عالم الاجتماع المغربي عبد الصمد الديالمي
مفهوم المثقّف من
البناء إلى التطوّر التاريخي.
مصطفى العوزي
(مؤمنون بلا حدود؛ تموز 2016)
احتل
مفهوم المثقف مكانةً متميزة ضمن الأبحاث والدراسات الاجتماعية المعاصرة، خصوصًا
تلك التي انصبت على تفكيك الحقل الاجتماعي ودراسته ودراسة أبعاده وتفاعلاته، والتي
أولت أيضًا عناية لفئة المثقفين باعتبارها فئة رائدةً ضمن المجتمع لها حضور مباشر
أو غير مباشر في كافة التغيرات والحركات الاجتماعية التي تعرفها المجتمعات
الإنسانية، غير أنّ تحديد دلالة المفهوم مازالت محط خلاف نظرًا لطبيعته بوصفه
مفهومًا ملتبسًا إلى حد ما، بل ويبدو في أحيان كثيرة مفهومًا ملغومًا يصعب ضبطه
وحصره بدقة.
وإذا
كانت معظم
التحديدات التي أعطيت لهذا المفهوم تسير في اتجاه اعتبار المثقف كل منشغل بمجال
الثقافة إنتاجًا أو ترويجًا ونشرًا أو استهلاكًا، وهو التعريف الذي تم
الوصول إليه بعدما تطور المفهوم بشكل كبير عبر التاريخ، فإنّ الإشكالات التي تترتب
على نقل مفهوم المثقف من لغة إلى لغة أخرى مازالت تثير الكثير من النقاشات
والسجالات الفكرية العميقة.
سنحاول
من خلال هذا المقال تحديد أهم الدلالات المرتبطة بمفهوم المثقف، وذلك من خلال
التركيز على المفهوم في اللغتين العربية والفرنسية، ثم الوقوف على لحظة ظهور
المفهوم وتطوره التاريخي في الحضارتين العربية والغربية، مع تحديد الشروط التي
تضمن للفرد أن يكون مثقفًا، وختامًا سنعمل على تصنيف فئة المثقفين كما تمت
مقاربتها في بعض الدراسات السوسيولوجية المعاصرة، انطلاقًا من الإشكال التالي: من
هو المثقف؟ وما هي الشروط التي تجعل من الفرد مثقفًا؟ وكيف تطور المفهوم عبر
التاريخ؟ وهل
المثقفون طبقة اجتماعية واحدة قائمة الذات؟ أم أنّ كل طبقة اجتماعية معينة لها
مثقفوها؟
1. مفهوم المثقف دلالات وإشكالات:
يطرح
مفهوم المثقف إشكالاً هامًّا عند محاولة نقله بالمعنى الذي ظهر به في الحضارة
الغربية إلى الحضارة العربية، فمشكل تبيئة المفهوم يظل قائمًا، علمًا بأنّ الحضارة
العربية بما أنتجته كان لها فضل كبير في ظهور المثقفين في الغرب، بحيث عمل هؤلاء
على الأخذ من معين المعرفة العربية في القرون الماضية حين ساد نوع من الوعي بحرية
التعبير وكان العلم متاحًا بدرجات ومستويات جد هامة.
1.1.
مفهوم المثقف في الحقل الدلالي العربي:
يشتق
لفظ المثقف في اللغة العربية من فعل ثقف أي حذق الشيء وتمكن منه ذهنيًّا، والمثقف
بهذا المعنى هو الحاذق والماهر (ثقف الشيء ثقفًا وثقافًا وثقوفة: حذقه. ورجل ثقف وثقف
ثقف: حاذق الفهم)[1]، والحذق والمهارة هنا لا يرتبطان بالمجال الفكري فقط بل
أيضًا بالمجال اليدوي كالحذق والمهارة في الصنعة والحرفة التي يشتغل فيها الفرد أو
يسعى إلى تعلمها، وذلك راجع إلى ارتباط المفهوم بلفظ ثقافة والتي أوردنا
سابقًا تحديدًا لها مشيرين إلى أنّها مجموعة من المهارات المكتسبة من طرف الفرد
باعتباره عضوًا داخل المجتمع، ويشير المفكر العربي محمد عابد الجابري
إلى أنّ لفظ المثقف ليس سوى صيغة نحوية لا أقل ولا أكثر، أي اسم مفعول لفعل ثقف،
فضلاً عن أنّ تداول المفهوم في الخطاب العربي حسب الجابري لا يتجاوز نصف قرن،
وهو ترجمة للفظ intellectuel في اللغة
الفرنسية والمشتق من intellect التي تعني
العقل والفكر، وهو ما يعزز القول بأنّ المثقف هو كل من له ميول قوية إلى الانصراف
لما هو فكري أو روحي، الأمر الذي يجعل مفهوم المثقف بعيدًا إلى حد ما حسب الجابري
عن مفهوم intellectuel، بحيث يحيل
الأول على كل من اكتسب مهارات معينة تساعده على التكييف مع محيطه والعيش فيه، أمّا
الثاني فيحيل على من يبذل جهدًا فكريًّا لفهم الذات والمحيط وإدراكهما، (والمثقف بهذا المعنى، سيكون هو من
اكتسب بالتدريب والتعلم جملة المعارف التي تنمي فيه هذه الملكة. وهذا المعنى لا
يتطابق مع مفهوم intellectuel الذي يدل كما
قلنا على الشخص الذي يمتهن العمل الفكري)[2].
أما
المفكر عبد الله العروي فيعرف المثقف بأنّه "تطلق الكلمة عامة على المفكر أو
المتأدب أو الباحث الجامعي، وفي بعض الأحيان حتى على المتعلم البسيط. بيد أنّ
المفهوم لا يكون أداة للتحليل في العلوم الاجتماعية إلا إذا أطلق على شخصية تظهر
في ظروف جد خاصة"[3]، يضيف عبد الله العروي خاصية
أخرى مميزة للمثقف بالإضافة إلى خاصية مجال الاهتمام والانشغال وهي الظهور في سياق
تمليه ظروف اجتماعية وسياسية خاصة.
2.1.
مفهوم المثقف في الحقل الدلالي الفرنسي:
ظهر
لفظ المثقفين في فرنسا لأول مرة، مع صدور (بيان المثقفين) manifeste des intellectuels سنة 1898، وهو البيان الذي وقعه مجموعة من
الكتاب والمبدعين والمفكرين الفرنسيين الكبار أمثال إميل زولا
ومارسيل بروست وأناتول فرانس وسينيوبوس وليوم بلوم ولوسيان هير وآخرون، تضامنا
مع الضابط الفرنسي ذي الأصول اليهودية ألفريد دريفوس، الذي حكم عليه بالنفي
إلى منطقة تدعى غويانا بعد اتهامه من طرف السلطات بالتجسس لصالح ألمانيا، وبعدما
أثبتت عائلته زيف جميع الوثائق والأدلة التي توبع بموجبها الضابط الفرنسي، عملت
على تعبئة الرأي العام الفرنسي من أجل الدفاع معها والنضال قصد إعادة محاكمة
ألفريد دريفوس، نشرت جريدة لورور l’aurore الفرنسية
البيان في 14 من يناير عام 1898، وكان بمثابة اللحظة التأسيسية لظهور مفهوم
المثقفين في فرنسا، الأمر الذي يجعل من حادثة دريفوس من الجانب الفكري والسياسي
المرجعية التاريخية لاستعمال مفهوم المثقف، فيصبح المعنى العام للمفهوم هو كالتالي:
المثقف هو كل مشتغل في المجال الفكري أو الأدبي أو التاريخي، والمدافع عن قضايا
حقوق الإنسان، وهو التعريف الذي وصل إلى استنتاجه المفكر محمد عابد الجابري من
حادثة دريفوس (لقد كان هذا اللفظ الذي يقابله بالعربية لفظ فكريون
يستعمل كوصف ونعت، ثم رفع إلى مستوى الاسمية ليصبح علمًا على جماعة من الناس، هم
أولائك المفكرون والأدباء والمؤرخون...الذين قاموا بتلك الحركة الاحتجاجية دفاعًا
عن حق الضابط المتهم بالتجسس في محاكمة عادلة)[4].
ويشير
الدكتور عزمي بشارة إلى السياق نفسه لمفهوم المثقف "المصطلح مترجم
من القرن التاسع عشر الأوروبي، وبالتحديد من مصطلحات Intellectuel وscholar وliterati والأبرز من بينها والأقرب إلى مفهوم هذه
المقالة عن المثقف في أيامنا هو Intellectuel الوارد من صفة
أطلقت على العاملين في مجال الفكر والأدب تحديدًا، والذين اتخذوا مواقف من الشأن
العام في فرنسا في القرن التاسع عشر بصفتهم مثقفين"[5]، بصفة عامة هناك شبه إجماع بين جمهور
الباحثين والدارسين لمفهوم المثقف على أنّ حادثة دريفوس هي لحظة البدء والميلاد
الفعلي للمفهوم بالمعنى الشائع والمتداول اليوم.
ويعرف
المعجم الفرنسي Larousse مفهوم المثقف intellectuel كالتالي "هي
صفة مشتقة من مفهوم الذكاء intelligence، والمثقف أيضًا
هو كل فرد يهتم بالأشياء الفكرية ويشتغل بها بالاعتماد على العقل"[6]، إنّ هذا التحديد الذي يقدمه المعجم الفرنسي
يتقاطع مع مجموع التعريفات السابقة وأيضًا التعريفات التي ستأتي لاحقًا في هذا
الفصل، حيث تشير جميعها إلى ارتباط المثقف بالمجال الفكري النظري، تنظيرًا
وإنتاجًا وترويجًا واستهلاكًا.
3.1.
المثقفون من منظور سوسيولوجي:
1.3.1.
جاك لوكوف وحلقة المثقفين:
ورد
في كتاب "المثقفون في العصر الوسيط" للمفكر جاك لوكوف [وهو مؤرّخ فرنسي
يعتبر من أهم المؤرّخين العالميين، توُفّي عام 2014 عن عمرٍ يناهز التسعين سنة،
كان مهتماً بالتاريخ الوسيط]، تعريف عام وشامل لمفهوم المثقف يعتبر المثقفين هم (الذين
يشتغلون بالثقافة، إبداعًا وتوزيعًا وتنشيطًا، الثقافة باعتبارها عالمًا
من الرموز يشمل الفن والعلم والدين) ويمكن تقسيمهم إلى الفئات التالية (نواة
تتكون من المبدعين والمنتجين من علماء وفنانين وفلاسفة وكتاب وبعض الصحفيين، يحيط
بها أولئك الذين يقومون بنشر ما ينتجه هؤلاء المبدعون مثل الممارسين لمختلف
الفنون ومعظم المعلمين والأساتذة والصحفيين، يليهم ويحيط بهم جماعة تعمل على تطبيق
الثقافة من خلال المهنة التي يمارسونها مثل الأطباء والمحامين)[7].
إنّ
التعريف السابق، يسعى إلى توسيع دائرة المثقفين وحلقتهم لتشمل عددًا كبيرًا من
الأفراد يشتركون في نقطة واحدة وهي العمل في المجال الثقافي، سواء تعلق الأمر
بالإنتاج والإبداع، أو الترويج والنشر، وأخيرًا الاستهلاك، أي استهلاك ما يتم
إنتاجه ثقافيًّا، هذا التعريف يجعلنا نقف عند نقطة هامة وهي أنّ المثقفين لابدّ
لهم من وجود مؤسسات للاشتغال، ومن ثمّ فالمؤسسة الثقافية التي قد تكون جامعة أو
معهدًا للفنون أو وسائل الإعلام أو الجمعيات الثقافية، هي هنا شرط لممارسة المثقف
لمهامه.
2.3.1.
أنطوني غرامشي المثقفون ونظرية البنى الفوقية:
ينطلق
المفكر الإيطالي أنطوني غرامشي، الذي انصبت أعماله على دراسة دور المثقفين في
التغير الاجتماعي، من وصف هذه الفئة بموظفي البنى الفوقية التي تعمل على صوغ إيديولوجيا خاصة
بالطبقة المهيمنة وتعمل في الوقت نفسه على ابتكار وسائل خاصة لنشرها وتعمميها على
باقي الشرائح الاجتماعية، ويعرف غرامشي المثقفين انطلاقًا من الوظائف التي
يشغلونها داخل المجتمع، وبالتالي فهو يقدم تعريفًا يرتبط بالوظيفة
الاجتماعية للفرد، لتشمل فئة المثقفين، جميع الأفراد الذين يزاولون وظائف ذات نشاط
فكري تكسبهم مكانة ضمن العلاقات الاجتماعية، كالكتاب والفنانين والمعلمين والأطباء
والسياسيين والإداريين، وغيرهم ممن يزاولون أنشطة فكرية.
ويرى
الدكتور الطاهر لبيب أنّ غرامشي قد أقام فرقًا بين صنوف المثقفين، بالنظر إلى موقعهم
(فالمثقف المبدع الذي يصوغ الإيديولوجية أكبر وزنًا من المنظم الذي يدير وينشر هذه
الإيديولوجية، ومن مجرد المربي وهكذا إلى أن نصل إلى من ليست له أيّ مبادرة وينحصر
عمله في التنفيذ)[8].
بعد
تعريفه لفئة المثقفين، يطرح غرامشي سؤالاً جوهريًّا مفاده، هل المثقفون طبقة
اجتماعية واحدة قائمة الذات؟ أم أنّ كل طبقة اجتماعية معينة لها مثقفوها؟
يجيب
غرامشي عن هذا الإشكال، حينما يعتبر المثقفين هم شريحة تتولد من طبقات مختلفة، أي أنّ لكل
طبقة اجتماعية فئة مثقفين خاصة بها ترتبط بها بدرجات ومستويات مختلفة،
(كل طبقة اجتماعية تولد أصلاً على أرضية وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي
تخلق عضويًّا وفي الوقت نفسه الذي تولد فيه شريحة أو شرائح من المثقفين يزودونها
بتجانسها وبوعيها لوظيفتها الخاصة لا في الميدان الاقتصادي فحسب، بل في الميدان
السياسي والاجتماعي أيضًا: فصاحب المعمل الرأسمالي خلق معه مهندس الصناعة وعالم
الاقتصاد السياسي ومنظم الثقافة الجديدة والقانون الجديد)[9].
نستخلص
مما سبق إذن أنّ وظيفة المثقفين تتمثل حسب غرامشي في التنظير ورسم معالم
الإيديولوجية المهيمنة للطبقة التي تحتكر آليات السلطة داخل المجتمع، حيث يصبح
المثقف منظرًا وموجهًا وعرّابًا للفئة الحاكمة أو المسيطرة داخل المجتمع، ومن ثمّ
يمكن تعريف المثقف بأنّه: هو كل منظر يشتغل بآليات الفكر على إبداع إيديولوجية
جديدة تتماشى مع توجهات الطبقة المهيمنة وترعى مصالحها وتخضع باقي الطبقات لها.
2. شروط المثقف: متى يصبح الفرد مثقفًا؟
إنّ
الدخول في دائرة المثقفين، لا يتحقق إلا بتوفر مجموعة من الشروط، باكتمالها يصبح
الفرد مثقفًا، وترتبط هذه الشروط بشكل كبير بعلاقة الفرد المثقف بالمجتمع.
1.2.
الكشف عن الحقيقة:
يتمثل
الشرط الأول في أن يسعى المثقف إلى الكشف عن الحقيقة، وفضح جميع الإيديولوجيات
المتآمرة على المجتمع وعلى الأفراد، وأن يكسر جميع الطابوهات ويتجاوز بالعقل
كافة أشكال التفكير الخرافي والأسطوري واللاعقلاني، وأن يعمل على تنوير الأفراد
وتبيين أوجه الحقيقة لهم دون زيف أو تشويه، هذا الشرط هو الذي جعل من رجال عصر
الأنوار مثقفين بالمعنى الفعلي للكلمة حيث كان شعارهم كما سيبين ذلك كانط هو
"تجرأ على استخدام عقلك"[10].
2.2.
الشجاعة الفكرية:
ينبغي
على المثقف أن يتحلى بأقصى درجات الشجاعة الفكرية، وأن يعتمد النقد منهجًا
له في فهم المجتمع وظواهره وتحليلهما، حيث يصبح قادرًا على مواجهة كافة أشكال
السلط دون أن يتراجع عن مواقفه الفكرية التي يراها الخيار الأنسب للمجتمع، فالمثقف
حسب ماركس هو ذاك الذي يقوم (بنقد صارم لكل ما هو موجود، صرامة تحول دون تراجع
النقد، لا أمام النتائج التي يقود إليها هو نفسه ولا أمام الصراع مع السلطة أيًّا
كانت)[11]، فالخوف من السلطة، والخشية من النتائج
التي قد يقود إليها تفكير الفرد، واستكانته إلى الأفكار الجاهزة والمستهلكة، وعدم
التشبث بالمواقف الصحيحة، عوامل تقصي الفرد من دائرة النخبة المثقفة داخل المجتمع.
3.2.
التبشير بمشروع اجتماعي جديد:
إنّ
الدور المنتظر من المثقف، هو التنظير لمشروع اجتماعي جديد، يضمن إقلاعًا حقيقيًّا
للمجتمع يمكنه من مسايرة ركب الحضارة، فكل مجتمع له عوائق ونقائص تحول دون تحقيق
مفهوم التنمية بمعناها الشمولي، وتمس مختلف جوانب حياة الأفراد، ولتجاوز هذه
المثبطات لابد من ابتكار مشروع مجتمعي متكامل، تتوفر فيه كافة الضمانات اللازمة
للوصول إلى الأفضل، هنا يبرز دور المثقف بوصفه حاملاً لمشروع وبديل اجتماعي جديد،
يستطيع به استقطاب كافة الشرائح الاجتماعية التي تجد فيه خلاصها، (إنّ المثقف إذن
هو في جوهره ناقد اجتماعي. إنّه الشخص الذي همه أن يحدد ويحلل ويعمل، من خلال ذلك،
على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظام أكثر
إنسانية وأكثر عقلانية)[12].
3. أنماط المثقفين في المجتمع:
تسعى
المقاربة السوسيولوجية لمفهوم المثقف، إلى إقامة تمييز داخل هذه الفئة، من منطلق
أنّ المثقفين ليسوا فئة واحدة متشابهة، بل يمكن التميز فيما بينها بين أنواع محددة
من المثقفين، وسنعمل نحن هنا على تحديد أنماط المثقفين من خلال عرض تصورين، التصور
الأول للمفكر الإيطالي أنطوني غرامشي وهو تصنيف عام يشمل المثقفين في جميع
المجتمعات، والتصور الثاني لعالم الاجتماع المغربي عبد الصمد الديالمي، وهو تصنيف
خاص يخص المثقفين في المجتمع المغربي.
1.3.
أنماط المثقفين في المجتمعات الصناعية:
لقد
واكب ظهور الثورة الصناعية بأوروبا، وما ترتب عليها من تحولات عميقة شملت مختلف
أبعاد الحياة الاجتماعية، ظهور فئة جديدة من المثقفين، وهي فئة المثقف العضوي الذي
جاء ليحتل مكان المثقف التقليدي بل ويعمل قدر المستطاع على إزاحته، إنّ المثقف العضوي
هنا حسب غرامشي هو وليد هذه الثورة الصناعية وفي الوقت نفسه هو وليد تطور النظام الرأسمالي الذي جاء
بمثقفين جدد يتماشون وطبيعة المرحلة التاريخية "في كل بلد، تبرز فيه طبقة
معينة، تظهر معها فئة مثقفين تتطور جذريًّا مع تطور الرأسمالية... لقد
حاولت الطبقة المهيمنة التثقيف باعتماد نمط فكري معين. لقد أدخلت الصناعة نوعًا
جديدًا من المثقف، ومن أمثلته المنظم الفني والمتخصص في العلوم التطبيقية"[13]
هذا
المثقف العضوي والذي يقابله المثقف التقليدي هما الأنموذجان اللذان عمل المفكر
الإيطالي أنطوني غرامشي على رصدهما وتحليلهما.
1.1.3.
المثقف العضوي:
يظهر
المثقف العضوي في الساحة الاجتماعية مع ظهور طبقة جديدة متقدمة، فهو بمثابة المبشر
والمنظر لهذه الطبقة والعامل على ضمان وجودها داخل المجتمع "المثقف العضوي
الذي يرتبط وجوده بتكون طبقة متقدمة"[14]، ويعمل المثقف العضوي حاليًّا على
الترويج للخطاب السائد لدى الطبقة المهيمنة والمتمكنة داخل المجتمع، وفي الغالب
يتقاطع دور هذا المثقف مع رجل السياسة، إذ يهدف كلاهما إلى ترسيخ نمط فكري معين
متقدم من الناحية التاريخية.
2.1.3.
المثقف التقليدي:
يصبح
المثقف التقليدي متجاوزًا تاريخيًّا، مادام متشبثًا بإرث فكري لطبقة سائرة نحو
الزوال أو زالت أصلاً، فهو مثقف متشبع بفكر من الماضي لم يعد له الحضور نفسه
والقوة التي كانت في السابق "المثقف التقليدي المرتبط بطبقات زالت أو في
طريقها إلى الزوال، أي طبقات تنتمي إلى كتلة تاريخية سابقة"[15]
2.3.
أنماط المثقفين في المجتمع المغربي:
يقيم
عالم الاجتماع المغربي عبد الصمد الديالمي تصنيفًا لفئة المثقفين
بالمجتمع المغربي، على أساس موقف هذه الفئة من التراث ومن الثقافة الشعبية
الوطنية، ويشمل هذا التصنيف خمسة أنواع من المثقفين وهم: المثقف
الكولونيالي، المثقف التقدمي، المثقف الوطني، المثقف الجمالي، المثقف العضوي،
ويؤكد الديالمي أنّ هذه الأصناف قد تحضر في فترة تاريخية واحدة، غير أنّ دينامية
المجتمعات تحتم أن يمثل كل صنف لحظة تاريخية على المستوى الإيديولوجي
"فالمثقف الجمالي ينطلق من الإيمان بإفلاس المثقف التقدمي، في حين يشكل هذا
الأخير تجاوزًا للمثقف الوطني. أما المثقف العضوي حسب تعريفنا الخاص، فبإمكانه أن
يتواجد في البداية وفي النهاية"[16].
1.2.3.
المثقف الكولونيالي:
يبرز
المثقف الكولونيالي، في شكل عالم أثنولوجيا، مزودًا بمقولات البحث العلمي،
وبالثقافة الغربية المتعالية على باقي الثقافات، والمجسدة في عادات وفنون ومعرفة
ونمط عيش قابل لأن يفرض على جميع الثقافات الأخرى، ومن ثم النظر إلى الثقافة
المغربية باعتبارها فلكلورًا وجب تجاوزه واستبداله بالثقافة الأنموذج المستوردة من
المركز.
يتقاطع
عالم الإثنولوجيا هنا مع عالم الفلكلور في شكل آخر من أشكال المثقف الكولونيالي،
ويستمد عالم الفلكلور مشروعية خطابه وعمله، من قاعدة الحفاظ على الثقافة الشعبية خصوصًا
القروية التي أصبحت فلكلورًا، ينبغي الحفاظ عليه من الضياع، ويلعب انتماء هذا
المثقف أو عالم الفلكلور إلى الوسط القروي دورًا كبيرًا في عملية البحث والتوثيق
التي يقوم بها هذا الأخير، بشكل يجعل من هذه العودة إلى التراث عودة حميمية
ونوستالوجيا للنخبة المثقفة القروية، غير أنّها لا تعدو أن تكون محاولة لحفظ هذه
الثقافة، على شكل ثقافة متحفية فقط.
2.2.3.
المثقف الوطني:
يرفض
المثقف الوطني تهميش ثقافته الوطنية، والتي يجدها متجذّرة في عمق المجتمع، لها
أسباب الاستمرار ومقوماته، ولها مبرر وجود تاريخي، هذا المثقف الغيور على لغته
التي تمثلها العربية الفصحى ودينه الذي هو الإسلام وتاريخه المجيد، لا يقبل
بإزاحة كل هذه القيم، مقابل استيراد لغة ودين وتاريخ من الغرب، بديلاً بحجة (أو
ذريعة) مسايرة ركب الحضارة، لكن المثقف الوطني في الوقت نفسه يظل مقتنعًا بوجود
ثقافات فرعية شعبية ينبغي تهميشها، في نوع من الالتقاء مع التوجه الاستعماري
"لكن القطيعة التي يحدثها المثقف الوطني مع الطرح الاستعماري ليست تامة. إنّه
يحتفظ بالإيمان بوجود ثقافة شعبية.أي بوجود ثقافات مختلفة وثانوية قابلة
للتهميش"[17].
يتحول
المثقف الوطني هنا إلى وصي على الثقافة الوطنية، يحميها من التهميش الأجنبي ومن
الشوائب التي تقتحمها من الثقافة الشعبية، هذه الأخيرة التي تعتبر ضمن كل ما
يتعارض مع الإسلام السلفي واللغة العربية الفصحى، ونمط العيش الحضري، وقد عبر
المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي عن هذا الوضع حينما اعتبر "فباسم الثقافة
الوطنية، تراقب وتقمع قيم الثقافة الشعبية، والتي هي أقل خطابة، وأكثر حساسية
لاستمرارية تاريخية مكتوبة على الجسد"[18].
إنّ
وجود الثقافة الوطنية واستمراريتها وهيمنتها، بالنسبة إلى المثقف الوطني، أمر
تمليه مجموعة من الشروط التاريخية، الأمر الذي تظل معه الثقافات الأخرى، وفي ظل
اللاتكافؤ السياسي القائم، أكثر تهميشًا واستغلالاً من طرف الثقافة الوطنية
المهيمنة.
3.2.3.
المثقف التقدمي:
يحمل
المثقف التقدمي، مشروعًا ثقافيًّا بديلاً للمجتمع، وهو مشروع يقوم على ضرورة إيصال
الثقافة العلمية التقدمية، وتبليغها إلى الجماهير، إنّه المشروع الثقافي الماركسي،
حيث يتم تثقيف الشعب، ومنحه حقه في المعرفة.
ولفهم
موقف المثقف التقدمي أكثر، ينبغي الوقوف على النقد الذي يوجهه هذا المثقف إلى دعاة
العودة إلى الفلكلور، مثقفي البرجوازية الوطنية، والحفاظ عليه، فهؤلاء لا يعبرون
سوى عن رغبة ذاتية في التسلية، التسلية بالفلكلور شأنهم شأن السائح الأجنبي، أو
رغبة ذاتية في إبراز التفوق، تفوق ثقافتهم البرجوازية الخاصة التي تجمع بين
أنموذجين، وهما الإسلام والغرب.
إنّ
المثقف التقدمي، هو المدافع عن حق الجماهير في الاستفادة من المعرفة داخل المجتمع،
على أن لا يوجه الأفراد لاختيارات محددة لهم سلفًا لإغرائهم وحسب قصد استغلالهم.
4.2.3.
المثقف الجمالي:
يبرز
المثقف الجمالي، باحثًا عن مظاهر الجمال، في الثقافة الشعبية الأصيلة، فتلك الثقافة
بمختلف تعبيراتها وأشكالها، من أمثال وشم وخط وخرافة، تحمل في طياتها عدة أبعاد
جمالية، وهي الأبعاد ذاتها التي يسعى المثقف الجمالي إلى إبراز قيمتها ومعانيها،
والتي يغفلها المتطلع إلى الثقافة الشعبية بوصفها فلكلورًا ليس أكثر. فعندما ينظر
المثقف الجمالي إلى طقس الجدبة مثلاً، فهو يراه تحريرًا للذات من اللاهوت ومن
الشرع، كما يعتبر أيضًا هذا الطقس مجالاً للصراع بين الرغبة والقانون "إنّها
كذلك وبالخصوص مكان الصراع بين الرغبة والقانون، بين عنف اللذة وهيمنة الفقه.
إنّها في الوقت نفسه تربية لاهوتية تخاطب اللاشعور بالأساس ومتنفس تعبيري قابل
للرفض يصعب إخضاعه إلى الإدراك الوضعي في أحط صوره"[19].
إنّ
المثقف الجمالي، يتمكن من صياغة تصوراته الخاصة بالثقافة الشعبية، انطلاقًا من
اعتماده مجموعة من المقاربات، إذ يعتمد السوسيولوجيا والفلسفة، والتحليل النفسي،
اللسانيات والسيميولوجيا، مما يجعل مقاربته هنا، مقاربة متعددة الروافد.
5.2.3.
المثقف التجزيئي:
يبرز
المثقف التجزيئي، داخل المجتمع المغربي في صورتين، الصورة الأولى، هي صورة المثقف
الممتلك لثقافة عالية، يوظفها للدفاع عن الأقلية الثقافية أو الإثنية التي ينتمي
إليها، أما الصورة الثانية، فهي صورة المثقف الممتلك لثقافة هامشية شعبية، قائمة
على السحر والأسطورة، والذي بدوره يدافع عن ثقافته هذه وعن استمراريتها.
"المثقف التجزيئي، المقصود منه نوعان من المثقفين: النوع الأول يشمل المثقفين
الذين ينحدرون من أقلية، أو إثنية، أو طائفة دينية. إنّه المثقف الذي يوظف ثقافته
العالمة، النخبوية من أجل الدفاع عن ثقافة مجموعته الأصلية المهمشة في المشروع
الوطني الرسمي، أما النوع الثاني فيرجع إلى أولئك الذين يديرون، بفضل رأسمالهم
المعرفي اللامعترف به، حقل الثقافة الشعبية"[20]
على سبيل الختم:
يبقى
مفهوم المثقف مفهومًا غنياًّ، متعدد الأوجه والدلالات، لكنه في العموم يميل إلى
الإشارة إلى فئة خاصة توجد بكل المجتمعات تكتسب ثقافة وفكراً خاصًّا يعطيها
الأولوية في توجيه الرأي العام وقيادة المجتمع، على الرغم من أشكال الإقصاء التي
تنتهج ضدها، إلا أنّ المثقف يبقى دائمًا حاضرًا في قلب التحولات الكبرى التي
يعرفها المجتمع بصور وأشكال مختلفة، وهو ما يفند المقولة الاعتباطية القائلة بغياب
المثقف أو موت المثقف، التي لا تفيد من الحقيقة في شيء.
ببليوغرافيا:
مراجع
بالعربية:
-
إبن منظور: لسان العرب
-
بشارة عزمي: عن المثقف والثورة، مجلة تبيين، العدد 4، المركز العربي للأبحاث
ودراسة السياسات 2013
-
الجابري محمد عابد: المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية،
الطبعة الثالثة، بيروت، لبنان 2008
-
الديالمي عبد الصمد: القضية السوسيولوجية، دار إفريقيا الشرق، الطبعة الأولى،
1987، الدار البيضاء، المغرب.
-
العروي عبد الله: ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة
2002، الدار البيضاء بيروت.
-
لبيب الطاهر: سوسيولوجيا الثقافة، منشورات ملتقى، المحمدية، المغرب 2005
مراجع بالفرنسية:
-
Antonio Gramsci: quelques thèmes sur la question
méridionale, Gramsci dans le texte.
-
Gramsci Antonio: Gramsci dans le texte, éd sociales, Paris ,1975.
-
Larousse
[2] محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة العربية، مركز دراسات
الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت، لبنان 2008، ص 22
[3] عبد الله العروي: ثقافتنا في ضوء التاريخ، المركز الثقافي
العربي، الطبعة السادسة 2002، الدار البيضاء بيروت، ص 172
[5] عزمي بشارة: عن المثقف والثورة، مجلة تبيين، العدد 4، المركز
العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013، ص 3
[16] عبد الصمد الديالمي: القضية السوسيولوجية، دار إفريقيا الشرق،
الطبعة الأولى، 1987، الدار البيضاء، المغرب ص 83
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق