السبت، 24 سبتمبر 2016

هوبز؛ نظرية العقد الاجتماعي./ أحمد أغبال.


نظرية العقد الاجتماعي لدى طوماس هوبز

أحمد أغبال


 

طوماس هوبز (1588-1679) فيلسوف إنجليزي عاش في القرن السابع عشر، في فترة تميزت بالاضطرابات والقلاقل، عانى خلالها المجتمع الإنجليزي من ويلات الحرب الأهلية. تابع هوبز مجريات الأحداث في بلده باهتمام كبير حتى أنه جعل من مسألة السلطة السياسية شغله الشاغل، فانكب على دراستها لبيان أسباب الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي. ولتحقيق مشروعه الفلسفي، سعى هوبز إلى الكشف عن المبادئ العقلانية التي تنبني عليها السياسة المدنية الكفيلة بتعطيل مفعول العوامل الداخلية التي تتسبب في تفكك النظام السياسي وانهياره. وانطلق في ذلك من فكرة مفادها أن مصائب الحكم المستبد "أقل وطأة على النفس من البؤس والويلات التي تنجم عن الحرب الأهلية". ومعنى ذلك أن أي نظام حكم مهما كان نوعه أفضل من الحرب الأهلية. وإلى جانب هذه المصادرة الأساسية وضع هوبز مصادرة أخرى مفادها أن جميع أنظمة الحكم معرضة للاضطراب والوقوع في الحرب الأهلية والانحلال باستثناء نظام الحكم المطلق. وبما أن الناس عقلانيون ويميلون بالفطرة إلى طلب الأمن من أجل الحفاظ على البقاء، فإنهم سيفضلون العيش في كنف نظام سياسي مطلق يضمن لهم الأمن والاستقرار ويجنبهم الوقوع في الحرب الأهلية. وهكذا، فإن رغبة الناس في الاستقرار والأمن يفرض عليهم عدم القيام بما من شأنه أن ينال من هيبة الدولة ويضعف قوتها، ويلزمهم بتقديم الولاء اللامشروط للحاكم مهما كان مستبدا، وأن يطيعوه ولا يتمردوا عليه أبدا مهما كانت الظروف. ومن هنا يتبين أن ما حاول هوبز إثباته وتأكيده هي الأطروحة التي تقول بوجود علاقة تأثير متبادل بين الامتثال للسلطة السياسية والسلم. يمكن صياغة هذه الأطروحة بعبارة أخرى: إنه إذا أقر الناس بنظام حكم ما وامتثلوا لأمر الحاكم، فإن ولاءهم له يضمن لهم السلم، وإذا تحقق السلم تقوى نظام الحكم وزادت درجة امتثال الناس للحاكم.

ولإثبات هذه الأطروحة دعانا هوبز إلى التفكير معه فيما يمكن أن يترتب عن وجود الإنسان في حالة الطبيعة بخصوص علاقته بالآخرين وأحواله النفسية ونوعية الحياة بصفة عامة. ومن هنا يتبين أن مفهوم حالة الطبيعة إنما يكتسي عنده أهمية منهجية بالدرجة الأولى، فهو بمثابة مقدمة أو مصادرة من المصادرات الأساسية التي يتأسس عليها أسلوبه في البرهنة على الأطروحة المشار إليها. يدل هذا المفهوم عنده على وضعية مفترضة لا وجود فيها لسلطة الدولة، وقدم لنا وصفا تحليليا دقيقا لما يمكن أن تكون عليه أحوال الناس وهم على هذه الحال في كتابه "اللوفيتان"*« Leviathan » الصادر عام 1651، يقول في الفصل الثالث عشر من هذا المؤلف المشهور:

"كل ما هناك لازم كنتيجة منطقية لزمن الحرب حيث يكون كل امرئ عدوا لما سواه من الناس؛ ومن الأمور الملازمة لزمن الحرب أيضا أن الناس يعيشون دون أن يكون لهم مما يضمن الأمن غير قوتهم الخاصة والوسائل الخاصة المبتكرة. لا مكان للصناعة في مثل هذه الظروف، لأن ثمارها تكون غير مضمونة. ومما يترتب عن ذلك انعدام زراعة الأرض والملاحة، وعدم إمكانية استعمال السلع التي يمكن استيرادها عن طريق البحر؛ وكذلك يتعذر توسيع مجال العمران، وتنعدم وسائل التنقل ووسائل نقل الأشياء التي يتطلب تحريكها قوة كبيرة؛ ولا يكون في هذه الظروف مجال لقيام المعرفة بأديم الأرض، ولا اعتبار للوقت، ولا فنون، ولا أدب، ولا مجتمع؛ والأسوأ من ذلك كله انتشار الخوف المستمر ومخاطر التعرض للعنف المميت؛ وتكون حياة الإنسان حياة عزلة، وفقر، ورداءة، ووحشية، وتكون قصيرة"      

كيف يفسر طوماس هوبز وجود هذه الوضعية ؟ يُرجع السبب في ذلك إلى الطبيعة الإنسانية. ذلك لأن الطبيعة ساوت بين بني البشر، وجعلتهم سواسية كأسنان المشط فيما يتعلق بالقدرات الجسدية والعقلية، وذلك على الرغم من وجود أفراد يتمتعون بقوة عضلية هائلة أو بدرجة ذكاء عالية. فعندما يؤخذ الكل بعين الاعتبار وينظر إلى الناس كافة بدون تمييز، فإن الفوارق بينهم تبدو غير ذات أهمية. إن تدخل بعض العوامل يبطل الفروق في درجة القوة بين من يبدو قويا ومن يبدو ضعيفا، ويكون بإمكان الضعيف حينئذ أن يقتل القوي، إما بالتحايل عليه أو بالتعاون مع من يشكل القوي خطرا عليهم.

ويرى هوبز أن الناس متساوون في القدرات العقلية الفطرية أكثر مما هم متساوون في القدرات الجسدية. ومن الأشياء التي فطروا عليها التعقل والاحتراس والقدرة على تقدير عواقب الأفعال. وأما ما قد يعرض المساواة في القدرات العقلية للشك فهو تصور الفرد المغلوط لقدراته الذاتية، لأن معظم الأفراد يميلون إلى المغالاة في تقدير قدراتهم الذاتية مقارنة بقدرات عامة الناس، ويحصل لهم الاعتقاد بأن مستوى قدراتهم العقلية لا يوجد له مثيل إلا لدى فئة قليلة من الناس. والناس في هذا متساوون، لأن المباهاة هي من طبيعة البشر. وتدل المباهاة على ميل الفرد إلى أن يقنع بقسمته من العقل، والناس في هذا متساوون أيضا.

وعن المساواة في القدرات ينشأ الاختلاف. لأن تساوي القدرات يؤدي إلى تساوي الطموح لتحقيق الأهداف. فإن وُجِدَ شخصان يرغبان في شيء واحد، وكان من غير الممكن أن يستمتعا به معا على حد سواء، أصبح الواحد منهما عدوا للآخر، يحاول بقدر المستطاع القضاء على غريمه أو إخضاعه لإرادته. وهكذا، فقد يحصل التنافس بين الناس على الأرض ومواردها، ويترامى الأقوياء على أراضي الضعفاء، ويستولون على خيراتها، ويفقد أصحاب الأرض خيراتهم وحريتهم، وربما فقدوا حياتهم أيضا، وقد يلقى المهاجم نفس المصير إذا تعرض لهجوم من هو أقوى منه.

وهكذا تنشأ الحرب عن الاختلاف، لأن الاختلاف يجعل الأمن مستحيلا. وعندما يشعر المرء بانعدام الأمن فإن أحسن وسيلة للدفاع عن النفس هي الهجوم، أي اللجوء إلى الاستراتجيات الهجومية التي يعتمد فيها الأفراد على القوة أو الردع للتحكم في الآخرين إلى أن يستتب لهم الأمر ويتأكدوا من عدم وجود قوة تشكل خطرا عليهم. إنه قانون الحفاظ على البقاء في زمن حرب الكل ضد الكل، بمعنى أن الحفاظ على البقاء يستلزم السيطرة على الآخرين. إن الغرض من السيطرة هنا هو الحفاظ على البقاء فقط. ولكن قد يوجد بين الناس من لا يكتفي بذلك، فيزهو بقوته ويتباهى بعظمته، ويجد المتعة في السيطرة على الآخرين، ويذهب في ذلك إلى أبعد مما تتطلبه الحاجة للحفاظ على البقاء وذلك طلبا للمجد.

هذا بالإضافة إلى أن الإنسان لا يمتلك الرغبة أصلا في مرافقة الغير أو معاشرته طالما لم توجد قوة يخشاها جميع الأفراد ويحترمونها في نفس الوقت. يرجع السبب في ذلك، حسب هوبز، إلى أن كل فرد يرغب في أن ينظر إليه الغير بنفس النظرة التي ينظر بها هو إلى نفسه، وبحب أن يقدره الغيرُ بمقدار ما يقدر هو نفسه. وإذا بدا له من تصرفات الغير إزاءه ما يدل على الكراهية أو التقليل من قيمته، عمل جاهدا على انتزاع نوع من الاحترام منه بالقوة.

ومن هذا التحليل خلص هوبز إلى النتيجة التالية المحتومة: تنطوي الطبيعة الإنسانية على ثلاثة أسباب رئيسية للنزاع بين البشر وهي: التنافس، والاختلاف، والرغبة في تحقيق المجد. يجعل السبب الأول الناس متلهفين إلى استقصاء الربح والحصول على ما تشتهيه أنفسهم بلا حدود، ويدفعهم السبب الثاني إلى طلب الأمن، وأما السبب الثالث فيدفعهم إلى طلب السمعة والرياء. تستعمل نزعة التنافس القوة كوسيلة للتحكم في الآخرين سواء أكانوا أبناء أو زوجات أو إخوة، الخ... ويدفعه الشعور بالاختلاف إلى استعمال القوة للدفاع عنهم وحمايتهم، وأما هاجس السمعة فيتطلب استعمال القوة لمواجهة كل من تسول له نفسه التقليل من شأنهم والمس بكرامتهم من خلال الاستهزاء بهم ونشر الأقاويل التي تسيء إليهم وتحط من قدرهم إلى غير ذلك مما يتسبب في الإساءة إلى أفراد الأسرة أو الأقارب أو أفراد الجماعة التي ينتمي إليها ويتعصب لها.

تلك إذن هي القوى والانفعالات التي تتحكم في سلوك البشر في حالة الطبيعة أو عند غياب سلطة الدولة. إن غياب الدولة يعني غياب قانون يحتكم إليه الناس ويحميهم جميعا، ومع انعدام القانون تحل الفوضى، ويصبح الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، وتنتشر مشاعر الخوف والحذر، ذلك هو زمن الحرب. "إبان حرب الكل ضد الكل هذه، لا شيء ينظر إليه على أنه غير عادل، وهذه نتيجة منطقية أيضا. لا مكان في هذه الوضعية لمفاهيم الصواب والخطأ ولا لمفاهيم العدل والجور. ذلك أنه حيث لا توجد سلطة مشتركة لا يكون للقانون وجود؛ وحيث لا وجود للقانون، لا يكون لما ليس بعادل وجود. في الحرب تكون القوة والخداع هما الفضيلتان الأساسيتان. وأما العدالة والظلم فلا يمتان إلى القدرات العقلية أو الجسدية بأية صلة تذكر، لأنه لو كانت على صلة بها لوجدت لدى الإنسان المنعزل أو المتفرد في العالم مثلما توجد لديه حواسه وانفعالاته. إنها من الصفات المرتبطة بالإنسان الذي يعيش في المجتمع لا بالإنسان الذي يعيش في عزلة. ومما يترتب عن ذلك ولنفس الأسباب، أنه لا وجود للملكية ولا للمزارع وأنواع العقار في زمن الحرب، ولا تمييز فيه بين ما بحوزتي وما بحوزتك؛ إن ما يملك المرء هو ما يقدر على أخذه بالقوة، ويظل بحوزته ما دام قادرا على الذود عنه والحفاظ عليه".

في مثل هذه الظروف تكون الحرية هي الحق الطبيعي الأساسي الذي يتمتع به لإنسان. والمقصود بذلك الحرية المتاحة لكل فرد لاستعمال كل ما لدية من قوة للدفاع عن نفسه والحفاظ على حياته. ومعنى ذلك أيضا أن دافع الحفاظ على البقاء يخول لكل فرد الحق في استعمال كل الوسائل المتاحة بحرية تامة لتأمين حياته. يدل مفهوم الحرية هنا على عدم وجود قوة خارجية تحول دون استعمال القدرات والوسائل المتوفرة للفرد لتلبية رغباته وتحقيق أهدافه. ومما يترتب عن الحرية بوصفها حقا طبيعيا الصراع بين مختلف الإرادات.   

ومع ذلك يوجد لدى الإنسان نزوع إلى السلم؛ ومن الانفعالات التي تدفعه للجنوح إليه، الخوف من الهلاك، والرغبة في تحسين ظروف العيش من خلال العمل والإنتاج. وبفضل العقل اهتدى الناس إلى القواعد التي ينبني عليها السلم واتفقوا عليها. يطلق هوبز على هذه القواعد اسم القوانين الطبيعية. يعرف هوبز القانون الطبيعي بأنه: "قاعدة عامة اهتدى إليها العقل، تمنع الإنسان من فعل كل ما من شأنه أن يدمر حياته، ولا تبيح له أن يحرم نفسه من الوسائل التي تضمن له الحفاظ عليها، أو أن يتخلى عن كل ما يظن بأنه أحسن وسيلة للحفاظ عليها. ومع ذلك، اعتاد الناس الخلط بين الحق والقانون في حديثهم عن هذا الموضوع؛ ولذلك لزم الآن التمييز بينهما، لأن الحق يعني حرية الاختيار بين فعل شيء أو عدم فعله، بينما يلزمنا القانون بأحدهما ويحدد ما يجب وما لا يجب القيام به. وهكذا فإن الفرق بين القانون والحق كالفرق بين الإلزام والحرية اللذان يكونان قي حالة تنافر عندما يتعلق الأمر بنفس الموضوع".

ومما يترتب عن وجود الإنسان في حالة الطبيعة بوصفها حالة "حرب الكل ضد الكل" أن "لكل فرد الحق في كل شيء" حسب تعبير هوبز. لا يخضع الفرد في مثل هذه الظروف إلا لما يمليه عليه عقله الشخصي، فيدرك أن من حقه أن يستعمل كل الوسائل المتاحة لمقاومة أعدائه من أجل صيانة حياته. وهكذا، فإن غاية الحفاظ على البقاء تمنحه الحق في كل شيء بما في ذلك بدن الغير وممتلكاته. وطالما ظل هذا الحق الطبيعي سائدا فلن يكون هناك مجال للسلم، ولن يشعر أي أحد بالأمن مهما كانت قوته العضلية والعقلية.

يتمثل الحق الطبيعي الأساسي، حسب طوماس هوبر في "أن كل فرد يلزم نفسه بالسعي في طلب السلم طالما أنه لم يفقد الأمل في الحصول عليه. وإن هو لم يتمكن من الحصول عليه لجأ إلى استعمال كل وسائل الحرب والخداع". يتألف هذا القانون من شقين، أولهما، "طلب السلم والسير على نهجه"، وثانيهما، "الدفاع عن النفس بكل الوسائل". ومن هذا القانون الطبيعي الأساسي استنبط هوبز القانون الطبيعي الثاني، ومفاده "أن المرء يرغب في شيء عندما يرغب فيه الآخرون أيضا، مثلما هو الحال بالنسبة للسلم والدفاع عن النفس الذي يعتبره ضروريا. فهو يرغب، عندما يرغب الآخرون، في التنازل عن حقه في كل شيء، وإذا كان يرغب في التصدي للآخرين بكل حرية فلأنه يسمح للآخرين بمواجهته. لأنه طالما أن لكل امرئ الحق في أن يفعل ما يريد فسيظل الناس في حالة حرب. وإن لم يقبل الآخرون التنازل عن حقهم..فلن يكون هناك أي مبرر لأي أحد للتنازل عن حقه". ومعنى ذلك أن مصلحة أي فرد تستلزم العدول عن السعي إلى تحقيق الغايات من خلال استعمال أية وسيلة من الوسائل بعض النظر عما يمكن أن تلحق من الأذى بالآخرين.

والمقصود بالتخلي عن الحق في كل شيء هو التنازل عن الحرية في الحصول والاستمتاع بشيء على حساب الآخر الذي يمتلك الحق في الاستمتاع به أيضا. ذلك لأن تنازل المرء عن حقه لا يخول لغيره حقا لم يكن يتمتع بها من قبل، لاسيما وأن القانون الطبيعي يخول لكل فرد الحق في كل شيء. ولذلك لا يجوز لمن يرغب في السلم حقا أن يتمتع بحق طبيعي ويحرم الآخرين منه. ولذلك يتطلب تحقيق السلم ضرورة تخلي كل فرد عن حقوقه الطبيعية إما بالتنازل عنها أو بتفويضها إلى غيره. يتنازل عنها إذا كان واثقا من أن تنازله لا يعزز موقع الغير على حسابه، ولا يجعل حياته في خطر. عبر عن هذه القاعدة بقوله: "ليس لدي الحق في فعل أي شيء مهما كان نوعه من أجل البقاء على قيد الحياة بغض النظر عمن سيستفيد من ذلك". ويقوم بتفويضها بوضعها في يد الغير إذا كان يتوقع أن يجني من وراء ذلك منفعة ما. ولكن التنازل عن الحقوق الطبيعية هو في حقيقة الأمر خرق للقانون الطبيعي الأساسي، إذ ليس هناك ما يبرر التنازل عن الحق في الدفاع عن النفس. وأما تفويضها لسلطة ما بناء على عقد متفق عليه فإنه ينسجم تمام الانسجام مع القانون الطبيعي. حيث يكون من المنطقي أن يقبل الفرد بمبدإ عدم الاعتداء على الغير إذا قبل الغير بهذا المبدإ أيضا. وبناء عليه يتفق الجميع على أن تتولى سلطة مشتركة مهمة حفظ أمن وسلامة كل فرد. ذلك لأن التعاقد على عدم الاعتداء المتبادل لا يضمن في حد ذاته الالتزام ببنود العقد، ولذلك يحتاج المتعاقدون إلى وجود سلطة تلزم الجميع بالوفاء بالعهود والمواثيق المبرمة.

ولكن، ما الذي يجعل سلطة الدولة ضرورية لإلزام الأفراد بالوفاء بالعهود التي قطعوها على أنفسهم؟ ألا يكفي القانون الطبيعي المتمثل في الميل الفطري إلى طلب السلم لضمان التزامهم بالعقد الاجتماعي الذي وضع أصلا لتحقيق أمن وسلامة الجميع؟ يقتضي الجواب عن هذه الأسئلة استحضار المصادرتين التاليتين: (1) إن الإنسان كائن عقلاني، (2) ويتميز أيضا بكونه أناني وشهواني. فقد تأمر النفس الشهوانية أي فرد باستغلال ثقة الآخرين أو غفلتهم لتحقيق بعض المصالح على حسابهم. ومعنى ذلك أن كل فرد معرض للوقوع في إغراء الإفلات من العقاب، فيستولي على ممتلكات الغير. وإنه لمن الطبيعي أن يلجأ المرء إلى تحقيق مصلحته على حساب الغير؛ وهذا في حد ذاته سلوك عقلاني. فإن كنتَ تملك 100 درهم وكنتُ أنا أملك نفس المقدار من المال، واتفقنا على ألا يسرق بعضنا بعضا، فإن الاتفاق في حد ذاته لا يضمن الحيلولة دون وقوع السرقة بيننا. لا يؤدي العقد الاجتماعي، إذن، بالضرورة إلى إبطال مفعول العوامل الطبيعية السابقة الذكر. فإن سولت لي نفسي الاستيلاء على أموالك، فماذا أخسر؟ إن فشلت خطتي فلا ربح ولا خسارة هناك، وإن نجحت فستكون بحوزتي 200 درهم. وبذلك نكون قد عدنا إلى مرحلة ما قبل معاهدة السلم وعدم الاعتداء.

لنفترض الآن وجود سلطة تلزم الأفراد باحترام وتطبيق بنود المعاهدة بسن قانون يفرض عقوبة مقدارها 300 مائة درهم لكل من سرق 100 درهم. في هذه الحالة سأجد نفسي أمام ثلاث احتمالات: إما أن تفشل خطتي في الاستيلاء على أموالك، وإما أن أسرق أموالك وأنجو، ويكون مجموع ما لدي 200 درهم، وإما أن أسرق ويُلقى القبض علي وأدفع غرامه مقدارها 300 مائة درهم. وإذا كانت الغرامة (300 درهم) وكان مقدار عوائد السرقة 100 درهم، فإنني سأفضل بوصفي عقلاني عدم الاعتداء عليك ما دامت قيمة الخسارة المحتملة (الغرامة) أعظم من قيمة العائدات المحتملة التي تذرها السرقة. من الحكمة في هذه الحالة ألا يجازف المرء بالاعتداء على الغير والاستيلاء على ممتلكاته. وهكذا، فإن الالتزام بالعقد يقتضي بالضرورة وجود قوة رادعة.

ومن القانونين الطبيعيين السابقين استنبط هوبز قانونا طبيعيا ثالثا وهو "أن على الناس أن ينفذوا ما اتفقوا عليه وإلا أصبحت الاتفاقية بلا جدوى أو كلاما فارغ ليس إلا، ولظل حق الإنسان في كل شيء قائما، ولَكُنَّا حينئذ ما زلنا في حالة الحرب". يمكن صياغة هذا القانون بعبارة أخرى على النحو التالي: إن من مصلحة الإنسان أن يطبق بنود الاتفاقيات والمعاهدات، لأن ما يجنيه من تطبيقها (السلم) أعظم قيمة مما ستؤول إليه أحواله (الحرب وانعدام الأمن والثقة) إن نكث العهود. وعن هذا القانون الثالث تصدر العدالة. إذ من العدالة أن يلتزم الجميع بالعقد الاجتماعي الذي اتفقوا على إبرامه، وتقتضي العدالة أن يكون المواطنون متساوين أمام القانون. وبالتالي، فإن الظلم يكمن في عدم الوفاء بالعهود والمواثيق المبرمة عن طواعية واختيار وفي عدم تطبيق القانون على الناس بشكل متساو. ومن القانون الطبيعي الثالث استنبط هوبز جملة من المبادئ والقيم الأخلاقية التي يلخصها المبدأ الأخلاقي الذي يأمر بأن "لا تفعل لغيرك ما لا ترغب في أن  يفعله الغير لك ".

وإذا كانت الدولة بقوانينها ضرورية لإلزام الناس باحترام العقد الاجتماعي لضمان الأمن وتحقيق السلم والاستقرار في المجتمع، فهل القانون كافٍ لإجبار الناس على الالتزام بالمواثيق والعهود ؟ هل السلطة كافية لردعهم؟ وهل يكفي الخوف من العقاب لإجبار الناس على الامتثال للقوانين ؟ ألم يوجد القانون إلا ليخرق، كما يقال؟ وإذا كان القانون غير كاف وحده لردع الناس، فما هي المواصفات التي يجب أن تتوفر في الفرد ليكون قادرا على التعاقد والالتزام بالعقود؟ هذه هي الأسئلة التي حاول الفيلسوف الأمريكي جون راولز الإجابة عليها في مؤلفه المشهور "العدالة كإنصاف" في محاولة منه لتطوير نظرية العقد الاجتماعي التي ترجع أصولها إلى طوماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو وغيرهم ممن جاؤوا بعدهم (أنطر مقالتنا "الليبرالية السياسية وفكرة العدالة لدى جون راولز").  

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق