الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

اسبينوزا (فصل من تاريخ الفلسفة الحديثة)./ د. أشرف منصور


 

تاريخ الفلسفة الحديثة: 2) سبينوزا



 

تاريخ الفلسفة الحديثة: 2) سبينوزا (1632-1677)
د. أشرف منصور

حياته وأعماله :
ولد باروخ سبينوزا بأمستردام بهولندا سنة 1632، لأب وأم يهوديين هاجرا من البرتغال. اضطر كثيرٌ من يهود شبه جزيرة إيبريا (أسبانيا والبرتغال) إلى الهجرة لكثير من دول غرب أوروبا هروباً من اضطهاد السلطات هناك. وفي البداية اضطروا إلى اعتناق المسيحية ، أما بعد أن وجدوا مناخاً متسامحاً في هولندا فقد عادوا مرة أخرى إلى اليهودية. كان والد سبينوزا تاجراً ناجحاً في أمستردام، وبالإضافة إلى تجارته تولى كثيراً من المناصب الدينية في المجتمع اليهودي هناك، بل وعدداً من المهام التدريسية المنصبة على تعاليم التلمود.
وكان سبينوزا تلميذاً نجيباً وموهوباً، وتلقى تعليماً دينياً في مدرسة الجالية اليهودية بأمستردام، وعلى الرغم من تعمقه في دراسة التوراة والتلمود، إلا أنه لم يتم إعداده ليصبح كاهناً يهودياً كما أعتقد الكثير من كتاب سيرته( ). بعد وفاة أبيه تولى أخوه الأكبر شؤون تجارته، وعندما مات هذا الأخ، وقع على عتق سبينوزا إدارة الشركة التجارية التي تركها الأب. لكن لم تكن لسبينوزا مواهب تجارية ولم تكن شؤون المال والأعمال من اهتماماته، ولذلك أهمل التجارة حتى تراكمت الديون وتوقفت الشركة عن نشاطها. وعلى الرغم من ذلك فقد حصل سبينوزا على قليل من مال أبيه مكنه من إكمال دراسته، وعندما لم يكفِه الميراث لمتطلبات حياته، انشغل في عمل ذي طابع نادر في تلك الآونة وهو صنع العدسات الطبية. ويبدو أن هذه المهنة كانت هي الوحيدة التي شدت انتباه سبينوزا وكانت متفقة مع ميوله، إذ كانت مهنة ذات طابع علمي تعتمد على جانب نظري متعلق بعلم البصريات وجانب عملي يعتمد على العلم التجريبي والخبرة المعملية.
تعرف في أوائل خمسينات القرن السابع عشر على السياسي الراديكالي المفكر الحر فان دن إنده
Van den Ende، الذي عرفه على الآداب اللاتينية وعلى فلسفة ديكارت( ) وكلما زاد اهتمام سبينوزا بالآداب والفلسفة قل إيمانه بالديانة اليهودية، على الرغم من أنه في هذه الفترة كان مواظباً على حضور الاجتماعات والمناسبات الدينية في المعبد اليهودى وملتزماً بأداء الصدقات والزكاة والتبرعات للمجتمع اليهودي. لكن كل ذلك لم يشفع له لدى القائمين على الدين اليهودي، وهاجموه نظراً لآراءه المتحررة التي نظروا إليها على أنها متطرفة وإلحادية، حتى أنهم أصدروا في حقه سنة 1656 مرسوماً بالحرمان، يحظر التعامل معه أو محادثته من قبل أعضاء الجالية اليهودية. لكن هذا المرسوم لم يذكر الأسباب التي دفعت الجالية اليهودية لحرمانه ولم تذكر آراءه تلك، ولذلك لا نعرف على وجه الدقة السبب في هذا الحرمان ولأي آراء بالضبط. وكان هذا الحرمان عاملاً على مزيد من الابتعاد من قبل سبينوزا عن الديانة اليهودية، والمزيد من اقترابه من الأفكار التنويرية الحديثة المليئة بالثورة على سلطة رجال الدين.
وفي أواخر الخمسينيات من القرن السابع عشر تعرف سبينوزا على مفكر حر هو لود فيج ماير، وكون معه ومع مجموعة من الأصدقاء المقربين جماعة قراءة ودراسة انصب اهتمامها على دراسة فلسفة ديكارت. وعندما لاحظت الجماعة براعة وتعمق سبينوزا في الفلسفة الديكارتية طلبت منه أن يكتب ملخصاً شاملاً لها، وهكذا أخرج سبينوزا أول مؤلفاته وهو كتاب «مبادئ الفلسفة الديكارتية»( ). وعندما بدأ سبينوزا من خلال هذه الجماعة فى وضع فلسفته الخاصة بدأت الجماعة في دراسة فلسفته ومناقشتها معه تاركة فلسفة ديكارت. وفي نفس هذه الفترة بدأ سبينوزا في تأليف أول عمل فلسفي خاص به وهو رسالة في تهذيب العقل»
Tractatus de intellectus emendotione، وفيها تناول سبينوزا طبيعة المعرفة وأنواعها، والسبل المناسبة للوصول إلى الفهم الصحيح لكل ما يمثل خير الإنسان، وذلك عن طريق علاجه من أوهامه وأخطائه وتطهيره بمنهج سليم يستطع به التمييز به بين الأفكار الغامضة والواضحة والأهم من ذلك إثبات وحدة العقل والطبيعة، وأنه ليس هناك أي تناقض بين الروح والجسم والفكر والمادة، تلك الثنائيات التي سيطرت على فلسفة ديكارت( ). والحقيقة أن سبينوزا لم يكمل هذه الرسالة ولم ينشرها أبداً في حياته بل نشرت بعد وفاته بعشرات السنين، ويرجع السبب في ذلك إلى أن سبينوزا كان دائماً ما يكتب لجماعته النقاشية الصغيرة، ولذلك لم يكن لديه الحافز لنشر آرائه على الجمهور، إذ كان يشعر أن أفكاره ينقصها الكمال. كما يرجع السبب إلى أن سبينوزا عندما اكتشف أن النتائج النهائية في رسالة تهذيب العقل هي إثبات وحدة العقل والطبيعة والقضاء على الثنائيات التقليدية في تاريخ الفلسفة ترك العمل في الرسالة واتجه اهتمامه إلى عمل أكثر ميتافيزيقية يركز على العلاقة بين الفكر والوجود والروح والجسد، ولذلك عكف على تأليف رسالة أخرى عنوانها: «رسالة قصيرة حول الإله والإنسان وصلاحه في الحياة» سنة 1661. لكنه سرعان ما توقف عن كتابتها بسبب اعتقاده أن أفكاره لن تنال القبول، وتركها كي ينشغل في عمل آخر يتناول فيه نفس الموضوعات ولكن بمنهج جديد يستطيع به تقديم أفكاره بصورة منطقية تجبر قارئها على الاعتقاد بها دون معارضة، وهذا هو المنهج الهندسي الذي يبدأ بمسلمات وفروض ثم قضايا مستنبطة منها، وهو الذي اتبعه في كتابه الرئيسي «الأخلاق». واستغرق منه العمل في هذا الكتاب سنوات طويلة حتى أكمله سنة 1675، ولم يستطع نشره إلا قبيل وفاته بأشهر سنة 1677 دون وضع اسمه على الكتاب خوفاً من السلطات الدينية. وكان سبينوزا قد انشغل في أواخر الستينيات بأحد أهم مؤلفاته وهو «رسالة في اللاهوت والسياسة» الذي يتناول فيه قضية العلاقة بين العقل والإيمان، والسلطة الدينية والسلطة السياسية، وفيه يثبت أن التفلسف ليس خطراً على الدولة أو على الإيمان، وأن الحرية الفكرية والدينية ضرورية في دولة ديمقراطية حديثة، وقد نشره سبينوزا في 1670 دون وضع اسمه على الغلاف، وقد اتبع هذا الأسلوب أيضاً مع كتاب الأخلاق سنة 1677( ). وعلى الرغم من ذلك فإن كل من عاصروا سبينوزا كانوا يعلمون أنه هو مؤلف الكتابين. وآخر عمل انشغل فيه كان «رسالة في السياسة» سنة 1676، ونشر بعد وفاته، وفيه يضع نظريته في الحقوق الطبيعية والمدنية ويوضح أفضلية النظام الديمقراطي والجمهوري، ويتناول فيه أنواع الحكومات المختلفة من أرستقراطية وملكية وديمقراطية، موضحاً أفضلية النظام الديمقراطي على غيره. وتوفى سبينوزا في 21 فبراير 1677، وتولى أصدقاءه بعد وفاته نشر طبعة كاملة لمؤلفاته.


أولاً - الميتافيزيقيا:
1 - الهدف من كتاب «الأخلاق»:
ألف سبينوزا عدداً صغيراً من المؤلفات، أولها عن «مبادئ الفلسفة الديكارتية» وأخرها كتابه الشهير «الأخلاق» الذي نشر بعد وفاته. والحقيقة أن كل فلسفة سبينوزا يجدها المرء في كتابه «الأخلاق»، أما كتابه الشهير الآخر «رسالة في اللاهوت والسياسة» فهو بحث نقدي في العلاقة بين الدين والسياسة، والمؤسسة الدينية والدولة. وعلى الرغم من قلة مؤلفاته إلا أنها أحدثت تأثيراً واسعاً في الفكر الفلسفي اللاحق، وخاصة كتاب «الأخلاق». يبدو من عنوان الكتاب أنه يتحدث عن الأخلاق باعتبارها نوعاً من فروع الفلسفة، لكن الكتاب لا يتناول هذا المعنى المعروف لكلمة «الأخلاق»
Ethics إلا في الجزء الأخير من الكتاب. ويفاجأ القارئ أن كتاب الأخلاق لا يحتوي على مذهب سبينوزا فى الأخلاق إلا في نهايته( )،
أما أغلبه فهو بحث في الإله، وفي الإنسان: طبيعته وطبيعة معرفته، وأخيراً الأخلاق. لماذا وضع سبينوزا كلمة «الأخلاق» عنواناً لكتابه الذي يضم مذهباً يجمع بين الميتافيزيقا والمعرفة والأخلاق؟ إن سبينوزا يتعامل في أغلبه مع الموضوعات الميتافيزيقية والأنطولوجية والإبستمولوجية مثل الإله والعالم والجوهر والكمال والمعرفة البشرية والفهم الإنساني، فما هي دلالة تسمية كتابه بالأخلاق إذن؟ الحقيقة أن ما جعل سبينوزا يضع هذا العنوان قناعته أن كل تأملات الفلسفة الميتافيزيقية وكل ما يمكن أن يضعه العقل البشري من أفكار أنطولوجية ليس له غاية نهائية إلا توجيه الإنسان في حياته من أجل هدف سامٍ لهذه الحياة الإنسانية وهو السعادة وسلامة الإنسان العقلية والأخلاقية.

وهكذا يعود سبينوزا إلى معنى قديم في الفلسفة تم تناسيه لفترة طويلة، وهو المعنى الذي يربط كل تأمل عقلي وكل نظرة مجردة بالسعادة الإنسانية. إذا كان سبينوزا يضع نسقاً ميتافيزيقياً وانطولوجياً ومعرفياً في كتابه فإن هذا يهدف في النهاية إلى سعادة الإنسان وسلوكه السليم في مجتمع عقلاني. وكان سبينوزا في ذلك مفتتحاً لتوجه جديد في الفكر الأوروبي يربط بين العقل والأخلاق، وكأنه يقول أن الأخلاق السليمة القويمة الهادية لسلوك البشر تستند في النهاية على عقل سليم منفتح وواع بمكانه في هذا الكون. واعتقد سبينوزا أن مذهباً أخلاقياً لا يمكن تأسيسه على نحو صحيح ما لم يتضمن حلاً للمشاكل التقليدية حول العلاقة بين الإله والعالم، والنفس والجسم، والروح والمادة. واجه سبينوزا تراثاً فلسفياً سابقاً عليه يقيم فصلاً تاماً بين الجانب الروحي والجانب الجسدي من الإنسان، وبين الإله والعالم، وكانت نتيجة ذلك أن تم إعطاء الأولوية للروح على الجسد، وللإله على العالم. وفي نظر سبينوزا فلا يمكن أن يقسم الإنسان إلى هذه الثنائية ما لم يترتب على ذلك نتائج وخيمة بالنسبة للأخلاق. ذلك لأن الاعتقاد في وجود الإله مفارقاً للعالم يؤدي إلى أن يزهد الإنسان في هذا العالم ويتقشف أو يترهبن ويترك حياته كلها باعتبارها زيفاً وفناءً، والاعتقاد في أولوية الروح على الجسد يؤدي أيضاً إلى إهمال الجانب الجسدي من الإنسان. وفي مقابل ذلك ذهب سبينوزا إلى أنه ليس هناك انفصال حقيقي بين الإله والعالم أو الروح والمادة أو الروح والجسد. فالكون عنده شئ واحد مكون من جانبين: جانب إلهي وجانب عالمي دنيوي، والإنسان عنده شئ واحد مكون من جانب روحي وجانب جسدي. بل أن سبينوزا قد أخرج لنا نتيجة أخرى ثورية تقول بأن الإله والعالم شئ واحد، والروح والجسم شئ واحد، والروح والمادة شئ واحد.


2 - المنهج الهندسي:
يمكن تقسيم كتاب «الأخلاق» من ثلاثة أجزاء، الأول عن الإله وفيه يضع سبينوزا نظريته الأنطولوجية، والثاني حول الإنسان وهو نظرية سبينوزا في المعرفة، والثالث حول الأخلاق. كتب سبينوزا كتابه هذا بالطريقة الهندسية، إذ بدأ بمجموعة من التعريفات، فقد بدأ بتعريف الجوهر، منتقلاً منه إلى المصادرات
Axioms، فمن تعريف الجوهر على أنه هو القائم بذاته والذي ليس في حاجة إلى شئ آخر ليقوم أو يوجد، يتوصل في المصادرة إلى أن الجوهر الحقيقي هو الإله أو العالم، ثم في القضايا أو المبرهنات يثبت كيف أن الجوهر الإلهي والجوهر المادي شئ واحد، وكيف أن الروح والمادة شئ واحد، وكيف أن الامتداد يجب أن يكون خاصية للجوهر الحقيقي وهو الإله أو العالم( )، ويفاجئ القارئ بقوله إن الإله يجب أن يكون محتوياً على الامتداد، في حين أن كل المذاهب الفلسفية السابقة قد فصلت بين الجانب الروحي الذي يقف الإله على رأسه والجانب المادي.

وقد وجد كثير من قراء سبينوزا صعوبة بالغة في تتبع حججه في هذا الكتاب نظراً لصعوبة الشكل الهندسي الذي وضع فيه فلسفته. وهذه الصعوبة لم تكن مقتصرة على القارئ العادي، بل إن فلاسفة كبار من أمثال هنري برجسون قد أعلنوا عن الصعوبة التي واجهوها في قراءة كتاب «الأخلاق» لسبينوزا. ما الذي جعل سبينوزا يفضل المنهج الهندسي في عرض فلسفته؟
الحقيقة أن هناك أسباباً كثيرة دفعته إلى ذلك منها: (1) أن الهندسة في عصر سبينوزا بالذات كانت مثالاً على العلم التام والمكتمل واليقين الذي وصل إلى الدقة المتناهية والصرامة المنهجية والوضوح الفكري. وقد مثلت الهندسة نموذج العلم الكامل منذ أن وضع إقليدس مبادئ هذا العلم في القرن الثالث قبل الميلاد( ). والحقيقة أن «الأخلاق» لسبينوزا تتبع طريقة إقليدس في كتابه «العناصر». وبعد سبينوزا نجد أن نيوتن في تأسيسه لعلم الطبيعة قد استند على نفس الأسلوب. ليس غريباً أن يتبع المرء المنهج الهندسي في عرض علم الهندسة أو علم الفيزياء، ذلك لأن هذا المنهج مناسب تماماً لهذين الموضوعين. والغريب حقاً أن يتبع فيلسوفاً هذا المنهج في عرض فلسفته المكونة من ميتافيزيقا وإبستمولوجيا وأخلاق. لكن فضل سبينوزا المنهج الهندسي في عرض هذه الموضوعات نظراً لأنه كان يتبنى اعتقاداً قوياً بإمكان الوصول إلى الحقيقة وإلى الدقة العلمية والمنهجية التامة في بحث قضايا الفلسفة( )، لذلك لأنه كان يذهب إلى قدرة العقل اللامحدودة على الوصول إلى تنظيم كل المعارف والأفكار وعلى معرفة حقائق الكون. وكان سبينوزا في ذلك متبنياً وجهة النظر اليونانية القديمة القائلة أن العالم منظم بصورة هندسية ورياضية قوامها النظام والانسجام والدقة وأن الإنسان جزء من هذا العالم، وإذا أراد تنظيم حياته، وسلوكه وأخلاقه ومعتقداته، فيجب عليه أن يتيح للعقل فرصة كي يضفي نفس النظام والانسجام والدقة الموجودة في الكون على حياته وسلوكه.

 كما لم يكن سبينوزا يفصل بين عقلانية تسود عالم الطبيعة وعقلانية أخرى تسود عالم الإنسان، فالعقلانية عنده واحدة. يعتقد الفكر المعاصر أن عالم الإنسان هو عالم الفوضى واللايقين والاحتمال، وذلك من جراء الكوارث التي حلت بالإنسان في العصر الحديث، أما سبينوزا، وعلى الرغم من وعيه بالفوضى التي تسود العالم الإنساني، كان متفائلاً ومعتقداً في إمكانية تنظيم الحياة الإنسانية تنظيماً عقلانياً، والعقلانية عنده واحدة سواء تجلت في صورة قوانين طبيعية في الكون أو قوانين تحكم العالم الإنساني. وجاء هذا الرأي بفضل نظرته إلى الروح والمادة على أنهما شئ واحد، والنفس والجسم على أنهما أيضاً شئ واحد. وبما أنهما شئ واحد فلا توجد إلا عقلانية واحدة. هذه العقلانية الواحدة الشاملة للإنسان والكون هي التي تتيح لسبينوزا أن يطبق المنهج الهندسي على قضايا الألوهية والعالم والإنسان والمعرفة والأخلاق.
(2) هناك سبب آخر جعل سبينوزا يفضل المنهج الهندسي وهو الإقلال من فوضى الاختلاف والتعارض والتناقض الذي ينشأ دائماً فى مناقشة القضايا الميتافيزيقية والأخلاقية، وكأنه يلزم قارئه بشكل صارم ودقيق من البرهان لا يستطيع معه الاختلاف أو الاعتراض، ذلك لأن المعترض عليه أن يرجع إلى التعريفات والمصادرات التي يضعها سبينوزا في بداية كل برهان، ومن الصعب على المعترض أن يناقشها نظراً لأنها واضحة بذاتها يعتنقها الفكر الإنساني كله( ). فليس من السهل على أحد أن يعترض على تعريف الجوهر بأنه لا يقوم بذاته، وبذلك تصبح النتيجة المترتبة على ذلك هي أن الإله هو الجوهر الوحيد الحقيقي، وأن الامتداد يجب أن يكون خاصية للإله أو لأي جانب روحي. ذلك لأن الجوهر الواحد يجب ألا يكون هناك شئ خارجاً عنه أو مختلفاً عنه، فلا يمكن تصور وجود مادة مستقلة عن الجوهر الواحد وإلا لقلنا أن هناك جوهرين، روح ومادة. وبما أن الجوهر واحد فيجب أن يكون روحياً ومادياً في نفس الوقت، ويجب أن يكون الامتداد من ماهية الألوهية. هكذا يستفيد سبينوزا من المنهج الهندسي في تقديم أفكاره الثورية غير المسبوقة بأسلوب يقلل من غرابتها التي تبدو للوهلة الأولى والتي تخالف كل ما كان متعارفاً عليه في المذاهب الفلسفية السابقة.
3 - الجوهر وصفاته:
عرَّف سبينوزا الجوهر بأنه «ما هو في ذاته وما يُتصور من ذاته، أي الذي لا يتطلب مفهومه مفهوم أي شئ آخر يتكون منه»( ). ومعنى ذلك أن الجوهر عند سبينوزا هو ذلك الذي يتقوم من ذاته وفي غير حاجة لأي شئ آخر كي يوجد. والحقيقة أن هذا التعريف لا يمكن أن ينطبق على أي شئ محدد، ذلك لأن أشياء العالم الطبيعي بما فيها النبات والحيوان والإنسان في حاجة إلى أشياء أخرى لتوجد. وهذا ما يجعل مفهوم الجوهر لا ينطبق على شئ إلا الإله أو الطبيعة حسب قول سبينوزا، فإذا نظرنا إلى الألوهية على أنها الضرورة الحاكمة للأشياء فسوف تصبح بذلك هي الجوهر الحقيقي، وإذا نظرنا إلى الطبيعة على أنها الكل المتجانس المنسجم الذي تحكمه القوانين الضرورية وإلى أشياء الطبيعة على أنها تعتمد كلها على بعضها البعض في تناسق وتوازن لأدركنا أن الطبيعة هي ذلك الكل الذي لا يعتمد في وجوده إلا على ذاته، أي أن الطبيعة هي الجوهر الحقيقي، وبالتالي ذهب سبينوزا إلى التوحيد بين الإله والطبيعة باعتبارهما معنيين لجوهر واحد.
ويعرف سبينوزا الصفة بأنها «ما يفهمه الذهن من الجوهر باعتباره ما يؤسس ماهيته» الصفة إذن هي ماهية الجوهر( ). وفي مقابل ديكارت الذي أقر بوجود جوهرين متمايزين ومنفصلين في الكون: الفكر والمادة، يذهب سبينوزا إلى أنه ليس هناك في الكون جوهرين بل جوهر واحد، وهذا الجوهر الواحد يحمل صفتي الفكر والامتداد في نفس الوقت. وهو لا يذهب إلى أن للجوهر ماهية مزدوجة يجمع بينهما في تضايف، الفكر والامتداد، بل يذهب إلى أن الجوهر الواحد الحقيقي لديه صفة واحدة هي فكر وامتداد. إن الفكر والامتداد شئ واحد عنده( ). وعلى الرغم من غرابة هذه الفكرة إلا أن من السهل تبريرها كي تتفق مع فلسفة سبينوزا. إذ تناولنا جسماً ممتداً فسوف ندرك مباشرة أن ما يشكل ماهيته هو جسميته، أي اتخاذه شكلاً معيناً وإشغاله حيزاً من المكان، أي أن الامتداد هو ماهية كل الأشياء الجسمية. كيف سينظر سبينوزا إلى هذا الامتداد على أنه فكر؟ إذا تناولنا مفهوم الامتداد في ذاته وجدنا أن خاصيته الأساسية تتمثل في أبعاده الهندسية، والحيز الذي يشغله من المكان أيضاً هو عبارة عن حيز هندسي يمكن أن يقاس وتحكمه القوانين الرياضية. لكن العلاقات الرياضية الهندسية التي تميز الامتداد هي ذاتها نوع من الفكر، هذا بالإضافة إلى أن القوانين الفيزيائية والكيميائية التي تحكم تفاعلات الجسم وحركات الأجسام هي أيضاً نوع من الفكر. وبالتالي فإن الماهية الحقيقية للامتداد هي فكر. ومن جهة أخرى فإن الفكر كذلك يحتوي على الامتداد، حتى على مستوى الأفكار المجردة. إن مصطلح الامتداد في معظم اللغات الأوربية شبيه بالمصطلح الإنجليزي وهو
extension. وفي المنطق نميز بين المفهوم والماصدق. المفهوم هو معنى الكلمة الذي نتوصل إليه بالتعريف، أما الماصدق فهو الأشياء التي ينطبق عليها هذا المفهوم. فكلمة حيوان مثلاً لها مفهوم وهو الكائن الحي الممتلك لصفات التغذية والنمو والأحساس والتكاثر، أما ماصدق الحيوان فهو كل ما يندرج تحت هذا التعريف من كائنات حية مثل الحصان والجمل والقطة والثعلب. الماصدق إذن هو الامتداد العينى للمفهوم. لكل مفهوم النطاق الممتد الذي يشمله. مفهوم الحيوان يمتد ليشمل كل الأنواع الجزئية من الحيوانات، ومفهوم النبات يمتد ليشمل كل الأشجار والزهور والحشائش ... إلخ. لكل مقولة فكرية إذن امتدادها من الماصدقات، وبالتالي فالامتداد صفة للفكر نفسه. وهكذا نظر سبينوزا إلى الفكر والامتداد على أنهما شئ واحد، فالفكر له امتداده من الماصدقات، والامتداد نفسه ليس إلا البعد الهندسي الرياضي الذي ليس سوى فكر.
أما تعريف سبينوزا للحال فهو كالتالي: «أعنى بالحال ما يطرأ على الجوهر، أو ما يوجد في شئ غير ذاته ويتصور بشئ غير ذاته»( ). ويعنى هذا التعريف أن الحال هو التعينات الجزئية للجوهر. فإذا نظرنا إلى الإنسان على أنه جوهر، فإن الأشكال المختلفة للأجسام البشرية سوف تكون أحوالاً، أي تنويعات على الجوهر الإنساني، أو الأمثلة الجزئية لجنس الإنسان. وإذا نظرنا إلى الشكل الكروي على أنه الجوهر سوف تكون الدائرة هي صفته أو ماهيته، وتكون أحواله أو تنويعاته هي كل الأشكال الكروية الموجودة مثل الشمس والقمر وكرة القدم وكرة البلياردو والتنس...إلخ. الحال إذن هو المثال الجزئي للجوهر( ). ومن طبيعة هذا المثال الجزئي ألا يوجد في ذاته بل في شئ آخر، ذلك لأن الشمس كروية والقمر كروي وكرة القدم كروية وهي لا توجد بذاتها بل توجد باعتبارها ملحقة بالشكل الكروي الذي لا يمكن تصورها بدونه. إذا كان هناك مثال واحد فقط للشكل الكروي فلن يكون هذا المثال حالاً أو تنويعاً على الشكل الكروي بل سيكون صفة.
يلحق سبينوزا بالجوهر عدداً من الصفات وهي في الحقيقة تصل إلى أربعة: الجوهر واحد، بمعنى أنه لا يمكن وجود جوهرين اثنين، كما أن وجوده ضروري، وخالد، ولا متناهي. لنتناول كل صفة من هذه الصفات. يذهب سبينوزا إلى أنه ليس هناك إلا جوهر واحد ولا يمكن أن يكون هناك جوهران( )، ذلك لأنه إذا كان هناك وجود لجوهرين فمعنى هذا أن كل منهما سوف يحتوي على صفة مختلفة عن الآخر، إذ لا يمكن أن نميز بينهما إلا على أساس تمايز صفاتهما، ولأن الجوهر الحقيقي يحتوي على كل الصفات وعلى رأسها الفكر والامتداد فمعنى هذا أنه لا يمكن أن يكون هناك جوهر آخر بجانبه يحتوي على صفة مختلفة. ويشبه هذا البرهان الأفكار التي قدمها فلاسفة العصور الوسطى المسيحيون والمسلمون حول وحدانية الإله وهو عدم إمكان وجود إله آخر بجانبه أو استحالة وجود إلهين، كما تشبه فلسفة أفلوطين التي وضعت على رأس الوجود الواحد الذي يصدر عنه كل شئ من عقل كلي ونفس كلية. والحقيقة أن في فلسفة سبينوزا قليل من التشابه مع الأفلاطونية المحدثة ونظريتها في الصدور التي تذهب إلى صدور كل شئ عن الواحد المعروفة في الفلسفة بنظرية الفيض التي كان يعتنقها الفارابي وابن سينا.
أما الصفة الثانية للجوهر فهي أن وجوده ضروري. يذهب سبينوزا إلى أننا لا يمكن أن نتصور جوهراً واحداً يحتوي على كل الصفات وفي نفس الوقت يفتقر إلى الوجود، ذلك لأن الوجود صفة لازمة للجوهر
لا يمكن تصوره بدونها( ). وهذه الحجة أيضاً شبيهة بحجة إثبات وجود الله عند القديس أنسلم وتوما الأكوينى وديكارت( ). الملاحظ أن سبينوزا يدرك جيداً الفرق بين الفكرة والوجود الحقيقي، ويعلم أن الفكر يمكن أن يثبت الوجود نظرياً لأشياء لا وجود حقيقي لها، وهو يتجنب النقد المحتمل الذي يمكن أن يوجه إلى فكرته عن الوجود الضروري للجوهر من حيث أنه يستخلص الوجود من الفكر، ولذلك يذهب إلى أن الفكرة، وهي هنا فكرة الجوهر، إذا كانت صحيحة فمعنى هذا أن الجوهر موجود، ذلك لأننا لا يمكن أن نحوز على فكرة صحيحة ودقيقة عن شئ ويكون هذا الشئ غير موجود في نفس الوقت. إن عدم وجود هذا الشئ في حد ذاته يعنى أن فكرتنا عنه غير صحيحة وغير دقيقة. لكننا نحوز على فكرة صحيحة عن الجوهر، وبالتالي يجب أن يتصف هذا الجوهر بالوجود ضرورة.


الصفة الثالثة للجوهر هي الخلود
eternity، بمعنى أن الجوهر لم يظهر من العدم ولا يمكن أن يفنى( ). فإذا كان وجود الجوهر ضروري فإن وجوده هذا مرتبط به على نحو لا يمكن أن ينفصل، ويترتب على ذلك أنه في وجود دائم، أي خالد. ولا يجب أن نفهم خلود الجوهر هنا على أنه لا تناهي بالقياس إلى الزمان، أي على أنه أزلي ليس له أول وأبدي ليس له نهاية، ذلك لأن خلود الجوهر صفة زمانية له بل صفة وجودية أو أنطولوجية( ). ويدلل سبينوزا على صحة هذا الرأي بذهابه إلى أنه بما أن الجوهر هو علة ذاته وأن وجوده حال في ماهيته ذاتها فمعنى هذا أن الوجود ليس صفة أو حال مكتسب يطرأ على الجوهر بل هو ماهيته الأصلية. إذا نظرنا إلى خلود الجوهر على أنه أحد أحوال الجوهر فمعنى هذا أننا ألحقنا به خاصية الاستمرار والدوام في الزمان، ولكن الخلود عند سبينوزا ليس صفة زائدة على الجوهر أو حال يطرأ عليه بل هو ماهية مرتبطة به دائماً. يعني خلود الجوهر عند سبينوزا أنه علة ذاته وليس في حاجة إلى الزمان كي يتحقق فيه أو يسير فيه منذ الأزل والأبد. الجوهر ليس شيئاً يسير في زمان وتطرأ عليه الأحوال الزمانية من بداية ونهاية أو تغير أو صيرورة، ذلك لأنه فوق الزمان، أنه يلغي الزمان ذاته، ومن هنا فإنه خالد بمعنى أنه غير خاضع للزمان وفوق الزمان.


الصفة الرابعة للجوهر هي اللانهائية
Infinity( ). لا تعني لا نهائية الجوهر لا نهائية مكانية، بمعنى أنها ليست لا نهائية في إمكان انقسام الجوهر إلى عدد لا متناهي من الأجزاء، ولا تعني كذلك أن الجوهر لا متناهي في الحجم أو الضخامة. لا نهائية الجوهر عند سبينوزا تعني أن كل ما يوجد وما يمكن أن يوجد داخل فيه وليس هناك شئ آخر خارجه، فهي ليس
لا نهائية في الكم بل لا نهائية في الكيف،
ذلك لأن الجوهر هو المحدد لكل ما يمكن أن يظهر إلى الوجود، وهو السبب الكافي لأي حادثة تحدث في الكون( ). كما يعرف سبينوزا اللاتناهي في مقابل التناهي. يكون الشئ متناهياً إذا كان هناك شئ آخر يحده أو يشكل له حدوده الخارجية، فالحجم متناهٍ لأنه يشغل حيزاً من المكان، إذ تشكل حدوده المكانية حدوده النهائية التي لا يستطيع تجاوزها، كما أن الإنسان الفرد متناهي ذلك لأن له عمر محدد ينتهي بموته، ويعني التناهي أيضاً أن يكون للفرد سبباً في وجوده من غير ذاته أو خارجاً عنه، بحيث أن هذا الشئ لا يمكن أن يوجد بدون هذا السبب الخارجي. أما لا تناهي الجوهر فيعني أنه سبب لذاته، وأنه ليس هنك شئ آخر غيره يحده أو يعيقه.


4 - الإله أو الطبيعة:
والملاحظ أن كل تلك الصفات التي ألحقها سبينوزا بالجوهر هي نفس الصفات التي ألحقها الفكر الفلسفي واللاهوتي بالإله. والحقيقة أن سبينوزا عندما يبدأ في الحديث عن الإله بعد أن يفرغ من مفهوم الجوهر يعود ليلحق به كل تلك الصفات التي ألحقها بالجوهر، كما أنه بعد ذلك يثبت أنها هي نفسها صفات الطبيعة، ثم يأتي بفكرته الثورية القائلة أن الإله والطبيعة شئ واحد ويستخدم تعبيره الشهير «الإله أو الطبيعة» لمرة أو مرتين، ثم يكف عن استخدامه هذا التعبير بعد أن أثبت للقارئ أنهما شئ واحد ويستمر عبر باقي كتابه في استخدام كلمة «الإله»( ). وهذا ما أدى بكثير من الفلاسفة والمفسرين إلى الاعتقاد في أن كل مذهب سبينوزا تأليهي «أو هو بحث في الإله أو أن مذهبه هو وحدة الوجود
Pantheism، أي مذهب يقر بحضور الإله الدائم في الطبيعة، لكن كل هذه التفسيرات على خطأ، ذلك لأنه سبق أن وحد بين فكرة الإله وفكرة الطبيعة واعتقد أنهما شئ واحد. وكذلك فعندما يتكلم سبينوزا عن الإله فهو في الحقيقة يقصد الطبيعة بمعنى القوانين الضرورية الثابتة واللانهائية للكون لا الإله بالمعنى الديني.
يذهب سبينوزا إلى أن الجوهر الحقيقي لا متناهٍ، بمعنى أنه يحوز على عدد لا نهائي من الصفات والأحوال، إنه الكل الشامل لكل ما يمكن تصوره من صفات وأحوال، وكل ما يمكن أن يظهر في الوجود من صفة أو حال جديد موجود مسبقاً في هذا الجوهر اللامتناهي
( ). ثم يأتي سبينوزا بإشارة هامة وهي أن هذا الجوهر اللامتنامي هو المتعارف على تسميته بالإله أو الطبيعة. لكن كيف وحد سبينوزا بينهما واعتبرهما شيئاً واحداً؟ يعني أن كل ما يمكن أن نصف به الطبيعة يمكن أن نصف به الإله أيضاً. فالطبيعة هي الضرورة وهي القانون الحاكم للأشياء وهي
الطبيعة الطابعة، أي التي تطبع الأشياء بصفاتها وأحوالها، فقدرة النبات على التغذية والنمو مثلاً هي طبيعته، وقدرة الحيوان على الإحساس والإدراك هي الطبيعة الخاصة بالحيوان، وقدرة الإنسان على التعقل والتفكير هي طبيعته الخاصة به، وقدرة العناصر الكيميائية على التفاعل مع بعضها هي الطبيعة الكيميائية الخاصة بها. لكل موجود طبيعته الخاصة، والطبيعة بالمعنى العام الكلي والشامل هي كل تلك القوى الكيميائية والنباتية والحيوانية والإنسانية، فالطبيعة هي التي تطبع كل شئ أو كائن بالقوى الخاصة به، وإذا كانت الطبيعة هي القوة الشاملة على جعل الأشياء تتغذى وتنمو وتتحرك وتتفاعل وتحس وتعقل، فمعنى هذا أن صفة الطبيعة هذه هي نفس صفة الإله، أي القدرة الشاملة على الخلق والإيجاد والتحريك. كما أن الطبيعة تحتوي على الغائية والانتظام، بمعنى أن أشياءها تتبع أهدافاً نهائية وتترتب في صور منتظمة ومنسجمة مع بعضها البعض. فالطبيعة إذن غاية وقدرة على إحداث الانتظام والانسجام، وهذه القدرة هي التي يلحقها الفكر دائماً بالإله، وعلى هذا فإن قدرة الطبيعة هي نفسها قدرة الإله، وبذلك يكون الإله عند سبينوزا هو الطبيعة.
وعلاوة على ذلك يأتينا سبينوزا بفكرة غير مسبوقة، إذ يصل توحيده للإله والطبيعة إلى درجة أن يلحق بالإله صفة خاصة بالطبيعة وهي الامتداد( ). ما هي مبررات سبينوزا في ذلك؟ الحقيقة أن كل الفكر الإنساني قبل سبينوزا كان ينفي أي صفة مادية عن الإله ويعتبره موجوداً روحياً فقط. لكن يعتقد سبينوزا أن نفي صفة الامتداد عن الإله سوف توقعنا في صعوبة بالغة. إذ سوف توقعنا في ثنائية الإله الروحي الخالص والعالم المادي، ويكون لدينا إله في جانب وطبيعة مادية في جانب آخر.
وحسب مذهب سبينوزا فإن في الكون جوهر واحد فقط، وإذا نظرنا إلى الكون على أنه إله وعالم فمعنى هذا أننا اعترفنا بجوهرين، جوهر روحي وجوهر مادي. حاولت المذاهب الفلسفية دائماً تفسير كيفية صدور المادة من الروح، وذلك لاعتقادها في اختلافهما وتمايزهما وتناقضها الأصلي. لكن سبينوزا كان قد سبق وأن وحد بين الروح والمادة. ولأن هناك جوهر واحد فقط في الكون فيجب أن يكون هذا الجوهر روحياً ومادياً في نفس الوقت. ولذلك أصر سبينوزا على أن الامتداد صفة للإله أو الطبيعة حسب تعبيره. الإله عند سبينوزا باعتباره جوهراً واحداً لا يمكن أن يفتقر إلى أي صفة، وإذا اعتبرنا الإله روحاً فقط فسوف يكون مفتقراً بذلك إلى المادة أو الامتداد، وسوف يكون الامتداد صفة خاصة بالطبيعة وتميزها عن الإله. رفض سبينوزا أن يكون الإله باعتباره الجوهر الواحد والوحيد مفتقراً لصفة الامتداد، وعلى ذلك اقر بأن الإله يمتلك صفة الامتداد( ). لكن يجب أن نفهم معنى إلحاق صفة الامتداد بالإله عند سبينوزا على نحو يتفق مع فلسفته. هل يعني ذلك أن سبينوزا قد أقر بأن الإله شئ ممتد، بمعنى كونه حائزاً على جسم معين أو شكل وأبعاد هندسية ويشغل حيزاً من المكان؟
لا يقصد سبينوزا أبدأ ً هذا المعنى من الامتداد، إذ لا يقصد الامتداد الجسمي الهندسي المكانى بل يقصد صفة الامتداد ذاتها بصرف النظر عن أحوالها من الطول والعرض والجسمية والمكانية. الإله عند سبينوزا ممتد بمعنى أن فكرة الامتداد داخلة في جوهره وماهيته، فلا يمكن أن توجد في الكون صفة ليست موجودة في الإله باعتباره الجوهر الواحد والوحيد الحقيقي. الامتداد عند سبينوزا ليس امتداداً شيئياً جسمياً بل هو امتداد رياضي، الامتداد هو في جوهره رياضي، والرياضة فكر، وبالتالي فإن الإله باعتباره الجوهر الوحيد يجب أن يكون ممتلكاً لفكرة الامتداد الرياضي الهندسي. الإله عند سبينوزا يمتلك صفة الامتداد. والحقيقة أن هذه الفكرة أوقعت المفسرين في مشكلات عديدة، سببها أن سبينوزا لم يجب عن الأسئلة التي تثيرها. فإذا كان الامتداد صفة للإله فهل معنى هذا أن الطبيعة تشكل جسداً للإله، أم معناه أن الإله منتشر في كل أجزاء الطبيعة ويتخللها؟
أم أنه ليس هناك إلا الطبيعة الممتدة؟ ( ) إذا فسرنا امتداد الإله عند سبينوزا على أنه يعني انتشار الإله في الطبيعة المادية فمعنى هذا أن مذهبه هو مذهب وحدة الوجود
Pantheism والتي تعني حرفياً الحضور الكلي للإله في كل أجزاء العالم، وإذا فسرناها على أن الإله عند سبينوزا هو الامتداد أو المادة فمعنى هذا أن مذهب سبينوزا لا إلهي ويعتقد في أن المادة هي كل ما يوجد atheism، وهو المذهب المتعارف على وصفه بالإلحاد. ولأن سبينوزا لم يطرح هذه الأسئلة أصلاً وبالتالي لم يقدم لها إجابات فقد ظل المفسرون مختلفين حول مذهب سبينوزا حتى الآن( ).
كما تعني فكرة أن الإله والعالم شئ واحد أن الألوهية هي تعبير عن النظام القصدي والغائية والقوانين الضرورية الموجودة والمنتشرة في كل العالم، والعالم تعبير عن الجانب المادي للكون( ). فإذا نظرنا إلى العالم من حيث كونُه محكوماً بنظام وقوانين ثابتة تجلي لنا الجانب الإلهي منه والذي ينظر فيه على أنه إرادة فاعلة نحو غاية، وإذا نظرنا إلى العالم من حيث كونه مادة تجلي لنا الجانب المادي منه، والجانبان غير منفصلين.
وقد توصل سبينوزا إلى هذه النتيجة بفضل فكرته عن الجوهر. يذهب سبينوزا إلى أن الجوهر هو ما يقوم بذاته وما ليس في حاجة إلى شئ آخر سواه كي يتحقق أو يتقوم. وإذا بحثنا في أشياء العالم عن شئ يمثل الجوهر الحقيقي فلن نجده لأن كل أشياء العالم معتمدة على غيرها وعلى النظام الذي يشملها. وبالتالي فيجب أن يكون النظام الضروري للعالم هو هذا الجوهر الواحد الثابت لأنه غير معتمد على العالم بل هو الذي ينظم العالم، وهذا النظام الضروري ليس سوى الألوهية. وإذا كان نظام العالم الضروري والثابت هو الجوهر الحقيقي فيجب أن تكون الألوهية هي هذا النظام الضروري الثابت. وهكذا توصل سبينوزا إلى أن العالم الذي هو النظام الضروري الحاكم لوجود الأشياء ليس سوى الألوهية، وانتهى بذلك إلى أن الإله والعالم شئ واحد( ). إذا نظرنا إلى وجود الإله والعالم على أنها تعني أن الألوهية ليست سوى قوانين الطبيعة فلن يكون هناك إلهي شخصي مفارق ومنفصل عن العالم وهذا بالتالي يعد إنكاراً للمفهوم التقليدي عن الإله، وبذلك سوف يكون مذهب سبينوزا مادياً أو مذهباً لا إلهياً
atheism، أي مذهباً إلحادياً كما يصفه البعض( ). الحقيقة أن سبينوزا لم يعطنا إجابة شافية عن تلك التساؤلات التي لم يطرحها أصلاً، ولعله ترك لقراءه ومفسريه حرية الاختيار بين هذين التفسيرين. لكننا نستطيع أن نلتمس الإجابة على هذه التساؤلات فى التفسير الثاني القائل أن مذهب سبينوزا هو في حقيقته مذهب لا إلهي، أي مذهب يقول بأن الإله والعالم جانبين لشئ واحد، ووجهتي نظر في الكون.
إذا نظرنا إليه من حيث كونُه مادة وجدنا أنه عالم مادي وإذا نظرنا إليه من حيث انتظامُه وغائيته المقصودة وجدنا أنه ألوهية. ويتفق هذا التفسير مع ما ذهب إليه سبينوزا في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» من أن الله ليس سوى نظام الطبيعة الغائي والقصدي، وأن النبوة ليست سوى النور الفطري الذي يدرك الحقائق مباشرة دون توسط من استدلال
أو برهان أو إدراك حسي.
كما ذهب سبينوزا إلى أن الإله هو العلة الكامنة في العالم لا العلة المفارقة، بمعنى أن الإله ليس خارج العالم بل محايث له، وبذلك لا يكون الإله شيئاً مفارقاً للعالم ويقع خارجه بل هو المبدأ الباطن في هذا العالم نفسه. وقد كان لقول سبينوزا بعدم وجود الإله خارج العالم مبرراته القوية، ذلك لأننا إذا اعتقدنا أن الإله خارج العالم فمعنى هذا أننا أثبتنا له مكاناً آخر يعلو هذا العالم( )، واعتقدنا بذلك في وجود مكانين: مكان يوجد فيه العالم بدون إله ومكان آخر يوجد فيه الإله بدون العالم أو أي شئ مادي.ولقد رفض سبينوزا هذه الفكرة بأن قال بأن هناك جوهر واحد فقط ولا شئ خارجه، يمكن أن نسميه الإله ويمكن أن نسميه الطبيعة. ولعل سبينوزا قد قصد من ذلك أن يترك للقارئ حرية الاختيار بين التعبيرين وهو يعلم أنهما يعنيان الشئ نفسه.
من بين الصفات العديدة التي وصف بها سبينوزا الإله وصفاً اختلف حوله الشراح، وهو القائل: «كل ما يوجد، يوجد في الإله»، بمعنى أن كل شئ في الكون يوجد في الإله( ). وحسب فلسفة سبينوزا الذي وحد بين الإله والطبيعة، فإن قولنا إن أي شئ يوجد في الطبيعة مساير لقولنا كل شئ يوجد في الإله، بما أن الإله والطبيعة بمعنى واحد. اعترض الفيلسوف بيير بايل على هذا الوصف قائلاً أن ما يترتب عليه هو القول بأن كل جماد وكل نبات وحيوان وإنسان يوجد في الإله. فكيف إذن توجد هذه الأشياء المادية في الإله؟ الحقيقة أن سبينوزا لم يقصد بقوله إن كل شئ يوجد في الإله أن يعني أن هذا الوجود وجود تضمن، بمعنى أن الإله ليس حاوية تحتوي على الأشياء المادية بل كان يعني أن الإله هو السبب الكافي والضروري والمحايث لوجود الأشياء. إن الأشياء كلها موجودة في الإله باعتبارها تنويعات
أو أحوال للقانون الإلهي أو القانون الطبيعي، وبما أن الإله هو السبب المحايث في الكون لحدوث أي حادثة أو ظهور أي شئ مادي فإن كل شئ يوجد في الإله من حيث أنها نتائج للضرورة السببية للإله. كما اعترض بايل على سبينوزا بقوله أن ما يترتب على أن كل شئ يوجد في الإله هو القول بأن الإله سوف يكون محتوياً على أشياء متناقضة( ): الخير والشر والفضيلة والرذيلة، وسوف يكون الإله أيضاً محلاً للتغير الحادث في الطبيعة من ميلاد ونمو وموت، فكيف يكون الإله محلاً للشر وللرذيلة وللتغير وللموت؟ نستطيع أن نجيب على هذا الاعتراض من فلسفة سبينوزا ذاتها، ذلك لأن سبينوزا لا ينظر إلى الخير والشر والفضيلة والرذيلة على أنها صفات أو أحوال موجودة بذاتها في الطبيعة، بل ينظر إليها على أنها طريقة البشر في النظر إلى الأشياء. فالزلازل والبراكين والفيضانات ليست شراً في ذاتها بل هي مجرد ظواهر طبيعية، بل يمكن أن تكون أهم من الظواهر العادية لأنها تحدث التوازن في الطبيعة، لكنها تصبح شروراً عندما تؤثر سلباً على الإنسان. الخمر مثلاً عنصر كيميائي موجود في الطبيعة وناتج عن تفاعلات كيمائية طبيعية وهو بذلك ليس شراً في حد ذاته بل هو يصبح كذلك إذا تناوله الإنسان وأدى إلى السكر والهذيان. ليس في الطبيعة ذاتها خير وشر ورذيلة وفضيلة، بل إن أفعال الإنسان وحدها هي التي تتصف بذلك. وبالتالي فلا معنى لاعتراض بايل أن الإله عن سبينوزا محل للمتناقضات وللخير والشر معاً، ذلك لأن الخير والشر ليسا أحوالاً للطبيعة.
يجب علينا الآن أن نشرح فكرة سبينوزا عن أن كل ما يوجد يوجد في الإله وأن الإله هو العلة الكامنة لكل شئ. ماذا يعني أن كل شئ يوجد فى الإله وفي نفس الوقت يكون الإله محايثاً كسبب ضروري شامل لكل شئ؟ الحقيقة أن مفهوم سبينوزا عن السببية يعتمد على التمييز بين معنيين من السببية. النوع الأول هو أن يكون الأثر صادراً عن طبيعة السبب، مثل الحرارة المتولدة عن الشمس، والضوء الذي يشع منها. الحرارة والضوء أثران أو نتيجتان لطبيعة الشمس ذاتها، وهذا النوع من السببية يبطل أثره وينعدم إذا كان السبب غير موجود، بمعنى أنه إذا لم يكن هناك شمس فإن الحرارة والضوء لن يظهرا على وجه الأرض. المعنى الثاني للسببية هو أن يكون الأثر منفصلاً ومستقلاً عن سببه( )، فإذا تسببت كرة في كسر نافذة فإن هذا النوع من السببية غير متضمن في طبيعة الكرة، لأن الكرة ليس من طبيعتها أن تكسر النوافذ، ويصبح انكسار النافذة مستقلاً عن طبيعة الكرة، لأن النافذة كان يمكن أن تنكسر بأي شئ آخر غير الكرة، ولأن الكرة كان يمكن ألا تكسر النافذة. كما أن الباني الذي بنى بيتاً هو السبب في وجود البيت، لكنه عندما ينتهي من بنائه يصبح البيت قائماً ولا يحتاج الباني بعد ذلك، ويصير البيت قائماً، ينتهي الباني عن البناء، ومعنى هذا أن البيت ليس في حاجة في استمراره في الوجود إلى الفعل المستمر للباني، لأن الباني بناه مرة واحدة وانتهى. هذا هو المعنى الثاني للسببية التي يكون الأثر فيها مستقلاً عن السبب. لكن السببية التي يعتقد فيها سبينوزا هى من النوع الأول، أي السببية الدائمة التي تكون سبباً مستمراً في بقاء الأشياء في الوجود، تماماً مثل الشمس التي هي السبب المستمر في وجود الحرارة والضوء في العالم، بحيث إذا اختفت الشمس اختفت الحرارة واختفى الضوء. والإله هو سبب حدوث كل شئ عند سبينوزا بهذا المعنى الأول للسببية( ). والذي يجعل سبينوزا يساوي بين الإله والطبيعة أن كليهما سبباً دائماً لاستمرار الأشياء في الوجود. فالنبات لا يمكن أن يستمر في الوجود إلا بقدرته المستمرة على التغذية والنمو، والحيوان يستمر في الوجود بفضل قدرته المستمرة على الإحساس والحركة، والإنسان مستمر في الوجود بفضل قدرته على التفكير. ومعنى هذا أن الطبيعة هي القدرة ......... والنامية والمدركة القادرة على الفهم والفكر، هي المجموع الكلي لكل هذه القدرات. فالطبيعة جوهر كلي واحد يتخذ أحوالاً مختلفة في صورة قوى متعددة يحيا بها كل كائن حي ويتحرك بها كل جسم متحرك. وهذا هو معنى قول سبينوزا أن الإله هو العلة الكامنة المحايثة للأشياء لا المفارقة أو المنفصلة عنها، ولأن الإله والطبيعة شئ واحد عنده فإن سببية الطبيعة الكامنة والمحاثية في الأشياء هي نفسها سببية الإله وقدرته الشاملة الكامنة في الأشياء.
يميز سبينوزا بين نوعين من الأحوال: الأحوال اللامتناهية والأحوال المتناهية. إذ كان الإله هو الجوهر الأوحد اللامتناهي فإن الأحوال اللامتناهية هي تلك التي تصدر عنه أو عن صفاته مباشرة دون وسيط.
أما الأحوال المتناهية فهي تلك التي في حاجة إلى وسيط تتحقق به وفيه.
الأحوال اللامتناهية هي المرتبطة بصفات الإله الجوهر الأوحد مباشرة، مثل السببية والفكر والامتداد والحركة. السببية حال لا متناه لأن صفة الإله هي كونه السبب الأول والكافي والدائم لحدوث الأشياء واستمرارها في الوجود. ويعني كون السببية حالاً لا متناهياً أنها تسود العالم كله بكل أشيائه وأحداثه ولا يمكن تصور العالم بدون سببية. والفكر حال [لا]متناهٍ لأن من طبيعة الإله أن يكون جوهراً مفكراً( )، وبالتالي فإنه هو ما يعطي الفكر للوجود ولكل الكائنات المفكرة. والامتداد أيضاً حال لا متناهٍ لأنه صادر مباشرة عن طبيعة أو جوهر الإله. فلأن الإله نفسه هو مصدر كل امتداد يكون الامتداد حالاً مرتبطاً على نحو وثيق بالإله. أما بالنسبة للحركة فيقول عنها سبينوزا أنها هي ماهية الامتداد، ذلك لأن كل شئ ممتد متحرك، أو على الأقل قابل للحركة ولأن كل شئ في العالم متحرك فإن الحركة بذلك تكون حالاً دائماً وأبدياً لكل ما يوجد، إذ لا يمكن أن نتصور أي شئ في العالم بدون حركة. ولأن الحركة دائمة الوجود ومستمرة الحضور في كل العالم فهي لا متناهية، إذ لا يمكن أن يوجد العالم بدونها.
أما الأحوال المتناهية فهي على نوعين، نوع يصدر عن صفة الامتداد و هي الأجسام، ونوع يصدر من صفة الفكر وهي العقول الفردية والأفكار الجزئية( ). الأجسام أحوال متناهية لأنها فانية، إذ يمكن أن تصير إلى العدم أو تتلاشى، كما يمكن تصور العالم بدون أجسام. والعقول الفردية أيضاً متناهية ذلك لأنها تنتهي بموت حاملها من البشر. هذه الأحوال متناهية لأنه لا يمكن أن تقوم بذاتها بل في حاجة إلى وسيط كي تتحقق، فكل جسم في حاجة إلى حيز من المكان يوجد فيه، وفي حاجة إلى صفات يكتسبها مثل اللون والملمس والطعم والرائحة والشكل. والعقول الفردية أيضاً في حاجة إلى الفرد أو الشخص كي تقوم.


ثانياً - الإنسان: طبيعته ومعرفته:
تناول سبينوزا طبيعة الإنسان وطبيعة وأصل المعرفة الإنسانية في الجزء الثاني من «الأخلاق» بالإضافة إلى مقال صغير بعنوان «في إصلاح العقل». وفي حين أن هذا المقال يتناول المعرفة الإنسانية حصرياً ويربطها بالأخلاق والسعادة والفضيلة الإنسانية، فهو في الجزء الثاني من «الأخلاق» يتناول الإنسان من حيث طبيعته ووضعه في الكون وعلاقته بالعالم ويحاول حل قضية الثنائية التقليدية بين العقل والجسم التي ظهرت لدى ديكارت. الحقيقة أن كتاب «الأخلاق» لا يحوي على مقدمة أو مدخل يوضح ما ينوي سبينوزا القيام به في هذا الكتاب ولذلك يعد مقال «في إصلاح العقل» هو مقدمة «الأخلاق» التي توضح لنا الأهداف التي تصدى لها سبينوزا في فلسفته.
1 - غايات الإنسانية:
عندما فكر سبينوزا في الوضع الإنساني وجد أن كل البشر يسعون وراء عدد من الأهداف: الثروة والشهرة والمتعة، معتقدين أن هذه الأشياء سوف تجلب لهم السعادة. إلا أن سعيهم وراءها أو حتى حصولهم عليها لم يوصلهم إلى تلك السعادة التي يتصورونها. ومن ثم يستبعد سبينوزا الثروة والشهرة واللذة باعتبارها ليست الهدف الحقيقي للإنسان الفاضل الذي يسمو نحو السعادة( ) ذلك لأن هذه الأشياء هي في النهاية مجرد وسائل وليست أهدافاً في ذاتها، وعندما يتضح أن هذه الوسائل لا توصلنا إلى السعادة الحقيقية أو الفضيلة الحقة فيجب علينا أن نتخلى عن استخدامها ونبحث عن وسائل أخرى. وإذا كانت السعادة والفضيلة والحياة الكريمة أهدافاً تتطلب لتحقيقها وسائل، فإن لسبينوزا فلسفة خاصة حول الوسائل الخاصة لتحقيق هذه الأهداف. إن الوسائل الموصلة للسعادة والفضيلة والحياة الكريمة يجب أن تكون متفقة مع هذه الأهداف ذاتها، فكيف إذن للإنسان أن يستخدم وسائل مختلفة طبيعتها عن هذه الأهداف؟ إن السعي نحو الثروة والشهرة واللذة مختلف في طبيعته عن السعي نحو السعادة والفضيلة والحياة الكريمة. يجب أن تكون الوسيلة من طبيعة الهدف. ولا يجد سبينوزا من وسيلة توصل الإنسان إلى هذه الأهداف سوى العقل المستنير والتفكير القويم( ). ومعنى هذا أن تنظيم الإنسان لحياته وسلوكه بطريقة عقلانية هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السعادة والفضيلة والحياة الكريمة. وبالتالي فيجب على العقل أن يكون هو الموجه للإنسان وأن يكون أداته ووسيلته نحو هذه الأهداف. ذلك لأن هذه الأهداف ذاتها ليست في حقيقتها سوى العقلانية المتحققة في حياة الإنسان، أما الثروة والشهرة واللذة فليست بأهداف ولا حتى بوسائل عقلانية. وإذا كان الهدف عقلانياً فيجب أن تكون الوسيلة عقلانية هي الأخرى. وبذلك تكون العقلانية هي هدف الحياة الإنسانية وهي أيضاً وسيلة لهذا الهدف. ومن أجل هذا السبب يبدأ سبينوزا بمحاولة لإصلاح العقل، أي محاولة توضح كيفية تهذيب الإنسان لحياته العقلية.
كل العلوم تهدف الوصول إلى معرفة صحيحة بالأشياء، وتهدف [إلى] قيادة العقل نحو الحقيقة، وبالتالي فكل العلوم تسعى لهداية العقل. لكن هناك علم آخر يسبقها وهي إصلاح العقل نفسه قبل أن ينشغل بأي بحث أو ينتج أي معرفة، وهذا هو العلم الذي يتناول العقل نفسه، طريقة إدراكه للأشياء وطريقة تفكيره فيها، فالعلم الذي يتناول العقل يجب أن يسبق أي علم أو معرفة ينتجها هذا العقل( ). إصلاح العقل إذن هو الهدف الأساسي والأولى للوصول إلى العقلانية، وبالتالي إلى السعادة والفضيلة والحياة الكريمة. وهكذا يختزل سبينوزا إشكاليات البحث عن غايات الإنسان السامة في البحث في المعرفة الإنسانية. وبالتالي يكون أول شئ يقوم به العقل هو إصلاح ذاته بمعرفة الكيفية التي يفكر بها ويتوصل إلى الصدق واليقين والحقيقة. أول ما يجب القيام به إذن هو البحث في المعرفة الإنسانية، أي تأسيس نظرية في المعرفة أو إبستمولوجيا.
2 - طبيعة المعرفة:
والمعرفة عند سبينوزا هي الإدراك الصحيح، ولذلك فهو يبدأ بالبحث في أنواع الإدراك وهي تتمثل في أربعة:
1- الإدراك الشائع، أي ذلك النوع من المعرفة المباشرة التي نتلقاها بتلقائية من الناس مثل معرفة يوم ميلادي أو والدي أو أي شئ آخر لم أشك يوماً في وجوده.
2- الإدراك النابع من الخبرة، أي المعلومات من الأحداث التي سبق وأن حدثت. هذا النوع من المعرفة لم يتعامل معه العقل بالتحليل أو الفهم، وذلك مثل معرفتي أنني سأموت من خلال مشاهداتي للناس الذين يموتون كل يوم وإدراكي أن مصيري سوف يكون نفس مصيرهم على الرغم من اختلاف أسباب موتهم عن أسباب موتى. وأعلم من الخبرة المجردة أن الزيت يشعل النار وأن الماء يطفئها، وأعلم أن الكلب حيوان ثديي ينبح وأن الإنسان حيوان عاقل. وهذا النوع من المعرفة يشمل كل المعرفة العملية أو الخبرات الإنسانية اليومية.
3- الإدراك الذي يرجع إلى معرفتي أن شيئاً ما ينتج من شئ آخر لكن دون معرفة السبب، مثل أن الحرارة تذيب الجليد، وأن الماء يغلي بالتسخين ويصير بخاراً. كما أننا عندما نتأثر جسدياً بشئ فإننا نعلم بذلك أن العقل مرتبط بالجسم على نحو ما، لكننا لا نعلم على وجه الدقة كيف يرتبط الإثنان معاً ولا طبيعة الإحساس ذاته، أو عندما ندرك أن من طبيعة العين أن تجعل الأشياء البعيدة تبدو أصغر مما هي عليه ونتوصل من ذلك إلى أن الشمس أكبر مما يراها البصر.
4- الإدراك النابع من معرفة الأشياء من ماهيتها( )، مثل معرفتي أن من ماهية المثلث أن تكون مجموع زواياه 180 درجة، وأن زاويتي قاعدة المثلث المتساوين الضلعين متساويتان. هذا النوع من المعرفة هو المعرفة العلمية الدقيقة والصحيحة عن حق. ويضيف سبينوزا أن هذا النوع يوصلنا إلى معرفة كيفية ارتباط العقل بالجسم إذا عرفنا بدقة ماهية العقل.
المعرفة عن سبينوزا تتكون من أفكار، وهذه الأفكار مجردة لكنها في نفس الوقت أفكار لأشياء عينية. فالجسم شئ غير ملموس [؟]، أما فكرة الجسم كما تتعامل معها الفيزياء مثلاً فهي فكرة مجردة( ). ويذهب سبينوزا إلى أن لكل شئ مادي الفكرة التي تعبر عنه، وبالتالي فليس هناك انفصال بين الفكر والامتداد، ذلك لأن كل فكرة هي إما فكرة عن شئ ممتد أو فكرة عن فكرة هذا الشئ الممتد. فالشمس مثلاً شئ مادي محسوس ومشاهد، والشكل الكروي هو فكرة الشمس، والدائرة هي فكرة الفكرة. فعلى الرغم مما تبدو عليه الأفكار من تجريد وعمومية إلا أنها تشير في النهاية إلى فكرة بسيطة عن شئ ممتد. ومصدر تجريد وعمومية الفكرة أنها لا تشير مباشرة إلى الشئ المادي بل إلى فكرة أخرى عن هذا الشئ المادي، مثل الدائرة التي تشير بصورة غير مباشرة للشمس عبر فكرة الشكل الكروي.
ولسبينوزا تحليل طريف حول الفكرة المباشرة والفكرة المجردة، إذ يذهب إلى أن العقل يسير في تعامله مع موضوعات المعرفة ومع أفكاره مثلما يتعامل الإنسان مع الأدوات، أي أدوات العمل( ) فصنع الحديد مثلاً يحتاج إلى المطرقة، والمطرقة أداة تحتاج في صناعتها إلى أدوات أخرى مثل المنشار الذي يصنع ذراع المطرقة، ومثل البوتقة التي يصب فيها خام الحديد لصنع رأس المطرقة.
وهذه الأدوات في حاجة إلى أدوات أخرى لصنعها، وهكذا تستمر في تتبع الأدوات حتى تصل إلى الوسائل البسيطة التي بدأ في استعمالها الإنسان مثل قطعة الحجر المسننة التي كان يستعملها الإنسان البدائي. والتفكير يسير بنفس الطريقة التي يقوم بها الإنسان بأعماله الصناعية، فالفكر يصنع أدوات من أدوات سابقة عليها، ويتوصل من ذلك إلى أدوات تستعمل لأغراض كثيرة بعد أن كانت أدواته البسيطة الأولى تستعمل في التعامل مع شئ واحد فقط. والتفكير كذلك يصنع أفكاراً عامة من أفكار بسيطة، وتمكننا هذه الأفكار العامة من التعامل مع عدد لا نهائي من الموضوعات( ). ومعنى هذا أن الإنسان، سواء في نشاطه المادي أو في نشاطه الفكري، يتعامل مع الطبيعة بأدوات من صنعه هو.
الحقيقة أن أفكار سبينوزا البسيطة والثورية، ونظريته حول التوازي بين النشاط المادي والنشاط الفكري تقربه من الفلاسفة التجريبيين الإنجليزي مثل جون لوك وديفيد هيوم، إلا أن مذهبه في المعرفة ليس تجريبياً، ذلك لأنه أعمق من ذلك بكثير، كما أنه ليس براجماتياً مثل مذهب وليم جيمس أو جون ديوى، ذلك لأن ما يريد سبينوزا إثباته وحدة النشاط البشري سواء كان مادياً أو فكرياً، والقضاء على الانفصال التقليدي بين العمل اليدوي والعمل الذهني، وإثبات وحدة العقل والجسم بما أن كليهما يتبع نفس الطريقة في التعامل مع موضوعات الطبيعة، سواء كانت موضوعات عمل أو موضوعات إدراك ومعرفة، وهذه الأهداف كانت غائبة تماماً عن المذهبين التجريبي والبراجماتي. إن هدف سبينوزا النهائي هدف ميتافيزيقي أو انطولوجي يسعى نحو إثبات وحدة الكائن البشري عقلاً وجسماً، وتفادي الثنائية الديكارتية بين الفكر والمادة أو العقل والجسم.
3 - التوازي بين الفكر والامتداد:
سبق وأن أوضحنا أن سبينوزا يذهب إلى أن كل فكرة هي فكرة عن الامتداد أو فكرة عن فكرة عن الامتداد، وهذا ما يوضح بداية نظريته حول التوازي بين الفكر والامتداد. فيذهب سبينوزا إلى أن التوازي بينهما لا يقف عند حد كون كل فكرة هي فكرة عن امتداد بل إن النظام الموجود بين الأشياء الممتدة هو نفسه النظام الموجود بين الأفكار. فإذا أدى الجسم أ إلى الجسم ب، فإن فكرة الجسم أ تؤدي إلى فكرة الجسم ب، بمعنى أنه إذا كانت هناك علاقة سببية بين أ و ب، حيث تكون أ هي سبب حدوث ب، فإن الفكر كذلك يسير بنفس الطريقة السببية( ). ويؤكد سبينوزا على أن العلاقة بينهما، أي بين الفكر والامتداد، هي علاقة توازٍ بمعنى الكلمة. ولذلك لا نستطيع القول بأن العلاقة السببية في الفكر، فالفكر عند سبينوزا ليس مجرد انعكاس لما يحدث في الواقع، بل إن له استقلالاً، لكن استقلاله هذا نسبي لأن نفس ترتيب الفكر هو نفس ترتيب الواقع. وبذلك نستطيع التمييز بدقة وحسم بين نظرية المعرفة عند سبينوزا والنظرية التجريبية لدى لوك وهيوم، ذلك لأن الفكر في النظرية التجريبية ليس سوى انعكاس للواقع، حيث تكون العلاقة بين الأشياء في الواقع سبباً لظهور نفس هذه العلاقة في الفكر. لكن نظرية المعرفة عند سبينوزا ليست نظرية انعكاسية على شاكلة الفلسفة التجريبية بل هي نظرية توازٍ، ذلك لأن الفكر والامتداد عنده شئ واحد. فالمادة في حد ذاتها تحتوي على عنصر فكر وهو القوانين الحاكمة لها، والفكر يحتوي على عنصر مادي إذا نظرنا إليه على أنه يحتوي على علاقات التضمن واللزوم وهي في حقيقتها علاقات امتداد، والامتداد مفهوم من مفاهيم الامتداد أو هو ذو طابع مكاني وهندسي.
4 - العقل والجسد:
وضع سبينوزا نظريته حول العقل والجسد في مقابل نظرية ديكارت التي تعد في حقيقتها إعادة صياغة لنظريات العصور الوسطى. ذهب ديكارت إلى أن الكائن الإنساني مكون من جوهرين منفصلين ومتمايزين، جوهر مفكر وهو العقل وجوهر ممتد وهو الجسم. وبالنسبة لديكارت فإننا نستطيع التفكير في العقل في استقلال عن الجسم ونستطيع التفكير في الجسد في استقلال عن العقل، لأنه لكل جوهر قوانينه الحاكمة له والمختلفة عن الجوهر الآخر. وديكارت بذلك يعد ثنائياً في نظريته حول العقل والجسد، وبمزيد من الدقة نقول أنه جوهراني ثنائي
substantialist Dualist. ويذهب ديكارت إلى أن العقل والجسد منفصلين عن بعضهما البعض لكنهما في نفس الوقت موجودين معاً، وهذا التواجد معاً ليس ضرورياً بل عارضاً، لأن الجسد يمكنه أن يوجد بدون عقل في حالة الأطفال والمجانين والحيوانات، والعقل أيضاً يمكنه أن يوجد بدون الجسد في حالة النوم وبعد الموت عندما يموت الجسد وتبقى الروح. كما يذهب ديكارت إلى أن العقل موجود في الجسد كله لا في جزء فيه وحسب، ذلك لأن العقل ليس مثل ربان السفينة الموجود في مكان منها ويوجهها من هذا المكان، فالعقل منتشر في كل الجسد لأن العقل هو مصدر الإرادة التي تحرك كل أجزاء الجسد كما أنه مصدر الأحاسيس التي يشعر بها المرء في جسده كله. والجسد عند ديكارت آلة يحركها العقل.
وفي مقابل الثنائية الديكارتية بين العقل والجسد يأتينا سبينوزا بنظرية مختلفة لم يسبق لأي فيلسوف أن جاء بها، إذ يذهب سبينوزا إلى أن العقل والجسد شئ واحد، وذلك من منطلق وجود جوهر واحد يحمل صفتي الفكر والامتداد في نفس الوقت. فالعقل والجسد عند سبينوزا صفتان أو حالان للجوهر الواحد( ). كما يذهب سبينوزا إلى أن العقل هو الحال المخصوص لجسد إنساني معين. ذلك لأن لكل جسد إنساني عقله الخاص، وهو يقول في ذلك: «إن موضع الفكرة التي تشكل العقل الإنساني هي الجسد، الذي هو حال خاص للامتداد وليس شيئاً أخر سوى ذلك»
IIP3 وكل حادثة جسدية توازيها حادثة أخرى مماثلة لها على مستوى العقل، بمعنى أن كل ما يشعر به الجسد باعتباره إحساس يشعر به العقل باعتباره شعوراً أو فكرة. ذلك لأن الجوع أحساس جسدي، أما الرغبة في تناول الطعام فهي شعور عقلي، ومثلما يشعر الجسد بالجوع يشعر العقل بالرغبة التي هي شئ عقلي في السعي نحو البحث عن الطعام.
عندما يقول سبينوزا أن الروح والجسد شئ واحد فهو يعني بذلك أن الإنسان وحدة واحدة متكاملة، إذا نظرنا إليها من حيث أنه كائن عاقل مفكر وناطق فسوف يظهر على أنه روح، وإذا نظرنا إليه على أنه كائن عضوي بيولوجي فسوف يظهر على أنه جسد. ويعد التعريف الأرسطي القديم للإنسان بأنه حيوان ناطق تخيلاً لذلك الاتحاد بين الروح والجسد، فالحيوانية في الإنسان هي جسده، والنطق الناتج عن العقل والفكر هو الجانب الروحاني فيه. وبالإضافة إلى ذلك فإن سبينوزا يقصد من قوله بأن الروح والجسد شئ واحد أن الروح إذا نظرنا إليها على أنها تمثل وظائف التفكير والنطق والحياة في الإنسان فسوف تظهر مرتبطة بالجسد لأن هذه الوظائف لا تقوم إلا في جسد حي بيولوجي، وإذا نظرنا إلى الجسد الإنساني سنجد أنه هو الأخر لا يقوم بذاته بل بفضل ما فيه من روح. والحقيقة أنه سبينوزا ينظر إلى الثنائية التقليدية بين الروح والجسد على أنها ثنائية زائفة، أو ليس لها وجود حقيقي في الواقع، بل هي مجرد ثنائية في الفكر الذي يفكر في الإنسان ويفصله إلى جانب روحي وجانب جسدي، إنها ثنائية ناتجة عن الفصل والتمييز الفكري المجرد في ماهية الإنسان وليست ثنائية حقيقية. وكان سبينوزا بذلك متجاوزاً فلسفة ديكارت وفلسفة العصور الوسطى التي كانت تفصل فصلاً حاسماً بين الروح والجسد.
والحقيقة أن نظرية سبينوزا هذه تعرضت لسوء فهم من قبل بعض الشراح، إذ جعلت البعض منهم يعتقد أن العقل ليس إلا ظاهرة سيكولوجية باعتبارها أثراً من آثار الجسد، وجعلت البعض الآخر يعتقد أن العقل هو الصورة أو الهيئة التي تعطي للجسد طبيعته ووظائفه. الاعتقاد الأول متأثر بالفلسفة التجريبية الإنجليزية التي نظرت إلى العقل على أنه شئ ملحق بالجسد وعلى أنه عضو سيكوفيزيقي، والاعتقاد الثاني تأثر بفلسفة أرسطو حول الصورة والمادة واتحادهما معاً، بحيث يكون العقل هو الصورة والجسد هو المادة( ). لكن نظرية سبينوزا حول العقل والجسد ليست سيكولوجية ولا أرسطية، ذلك لأنه لا ينظر إلى العقل على أنه العضو السيكوفيزيقي المفكر للجسد، ولا ينظر إليه أيضاً على أنه الصورة التي تعطي للجسد ماهيته وشكله ووظائفه. إن نظريته بالأحرى هي نظرية التوازي الكامل بين العقل والجسد، تلك النظرية التي لا ترد أحدهما إلى الأخر وتنظر إليهما على أنهما حالين لجوهر واحد. إن ما تتميز به فلسفة سبينوزا أنها لا تنظر إلى العقل والجسد على أنهما جوهرين، ذلك لأن الجوهر عنده واحد، بل تنظر إليهما على أنهما حالين
modes لجوهر واحد.
وإذا كان العقل الإنساني أحد أحوال الجوهر الواحد في الجانب المفكر فيه، فإن ما يميز هذا العقل الإنساني تمتعه بمزيد من الواقعية والتعقيد، فالعقل الإنساني فكرة، وما يميزها عن أي فكرة أخرى مجردة ارتباط هذه الفكرة بالجسد الإنساني( ). يمكن أن توجد بالنسبة لسبينوزا أحوال كثيرة للفكر، مثل الأفكار الرياضية والهندسية وقوانين الطبيعة باعتبارها أفكار، لكن هذه الأفكار عامة ومجردة لا تتمتع بما يتصف به العقل الإنساني من عينية. ومصدر العينية والواقعية في العقل الإنساني أنه أكثر ارتباطاً بالجسد وأكثر تعقيداً لارتباطه بجسد أكثر تركيباً وتعقيداً في الوظائف.
عندما يأتي سبينوزا بنظريته في الإنسان من حيث كونه عقلاً وجسداً في الجزء الثاني من الأخلاق تتضح نظريته حول الفكر والامتداد والتي وضعها في الجزء الأول حول الإله. إذ يذهب إلى أن الإنسان يدرك الفكر والامتداد لأنه هو نفسه مكون من فكر وامتداد، فإدراك الفكر والامتداد باعتبارهما صفتين يأتي من امتلاك الإنسان لفكر وامتداد. والملاحظ أن سبينوزا بذلك يوحد بين الوجود والمعرفة، ذلك لأن وجود الإنسان هو الذي يحدد إدراكه، بمعنى أنه فكر وامتداد على المستوى الأنطولوجي وهذا هو الذي يمكنه من إدراكهما معرفياً على المستوى الابستيمولوجي، ويأتي سبينوزا بفكرة طريفة وهي أنه كلما كان الجسم معقداً كلما كانت فكرته معقدة ومركبة، والجسم البسيط فكرته بسيطة، ولهذا السبب يستطيع الإنسان إدراك أفكار مركبة ومعقدة نظراً لتعقد وتركيب جسمه. هذا بالإضافة إلى أن سبينوزا يصف الكائن الإنساني كما وصف الإله تماماً، فالاثنان لديه يتكونان من فكر وامتداد لا في ثنائية بل في اتحاد ووحدة يشيران إلى صفتين متمايزتين لجوهر واحد. فالإنسان عنده جوهر واحد بصفتين هما الفكر والامتداد، وكان سبينوزا قد سبق وأن وصف الإله
أو الطبيعة بنفس الوصف.


ثالثاً - الأخلاق والدين والسياسة:
1 - العقل والإيمان:
تختلف فلسفة سبينوزا في هذه المجالات عن كل الفلسفات السابقة عليه، بل واللاحقة أيضاً، حتى ليبدو سبينوزا وكأنه يقف وحده بين مفكري العصر الحديث، ما عدا اقتراب فولتير وروسو والفلاسفة الماديين الفرنسيين في أواخر القرن الثامن عشر منه. ووجه الاختلاف أن الفلاسفة المحدثين قبل سبينوزا والمعاصرين له جروا على عادة فلاسفة العصور الوسطى في محاولاتهم التوفيق بين اللاهوت أو الدين والإيمان من جهة والعقل أو الفلسفة من جهة أخرى، وإثبات عدم تعارضهما أو تناقضهما، بحيث أصبح العقل لديهم أولياً في إثبات صحة بعض العقائد اللاهوتية المعنية. وبذلك رأينا في العصور الوسطى سلسلة من الفلاسفة بين القديس أوغسطين في القرن السادس [الصحيح هو القرن الرابع] الميلادي والقديس توما الأكويني في القرنين الثاني عشر والثالث عشر [الرابع عشر] يستخدمون حججاً عقلية في إثبات صحة اللاهوت. ولم يخرج فلاسفة الإسلام عن ذلك، إذ ظهرت في الفلسفة الإسلامية مذاهب كلامية أهمها المعتزلة والأشاعرة هدفت الدفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، وظهرت أيضاً فلسفات تحاول التوفيق بين العقل والنقل، أهمها محاولة ابن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»، و«درء تعارض العقل والنقل» لابن تيمية. ولم يكن فلاسفة العصر الحديث استثناء في هذا الاتجاه، إذ رأينا كيف أن ديكارت يستخدم منهجاً عقلياً يبدأ بالشك كي ينتهي إلى وجود الأنا أفكر، ووجود الإله وخلود النفس، وقد سار في الاتجاه نفسه بعد سبينوزا كل من مالبرانش وباسكال من الفرنسيين ولايبنتز وكرستيان فولف من الألمان، حتى أن كانط نفسه بعد أن نقد أولاً وجود الإله وخلود النفس في «نقد العقل الخالص» عاد في «نقد العقل العملي» إلى توضيح أن الأخلاق لا يمكن أن تقوم لها قائمة دون التسليم، من باب الضرورات العملية الأخلاقية، بوجود الإله وخلود النفس.
أما سبينوزا فهو يشذ عن كل هؤلاء ويقف برأيه منفرداً في القرن السابع عشر، على الرغم من تبني فولتير وروسو وكثير من الفلاسفة المعاصرين لوجهة نظره، إذ أوضح في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة» أن الإيمان والفلسفة منفصلين، وأن العقل ليس خادماً للاهوت – ولكل مجال خاص يختلف عن مجال الآخر( ). إذ يذهب إلى أن غاية الفلسفة هي الحق وحده أو الحقيقة، وغاية الإيمان هي الطاعة والتقوى وحسب. كما أن الأسس التي تقوم عليها الفلسفة هي الأفكار المشتركة أي المبادئ العامة التي تحكم الأشياء، أو القوانين الثابتة للطبيعة، وهذه نستخلصها من دراستنا للطبيعة وحدها. أما الإيمان فيتأسس على الكتب المقدسة والتسليم بواقعة الوحي، ولأن مجال الفلسفة يختلف عن مجال الإيمان، فإن التفلسف لا يضر الإيمان ولا يشكل خطراً عليه. ولأن الإيمان يعتمد على التسليم بالوحي والكتب المقدسة، فمعنى هذا أن الإيمان في جوهره يكفل لكل فرد الحرية المطلقة في أن يتفلسف. ولأن الهدف الأساسي للإيمان هو تهذيب الأخلاق بجعل الناس يطيعون الأوامر الأخلاقية، فإنه لن يتضرر إذا لم تدعو الفلسفة إلى أي عصيان أو تعصب أو كراهية في المجتمع. والمؤمنون الحقيقيون هم أولئك الذين يدعون الناس إلى العدل والإحسان، لا اللجوء إلى حجج وبراهين عقلية لإثبات عقائد معينة. وينطلق سبينوزا في وجهة نظره هذه من مبدأ يذهب إلى أن العقائد مختلفة لدى الشعوب، وكذلك فهي تتغير وتتطور، أما الإيمان الذي يتمثل في التقوى والطاعة والدعوة إلى العدل والإحسان فثابت وغير متغير. ولذلك لا يجب أن يتدخل العقل في إثبات عقائد معينة لأن هذه ليست وظيفته، بل وظيفته الأساسية اكتشاف القوانين وإدراك نظام الطبيعة.
ويميل سبينوزا إلى الرأي القائل أن الإيمان طريق ضروري لقيادة العامة، ذلك لأن الكتاب المقدس يعتمد في نصوصه على الخيال التصويري والمجاز وضرب الأمثلة، ولغته خطابية حماسية. والجمهور لا يستطيع الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق النظر العقلي والتفلسف والبرهان مثلما يفعل الفلاسفة( )، ولذلك فهو في حاجة إلى من يقدم له حقائق الأخلاق بالأسلوب الخيالي والمجازي في صورة مباشرة، وعلى أنها قوانين مفروضة في صورة شريعة. ذلك لأن العامة لا يستطيعون التوصل بتفكيرهم الخاص إلى الصواب والخطأ وهم في حاجة دائمة إلى من يقودهم ويقدم لهم القواعد جاهزة، وهذا ما يوفره لهم الدين. وإذا كانت الغاية من الحياة الإنسانية هي السعادة، فإن الدين يقدم للعامة طريقاً مختصراً وبسيطاً للوصول إليها، وهو الطاعة والخضوع والالتزام بالأوامر الإلهية، وهذا ضروري بالنسبة لهم لأن طريق النظر العقلي إلى السعادة والمتمثل في إدراك طبيعة الوجود والقانون الطبيعي الذي إذا اتفق سلوك الإنسان معه تحققت له السعادة ليس متاحاً للعامة بل هو خاص بأصحاب العقل والتفكير الفلسفي. ولذلك يذهب سبينوزا إلى ضرورة التسليم بسلطة الدين والكتب المقدسة وعدم إخضاعها للعقل، لأن هذا الإخضاع إما أن يؤدي إلى انهيار كثير من العقائد الضرورية أو يولد الاختلافات اللاهوتية والمذهبية التي يجب على الإيمان الحقيقى تجنبها، لأن هدفه النهائي ليس نظرياً بل عملياً، ليس هدفه إثبات عقائد معينة بل هدفه التقوى والطاعة والعدل والإحسان.
2 - مقومات الدولة:
بعد أن فصل سبينوزا بين اللاهوت والفلسفة وبين الدين والسياسة يشرع في توضيح الأسس التي يجب أن تقوم عليها الدولة، وهي عنده تقوم على مجموعة من الحقوق يجب على أي نظام سياسي تأسيسها والمحافظة عليها، وهي الحق الطبيعي والحق المدني وحق الحاكم. ويبدأ سبينوزا بالحق الطبيعي
Jus Naturale( ). الحق الطبيعي هو الحق الذي يكتسبه الكائن الإنساني وفقاً لطبيعته. فلكل كائن حي طبيعة، فمن طبيعة السمك أن يعيش في الماء ويأكل الكبير منه الصغير، وبذلك فالماء هو الحق الطبيعي الخاص بالسمك، وما ينطبق على الأسماك ينطبق على كل كائن حي، ومعنى هذا أن الحق الطبيعي للكائن الحر هو حقه في حفظ بقائه واستمراره فى الحياة بتمكنه من وضع يده على كل ما يحفظ هذه الحياة ويديمها. والكائن الإنساني أيضاً له حق طبيعي في المحافظة على وجوده، وبذلك يكون هو السلوك وفقاً لقوانين طبيعته الخاصة. هذا الحق المطلق في الحياة وحفظ البقاء يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، ولذلك فالحق الطبيعي المطلق أو البيولوجي يعطي للإنسان الحق في أن يفعل ما يشاء ويعتبر من يقف في طريقه عدواً له، وهو في ذلك يسلك وفقاً للرغبة والشهوة. لكن هذا ما يؤدي إلى حدوث صراع بين الناس لا ينتهي. وهذا الحق الطبيعي المطلق يحدث له تهذيباً وتعديلاً، ذلك لأن الإنسان مجبر على العيش في جماعة، وتكون هذه الجماعة هي الأخرى ممتلكة لحق طبيعي في البقاء، ولا يمكن أن يستمر بقاؤها إذا كان لكل فرد فيها الحق المطلق في أن يفعل ما يشاء وفقاً لرغباته وشهواته، لأن هذا ينتهي إلى الصراع الذي يهدد وجود الجماعة ذاتها. وهكذا ينتقل سبينوزا من الحق الطبيعي المطلق إلى الحق الطبيعي الاجتماعي والعقلاني، الذي يفرض على الناس العيش وفقاً للعقل بمراعاة مصالح الآخرين وحقوقهم( ).
ويقوم التنظيم الاجتماعي على تعاهد الأفراد المكونين له على أن يتخلَّوْا عن أهدافهم وشهواتهم ويضعوا المصلحة العامة فوق مصالحهم الشخصية، ويتجسد هذا التعاهد في صورة عقد اجتماعي، يفوض فيه المجتمع أموره العامة إلى شخص يمثله وينوب عنه، ويضع في يده سلطة تسيير الأمور العامة. وبالتالي يكون هذا العقد بين طرفين: الجمهور الذي يعين شخصاً منه لتولي شئون المصلحة العامة، والشخص الذي تم اختياره ليكون نائباً عن الجمهور، وهذا هو الحاكم الذي يستمد سلطانه من الجمهور ومن المجتمع، والذي يستمد شرعيته من كونه ممثلاً للشعب وقائماً على المصلحة العامة( ).
ولأن السلطة السياسية تنشأ من رغبة الجماعة في الحفاظ على ذاتها وعلى مصلحتها العامة ولأنها تتأسس في تخلي الأفراد عن حقهم المطلق في الدفاع عن أنفسهم للسلطة، فإن من واجب الأفراد إطاعة هذه السلطة والخضوع لها تماماً، طالما أن هذه السلطة تستمد شرعيتها من المجتمع وطالما أنها تمثله وتدير شئون مصالحه العامة, ويذهب سبينوزا إلى أن الفرد في خضوعه لأوامر السلطة لا يكون عبداً لها، ذلك لأن العبودية هي أن يتبع المرء أهواءه وشهواته، أما الخضوع للسلطة الشرعية ولما تمثله من مصلحة عامة فليس عبودية بل هو طاعة للعقل وأوامره العقلانية. ويكون الفرد الملتزم بقوانين مجتمعه مواطناً طالما ظل قابلاً للسلطة التي يمثلها الحاكم والتي تستمد شرعيتها من هذا المجتمع نفسه.
وبعد أن يشرح سبينوزا نظريته في مقومات الدولة وكيف أنها قائمة على حفظ الحق الطبيعي الاجتماعي عن طريق عقد اجتماعي، يشرع في توضيح الحق المدني، أو القانون المدني الخاص. يعني القانون المدني حق المواطن في أن يحفظ حياته ويحميها في إطار السلطة السياسية التي خضع لها. فعندما تخلى الأفراد عن حقهم المطلق في حماية أنفسهم للسلطة أصبحت هذه السلطة ملزمة بحمايتهم، كما أصبح المواطنون ملزمين بكل ما تفرضه هذه السلطة من قوانين، طالما كانت هذه السلطة شرعية وتمثل المصلحة العامة.

(د. أشرف منصور)



الهوامش:
(1 )
James Martineau, A study of Spinoza (London: Macmillan, 1883), PP. 1-8.
(2 )
Ibid: PP. 15-18.
(3 )
Steven Nadler, Spinoza’s Ethics, An introduction (Nw York: Cambridge University Press, 2006), PP. 11-13.
(4 )
Don Garrett, The Cambridge Companion to Spinoza (New York: Cambridge University Press, 1996), PP. 40-45.
(5 )
James Martineau, op. cit, PP. 72-78.
(6 )
Spinoza, The Ethics in: The Chief Works of Benedict de Spinoza, Translated by R.H.M. Elwes (New York: Dorer Publications, 1955), p. 187.
(7 )
Steven Nadler, op.cit, PP. 39-42.
(8 )
Nodelr, op. cit, PP. 39-40.
(9 )
Martineau, op. cit, PP. 161-166.
(10 ) د. حسن حنفي: «رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا»، في: قضايا معاصرة، 2) في الفكر الغربي المعاصر،، دار التنوير، بيروت، 1982، ص59.
(11 )
Spinoza, The Ethics, op. cit, P. 45.
(12 )
Ibid: P. 45.
(13 )
Ibid: P. 86.
(14 )
Ibid: P. 45.
(15 )
Nadler: op. cit, PP. 56-57.
(16 )
Spinoza, The Ethics, P. 47.
(17 )
Ibid: P. 48.
(18 )
Nadler: P. 65.
(19 )
Spinoza, The Ethics, P. 62.
(20 )
Nadler, op. cit, PP. 66-67.
(21 )
Spinoza, The Ethics, PP. 48, 63.
(22 )
Nodler, PP. 73-75.
(23 ) د. فؤاد زكريا: سبينوزا، دار التنوير، بيروت، 1983، ص 115-118.
(24 )
Spinoza, op. cit, P. 59.
(25 )
Ibid: P. 84.
(26 ) د. فؤاد زكريا، المرجع السابق، ص 120-124.
(27 )
Nadler: op. cit, PP. 81-83.
(28 )
Ibid: PP. 112-121.
(29 )
Spinoza, The Ethics, P. 86.
(30 )
Ibid: P. 84.
(31 )
Nadler: PP. 120-121.
(32 )
Spinoz, P. 62.
(33 )
Ibid: P. 55.
(34 )
Nadler, PP. 70-73.
(35 )
Ibid: PP. 85-87.
(36 )
Jonathan Bennett: “Spinoza’s Metaphysics”, in Don Garrett (ed.), op. cit, PP. 80-88.
(37 )
Spinoza, The Ethics, P. 65.
(38 )
Ibid: P. 65-66
(39 )
Spinoza, “On The Improvement of the Understadig” in The Chief works of Benedict de Spinoza, op. cit, vol. II, PP. 3-5.
(40 )
Ibid: PP. 7-10.
(41 )
Ibid: PP. 38-40.
(42 )
Ibid: P. 8.
(43 )
Ibid: P. 11-12.
(44 )
Ibid: P. 12.
(45 )
Ibid: P. 13.
(46 )
Spinoza: The Ethics, P. 86.
(47 )
Ibid: PP. 89-92.
(48 )
Micahel Della Rocaa, “Spinoza’s Metaphysical Bychology” in Don Garrett (ed.), op. cit., PP. 193-200.
(49 )
Nadler: PP. 132-136.
(50 ) سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة. ترجمة د. حسن حنفي، مراجعة د. فؤاد زكريا. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1981م، ص 363.
(51 ) المرجع السابق: ص365-3676.
(52 ) المرجع السابق: ص 377.
(53 ) المرجع السابق: ص 378.
(54 ) المرجع السابق: ص 379-380.
د. أشرف منصور

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق