الخميس، 4 أغسطس 2016

قراءة جديدة لفلسفة هيغل في الدولة/ أشرف منصور


 

قراءة جديدة لفلسفة هيجل في الدولة


أشرف منصور


 

مقدمــة:

على العكس مما يقال عن فلسفة هيجل (1770-1831) بوجه عام، وفلسفته السياسية بوجه خاص أنها نظرية ميتافيزيقية ومثالية في الدولة، يهدف هذا المقال إلى إثبات خطأ هذا القول، وذلك بتوضيح الدلالات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لفلسفة هيجل في الدولة، وبتوضيح أن وراء اللغة المثالية التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية تكمن نظرية في الدولة تضاهي وتتفوق على النظريات الليبرالية والماركسية في نفس الوقت، كما أنها تتمتع بصحة ومصداقية إذا ما وضعناها في محكمة التاريخ، وبدلالات معاصرة إذا قارناها بالصورة التي اتخذتها الدولة بعد عصر هيجل.

وبما أن ماركس (1818-1883) هو المصدر الأول الذي يعتمد عليه كل من يقيّم نظرية هيجل في الدولة على أنها مثالية وميتافيزيقية ويرفضها من أساسها بناء على ذلك، وذلك لأن ماركس هو أول من قيمها هذا التقييم في كتابه “ملاحظات في نقد فلسفة الحق عند هيجل” الذي لم ينشر منه في حياته إلا المقدمة، فوجب علينا تناول هذا النقد الماركسي لنظرية هيجل في الدولة وتوضيح سوء الفهم الذي يسود هذا النقد، وفي المقابل توضيح أن فلسفة هيجل السياسية ليست مقطوعة الصلة بروح عصره وظروف مجتمعه، بل تعد استجابة للقضايا التي أرقت هيجل وعصرَه الذي شهد الثورة الفرنسية والحروب النابوليونية وعصر عودة الملكية Restoration. فهيجل نفسه هو الذي يعلن في تصديره لكتاب “أصول فلسفة الحق” أن “مهمة الفلسفة هي أن تفهم ما هو موجود، لأن ما هو موجود هو العقل .. وأن كلا منا هو ابن عصره وربيب زمانه. وبالمثل يمكن أيضا أن نقول عن الفلسفة أنها عصرها ملخصا في الفكر”.

سبق لعدد من الماركسيين الغربيين تناول فلسفة هيجل السياسية مثل لوكاتش وماركيوز وأدورنو، وما كان يشغل هؤلاء محاولتهم توضيح مثاليتها وبالتالي رفضها جملة على أساس أن ماركس قد استطاع تقديم نظرية سياسية بديلة عنها أكثر واقعيةً وارتباطاً بالاقتصاد والمجتمع. وسبق أيضا لعدد من المفكرين ذوي الميول الليبرالية أن حكموا على فلسفة هيجل السياسية بأنها تنادي بالدولة الشمولية التسلطية وذلك مثل كارل بوبر وفريدريك هايك وبارسونز. وبالطبع ففي النصف الأول من القرن العشرين تم الربط بين فلسفة هيجل في الدولة وصعود النازية. وقد استخدمت فلسفته بالفعل في تدعيم بعض الأفكار الشمولية عن الدولة على يد كروتشة وباريتو في إيطاليا وبوزانكيت وبرادلي في بريطانيا. ولم تتخلص فلسفة هيجل السياسية من هذه التأويلات الخاطئة إلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين. ويهدف هذا المقال إلى توضيح أن فلسفة هيجل السياسية بعيدة تماما عن هذه التأويلات ومتفقة مع روح العصر أكثر مما اعتقد الكثيرون.

والحقيقة أن هيجل نفسَه يتحمل بعض المسئولية عن سوء فهم فلسفته السياسية، ونظريته في الدولة على وجه الخصوص. فقد استخدم عبارات أوحت للكثيرين بتفسيرات خاطئة، وبالتالي تم نقدها على أساس هذه التفسيرات. فيذهب هيجل مثلا إلى أن الدولة هي اكتمال مسيرة الإله على الأرض، وهي “الروح وقد وهبت نفسها التحقق الفعلي في مسار تاريخ العالم”، وهي “قوة العقل المحقق لذاته” (فقرة 258) وأن “الدولة هي الروح و قد تموضعت Objectivized” وأن “واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضوا في الدولة”. الواقع أن اللغة المثالية المجردة التي استخدمها هيجل في فلسفته السياسية لا تعني أن نظرياته السياسية مثالية أو ميتافيزيقية، فوراء هذه اللغة تكمن أفكار اجتماعية وتاريخية وتحليلاتٌ أصيلة ونظرية واقعية في الدولة بها العديد من الدلالات المعاصرة التي تتفق مع روح الدولة الحديثة. لقد كان على هيجل نفسِه أن يستخدم هذه اللغة المثالية المجردة وذلك كأسلوب اختزالي للتعبير عن أفكار كثيرة وهامة في عبارات قليلة وقصيرة.

ألم يقل هيجل نفسه إن الفلسفة هي عصرها ملخصا في الفكر؟ وفلسفته هو على وجه الخصوص هي عصرها ملخصا في الفكر. فانظر كيف يكون هذا الفكر الذي يلخص عصرا بأكمله، وهو عصر التحولات الكبيرة في التاريخ والفكر، عصر الثورة الفرنسية والتنوير. وبالطبع سوف يكون هذا الفكر غاية في التجريد للتعبير عن خبرات مثل هذا العصر المحوري من تاريخ العالم. كل ما هنالك أن لغة هيجل وفلسفته تحتاج إلى ترجمة لكي يتم فهم وتقدير معناها ومغزاها السياسي، وفي نفس الوقت لإدراك دلالاتها المعاصرة. فإذا كانت فلسفة هيجل السياسية هي نظرية فلسفية في الدولة الحديثة، فسوف نحاول ترجمتها إلى نظرية سياسية في الدولة الحديثة.

نقد نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي:

لا يمكن فهم فلسفة هيجل في الدولة إذا اقتصرنا على تناول كتابه “أصول فلسفة الحق”، فلهيجل كتابات في النظرية السياسية سبقت “فلسفة الحق”، بعضها نشره في حياته مثل “نظريات الحق الطبيعي”، وبعضها الآخر كان ملاحظات كتبها هيجل لاستخدامها في محاضراته أثناء تدريسه في جامعة “يينا” Jena ، ولم تنشر إلا في القرن العشرين. تحتوي هذه الأعمال المبكرة على نقد لنظريات الحق الطبيعي Theories Natural Right والعقد الاجتماعي Social Contract Theories ، وهي جزء لا يتجزأ من فلسفته السياسية، ولا يمكن فهم فلسفته في الدولة بدونها.

يعارض هيجل اتجاه الفلسفة السياسية الحديثة منذ هوبز ومرورا بلوك وهيوم وروسو في تحليل الحياة السياسية إلى أدق تفاصيلها وأصغر مكوناتها والرجوع إلى الأفراد باعتبارهم الذرات المكونة لأي نظام سياسي، وهو بذلك يقف ضد النـزعات الفردية Individualism والذرية Atomism السائدة لدى الليبرالية. ويرفض هيجل بدء نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي بالفرد بناء على أن وعي الفرد بذاته باعتباره فردا لا يمكن أن يكون معطى أوليا مبدئيا، بل هو نتيجة عملية تمايز واختلاف عن البيئة الأصلية للفرد، عملية تتصف بأنها تاريخية واجتماعية. إن بدء الفلسفة السياسية الحديثة بفرد عاقل وناضج بالكامل دليل على عدم إدراكها لتاريخية الوجود البشري وعدم انتباهها لعمليات التطور التي مر بها الفرد حتى يكون فردا وحصل على وعي بفرديته. والحقيقة أن هيجل في “فينومينولوجيا الروح” يعطينا وصفا لعملية الرقي التدريجي للوعي من أولى مراحل اليقين الحسي والارتباط اللامتمايز بالطبيعة حتى الوصول لمرحلة العقل الواعي بذاته. ومن هنا يمكن النظر إلى فينومينولوجيا هيجل على أنها تقدم بديلا لنظرة نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي للفرد.

ولا ينظر هيجل إلى الحق على أنه طبيعي، أي صادر عن طبيعة بشرية ثابتة وأزلية وواحدة لدى جميع الشعوب في كل زمان ومكان، بل على أنه تاريخي ونتيجة صراع تاريخي طويل. فقد صور فلاسفة العقد الاجتماعي حق الملكية على أنه مستمد من الحق في حفظ الحياة والوجود المادي للإنسان، فالملكية من بين عناصر طبيعة إنسانية ثابتة. أما هيجل فيعالج حق الملكية بطريقة مختلفة. فحق الملكية عنده مرتبط بالإنسان كإنسان له إرادة وروح ووعي، بينما عالجه لوك على أنه مرتبط بالطبيعة البيولوجية الحيوانية للإنسان. والذات عند لوك تقف في مواجهة الطبيعة وتأخذ منها ما يشبع احتياجاتها البيولوجية، أما في فلسفة هيجل فإن كلا من الذات والعالم الخارجي يشكلان بعضهما البعض في حركة جدلية. فالذات تحول العالم الطبيعي إلى جزء من عالمها الإنساني عن طريق العمل، والعالم الطبيعي يساعد الذات على أن تخرج عن ذاتها و يتجسد نشاطها في صورة مادية. وعندما يذهب هيجل إلى أن الإنسان يجعل من أشياء العالم الخارجي أجزاء من عالمه الإنساني عن طريق العمل فهو بذلك يرفع مكانة الشخصية الإنسانية فوق الطبيعة البيولوجية.

تحمل فلسفة هيجل تصورا اجتماعيا عن حق الملكية يختلف عن التصور ذي النـزعة الفردية السائد لدى ليبرالية هوبز ولوك. فالملكية عند لوك هي علاقة بين الناس والأشياء، ولذلك تظهر حرية الآخرين على أنها قيد على حريتي أنا، بما أن الآخرين يمنعونني من الامتلاك اللامحدود ويقيدون رغبتي في الاستحواذ اللانهائي. أما عند هيجل فإن حقوق الملكية تظهر في نظام من الاعتراف المتبادل Mutual Recognition لإرادات وحقوق الآخرين. فحقوق المجموع هي أساس تحقق حقوق أي فرد. وهنا يتضح المفهوم الهيجلي المميز عن العقد Contract ، فالعقد يظهر في مجال الاعتراف المتبادل: فأنا أحوز على ملكية شيء معين لا عن طريق إرادتي الذاتية بل عن طريق إرادة أشخاص آخرين، وبالتالي أحتفظ بهذه الملكية لكوني مشاركا في إرادة عامة مشتركة. والملاحظ هنا أن هيجل يؤسس حق الملكية في مجال اجتماعي قائم ويرجع هذا الحق إلى فعل الاجتماع البشري، وذلك عكس ما ذهبت إليه نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي من تأسيس هذا الحق في حالة الطبيعة الأولى السابقة على الاجتماع.

لا يوافق هيجل على الفكرة الليبرالية التي تذهب إلى أن أصل المجتمع هو إجتماع أفراد أحرار ومتساوين وعقلانيين واتفاقهم على إيجاد نظام يكفل حقوقهم ويحميها. فالحقيقة أن الفردية والحرية والحقوق وتساويها ليست موجودة في حالة سابقة على الاجتماع البشري ويأتي النظام السياسي ليحميها، فهي أشياء من صنع الاجتماع السياسي نفسه، وبالتالي لا يمكن الذهاب إلى أن النظام السياسي ظهر إلى الوجود لحفظها وحمايتها،لأنها ليست أسبابا لظهور السياسة، بل هي أهداف يحققها التفاعل السياسي. لقد صادرت الليبرالية على ما تريد إثباته، إذ افترضت وجود الحريات والحقوق قبل الاجتماع السياسي في حين أن هذه الأشياء هي الغايات النهائية للاجتماع السياسي.

وتتضح مواجهة هيجل لنظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي من تناوله لمفهوم الحرية. فتفترض هذه النظريات وجود الحرية كاملة في الحالة السابقة على التنظيم السياسي، وهذه الحرية الكاملة تدفع الناس إلى الصراع وتكون حربا للكل ضد الكل. ولكي يتم التغلب على هذا الوضع يتفق الناس ويجمعون على التنازل عن جزء من حرياتهم الأصلية في سبيل إنشاء نظام سياسي يعمل على تحقيق الأمن والردع وتطبيق القانون. حالة الاجتماع السياسي إذن هي حالة تخل عن جزء من الحرية ومن الحق الطبيعي للأفراد. ومن هنا يذهب هيجل إلى أن الليبرالية تنظر إلى الدولة على أنها قيد خارجي على حرية المرء، ونظام فرضته ضرورة خارجية وليس نتيجة للتطور الاجتماعي والسياسي للبشرية. وعلى الجانب الآخر يذهب هيجل إلى أن الأفراد لا يتخلون عن جزء من حرية أو حق للدخول في النظام السياسي، بل يتخلون عن الإرادة الهوجاء والعنف والهمجية الناتجة عن اختفاء النظام السياسي. فليست هناك حريات أو حقوق قبل الاجتماع السياسي.

ويرفض هيجل القول بأن اختفاء الدولة في حالة الطبيعة الأولى كان اختفاء لأي اجتماع سياسي أو تعاون اجتماعي من أي نوع. فقد بحث هيجل نفسه في التاريخ عن فترات اختفت فيها الدولة وجعلها معيارا للحكم على مفهوم حالة الطبيعة الأولى لدى نظريات الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي. ففي محاضراته في فلسفة التاريخ تناول هيجل فترة الانتقال التاريخية من العصور الوسطى إلى العصر الحديث. ففي هذه الفترة لم تكن الدولة الحديثة قد ظهرت بعد، كما اضمحلت فيها سلطات الملكيات القديمة، وكانت فترة وسيطة بين فترتين تاريخيتين شهدتا دولا كبيرة قوية هي فترة العصر القديم الذي شهد دول مصر والصين والهند واليونان والرومان، وفترة العصر الحديث الذي شهد ظهور دول أوروبا الحديثة. ففي فترة اختفاء الدولة في العصور الوسطى شهد المجتمع الأوروبي صعود العديد من طوائف واتحادات التجار والحرفيين والفرسان والنبلاء وذلك لمواجهة حالة الفوضى واللانظام واختفاء الدولة. فعندما وجدت حالة طبيعة أولى حقيقية في التاريخ، أي حالة اختفاء للدولة، لم تكن هذه الحالة مكونة من أفراد متصارعين كما تذهب الليبرالية، بل من تنظيمات اجتماعية وطوائف ونقابات ذات طابع خاص.

وفي مقابل النـزعات الفردية والذرية لهذه النظريات، يضع هيجل مقولة المجتمع الإنساني Community باعتباره كلا أخلاقيا لا يمكن أن يرد إلى أفراده المكونين له وسابق عليهم، بمعنى أنه هو الذي يعطيهم هويتهم وتفردهم ذاته. ويستعين هيجل هنا بالفكرة اليونانية القديمة عن دولة المدينة Polis ليعطي بها مثالا عما يقصده بالمجتمع الإنساني السياسي Political Community . فهيجل يريد إثبات أن أي نظرية فلسفية في المجتمع يجب عليها ألا تنطلق من أفعال الأفراد المنعزلين، بل من الروابط الأخلاقية – المعيارية والقيمية- التي يتحرك خلالها الأفراد. (دوركايم)

رفض النظرية الليبرالية في الدولة:

النظرية الليبرالية في الدولة هي نظرية تعاقدية Contractual، فالدولة تنشأ طبقا لهذه النظرية بناء على عقد اجتماعي يتم باتفاق وإجماع الأفراد. يذهب هيجل إلى أن هذه النظرية تخلط بين مجالين متمايزين هما مجال الدولة ومجال المجتمع المدني، وتأخذ نموذج العقد من مجال المجتمع المدني لتطبقه على الدولة، ويعد هذا في نظره خطأ منطقيا وتاريخيا في نفس الوقت. يقول هيجل في “أصول فلسفة الحق” : “إذا خلطنا بين الدولة والمجتمع المدني، وجعلنا الغاية الخاصة من الدولة الأمن وحماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية- لكانت مصلحة الأفراد بما هم كذلك الغاية النهائية التي اجتمعوا من أجلها، وينتج عن ذلك أن تكون عضوية الدولة مسألة اختيارية. غير أن علاقة الدولة بالفرد شيء مختلف عن ذلك أتم الاختلاف.. إن الفرد لن تكون له موضوعية ولا فردية أصيلة ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضوا من أعضائها. إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية”. الحقيقة أن الفقرة السابقة ليست مجرد نقد للنظرية الليبرالية في الدولة، بل هي نقد للمفهوم البورجوازي عن الدولة، ونقد للدولة البورجوازية القائمة بالفعل في عصر هيجل وطوال القرن التاسع عشر.

لا ينتج عن التصور الليبرالي للدولة إلا دولة خارجية، دولة البورجوازية. يقول هيجل: “في عملية السعي نحو تحقيق الغايات الأنانية.. يتشكل نظام كامل من الاعتماد المتبادل، حيث يتداخل نسيج حياة الفرد وسعادته ووضعه القانوني مع حياة جميع الأفراد الآخرين وسعادتهم وحقوقهم، ولا تكون هذه الحقوق مضمونة إلا داخل هذا النظام المترابط. ويمكن النظر إلى هذا النظام.. على أنه الدولة الخارجية، أي الدولة التي تقوم على أساس الحاجة “، أي الدولة الليبرالية التي تعمل على حفظ حقوق الملكية الفردية الخاصة، أي الحقوق البورجوازية. إنها الحكومة المحدودة Limited Government أو دولة الحد الأدنى Minimal State في الأدبيات الليبرالية.

يرفض هيجل أن يؤسس الدولة على علاقات تعاقدية، أو أن يختزل طبيعتها وماهيتها في العلاقات التعاقدية. وهناك ثلاثة أسباب تجعله يرفض العلاقات التعاقدية كأساس للدولة؛ فهذه العلاقات مجردة Abstract وعارضة Contingent ومتمركزة حول الذات Self-Centered. أما عن كون العلاقات التعاقدية مجردة فيذهب هيجل إلى أن السبب في ذلك يرجع إلى التعاملات المادية في المجتمع المدني. ففي سياق المجتمع المدني لا يجمع شخصين إلا كونهما مالكين، ولا يوجدان بالنسبة لبعضهما إلا باعتبارهما كذلك. فأنت لا توجد بالنسبة لي إلا باعتبارك مالكا، والعكس صحيح، كما أنني لا أعترف بك إلا لأنك تحوز على شيء أحتاجه وأبغي مبادلته معك بشيء ملكي أنت تحتاجه. وفي العقود لا تكون هناك علاقة بين شخصين إلا علاقة المصلحة المادية. ويحكم هيجل على العلاقة التعاقدية بأنها مجردة لأنها تجرد الإنسان من كل جوانب وجوده وإمكاناته إلا الجانب المادي، ولا تنظر إليه إلا باعتباره مالكا، ولا شأن لها بما يعطيه ماهية وهوية. وعلى العكس من العلاقات التعاقدية تتأسس الدولة على البشر بجميع هوياتهم، لا بتجريد أو اقتطاع جزء منها، وعلى الوجود الاجتماعي للإنسان لا مجرد وجوده الاقتصادي. وفي حين تكون العلاقات التعاقدية عارضة واعتباطية، تتأسس علاقات المجتمع الإنساني السياسي Political Community على العقل والضرورة العقلانية.

يصر هيجل على أن تكون الدولة غاية لا مجرد وسيلة ويرفض التفكير فيها باعتبارها وسيلة لتحقيق أي مصلحة شخصية. والحقيقة أن ماركس قد فقد الأمل في الدولة القائمة في عصره لنفس السبب، أي لكونها تحولت إلى وسيلة وأداة لتحقيق المصالح الشخصية والجزئية للبورجوازية. كما نقد ماركس مفهوم الدولة عند هيجل في نفس الوقت، فعندما يقول هيجل أن الدولة هي الغاية المطلقة والنهائية للوعي الذاتي الفردي، فإن هذا قد يعني بسهولة الخضوع للدولة وذوبان الأفراد فيها، وهذا هو ما فهمه ماركس بالضبط. ولذلك لم يلجأ ماركس إلى أي مفهوم عن الدولة لحل أزمات الرأسمالية وتناقضاتها، بل تخلى عن خيار الدولة في سبيل خيار آخر هو الثورة الاشتراكية وتحطيم الدولة البورجوازية القائمة. لكننا سوف نوضح في الصفحات التالية أن ماركس كان مخطئا في التخلي عن خيار الدولة.

يذهب هيجل إلى أن التعامل مع الدولة باعتبارها آلية للحصول على غايات خارجية ومادية، وباعتبارها تنظيما يعمل على إشباع حاجات الناس يخرجها عن طابعها الأخلاقي ويؤدي في النهاية إلى الفساد السياسي والانهيار الاجتماعي، ويؤدي كذلك إلى انهيار الدولة ذاتها. وهذا هو ما حدث للدولة الرومانية وأدى إلى انحلالها الداخلي قبل سقوطها على أيدي البرابرة بزمن طويل. وتتمثل القوة النقدية في فلسفة هيجل السياسية في أنه يعتقد أن بذور الانهيار هذه ليست شيئا من الماضي وحسب، بل إنها موجودة في عصره بتمامها وكمالها. والجدير بالملاحظة أن بذور الانهيار التي يتحدث عنها هيجل هنا هي النـزعة الفردية والتعامل مع الدولة باعتبارها وسيلة لتحقيق غايات اقتصادية جزئية، وهي في حقيقتها سلبيات البورجوازية وتصورها عن الدولة، وسلبيات الاقتصاد الرأسمالي. وبذلك يكون هيجل قد سبق ماركس في تشخيص الأزمة الأساسية للمجتمع الرأسمالي. لكن ما الحل الذي يقدمه هيجل لهذه الأزمة، تلك التي يسميها تناقضات المجتمع المدني؟ يتمثل الحل في مفهومه عن الدولة، فهي في نظره القادرة على علاج هذه التناقضات.

لكن نقد هيجل للدولة الليبرالية لا يقف عند هذا الحد. فهو يذهب إلى أننا لو نظرنا إلى الدولة ببساطة على أنها امتداد للمجتمع المدني، وإلى المجتمع المدني على أنه مكون من شبكة من العلاقات التعاقدية الاقتصادية، فمن الطبيعي أن نفكر في الحياة السياسة باعتبارها مظهرا خارجيا للتعاملات المادية في المجتمع المدني، أو بناء فوقيا وانعكاسا للبناء التحتي الاقتصادي والحياة الاقتصادية بتعبير ماركس. يقول هيجل: “ولو أن الدولة ظهرت كوحدة من الشخصيات المختلفة، أي كوحدة هي أشبه بالشركة فحسب، فإن المقصود عندئذ حقا هو المجتمع المدني. ولم يكن في استطاعة كثير من المشرعين الدستوريين المحدثين أن يقدموا نظرية عن الدولة سوى هذه”. إن مفهوم هيجل عن الدولة إذن يختلف عن مفهومها لدى “كثير من المشرعين الدستوريين المحدثين”. من هم هؤلاء ؟ هم منظرو الدولة في إنجلترا وفرنسا، منظرو الدولة الليبرالية البورجوازية. وقد درس ماركس نفس هؤلاء المنظرين في شبابه، لكنه لم يقدم نقدا لنظريتهم في الدولة لأنه رأى أن فلسفة هيجل السياسية متقدمة عنها وهي التي تستحق النقد، ولذلك قدم نقدا لفلسفة هيجل في الدولة. ومن هذا العمل المبكر لماركس اتضح أنه لن يلجأ إلى أي مفهوم عن الدولة، والمفهوم الهيجلي بوجه خاص، لحل أزمات عصره. الحقيقة أن ماركس قد استبدل الثورة الاشتراكية بالمفهوم الهيجلي عن الدولة. لكن هل كان محقا في ذلك؟ هذا ما ستكشف عنه الصفحات التالية.

إذا نظرنا إلى الدولة على أنها شركة أو جهاز يضمن الحقوق الفردية البورجوازية وحسب، فإننا لا نتكلم في الحقيقة إلا عن المجتمع المدني البورجوازي. لقد وصل هيجل إلى الحدود النهائية للدولة البورجوازية والمجتمع المدني البورجوازي، أي للرأسمالية ودولتها، وحاول وضع البديل بمفهومه عن الدولة. لكن لكي نفهم ما هو المفهوم الهيجلي للدولة يجب علينا تناول النقد الذي وجهه هيجل للمجتمع المدني البورجوازي، فدولة هيجل ليست مجرد بديل عن النظرية الليبرالية في الدولة، بل علاج لسلبيات وتناقضات المجتمع المدني البورجوازي.

هيجل و الثورة الفرنسية:

ماذا يحدث عندما توضع المبادئ السياسية الليبرالية موضع التطبيق؟ يجيب هيجل على هذا التساؤل بتناوله للثورة الفرنسية، فهي التي وضعت هذه المبادئ بالفعل موضع التطبيق. كان هيجل متحمسا للثورة ويقدرها تقديرا عاليا، لكنه في نفس الوقت أدرك تناقضاتها وتلازم إنجازاتها مع سلبياتها، أي مع عدم قدرتها على الإتيان بنظام سياسي ثابت وتدعيمه، كما كانت عينه دائما على عدم قدرة أي نظام سياسي أتى بعد الثورة بما فيه عصر عودة الملكية في تحقيق الاستقرار السياسي والخروج من مصاعب الثورة وآثارها الجانبية.

يوجه هيجل نقده للثورة الفرنسية من منطلق أنها استندت على فكرة الإرادة العامة General Will عند روسو. فقد ذهب روسو إلى أن الحكومة تقوم على رضاء المواطنين وعلى إرادتهم العامة، وإذا لم يحصل النظام السياسي على رضاء وموافقة هذه الإرادة العامة كان من حق المواطنين الثورة عليه. أدت فكرة الإرادة العامة هذه كما فهمتها الثورة الفرنسية إلى الفوضى والإرهاب. فقد تم النظر إلي هذه الإرادة العامة على أنها إرادة المجموع Collective Will، أي جماع إرادات الأفراد في المجتمع. وفي التطبيق العملي تنقلب إرادة المجموع بسهولة إلى أن تكون مرادفة لرأي الجمهور من الغوغاء والدهماء، ولذلك تحولت الثورة إلى الفوضى وانتهت بالإرهاب نتيجة لأنها أعطت مضمونا سياسيا لأهواء الجمهور المتقلبة.

لم تكن فكرة الإرادة العامة إلا مفهوما صوريا فارغا بدون مضمون، ولم تكن تصلح إلا لهدم النظام القديم، إلا أنها لا تصلح لتأسيس نظام جديد. فليس هناك معيار للتوصل من هذه الإرادة العامة إلى الاتفاق العقلاني الكلي، فما هو هام ليس وحدة في العواطف والمشاعر لدى الجماهير، بل الوصول إلى إرادة كلية Universal Will مؤسسة على العقل. وطالما نظرت كل إرادة فردية لنفسها على أنها معبرة عن الإرادة العامة حدثت الفوضى. لم يستطع روسو أن يحدثنا عن مضمون هذه الإرادة العامة، أي ما تريده هذه الإرادة. الإرادة العامة عند روسو تحدد إجراءً صورياً شكلياً لتأسيس النظام، إلا أنها لا تقول لنا ما هو هذا النظام. فهذه الفكرة تدور إذن في عالم الوسائل لا في عالم الغايات التي يقابلها روسو بالحياد ولا يتكلم عن مضمونها. والحقيقة أن الإرادة العامة عنصر يتحقق بعد تأسيس الاجتماع السياسي، أو هو أحد وظائف وأهداف هذا الاجتماع السياسي. فأي إرادة عامة أو شعبية تتطلب مجتمعا سابقا عليها وقائما بالفعل قبل أن تصبح فعالة وذات تأثير، لكنها لا تؤسس هذا المجتمع من البداية كما يذهب روسو. وبذلك يكون روسو قد افترض مسبقا ما كان يجب أن يؤسسه.

كما فهمت الثورة الفرنسية مبدأ الحرية بطريقة صورية ومجردة، فالحرية في نظرها ذاتية وتتمثل في استقلال فردي خالص. ومن هنا انعزلت إرادات الأفراد عن أي سياق عام، وهذا ما أدى إلى الفوضى والإرهاب. أما المبدأ القائل أن العقل يجب أن يحكم العالم فقد أسيء فهمُه على أنه يعني أن عقل كل فرد يجب أن يكون ذا أثر فعال على الأحداث، وهذا ما جعل الجماهير في حالة دائمة من الهياج معتقدة أنه مشاركة سياسية وديمقراطية فعالة، في حين أنها كانت الفوضى. كما تحولت الفضيلة المدنية على يدي الثورة إلى ذاتية متطرفة وبذلك تعاقبت الحكومات الكثيرة أثناء الثورة وتعاقبت الدساتير دون تحقيق استقرار.

ويوجه هيجل نقده لليبرالية الثورة الفرنسية قائلا: “لا ترضى الليبرالية… بوجود تنظيم سياسي تظهر فيه دوائر متعددة من الحياة المدنية ذات وظيفة محددة لكل منها، ولا بذلك التأثير على الشعب الذي يمارس من قبل الأعضاء المثقفين في المجتمع والثقة التي يجب أن تكون تجاههم. وفي مقابل كل ذلك ترفع الليبرالية المبدأ الذري Atomistic الذي يصر على الفاعلية السياسية للإرادات الفردية، ذاهبة إلى أن كل حكومة يجب أن تنبع من سلطة هؤلاء الأفراد وتحصل على موافقتهم العلنية. إن الجماعة التي تناصر هذا الجانب الشكلي من الحرية – وهذا التجريد – لا تسمح لأي تنظيم سياسي أن يؤسس على دعائم ثابتة”. والحقيقة أن هيجل في هذا النص وفي نقده للثورة الفرنسية بوجه عام إنما ينقد مبدأ الديمقراطية المباشرة، إذ يتضح من هذا النقد أنها خرافة. إذ كان هيجل دائم الإصرار على أن الدولة الحديثة تتصف بدرجة عالية من التعقيد وتعدد الأجهزة والوظائف بحيث لم تعد الديمقراطية المباشرة تصلح في ظلها. فالاعتقاد في إمكانية مشاركة الأفراد المنعزلين مشاركة مباشرة في تسيير شئون الدولة كما كان يحدث في دولة المدينة اليونانية يعد سذاجة سياسية ووهما ديماجوجيا.

تقوم فكرة الديمقراطية المباشرة، وخاصة كما فهمتها الثورة الفرنسية، على مسلمة أساسية وهي النظر إلى الإرادة السياسية على أنها هي إرادات الأفراد. ويذهب هيجل إلى أن الفوضى والإرهاب الناتجين عن الثورة الفرنسية هما نتيجة التوحيد بين الإرادة الفردية الطبيعية المباشرة والإرادة السياسية، أي الاعتقاد في أن إرادات الأفراد المنعزلين والمشتتين يمكن أن ينتج عنها إرادة سياسية عامة وكلية. ويحكم هيجل على فكرة الديمقراطية المباشرة بأنها ساذجة وديماغوجية لأنها تحل إشكالية العلاقة بين الفرد والدولة بأن تجعل الأفراد مسيطرين مباشرة على الدولة ويستخدمونها كأداة لتنفيذ ما يشاؤون. وهي ساذجة لأنها لا تدرك طبيعة الدولة الحديثة، إذ ينقصها تصور واضح عن دور المؤسسات الوسيطة بين الفرد أو المجتمع المدني والدولة. فبينما تصر النظريات الليبرالية على الفصل الحاد بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فإن فلسفة هيجل لا تعترف بهذا الفصل، ويصر هيجل في فلسفته السياسية على ضرورة وجود مؤسسات أو تنظيمات تتوسط بينهما تعمل على رفع مستوى المصالح والاهتمامات الفردية الخاصة إلى مرتبة الحياة العامة السياسية. والمؤسسات الوسيطة التي يقصدها هيجل هي النقابة والطبقة، وسوف نتوسع في الحديث عنهما عندما نأتي لتناول نظريته في الدولة.

لكن لنا ملاحظة حول مفهوم المؤسسات الوسيطة. يتحدث هيجل عن النقابة والطبقة باعتبارهما من المؤسسات الوسيطة في الجزء المتعلق بالدولة في كتابه “أصول فلسفة الحق”، ولهذا دلالة كبيرة، فهو يريد أن يقول أن هذه المؤسسات الوسيطة تنتمي للدولة أكثر من انتمائها للمجتمع المدني، فالحياة السياسية التي تعد الدولة تجسيدها العيني هي هدف المؤسسات الوسيطة، أي أن هدفها هو هدف الدولة نفسه. والأهم من ذلك أن التوسط بين الفرد والدولة ليس من وظيفة النقابة والطبقة فقط، فهما يقومان بالتوسط بالمعنى السياسي الضيق. وإذا بحثنا في فلسفة هيجل كلها سوف نجد أشياء أخرى كثيرة تقوم بهذه الوظيفة، وترفع الأفراد إلى مستوى الحياة السياسية العامة، وذلك مثل الدور الذي تقوم به الفلسفة نفسها، وفلسفة هيجل على وجه الخصوص. إذ تهدف “فينومينولوجيا الروح” إلى الرقي بالوعي الفردي والوصول به إلى إدراك العقل، أما فلسفته في التاريخ فتهدف إلى توضيح أن العقل يتحقق في التاريخ، وذلك بالتدريج وعبر مراحل حتى يصل إلى أقصى مراحل التحقق في الدولة الحديثة.

وافق هيجل نظريات العقد الاجتماعي والليبرالية على ذهابها إلى أن السياسية والمؤسسات السياسية الحديثة يجب أن تؤسس على وعي المواطنين، إذ ذهبت تلك النظريات إلى أن الشرعية السياسية يجب أن تؤسس على الإرادة، وهذا هو ما وافق فيه الثورة الفرنسية. إلا أن هذه النظريات، ومعها الثورة الفرنسية، فهمت الإرادة بصورة خاطئة مغرقة في الفردية وبطريقة جزئية وخاصة. وبذلك تفشل في تلبية مطلب هام وهو أن تكون هذه الإرادة مساهمة بفاعلية في النظام السياسي وجزء منه، بأسلوب يختلف عن الأسلوب الديماغوجي للثورة الفرنسية. يؤدي هذا التصور الضيق عن الإرادة إلى نظام تكون فيه السياسة مقامة من أجل مصالح الأفراد. إن تكوين نظام سياسي وعقلاني ومرض عند هيجل يتطلب إرادة جماعية كلية لا إرادة فردية جزئية، أما الإرادة العامة عند روسو وكما فهمتها الثورة الفرنسية فما هي إلا مجموع الإرادات الفردية الجزئية. ويرى هيجل أن المفهوم الليبرالي عن الإجماع Consent كما يظهر في نظريات العقد الاجتماعي مغرق في التلقائية والاختيارية والجزئية بطريقة تعوقه عن أن يقوم بالدور التأسيسي الموكل إليه في هذه النظريات. والحقيقة أن فلسفة هيجل السياسية هي محاولة للوصول إلى أسس بديلة أكثر عمومية وشمولية لتأسيس الشرعية السياسية. وبما أن الشرعية السياسية هي شرعية الدولة فإن فلسفة هيجل السياسية هي فلسفة في الدولة. وهذا هو السبب في مركزية مفهوم الدولة في أعماله السياسية التي فهمت خطأ على أنها تمجيد للدولة ورفعها فوق الأفراد وجعلها قوة مستقلة عنهم و دعاية للدولة الشمولية.

نقد هيجل للمجتمع المدني:

المجتمع المدني عند هيجل هو النظام الذي ينشأ من الاعتماد المتبادل بين الأفراد في نشاطاتهم المادية، فهو نتاج الفردية والنظام الذي تنشئه هذه الفردية. يقول هيجل: “الشخص العيني الذي هو نفسه موضوع غاياته الجزئية – وبوصفه مجموعة الحاجات، ومزيجا من الهوى والضرورة المادية- هو المبدأ الأول في المجتمع المدني. لكن هذا الشخص الجزئي يرتبط بالضرورة بغيره من الشخصيات الجزئية الأخرى حتى أن كلا منهم يقيم ذاته ويشبعها عن طريق الآخرين، وهذا هو .. المبدأ الثاني في هذا المجتمع”، أي مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يجعل المجتمع يسير بتلقائية وآلية. والمجتمع المدني حسب هذا الوصف هو المجتمع البورجوازي كما وصفه منظروه: هوبز ولوك وهيوم وآدم سميث.

“المجتمع المدني” الذي يتحدث عنه هيجل هو في حقيقته الاقتصاد الرأسمالي، فإذا استبدلنا كلمة “الاقتصاد الرأسمالي” أو كلمة “الرأسمالية” بكلمة “المجتمع المدني” فلن يختل المعنى، بل سيزداد وضوحا. يقول هيجل: “المجتمع المدني هو القوة الهائلة التي تمتص الناس إليها وتتطلب منهم العمل لأجلها (وبالتالي فهم) يدينون بكل شئ لهذه القوة، ويقومون بكل شيء وبأي شيء بوسائلها”.

أدخل هيجل الاقتصاد السياسي في صميم مذهبه، فقد تمكن من قراءته لمؤلفات ستيوارت وآدم سميث وريكاردو من معرفة أن ما يحكم المجتمع المدني هو هذا الاقتصاد السياسي الذي أسماه “نسق الحاجات” System of Needs . وكان هيجل قد أظهر اهتماما مبكرا بالاقتصاد السياسي منذ إقامته في مدينة برن، وظل هذا الاهتمام يلازمه وهو في فرانكفورت ويينا حتى استقر في برلين. أما ماركس فلم يكن مهتما بالاقتصاد السياسي في وقت مبكر مثل هيجل، بل كان مهتما في البداية بقضايا سياسية عامة وبفلسفة هيجل نفسه وبنقد الهيجليين الشباب. أما اهتمامه بالاقتصاد السياسي فلم يبدأ إلا سنة 1844 في المخطوطات الفلسفية الاقتصادية التي دونها في باريس ولم ينشرها. وبفضل دراسته للاقتصاد السياسي استطاع نقد هيجل الكشف عن تناقضات المجتمع المدني بدقة مستبقا ماركس، ومن هنا فإن نظريته في الدولة كانت محاولة لتجاوز تناقضات هذا المجتمع، الاقتصادية في الأساس، أي تجاوز تناقضات المجتمع البورجوازي الرأسمالي.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق