسقط كل قطع الدومينو. والحال أنّه منذ اليوم الذي استلم فيه الجنرال الحكم، لم يجد في مواجهته أي مشروع سياسي واضح المعالم، المشروع الوحيد الذي كان وقتها هو تخريب المؤسسة. هذا ما وَرَثْتُهُ سنة 1969 حينما تم اختياري لمنصب العمادة. وجدت أمامي إرادة الفوضى التي لم يعد لها أي مبرر سياسي، بل مبرر محلي قائم على تعطيل الجامعة ومنعها من الاشتغال، لقد كان هامش المناقشة ضيقاً جداً. كان الوضع، عام 1969 متعفناً وبلا أي مشروع سياسي، اللهم إلا ما تعلق بمجابهة إيديولوجية خالصة، حيث تتم مماهاة السلطة بالعنف، وإدانتها على هذا الأساس، بلا أدنى تمييز.

 

هل حظي انتخابك عميداً بالإجماع؟

بول ريكورلقد تم انتخابي بطريقة مدهشة للغاية. سبقت لي المشاركة مع مجموعات تضم الأساتذة، والأساتذة المساعدين، والطلبة في الكثير من القرارات والنقاشات والمشاريع الطوباوية إلى حد ما، والطامحة إلى إعادة خلق الجامعة. وُضِعْتُ إلى جانب "روني ريمون" (René Rémond) في حالة تنافس دون أن يكون أيٌّ منا قد رَشَّح نفسه، والسبب الوحيد وراء ذلك هو تركه للنقابة المستقلة، ومغادرتي للنقابة الوطنية للتعليم العالي (S.N.E.S.U.P): رفضنا العمل النقابي لأسباب عديدة؛ وقد تَمَّ انتخابي من طرف مجلس التدبير المؤقت، الذي كان يتألف في تلك الفترة من الأساتذة، والأساتذة المساعدين والطلبة. وبعد فرز الأصوات، حصلت على شبه إجماع الطلبة، وظفرت بغالبية أصوات الأساتذة المساعدين، في حين لم أحصل إلا على ثقة عدد قليل من الأساتذة. شعرت بأنّه من واجبي القبول، لكن بشرط أن يكون "روني ريمون" هو خليفتي؛ غير أنّ من منحوني ثقتهم لم يستسيغوا هذا الشرط، لأنّ "روني ريمون" حصل على معظم أصوات الأساتذة. إلا أنّنا مع ذلك عملنا سوياً على الدوام. ولا يخفى أنّ "روني ريمون" قد أَلَّفَ كتاباً [23] هاماً جدّاً روى فيه القصة الكاملة لـ "نانتير". وقد برهن عن وفائه المطلق لاختياراتي حتى عندما كان لا يشاطرني الرأي فيها، أذكر، على سبيل المثال، مؤاخذته لي بسبب صبري الطويل على اليساريين.

 

إجمالاً يمكن القول بأنّ سنة 1969 كانت، بحسبك، مختلفة عن سنة 1968، من حيث أنّ عداء الطلبة صار موجهاً بجرأة نحو الأساتذة.

بول ريكور:  شهدت سنة 1969 نوعاً من الرفض للمعرفة. وأتذكر أنّي سُحبت مَرَّة إلى مدرج كبير لكي أشرح موقفي. سئلت: "ما الذي تملكه أكثر منا؟" فأجبت: "إنّي قرأت من الكتب أكثر مما قرأتم". كان هذا الرفض يُماهي، بلا أدنى تمييز، بين المعرفة والسلطة، فيما اختُزلت السلطة في العنف، بحيث تَرَسَّخ عندهم الاعتقاد بأنّ كل ما له صلة بالعلاقة العمودية لا يمكن أن يُعايش بصدق ونزاهة.

 

احتفظت بمنصبك عميدًا لمدة سنة تقريباً، قَدَّمت بعدها استقالتك عام 1970. ومعلوم أنّ الأحداث التي سبقت استقالتك قد أدت إلى تعليقات كثيرة ووَلَّدت حكايات أقرب إلى الخيال. هل لك أن تروي لنا الوقائع كما حدثت، وبالأخص نريد أن نعرف الطريقة التي اقتحمت بها الشرطة الحرم الجامعي؟

بول ريكورأنا شَديدُ الحرص، وكشهادة للتاريخ، على تصحيح ما ورد بصدد قدوم الشرطة إلى نانتير، لأنّ التأويل الذي أعطي له كان مخجلاً بالنسبة إليّ. ففي أوج الأزمة، استدعيت من طرف الوزير "غيشار" (Guichard)، في الوقت الذي صادق فيه مجلس تدبير الجامعة، في هذه الظروف الاستثنائية، على نص يقول بأنّنا نتخلى عن الحفاظ على الأمن داخل الحرم الجامعي، فيما نحتفظ بمسؤوليتنا السيادية على البناية. قال لي الوزير في ليلة هذا التصويت نفسها: "لا بد من استتباب الأمن، إذ لا يمكن للوضع أن يستمر على ما هو عليه". ولمّا عدت إلى المنزل، اتصل بي كاتبه في منتصف الليل ليقول لي: "غداً صباحاً، في الساعة السابعة، ستداهم الشرطة الحرم الجامعي". أجبته بأنّه لايمكنه فعل ذلك، فرد قائلاً: "كلاّ، لقد صوّتم ليلة أمس على نص يقضي بجعل الحرم خارج سلطتكم. إنّنا سنتدخل لأنّكم تَخَلَّيتم عن سلطتكم"، وعلى هذا النحو، وجدت الشرطة في المكان نفسه. لم أقم باستدعائها، فقد كانت موجودة سلفاً.

قال لي "روني ريمون" مؤخراً: "الغريب أنّ كل ما حصل كان غير قانوني. لم يكن لنا الحق في التصويت على مثل هذا النص، فضلاً عن أنّه لم تتم المصادقة عليه من طرف أيّ سلطة مختصة" أي أنّني كنت في الواقع، دون أن أعلم، مسؤولاً عن الحفاظ على الأمن داخل الحرم، طالما كان تصويتنا بترك مسؤوليتنا عنه بدوره باطلاً. رد فعلي حينها كان باختيار أسوأ الحلول، لأنّ الشرطة المُحاصرة للبنايات تعرضت لـ "القصف" بالآلات الكاتبة والطاولات... إلخ، وما كنت أخشاه حقيقة هو سقوط ضحايا؛ لقد تعرضت "نانتير" لثلاثة أيام من التخريب. وبعدها بثمانية أيام قَدَّمْتُ استقالتي.

والآن، بعد مرور كل هذا الزمن، أيُّ تأويل تعطيه لاستقالتك؟

بول ريكورأستطيع القول بأنّ فشلي في "نانتير" كان فشلاً لمشروع مستحيل سعى إلى التوفيق بين التدبير الذاتي والبنية التراتبية المحايثة لكل مؤسسة؛ أو على أيّ حال للتوزيع اللامتناسق للأدوار المتمايزة التي يفضي إليها. لكن ربما يكون عمق المسألة الديمقراطية كامناً في القدرة على التوفيق بين العلاقة العمودية لفعل الهيمنة ـ إذا ما أردنا استعمال قاموس "ماكس فيبر" والعلاقة الأفقية للعيش المشترك ـ أو إن شئت قُل التوفيق بين "ماكس فيبر" و"حنا أرندت". يعود إخفاقي الأساسي إلى كوني رغبت في إعادة بناء العلاقة التراتبية انطلاقاً من العلاقة الأفقية. وبهذا الصدد، أشير إلى أنّ الأحداث التي رافقت المدة التي قضيتها في العمادة قد أَغنت تأملاتي اللاحقة في السياسة.

أعتقد بأنّه قد انغرس عميقاً بداخلي، وبصورة دائمة، خليط غير مستقر بين حلم طوباوي بالتدبير الذاتي، والتجربة الدقيقة والإيجابية جدّاً للحرم الجامعي الأمريكي والتي يتعين أن نضيف إليها معرفة الجامعة الألمانية التي تشكل واقعاً بَيْنِياً. كنت أتحرك بين طوباوية غير عنيفة، وشعور بأنّ هناك شيئاً لا يُقهر يظل حاضراً في علاقة السيادة، وفي الحكم؛ وهو ما أعقلنه الآن باعتباره الصعوبة المتمثلة في مفصلة العلاقة اللامتناسقة والعلاقة التبادلية. عندما يملي علينا الواجب أو التفويض أن نتحمل مسؤولية العلاقة العمودية، فإنّنا نبحث باستمرار كيف نعطي لها شرعية مستمدة من العلاقة الأفقية. ولا تكون هذه الشرعية، في النهاية، أصيلة إلا إذا كانت تسمح باختفاء كُلِّي للتناسقية المرتبطة بالعلاقة المؤسسية العمودية؛ والحال أنّ هذه العلاقة لا تختفي تماماً، لأنّها لا تقهر: لا يمكن أبداً لسلطة اتخاذ القرار أن تتطابق بشكل تام مع التصور المثالي لديموقراطية مباشرة يكون في وسع كل واحد أن يساهم في اتخاذ القرار. ألا نلاحظ اليوم، على المستوى القضائي ـ السياسي، بأنّ المشاكل الحقيقية التي تواجه العدالة ليست تلك التي تتعلق بالتوزيع المتكافئ، وإنّما تلك التي تترتب على التوزيع غير المتكافئ؟ والسؤال يعود، في النهاية، إلى تحديد ما هي التفاوتات الأقل ظلماً؟ إذ تعتبر التوزيعات غير المتكافئة بمثابة الخبز اليومي للسلطة التي تحكم مختلف المؤسسات. إنّه المشكل الذي ألفيه مجدداً، اليوم، عند "رولز" (Rawls)، وعند مختلف نظريات العدالة.

لكني لا أخفي أنّي تعلمت الكثير من هذه المحاولة، ومن هذا الفشل. فعبر محاولتي فهم أسباب فشلي، ومن خلال فحص دقيق للمؤسسة، حصل عندي الوعي أكثر بتربيع الدائرة الخاصة بالسياسة، حيث يلوح التوفيق بين التراتبي والتعايشي حلمًا مستحيلاً، على هذا النحو تتبدى لي متاهة السياسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق