بقلم
: علي حسين الجابري
[قراءة
في فلسفتيّ هيغل ونيتشه قابلة للنقاش]
نعرض
في هذه الدراسة لفلسفة نيتشه في التاريخ والأخلاق بالمقارنة مع هيجل. وقد قسمناها
إلى قسمين الأول حول فلسفة نيتشه والثاني مقارنة ذلك مع فلسفة هيجل.
فر
يدريك نيتشه ( 1844-1900 ) مفكر فرزه القرن التاسع عشر بعد وفاة مواطنه هيجل بسنين
قليلة, ليساهم هو الأخر, بنصيب ملحوظ في توجيه الفكر الأوربي الحديث بعد أن سُحِر ببريق الداروِنية, مستبطنا تاريخ
العالم, يتصيد منه ما يؤيد فلسفته الخلقية, التي كانت في مجملها, حملة شعواء على
قيم عصره محاولا إنقاذ الإنسانية والحضارة من التحلل الذي أصابها وكاد يهددها
بالسقوط. وبذلك حوّل نيتشه الفلسفة – كما يقول لافريه – إلى سلاح مصقول في صراعه
من أجل الحفاظ على الذات التي ركبَّها من خليط عجيب، اجتمعت فيه صورة الفيلسوف
بالفنان المأساوي ، والقديس .
لقد
تميز نيتشه بنظرة بيولوجية في تحري تاريخ الإنسانية، الماضي, ومظاهر الانحلال
الأوربي المعاصر, فأعلن نقمته على أوربا, قائلا "كل حضارتنا في أوربا ما زالت تئن
وتتلوى كأنها في انتظار الكارثة" لقد سيطرت الكمية على حساب النوع, وصارت
الحضارة الخلاقة تختنق شيئا فشيئا, بدخان الانتاج الصناعي الجبار, فتطور الإنسان
الخارجي , على حساب الإنسان الداخلي .
وكما
وجدنا هيجل مرآة عصره, ظهرت أفكار نيتشه مصطبغة بما عاناه من ظروف حياتيه وتربوية
واجتماعية سيئة, دفعت به إلى أن يثور على أسرته وأصدقائه وعصرِه مدفوعاً وراء نداء
داخلي, يحثه على اتخاذ الموقف الذي يؤهله إلى احداث ثورة في ميدان الفكر ويحق لنا أن نعده
فيلسوفا غلب على تفكيره الجانب الخلقي المحكوم بالقوانين البيولوجية الصارمة, استبطن التاريخ باحثا
لفكره عن موقع.
2-
فلسفة نيتشه والتاريخ:
فكما
وجدنا تاريخ هيجل محكوم بمنطقه، عمل نيتشه على أن يحكم التاريخ بأخلاقه فالتاريخ
كله، عند هذا الفيلسوف يسير مدفوعا بإرادة الظفر خلال قوة لا تعرف الرحمة، أن
القوة هي المبدأ الأول للحياة… وإن عذاب الكثرة ضروري لانتصار القلة، وأنبل عمل في العالم هو شن
الحروب لتحقيق طموحات القلة.
وهدف
السادة الأقوياء، قلب المجتمع القديم ) فالأنا) الكلي المقدس أو (الأثرة)
المباركة، تعتمد على قوانين التطور التي لا رحمة فيها والروح السامية لديه هي التي
تبلغ أقصى درجات الأثرة.
سعى
نيتشه من وراء ذلك إلى ممارسة عملية الهدم ليتسنى له البناء، فجاء ملخص رأيه في
القيم قريبة من مقولة السوفسطائيين "الإنسان مقياس كل شيء" حيث صبها في
العبارة التالية "قيمة الأشياء ليست في ذاتها، وإنما الإنسان هو الذي يصنع
القيم للأشياء، فخالق القيم إذن هو الإنسان.
فدعا
إلى قلب القيم السائدة. وحاول متأثرا بالدارونية ، أن يرد القيم الأخلاقية إلى
أصول حيوية عضوية رافضا قيم عصره في كتابه "إرادة القوة" بمحاولة فلسفية
جدية، تناولت المبحث الفلسفي الجديد "القيم" بما ينم عن سعة تفكيره حيث
عبر عن الفلسفة الكامنة في كل تقدم أحرزه العقل البشري في تأكيده على خلو العالم من القيم التي لا
يخلقها الإنسان ذاته،
والتي لا تضيفها على العالم إلا مطالبه وحاجاته دون أن يعوقه عائق.
إن
الحياة هي المحور الذي ربط من خلاله نيتشه بين الإنسان والقيم، ويضيفها فيما بعد،
على كل ما في الطبيعة من مظاهر "فالحياة" أصل القيم العقلية والأخلاقية
.
أما
فلسفته في التاريخ فيمكن متابعتها في الأخلاق ومبحث الصراع الذي يحكم العلاقات بين
الناس، منذ أقدم العصور. والحضارات الكبرى، نشأت هي الأخرى بفضل الجهود العظيمة
التي قامت بها طائفة من الأرستقراطيين (على شكل حيوانات شقراء) حينما فرضت إرادتها
على الشعوب التي قطنت أسيا وأروبا، فكانت أساسا لنشأة الحضارات اليونانية
والرومانية والجرمانية حيث اخترعت لها الشرائع من القيم الأخلاقية المستندة على
قوة جسمية وصحة زاهرة… وكل ما يتصل بالقوة والغزو والحرب والمخاطرة والصيد والرقص والألعاب
البدنية وظهر ذلك جليا في المدن اليونانية التي تحقق فيها بنجاح ذلك الانتصار
المتمثل بالقول والتحطيم الباعث على شعور الأرستقراطي الأخاذ بالفوز وهو يعذب
الأخرين .
ومن
أجل ضمان ديمومة نفوذ هؤلاء الأرستقراطيين عملوا على تطبيق برنامج تربوي يتناول
الفرد والأسرة. ويؤكد على الجسم والعقل، فكانت أسبرطة عزاءً للنفوس المريضة.
ولا
يعتقد نيتشه أن كل إنسان (بالطبع) إما سيد أو عبد بل المقياس هو في انضواء الإنسان
(بالتربية) تحت واحد من الأنماط الأخلاقية المتناقضة، وشعوره بالأنتماء إلى:
1-
جماعة حاكمة تشعر باختلافها عن الجماعة المحكومة شعور يصاحبه إحساس بالسرور
لتوكيد
الذات (النبيلة) التي هي عنوان "الخير"
2-
أو جماعة محكومة (العبيد) الخاضعة للحكام الأشداء.
أما
مواصفات السادة عند نيتشه، فقريبة من وصف ارسطو للرجل ذي الروح العظيمة والتاريخ
عنده يلخصه ذلك الصراع بين الحاكمين والمحكومين، بين السادة والعبيد وهو بالتالي
صراع حاد بين أخلاق وقيم السادة وأخلاق وقيم العبيد، حيث يبدأ العبيد بثورتهم،
فيقلبون ما أصطلح عليه السادة من أوضاع، فيبدلون قيم السادة بقيمهم المتخلفة،
ويحاول السادة إعادة الأمور إلى طبيعتها بصراع مضاد. أن هناك حربا شعواء بين قيم السادة، وقيم
العبيد، وحرب العبيد ضد السادة في عرفه غير متكافئة، لأنها تعتمد على
"القوة" و "البساطة" و "الشجاعة" بل دعامتها
"اللؤم" و (الخبث و الضعف) فيصبح الخير شرا والعكس بالعكس مما يحفز
السادة إلى استعادة مكانتهم وحماية قيمهم، ويتحقق لهم ذلك لأن أخلاقهم أخلاق
"أقوياء" ومقياس أخلاقية الفعل عند نيتشه هو تعبيره عن روح
"القوة" التي يستشعرها المرء في ذاته، وهذا الفعل يجب أن يلائم تلك
النفوس الزاخرة التي تشعر بأنها هي التي تمنح القيم وتخلقها. ولكن بسبب تكتل
العبيد، "وكثرة" عددهم، يتحقق لهم الانتصار على السادة.
هذا
هو جدل الصراع عند نيتشه، صراع ثنائي بين قيم متناقضة ورغبات متفاوتة، تلعب فيه
القوة تارة – دور المؤثر تقابلها الكثرة تارة أخرى وإن التاريخ صراع بين قيم القوة
وقيم الكثرة مسيرة هذا الصراع متفاوتة بين الهدم والبناء ومهمة السادة (الهدامين)
(الخالقين) كما أعلنها "زرادشت" هي العمل على (هدم) قيم العبيد، وبناء
عالم (الأقوياء) بما يمهد لظهور رمز التطور التاريخي البيولوجي ونعني به (الإنسان
السامي – السوبرمان) .
يقابل
ذلك نقيض يعمل [على هدم] قيم السادة، وبناء البديل الخلقي لعالم الكثرة والضعفاء
ونعني به مجتمع المساواة، المعتمد على قيم يسميها نيتشه ( الضعف والذلة والخنوع).
لقد
جسد نيتشه (تاريخ العالم) بتأريخ الصراع بين القيم، مقتفيا أثر هيجل في استقراء
مراحله، وأن مال إلى التفصيل، بفضل تأخر زمانه عن زمان هيجل وتوسع الدراسات
التاريخية خلال تلك الحقبة، فظهرت له سلسلة الصراع بين (القوة) و(الكثرة) بتعاقب
زمني لا يخلو من الانتخابية فكانت :-
1- المرحلة اليونانية
التي تمثل التنافس الخالي من العاطفة، المعتمد على (إرادة القوة) على مستوى الواقع
الاجتماعي "والفكري" لذلك لم يفقد الحماسة لمن سبق سقراط من الأغريق، ممن
استخدموا طرقا تربوية لإنشاء الأفراد المتفوقين، العظماء المختلفين عن "هؤلاء
الذين يدينون بوجودهم للصدفة وحدها"
2-
المرحلة المسيحية التي هي شذوذ عن الحقيقة، وإن كانت تعبيرا عن "قوة"
الضعفاء (وكثرتهم) لكنها لا تطلب السيطرة على العواطف بل تطلب وأدها، وعملت على
اعتبار الدافع (الجنسي) شيئا قذرا مع أنه بالإمكان تهذيبه وهزئ بفكرة الحياة
الثانية، وعالم آخر حلم فيه المسيحيون، حيث يقتص فيه الضعيف من القوي .
3-
عصر النهضة وهو مرحلة كادت فيها أخلاق السادة أن تعود إلى أصالتها اليونانية
(ممثلة بالنبلاء) لولا حركة الإصلاح الديني التي حالت دون عودة أخلاق السادة.
4-
الثورة الفرنسية وهي من أخطر المراحل التي سيطرت فيها أخلاق العبيد، ورفعت شعار
(الحرية، الأخاء، المساواة) وغيرها من قيم (متخلفة) في مفهوم نيتشه.
5-
المرحلة النابليونية أمل الأقوياء وحلم السادة، تحقق على يد نابليون (القوي) الذي
لا يعرف (الرحمة) أنه "مزيج مما هو غير إنساني، ومن فوق الإنساني والذي يؤكد
"امتياز العدد القليل على الأغلبية" ولكن بسقوطه، زال أخر شعاع من قيم
السادة في أوربا.
6-
القرن التاسع عشر يمثل انتصاراً لقيم العبيد، التي اعتبرها علة انهياره، وسبب
أزماته، ولم تشفع معه حتى الأخلاق (البرجوازية) التي أنتقدها نيتشه بشدة واعتبر
النضال من أجل "الأهداف الاجتماعية" رجوعا بالإنسان إلى الوراء وعلى
خلاف هيجل، قال نيتشه بفكرة الشعب المختار، وقصد به الشعب الذي "يلائم رجالُه
زمانَهم فيأتون أضدادا لمن لا تتفق أحوالهم مع الزمان" وترك ذلك للتأريخ .
3-
علاقة التأريخ بالأخلاق
أشرنا
إلى أن نيتشه واحد من فلاسفة الأخلاق، وكانت فلسفته في مجملها انتقادية لقيم عصره،
لقد رفض أن تكون (أوامر الله) أو أحكامه منبع الأخلاق. بل الطبيعة الإنسانية
وغريزة حب السيطرة وإرادة القوة هي مكمن الأحكام التقويمية، لا العقل الإنساني .
لقد
طرح "المصدر الإلهي" و "العقل الإنساني" من التأثير على
الأخلاق وقرنها (بالأنانية) ونقل ذلك إلى تاريخ الفلسفة، بذات المنطق، منطق الصراع
بين (أفكار) العبيد، فاعتبر ثورة سقراط الفلسفية، انتصاراً لقيم العبيد، على أفكار
السادة و (أفكار) العبيد، فاعتبر ثورة سقراط الفلسفية انتصاراً لقيم العبيد على
افكار الفلاسفة العظماء من السابقين عليه .
فهاجم
هذا الفيلسوف ناعتا إياه بشتى نعوت الضعف والخور كما اعتبر المسيحية مصدرا لقوة
العبيد، من هذا جاء تاريخ العالم بعد المسيحية، ممثلا لسيادة قيم العبيد وأخلاقهم،
وما ظهور أخلاق السادة إلا عرضي.
ولم
تكن هذه السيادة كافية لإقناع نيتشه بمشروعية أخلاق العبيد، بل اعتبر هذه الأخلاق
غريبة عن الواقع، وتتعارض مع قوانين الطبيعة الحقيقية. إن نيتشه في كل ذلك كان
مدفوعا بمنطق (الصراع) الذي كان يحكم فلسفته التأريخية والأخلاقية، على أساس
(إرادة القوة)، فانتقد الفلاسفة الذين ادعوا أنهم حسموا المسألة الأخلاقية لصالح
العصر، دون أن يعلموا، أنهم فشلوا في ذلك فشلا ذريعا، بسبب قلة معلومتهم، عن الماضي
(التاريخ) وعدم اهتمامهم به، ولما كانت المشكلات لا تبرز ألا بمقارنة كثير من
النظم، بعضها مع بعض جاءت تحليلاتهم مضطربة وناقصة.
إن
كتابه "أصل نشأة الأخلاق" تضمن تفصيلات لا بأس بها لمسألة الصراع بين
الخير والشر، والحسن والرديء، بين السيد والعبد، تنسجم ومنطقه التاريخي العام،
لكنه يضطرب في كتابه "أفول الأصنام" حينما اعتبر كلا من أخلاق السادة
وأخلاق العبيد، نمطين من الأخلاق، كلا منهما جديرا بالأخر . وبذلك استعار من هيجل
منطقه الجدلي التأريخي، حينما جمع المتناقضات ليوجد المركب، مع أن نيتشه لم يؤشر
لنا معالم ذلك المركب، وهو القائل أن الخير الأعظم يكمن بالشر الأعظم. لكنه قصر
(السوبر مان) على السادة دون العبيد، وإلا لأصبح ذلك الإنسان السامي هو المزيج
الأفضل لجدلية (السادة والعبيد) .
خلاصة
القول: إن نيتشه لم يعترف بالنظام الأخلاقي إطلاقا، لأنه (استبداد) "يناقض
الطبيعة والعقل" ولكونه ينبع من معين أخلاق العبيد أما (الأنانية) فهي وحدها
التي ارتقت بالإنسان من حالة الحيوانية إلى الإنسانية، وستكون سببا بارتقائه إلى
الكمال (السوبر مان) وبذلك كان نيتشه أمينا على منهجه التطوري البيولوجي التاريخي
الذي تحكمه قاعدة "البقاء للأقوى" لأنه "الأصلح" والتي فرضت
ارتقاء الكائنات جيلا بعد جيل. كما أنها فرضت قيما جديدة. لتحقيق "غاية
الحياة" و"هدف" الإنسانية ونعني به ولادة "الإنسان السامي –
السوبرمان" من صلب الأرستقراطية التي خصها فيلسوفنا بأحسن الأشياء وأفضل
الامتيازات وطالب الأكثرية (الضعيفة) بفضيلة (القناعة) .
أما
النظم الأخلاقية، فلقد هاجمها نيتشه، ودعا إلى (هدمها) لأنها وصفة يعيش بها المرء
مع عواطفه، ليس إلا، فهي : من ناحية الشكل تسير على نسق غير معلوم كما أنها غير
معقولة لأنها موجهة للجميع، فهي إذن تعميم ومن المستحيل أن إخضاع الناس إلى قوالبه
مثلما من المستحيل أن يحيا القديس أوغسطين حياة أرسطو فرفض على هذا الاعتبار قيم
"الشفقة" و "المساواة" و "المحبة" و
"التعاون" و "العطف" و "الرحمة" …الخ. لأنها قيود
اخترعها الضعفاء لتقييد الأقوياء كما رفض نيتشه كل إرث اجتماعي وتراث خلقي، ليعرض
على الناس بضاعته (الأخلاقية) المتمثلة بقيم العصر الذي حلم به، وعاشه في داخله
فدعا إلى المبادئ التالية:
1-
مبدأ "الهدم" لكل ما هو قديم
2-
مبدأ "الحرية الفردية" ، وتحطيم القيود، ليكون الإنسان القوي فوق كل
القيم والقوانين والناس والأخلاق .
3-
مبدأ الفضيلة القصوى (الألم) والشعور بالخطر الدائم والتحفز والمجازفة .
4-
مبدأ (الانتحار) والموت الاختياري، يمارسه الإنسان حينما يشعر أن النفس توشك على
الذبول، والخمول، وفقدانها لقدرة الإبداع والخلق والإنتاج يحثه مبدأ (عودة الحياة)
وتكرارها مستقبلا. [؟]
5-
مبدأ "الدورة" والعود الأبدي لحيوات مستقبلية، بهدف تجاوز رهبة الموت،
فزرادشت يدعو إلى ذلك اليوم الذي تعود فيه من جديد سلسلة العلل التي أنا مشتبك
فيها، وستخلق من جديد، وكأنه بذلك حقق انتصارا على مسألة "الموت" التي
فشل جل المفكرين في حسمه لصالح (خلود الإنسان) في عالمنا الأرضي. [هل فعلاً يؤمن
نيتشه بالحياة المستقبلية من خلال فكرة العود الأبدي؟]
6-
مبدأ "الغائية" و "الهدفية" في الحياة، قصد نيتشه من ورائه،
السمو بالحياة نحو درجة أفضل، وبالإنسانية نحو نوع أرقى، ولا وجود غيرها، وإرادة
الحياة، هي مقياس القيم في الحياة بسبب كونها، كفاحا لا هوادة فيه ولا رفق.
7-
مبدأ "موت الآلهة" ويمثل قمة تطرف هذا الفيلسوف، لأنه بذلك نسخ كل ما
دعت إليه العقائد السماوية والأرضية: قصد من ورائه تهديم الجوهر الذي ترتكز عليه
الأخلاق والطبيعة والمجتمع، مسوغا ينسجم ودعوته للعود الأبدي وتكرار المراحل. [؟]
إن
الفلسفة الخلقية لنيتشه، عصارة"إنفجارية" حفزت عليها ظروفه النفسية
والاجتماعية وضجيج هائل من الأراء والأقوال والادعاءات كانت تزخر بها سوق الفكر،
فحاول تجاوزها بالحديث عن الإنسان والكون بمنطق التطور العشوائي اللاواعي،
فالإنسان عنده وتر مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى، وتر على هاوية فعلية إذن
بهذا المنطق، أن يتشبث من أجل تحقيق النقلة النوعية، لا في الإطار البيولوجي بل
وكذلك في حيز الأخلاق وفق المعايير التالية:
(الخير)
هو كل ما يرفع في الإنسان الشعور بالقوة وإرادة القوة أما (السعادة) فهي الشعور
بأن القوة تنمو وتتزايد باستمرار و (الحرب) طمأنينة الإنسان، والسلم حتفه (المنهار)
درجة تسمو بنا نحو "الذات" بعيدا عن فضائل (الضعف). و (الشفقة) رذيلة من
أشد الرذائل، لأنها نقيض لمبدأ إرادة القوة وجوهر الوجود. أما (الصراحة) فهي صفة
تنم عن (الشجاعة) يناقضها "الضعف والعجز" كصفات مرفوضة، يتوجب علينا
تطهير المجتمع منها حبا بالإنسانية و(المخاطرة) توتر دائم يشد الإنسان إلى قدره
السامي ويدلل على "الحيوية" باعتبارها صفة محببة من القوى لتجاوز
(الخمول)، أما (العود الأبدي) فهو إيمان يساعدنا في السيطرة على الزمن ويشعرنا
بقدر من الحرية. أن (الإيمان) مقولة لا تتحقق في أخلاق نيتشه ألا بموت الإله،
ليكون الإنسان (السوبرمان) هو البديل.
أما
(الشرف) فكلمة يكتنفها الغموض في قاموس الأقوياء، وتدلل على المسكنة والقذارة
والغرور. و(الذكاء) قدر معقول يمتلكه الإنسان ليتكيف مع طوحاته. وليس هو كل شئ، بل
يساهم مع الجسم بنصيب متساو في استيعاب الظواهر الخارجية.
و(العدل)
حجر يقدح شررا ولا يشتعل. و(الراحة) مستنقع يشجع على الثرثرة – أما (المرأة)
فمخلوق يوجب الحذر، لكنها جديرة بالاحترام لأنها ستساهم في ولادة السوبرمان. لا
تحتاج إلى (العفة) لأنها في مفهوم نيتشه "أمر قريب من الهذيان"
و(المواطنة) عنده تتلاشى أمام عالمية السوبرمان، الذي سنحققه (بالأنانية)، كما
تحققت الإنسانية من الحيوانية.
و(التأريخية)
معناها أن يحيا الإنسان تاريخ الإنسانية بأسره من جديد وكأنه تأريخه، فيجد أمامه
ومن ورائه أفقا واسعا مكونا من آلاف السنين.. يشعر أنه الوارث لكل ما تناثر فيها
من نبل روحي يحمله مسؤولية كبرى وهذا ما حاول نيتشه أن يفعله.
الخلاصة
:
لقد
سعى نيتشه، في فلسفته التاريخية والخلقية، إلى إيجاد الإنسان (النموذج) المتطور
فيزيولوجيا، باعتباره المثال الرومنطيقي الفني (السوبرمان) المقابل للحالة التي
كان عليها هذا الفيلسوف. مستخدما القوانين الطبيعية في تفسيره لحركة الإنسان، مما
أوصله إلى (جبرية) حكمت على الكون وما فيه بالعشوائية والعمى. والتقدم لديه لا يتم
إلا باتجاه قوة أعظم، تعتبر جوهر الوجود أنها (إرادة القوة، إرادة الحياة) مستعيرا
من الرواقيين نظريتهم في تحرك الحوادث من خلال الزمن كله في سلسلة الدوائر المكررة
والتي تذكرنا بوحدة الكون والدورات الفلكية التي وجدناها في الفكر الرافدي القديم.
إن
نيتشه مدفوعا وراء "نظرته الكونية" المؤكدة على سمو الحياة كان ينتقد
الفلسفة والدين والأخلاق لأنها لا تحقق "فردية الإنسان" تلك الفردية
التي يحث عليها القانون الطبيعي بعيدا عن قيود الأخلاق الاجتماعية التي اعتبرها هي
والأهداف الاجتماعية حالة نكوص في حياة الإنسان لذلك هاجم الديمقراطية على الصعيد
السياسي، لأنها تقف في طريق أطماع الوحوش الأرستقراطية الضارية. إن الركون إلى
السلام سيؤدي حتما إلى التراجع والانشغال بالملاهي لذلك فالحرب وحدها – وبكل
أشكالها – هي التي تحفز الإنسان وتديم توتره من أجل التغيير والتفوق.
بعد
أن عرضنا – باختصار – لموقف كل من هيجل ونيتشه في "فلسفة التأريخ"
المحكومة بالجدلية المنطقية الهيجلية والأخلاقية التطورية لنيتشه ومن أجل أن
تتكامل خطوط البحث نستخلص النتائج التالية :
أولا
: دياليكتيك هيجل في نطاق الفكر مثله تاريخ الفلسفة وانعكس على فلسفة التاريخ، أما
عند نيتشه، فعكس الصراع بين السادة والعبيد على الفلسفة أيضا، واعتبر سقراط ممثلا
لقيم العبيد، على خلاف هيجل الذي فضله على السيد المسيح.
ثانيا:
الوعي عند هيجل هو مقياس التطور الذي يأخذ منحى صوفيا "اتحاديا" ووحدة
وجود كونية، على خلاف مقياس "القوة" الذي يحكم الصراع والتطور عند
نيتشه. فالتطور الواعي لا الأعمى هو الذي يحكم العالم. لقد اعتبر هيجل أن وضوح
الوعي، يفرضه إدراك المطلق في (الجدل) فيكون سببا للتطور المقترن بالحرية، أما
نيتشه فاعتبر الأنانية، هي التي رفعت الإنسان من الحيوانية، وستوصله إلى (الكمال)
الأعلى، مقترنة بإرادة القوة. إن النزعة الصوفية واضحة المعالم لدى كلا
الفيلسوفين، فعند هيجل تشخصت (بوحدة الوجود الكونية) وعند نيتشه في حديثه عن
المعنى الإنساني الذي يشمل العالم أجمع، وذلك ما تلخص بدعوته إلى الإنسان السامي
الذي يشمل التلقائية لا العقل المجرد ولقد ظهر لنا تصوفه جليا في "هكذا تكلم
زرادشت" لكنه تصوف معلق بالأرض ممجدا للحياة الحسية. [ما المقصود بالتصوّف
هنا؟]
ثالثا:
الحتمية: عند هيجل تمثلت في حكم الظروف للمرحلة التاريخية الواحدة التي تكون
بالضرورة سببا في ظهور المرحلة التاريخية اللاحقة. أما عند نيتشه فتشمل كل المراحل
التاريخية التي تحكمها قوانين متشابهة، تلك القوانين التي رفضها هيجل كما رفض فكرة
(الدور) و (العود الأبدي) التي وجدناها عند نيتشه.
رابعا
: الغائية (الهدفية) سمة جلية في حركة المطلق عبر مسيرة التاريخ إلى أن يتحقق
بالفعل: عند هيجل أما نيتشه، فسيرة التاريخ تنتهي بانبثاق (السوبرمان) وانتهاء
الصراع بين الطبقات. وكلا
الفيلسوفين، واجها صعوبات في التوفيق بين (حركة) التاريخ و(توقفه). لقد واجه هيجل صعوبة
التوفيق بين قوله بديناميكية التطور الجدلي، وجبرية المنهج المنطقي الذي يصل إلى
نقطة النهاية في (المطلق) ومثل ذلك يقال عن قوانين الصراع الطبيعية التي تنتهي
بالسوبرمان عند نيتشه.
خامسا
: التفاؤلية: يتجه التاريخ الهيجلي محكوما بمنطقه وجهه تفاؤلية تسمو دائما نحو
المطلق، على خلاف نيتشه الذي يتشائم في تحريه لتاريخ الصراع. ولقيم عصره، مع أن
فكرة (السوبرمان) تبقى ذلك العزاء الذي حاول به هذا الفيلسوف أن يحله بديلا عن
(الإله) .
سادسا:
المثالية الخالصة: نلحظ في فلسفة هيجل منطقا مثاليا خالصا حافظ عليه هذا الفيلسوف
حتى في تفسيره للتاريخ على خلاف نيتشه الذي سحب القوانين الطبيعية (البيولوجية)
التي تحكم عالم الأحياء، كقانون الإنتخاب الطبيعي والبقاء للأقوى، والصراع من أجل
البقاء، وغيرها من قوانين قالت بها المدرسة الدارونية التطورية، ليطبقها على
المجتمع الإنساني دون حساب للعقلانية التي ميزت الإنسان عن غيره من الكائنات،
بمعنى أن نيتشه لم يدرك مسألة (الوعي) التي اعتبر هيجل تطورها، علامة تقدم خلاق
يتجه نحو أفاق رحبة، تنتهي إلى مثالية (الاتحاد بالمطلق).
لقد
أخلص هيجل إلى مثاليته حتى نهايتها، أما نيتشه فبقى متذبذبا بين حسية فجة ومثالية
متطرفة، فلم ينحدر هيجل إلى التطورية الميكانيكية التي سقط فيها نيتشه. بل ميز بين
القوانين البيولوجية، وقوانين مجتمع الإنسان. لذلك تحدث عن الطبيعة العضوية
باعتبارها تقع خارج التاريخ، لأنها مجرد تكرار وترتيب آلي وهذا ما نظر إليه نيتشه
معكوسا، حيث قال "بالعود الأبدي" وسحب المجتمع الإنساني إلى حظيرة
المجتمع "البيولوجي" ليتلاشى فيه، بمعنى أنه جعل الأنسان يحتمي بعالم
الأحياء الدنيا، ثم يتكلم عن (السوبرمان)
سابعا:
دور العقل: العقل في التطور التاريخي الإيجابي محور (الجدل) عند هيجل، أما نيتشه
فالدافع "إرادة القوة" المقترنة بالحرية الفردية للسيد الأرستقراطي. إن
هيجل لم يسقط الحرية من حسابه في تطور وعي الإنسان كما لم يسقط الانفعالات
الشخصية، لكنه اشترط تهذيبا على قاعدة التوفيق بين (الأنا والنحن) العقلانية.
ثامنا:
نشأة الحضارات: عند هيجل خاضعة لمنطق (جدلي) علاماته انبثاق الوعي وتجليه في
الطبيعة، على شكل نشاطات تنسجم والروح الكلية (المطلقة) متجسدة على شكل جزئيات لا
تخرج عن حتمية المنطق، أما عند نيتشه، فتنشأ الحضارات بفضل جهود فردية قامت بها
"حيوانات شقراء مفترسة" هي مجموعة الأرستقراطيين السادة.
تاسعا
: فكرة الصراع عند هيجل تحكم كل شئ، لكنها تنتهي إلى التوافق في (المركب) والتي
استعارها نيتشه حيث طبقها على التاريخ ووصل إلى ذات الغايات النهائية في حركة
التاريخ (السوبرمان) وانتهاء الصراع حيث كان المنطق الجبري وسيلة الأول والقوانين الطبيعية أداة
الثاني.
عاشراً:
فكرة الأدوار (الزمنية) خيط فكري يمتد من بلاد وادي الرافدين وقولهم في
"الشر" وخصوصا عند "هرمس البابلي" ثم انتقلت إلى هيراقليطس في
"السنة الكبرى".
ثم
هيجل في (الأدوار اللانهائية) واخيرا نيتشه في "العود الأبدي"
الحادي
عشر: العالم والحياة: وجدنا هيجل لا يؤمن إلا بحياة واحدة، وعالم وحيد! أما نيتشه
فقال بتكرار الحيوات (بالعود الأبدي) لكنه رفض وجود عالم أخر غير عالمنا. [لكن هل
العود الأبدي عند نيتشه هو نوع من التقمّص؟]
الثاني
عشر: مراحل التاريخ، التي لا تخلو من الصراع:
عند
هيجل هي ثلاث، (الفرد) الحر الحاكم في الممالك الأسيوية ، والقلة الحاكمة (الحرة)
في الجمهوريات اليونانية والرومانية و"الأمة الجرمانية" ذات الثقافة
المنتقاة من المسيحية والفلسفة. أما جدلية الصراع بين السادة والعبيد عند نيتشه
فتتضمن تفصيلا أكثر، في مراحل "القوة" و "الكثرة" حيث بدأت
بالأولى لتنتهي في القرن التاسع عشر بالثانية مع أنه وعد بالسوبرمان الذي يكمن في
رحم الأمة الجرمانية.
وفي
تحرينا الدقيق لمسيرة ذلك التاريخ، نجد أن هيجل يعتبر أن تاريخ العالم ما هو ألا
صراع وتناقضات واصطدامات، أما فترات السعادة والتناغم وغياب التناقضات فليست فترات
تاريخية. على خلاف نيتشه الذي تشخصت تشاؤميته في القول بسيطرة العبيد على معظم
التاريخ.
الثالث
عشر: النشاط الإنساني: عند هيجل يتم داخل حركة التاريخ، وجدلية العقل والمادة، وفق
قوانين لا يمكن الافلات منها، والأهداف الخاصة للشخصيات التاريخية. تكمن في
إدراكها لإرادة الروح، وانسجامها مع قوانين الدولة والمجتمع الكوني، أما عند نيتشه
فتعتمد على أساس (الأنانية) و (القوة) والبطش فالسوبرمان، فوق كل القيم والقوانين
والناس والأخلاق والمؤسسات، أنه إنسان فوضوي، يجسد أخلاق الأرستقراطيين بكل مواصفاتها
الاستعلائية. وهذا يناقض ما قاله نيتشه حول القوانين الطبيعية وضرورة الانقياد
لها.
ويبدو
لنا في نهاية المطاف اتفاق في الموقف بين كلا الفيلسوفين، حينما أكد هيجل على
توافق سلوك الإنسان مع قوانين العقل المطلق، ومع الطبيعة عند نيشه وبذلك وقعا في
فخ الجبرية، دون أن يجدي – اشتراط الحرية – نفعا فالمطلوب طاعة الأخلاق الموضوعية
في الدولة عند هيجل وتحقيق الفردية المتزمتة (الأنانية) عند نيتشه، مقترنة
ب"خضوع" الأكثرية.
الرابع
عشر: اهمال تراث الشرق الحضاري: حيث وجدنا كلاً من هيجل ونيتشه يبدأ في حديثه عن
حضارة اليونان بما يوحي وكأن الأمم السابقة عليهم كانت متخلفة، وتاريخها عقيما
وبذلك أسقطوا منجزات حضارية في منتهى الأهمية أو أحاطا بها نظرة
"أوربية" متعصبة وعنصرية. وإن أعلن نيتشه تجاوز أوربية هيجل إلى
"عالمية" السوبرمان، لكن ذلك لن يغير من المحصلة النهائية لمجمل النظرتين.
الخامس
عشر: الموقف من المسيحية كفكر ومرحلة: المسيحية النقية عند هيجل المقترنة بالصواب
مع ما جاء به الفلاسفة تمثل لنا "الثقافة الجرمانية" الحقيقية الصالحة
لمجتمعه، المجلية لوعي أوسع والمجسدة للروح الكلية. كما تجسد في ثالوثها وطبيعة
السيد المسيح – الجدل الهيجلي بصورة واضحة أما عند نيتشه فالمسيحية مرحلة سقوط
لأنها تمثل أخلاق العبيد هاجمها، كما هاجم السيد المسيح.
أن
النقطة المشتركة بين كلا الفيلسوفين هي في مهاجمة المسيحية كما عرضها الكهنوت، وما
تركته من تطبيقات تحكمت فيها مشيئة الأباء من أجل كسب ود الحكام.
السادس
عشر: الموقف من نابليون: مع أن الفيلسوفين يفيضان أخلاصا للأمم الجرمانية،
وجدناهما يشتركان في تبجيل نابليون، لكن هيجل نظر إليه كرجل تاريخ من الطراز
الأول، واع لمرحلته، مدرك للمهمة التي فوضتها الفكرة المطلقة إليه، أما نيتشه فنظر
إليه على أنه قوي لا يعرف الرحمة.
السابع
عشر: المسألة القومية: حظيت هذه المسألة باهتمام متفاوت من كلا الفيلسوفين، وبين
أيدينا ما يؤيد شعورهما بالانتماء الجرماني فقال هيجل "بالثقافة
الجرمانية" علاج أمراض العصر الهيجلي، لكونها متفقة مع اختبارات (الروح) التي
كانت ترفض بقاء النظام الأقطاعي في ألمانيا، ووجدت في نابليون، منفذا لهذه الرغبة،
أما نيتشه فاعتبر "الأمم الجرمانية" واحدة من تطور التاريخ الإنساني
وانتصار قيم السادة، التي كادت تنهض مجددا – بعد أن هددتها قيم العبيد في الثورة
الفرنسية – على يد نابليون، الذي كان هو الأخر، علامة من علامات قيم السادة في
أوربا، ولا نجد أي مبرر للملاحظة التي أوردها نيتشه في ملحق "هكذا تكلم
زرادشت" من أنه كان يتمنى لو كتب "إرادة القوة" بالفرنسية لا
الألمانية لكي لا يؤدي إلى أي طموح دولي ألماني، خصوصا والأمة قد حققت وحدتها. مع
كل ذلك تبقى أطروحات "هيجل حافزا لطموح دولي، ألماني حاول بسمارك ثم هتلر أن
يكونا بعض علاماته.
الثامن عشر: فكرة الشعب
المختار: عند هيجل عبارة عن عملية تزييف للوثائق التاريخية، أما عند نيتشه فهي
معادلة تتحقق بموجبها الملائمة بين الرجال وزمانهم، ورفض من يفشل في تحقيق تلك
الملائمة من الأخرين .
تعليقات
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق