العقل وما بعد الطبيعة:
تأويل جديد لفلسفتي هيوم وكانط
تأويل جديد لفلسفتي هيوم وكانط
جريدة
المستقبل، الأحد 3 نيسان 2011 - العدد 3958 - صفحة 15
وفيق غريزي
يعتبر هذا الكتاب نموذجاً
للدراسة العلمية الجادة، والبحث الفلسفي الحر، لقيامه على فهم دقيق لفلسفتي
عمانوئيل كانط وديفيد هيوم، واعطاء تأويل جديد لهما، قادر على استيعاب تاريخ
الفلسفة في ذاكرة واعية وبمساحة واسعة للمقارنة والاستنتاج. وأهم ما يميز هذا
الكتاب ما تضمنه من رأي معلن بجرأة ووضوح، وما يكشفه من علاقة جدلية بين هيوم
القابع داخل كانط، وكانط القابع داخل هيوم. ومن ثم يقدم هذا الكتاب رؤية جديدة
لتاريخ الفلسفة الغربية تتجاوز الفراغ التقليدي بين العقلانية والحسية، والمثالية
والواقعية، الصورية والمادية، وتتولد عنها رسائل عدة أخرى للجمع بين رينيه ديكارت
وفرنسيس بيكون، وبين ليبنتز وجان لوك، قبل كانط وهيوم، وبين هيغل وماركس فيما بعد.
المشكلة الهيومو ـ كانطية والعلم
من المتعذر فهم الفلسفة الحديثة دون وضع الثورة العلمية في الاعتبار، ذلك ان سبب التحول الجذري في توجهات الفكر الغربي يظل كامناً في ما قدمه كوبرنيكوس وطوره نيوتن حتى بلغ به أوج نضجه واكتماله. ولعل أكثر الفلسفات استجابة للثورة العلمية فلسفتا هيوم وكانط، هذان الفيلسوفان اللذان أقاما مشروعيهما الفلسفي على أساس التحولات العلمية المنهجية التي شهدها عصرهما».
يرى المؤلف ان هيوم كان على وعي بتأثره بكوبرنيكوس، كما يتضح ذلك خلال نص بالغ الدلالة والمغزى يقارن فيه بين علم الفلك قبل كوبرنيكوس وبعده، وبين الفلسفة الأخلاقية قبله (اي هيوم) وبعده. فاذا كان علم الفلك قبل كوبرنيكوس يقدم نظرية في السموات بالغة التعقيد ومع ذلك فانها عاجزة عن تفسير الظواهر، فان كوبرنيكوس وفق المؤلف استطاع ان يقدم تصوراً بسيطاً يستند الى أقل عدد من المبادئ في تفسير النظام الكوكبي. وهيوم يرى ان تحقيق تقدم مماثل في الميتافيزيقا يستلزم تفسير الطبيعة الانسانية على اساس عدد قليل من المبادئ البسيطة. «وهذا ما عمل هيوم على تنفيذه، اذ فسر الطبيعة الانسانية على أساس قانون التداعي بمبادئه الثلاثة: مبدأ السببية، مبدأ التجاوز في الزمان والمكان، ومبدأ التشابه». وباعتقادر هيوم فان الفلسفة الأخلاقية في نفس الحالة التي كانت عليها الفلسفة الطبيعية في ما يتعلق بعلم الفلك قبل عصر كوبرنيكوس، ان مقارنة هيوم بين علم الفلك والفلسفة تستدعي الى الذهن فوراً مقارنة كانط بينهما. «ان الاكتشاف الكوبرنيكي اراد كانط ان يطبقه في الميتافيزيقا، حيث جرى الرأي حتى زمن كانط على التسليم بأن كل معرفتنا يجب ان تتطابق مع الموضوعات كما هو الحال في التيارات التجريبية والحسية المتطرفة، بيد ان جميع المحاولات التي بذلت لتأكيد شيء عنها بصورة قبلية عن طريق المفاهيم، بحيث تتسع معرفتنا وتزداد، باءت بالفشل بفعل هذا الفرض المسلم به». ان كانط يرى انه ليس بالامكان التوقف عند الحدوس فقط، بل ان عليه ان يربطها بوصفها تمثلات بأي شيء يصلح ان يكون موضوعاً وأن يحدد هذا الموضوع عن طريق تلك الحدوس. وهنا وجد نفسه بين أحد فرضين: اما ان يسلم بأن المفاهيم التي يستعين بها تتطابق مع الموضوع، وهذا احتمال ممتنع، واما ان يفترض ان الموضوعات أو أن التجربة، والأمر سواء، لا تعرف هذه الموضوعات بوصفها معطاة الا فيها، تتطابق مع المفاهيم. وهذا الفرض تبين لكانط صحته لأن التجربة ذاتها نوع من المعرفة يتطلب الفهم الذي احتفظ في نفسي بقواعد من قبل ان تعطى لي الموضوعات.
عقلانية هيوم في ضوء عقلانية كانط
لقد آن الأوان للقضاء على اعتقاد شائع في مجال الدراسات الفلسفية، فحواه ان هيوم فيلسوف تجريبي صارم، سار بالتجريبية حتى نهايتها المنطقية. فاذا كان بيكون هو رائد التيار التجريبي، ثم جاء بعد هوبر ولوك الذي بلور هذا التيار وعمّق جذوره ثم بيركلي الذي خصبه وزاد من عمقه واتساعه، فان هيوم وصل بهذا التيار الى نتائجه المنطقية، حتى أصبح من المستحيل المضي الى ابعد مما وصل اليه، وبالتالي فقد اعتبره الوضعيون المناطقة رائداً لهم وواضعاً لأصولهم الفلسفية. هذا الاعتقاد قام نتيجة فهم خاطئ لفلسفة هيوم. وكان السبب، يقول المؤلف: «في تكونه ان أصحابه لم ينظروا الى فلسفة هيوم نظرة مجردة، وانما وضعوها في سياق التجريبية الانكليزية، ونظروا اليها عبر هذا المنظور، ومن ثم أظهرت هذه العدسة التجريبية هيوم لكل الآراء كفيلسوف تجريبي»، ان هيوم عقلاني بالمعنى الكانطي لأنه بالاضافة الى ما سبق، قد بحث عن ضمان اليقين خارج التجربة. بل انه هو نفسه الذي شكك كانط في ان التجربة تكفل الضرورة والكلية دعامتي كل يقين. ولكن اذا كان هيوم عقلانياً وفقاً لتلك المقاييس فهذا لا يعني ان عقلانيته عقلانية مطلقة على غرار عقلانية افلاطون وغيره، القائلين بالأفكار الفطرية والمؤكدين على ان المعرفة الحسية معرفة وهمية.
ويرى المؤلف ان هيوم ذهب الى ان في العقل مجموعة من القواعد المنطقية الصورية ذات دور ايجابي في عملية المعرفة. بل انه جعل الطبيعة نفسها جزءاً من العقل مثل كانط بدلاً من ان يعتبر العقل جزءاً من الطبيعة مثل التجريبيين الجذريين. والفكرة الأساسية المشتركة بين هيوم وكانط هي انكار القوانين الموضوعية في الطبيعة، واستنباط شروط التجربة الخصوصية والمبادئ والمصادرات والموضوعات الخصوصية من الذات من الشعور البشري وليس من الطبيعة.
الخيال والادراك
يقوم الخيال عند هيوم بنفس الدور تقريباً الذي يقوم به عند كانط في عملية المعرفة، وتبلغ درجة التلاقي بينهما حداً يدفعنا الى التساؤل عن مدى أصالة ما يسمى بالكشف الكانطي. فأحياناً يستخدم كانط مصطلح الخيال وأشباحه حسب الطريقة المألوفة والمعتادة لهذا المصطلح. ويبدو ذلك عندما يقارن بين تخيلنا لشيء ما وبين معرفتنا الواقعية لشيء آخر. فكتب يقول: «لا يستتبع كل تصور حدسي للأشياء الخارجية وجود تلك الأشياء، لأنه قد يكون بالفعل مجرد نتيجة للخيال كما في الأحلام والجنون. لكن حتى في هذه الحالة فانه لا يحصل الا باسترجاع ادراكات خارجية». لقد كان كافياً ان ندلل على ان التجربة الباطنة بعامة ليست ممكنة الا بالتجربة الخارجية. أما اذا كانت هذه التجربة المزعومة أو تلك مجرد تخيل فذاك ما يجب اكتشافه من خلال تعيناتها الخاصة وتماسكها وفق معايير كل تجربة متحققة».
فكل من كانط وهيوم يتصور الخيال بوصفه قوة موحدة أو رابطة تعمل على مستويين أو في بعدين هما: الأول: يربط الخيال ادراكات الموضوعات المختلفة من نفس النوع. والثاني يربط الخيال الادراكات المختلفة لنفس موضوع النوع المعطى. فالخيال عندهما هو وسيلة ادراكنا الحسي لكل من هوية النوع وهوية الفرد، لكل من هوية التصور وهوية الموضوع. ويعتقد المؤلف بأن الفضل الأساسي في اكتشاف دور الخيال في عملية المعرفة يرجع أساساً الى هيوم قبل ان يرجع الى كانط. لكن ليس معنى هذا اننا نريد اختزال كانط كله في هيوم، أو أننا ننكر الدور الهام الذي قام به كانط، فلا شك ان له اضافاته الطريفة والمبتكرة في هذا الصدد والتي تتمثل في دفعه للكشف الهيومي الى اقصى حد له، وتفصيله الدقيق لما أجمله هيوم، بل واكتشافه لبعض الجوانب والدقائق الخفية التي كانت مستغلقة على هيوم.
الميتافيزيقا ومشكلاتها
المشكلة الهيومو ـ كانطية والعلم
من المتعذر فهم الفلسفة الحديثة دون وضع الثورة العلمية في الاعتبار، ذلك ان سبب التحول الجذري في توجهات الفكر الغربي يظل كامناً في ما قدمه كوبرنيكوس وطوره نيوتن حتى بلغ به أوج نضجه واكتماله. ولعل أكثر الفلسفات استجابة للثورة العلمية فلسفتا هيوم وكانط، هذان الفيلسوفان اللذان أقاما مشروعيهما الفلسفي على أساس التحولات العلمية المنهجية التي شهدها عصرهما».
يرى المؤلف ان هيوم كان على وعي بتأثره بكوبرنيكوس، كما يتضح ذلك خلال نص بالغ الدلالة والمغزى يقارن فيه بين علم الفلك قبل كوبرنيكوس وبعده، وبين الفلسفة الأخلاقية قبله (اي هيوم) وبعده. فاذا كان علم الفلك قبل كوبرنيكوس يقدم نظرية في السموات بالغة التعقيد ومع ذلك فانها عاجزة عن تفسير الظواهر، فان كوبرنيكوس وفق المؤلف استطاع ان يقدم تصوراً بسيطاً يستند الى أقل عدد من المبادئ في تفسير النظام الكوكبي. وهيوم يرى ان تحقيق تقدم مماثل في الميتافيزيقا يستلزم تفسير الطبيعة الانسانية على اساس عدد قليل من المبادئ البسيطة. «وهذا ما عمل هيوم على تنفيذه، اذ فسر الطبيعة الانسانية على أساس قانون التداعي بمبادئه الثلاثة: مبدأ السببية، مبدأ التجاوز في الزمان والمكان، ومبدأ التشابه». وباعتقادر هيوم فان الفلسفة الأخلاقية في نفس الحالة التي كانت عليها الفلسفة الطبيعية في ما يتعلق بعلم الفلك قبل عصر كوبرنيكوس، ان مقارنة هيوم بين علم الفلك والفلسفة تستدعي الى الذهن فوراً مقارنة كانط بينهما. «ان الاكتشاف الكوبرنيكي اراد كانط ان يطبقه في الميتافيزيقا، حيث جرى الرأي حتى زمن كانط على التسليم بأن كل معرفتنا يجب ان تتطابق مع الموضوعات كما هو الحال في التيارات التجريبية والحسية المتطرفة، بيد ان جميع المحاولات التي بذلت لتأكيد شيء عنها بصورة قبلية عن طريق المفاهيم، بحيث تتسع معرفتنا وتزداد، باءت بالفشل بفعل هذا الفرض المسلم به». ان كانط يرى انه ليس بالامكان التوقف عند الحدوس فقط، بل ان عليه ان يربطها بوصفها تمثلات بأي شيء يصلح ان يكون موضوعاً وأن يحدد هذا الموضوع عن طريق تلك الحدوس. وهنا وجد نفسه بين أحد فرضين: اما ان يسلم بأن المفاهيم التي يستعين بها تتطابق مع الموضوع، وهذا احتمال ممتنع، واما ان يفترض ان الموضوعات أو أن التجربة، والأمر سواء، لا تعرف هذه الموضوعات بوصفها معطاة الا فيها، تتطابق مع المفاهيم. وهذا الفرض تبين لكانط صحته لأن التجربة ذاتها نوع من المعرفة يتطلب الفهم الذي احتفظ في نفسي بقواعد من قبل ان تعطى لي الموضوعات.
عقلانية هيوم في ضوء عقلانية كانط
لقد آن الأوان للقضاء على اعتقاد شائع في مجال الدراسات الفلسفية، فحواه ان هيوم فيلسوف تجريبي صارم، سار بالتجريبية حتى نهايتها المنطقية. فاذا كان بيكون هو رائد التيار التجريبي، ثم جاء بعد هوبر ولوك الذي بلور هذا التيار وعمّق جذوره ثم بيركلي الذي خصبه وزاد من عمقه واتساعه، فان هيوم وصل بهذا التيار الى نتائجه المنطقية، حتى أصبح من المستحيل المضي الى ابعد مما وصل اليه، وبالتالي فقد اعتبره الوضعيون المناطقة رائداً لهم وواضعاً لأصولهم الفلسفية. هذا الاعتقاد قام نتيجة فهم خاطئ لفلسفة هيوم. وكان السبب، يقول المؤلف: «في تكونه ان أصحابه لم ينظروا الى فلسفة هيوم نظرة مجردة، وانما وضعوها في سياق التجريبية الانكليزية، ونظروا اليها عبر هذا المنظور، ومن ثم أظهرت هذه العدسة التجريبية هيوم لكل الآراء كفيلسوف تجريبي»، ان هيوم عقلاني بالمعنى الكانطي لأنه بالاضافة الى ما سبق، قد بحث عن ضمان اليقين خارج التجربة. بل انه هو نفسه الذي شكك كانط في ان التجربة تكفل الضرورة والكلية دعامتي كل يقين. ولكن اذا كان هيوم عقلانياً وفقاً لتلك المقاييس فهذا لا يعني ان عقلانيته عقلانية مطلقة على غرار عقلانية افلاطون وغيره، القائلين بالأفكار الفطرية والمؤكدين على ان المعرفة الحسية معرفة وهمية.
ويرى المؤلف ان هيوم ذهب الى ان في العقل مجموعة من القواعد المنطقية الصورية ذات دور ايجابي في عملية المعرفة. بل انه جعل الطبيعة نفسها جزءاً من العقل مثل كانط بدلاً من ان يعتبر العقل جزءاً من الطبيعة مثل التجريبيين الجذريين. والفكرة الأساسية المشتركة بين هيوم وكانط هي انكار القوانين الموضوعية في الطبيعة، واستنباط شروط التجربة الخصوصية والمبادئ والمصادرات والموضوعات الخصوصية من الذات من الشعور البشري وليس من الطبيعة.
الخيال والادراك
يقوم الخيال عند هيوم بنفس الدور تقريباً الذي يقوم به عند كانط في عملية المعرفة، وتبلغ درجة التلاقي بينهما حداً يدفعنا الى التساؤل عن مدى أصالة ما يسمى بالكشف الكانطي. فأحياناً يستخدم كانط مصطلح الخيال وأشباحه حسب الطريقة المألوفة والمعتادة لهذا المصطلح. ويبدو ذلك عندما يقارن بين تخيلنا لشيء ما وبين معرفتنا الواقعية لشيء آخر. فكتب يقول: «لا يستتبع كل تصور حدسي للأشياء الخارجية وجود تلك الأشياء، لأنه قد يكون بالفعل مجرد نتيجة للخيال كما في الأحلام والجنون. لكن حتى في هذه الحالة فانه لا يحصل الا باسترجاع ادراكات خارجية». لقد كان كافياً ان ندلل على ان التجربة الباطنة بعامة ليست ممكنة الا بالتجربة الخارجية. أما اذا كانت هذه التجربة المزعومة أو تلك مجرد تخيل فذاك ما يجب اكتشافه من خلال تعيناتها الخاصة وتماسكها وفق معايير كل تجربة متحققة».
فكل من كانط وهيوم يتصور الخيال بوصفه قوة موحدة أو رابطة تعمل على مستويين أو في بعدين هما: الأول: يربط الخيال ادراكات الموضوعات المختلفة من نفس النوع. والثاني يربط الخيال الادراكات المختلفة لنفس موضوع النوع المعطى. فالخيال عندهما هو وسيلة ادراكنا الحسي لكل من هوية النوع وهوية الفرد، لكل من هوية التصور وهوية الموضوع. ويعتقد المؤلف بأن الفضل الأساسي في اكتشاف دور الخيال في عملية المعرفة يرجع أساساً الى هيوم قبل ان يرجع الى كانط. لكن ليس معنى هذا اننا نريد اختزال كانط كله في هيوم، أو أننا ننكر الدور الهام الذي قام به كانط، فلا شك ان له اضافاته الطريفة والمبتكرة في هذا الصدد والتي تتمثل في دفعه للكشف الهيومي الى اقصى حد له، وتفصيله الدقيق لما أجمله هيوم، بل واكتشافه لبعض الجوانب والدقائق الخفية التي كانت مستغلقة على هيوم.
الميتافيزيقا ومشكلاتها
ان تحرير الميتافيزيقا من أوهامها على يدي هيوم، لم يكن هدماً لها، او قضاء عليها، وانما كان تأسيساً لمناهجها، وتجديداً لموضوعاتها، وتطويراً لأهدافها. ومن المؤسف، حسب رأي المؤلف، ان الغالبية لم ترد ان تفهم هذه الحقيقة. فهيوم اذ يجتث بمعوله التحليلي الحاد اوهام الميتافيزيقيين التقليديين حول طبيعة النفس الانسانية، وأصل العالم ومصيره، وطبيعة الذات الالهية، انما يهدف الى تحويل الميتافيزيقا من أحلام ورؤى الى علم دقيق محكم يستطيع ان يحقق تقدماً مثل التقدم الذي حققه العلم الطبيعي الرياضي. ومن المعلوم ان الإشكال الحقيقي للعقل المحض الذي تتوقف على امكان حله مشروعية وجود الميتافيزيقا او عدم مشروعيتها هو» كيف تكون الأحكام القبلية التركيبية ممكنة؟ «وليس من شك في ان ما ذهب اليه كانط في هذا الصدد ليس صحيحاً على اطلاقه. ذلك ان هيوم قد ميز في بحثه عن الفهم الانساني تمييزاً دقيقاً بين هذين النوعين من الموضوعات اللذين يتناولهما التفكير. فهناك موضوعات تتعلق بالعلاقات الموجودة بين فكرة وفكرة، وهناك موضوعات أخرى تتعلق بأمر من أمور الواقع، وتنتمي الى النوع الأول الرياضيات، اما النوع الثاني فتنتمي اليه علوم الطبيعة».
ويمكن ان نلاحظ بكل سهولة التوازي الموجود بين مشروعي هيوم وكانط من خلال العناوين الرئيسة لأعمالهما. فقد اشتملت رسالة هيوم في الطبيعة البشرية على ثلاثة ابحاث تناول في أحدها الفهم الانساني وفي ثانيها العواطف، وفي الثالث تناول الأخلاق. أما كانط فتتوزع فلسفته النقدية بين ثلاثة كتب تأتي مناظرة تماما لأعمال هيوم وهي: نقد العقل المحض، ونقد ملكة الحكم، ونقد العقل العملي. ويتضح لنا هذا التناظر اكثر اذا علمنا ان نقد ملكة الحكم وان جاء من حيث التاريخ بعد نقد العقل المحض ونقد العقل العملي الا انه في الحقيقة يقع فلسفياً بينهما، لأنه يردم الهوة القائمة بين حال الطبيعة وحال الأخلاق.
يقول كانط في هذا الصدد: «لو صح ان هناك هوة كبيرة بين ميدان مفهوم الطبيعة الحسي وميدان مفهوم الحرية الأعلى من الحس، وأن لا مجال البتة للمرور من الأول الى الثاني كما لو كانا عالمين مختلفين حيث لا يمكن للأول ان يؤثر في الثاني، فاننا مع ذلك لا نستطيع الا ان ندرك تأثير الثاني في الأول. ان تلقائية اللعب في الملكات الفكرية، ذلك الانسجام الذي هو أساس المتعة، يجعل من غائية الطبيعة بمثابة الخيط الموصل بين ميدان مفهوم الطبيعة وميدان مفهوم الحرية». ونقد ملكة الحكم إذ يقع فلسفياً بين نقد العقل المحض ونقد العقل العملي فانه يناظر بذلك موقع بحث هيوم عن العواطف، حيث وضعه في بحثه بين بحث الفهم وبحث في الأخلاق.
ان المشروع الفلسفي عند كانط قد تشكل بالتوازي مع مشروع هيوم، لكن هل يمكن اعتبار هذين المشروعين لا سيما مشروع هيوم، من المشروعات الميتافيزيقية؟ إن ميتافيزيقا كانط كانت نقداً للعقل المحض ونقداً للعقل العملي، ونقداً لملكة الحكم، أي أنها فحص للملكات الإنسانية بهدف الكشف عن حدود تلك الملكات لتقرير إمكان الميتافيزيقا بوجه عام وتحديد مصادرها ومداها وحدودها. بهذا المعنى نفسه يقول المؤلف: «حاول هيوم أن يقيم الميتافيزيقا علماً دقيقاً، ورأى أن هذا لا يتأتى إلا بجعل موضوعها هو تحليل الطبيعة الإنسانية بطريقة منظمة، بهدف استكشاف مبادئ الطبيعة الإنسانية». فهو يريد نظرية عامة عن تلك الطبيعة تفسر الأسباب التي تجعل الكائنات الإنسانية تفكر، تدرك، تفعل، تشعر. ولا يعتقد هيوم بطبيعة الحال، أن بإمكانه تفسير كل جوانب الطبيعة الإنسانية، ولكنه يعتقد أنه يملك خطة عامة يمكن أن يتم بها هذا العمل في النهاية.
نلاحظ هنا أن الميتافيزيقا مع هيوم قد أصبحت علماً للإنسان، حيث صارت تتساءل عن شروط ومبادئ المعرفة والأخلاق والعواطف. وهذا يتفق تماماً مع حديث كانط عن الميتافيزيقا المشروعة التي تبحث عن الشروط الأولية للعقل المحض والعقل العملي وملكة الحكم.
تأثير هيوم في تطور كانط
تؤكد الرؤية التقليدية لعلاقة كانط بهيوم على الاختلافات الموجودة بينهما، حيث تضعهما في جانبين متضادين تفصل بينهما هوة عميقة، فالتجريبية الإنكليزية والحسية والشكلية في مقابل العقلانية الألمانية والنقدية واللاشكلية. وطبقاً لهذه الرؤية فإن هيوم إذا كان قد أيقظ كانط من سباته الدوغماطيقي فإنه أيقظه من العقلانية المتزمتة والميتافيزيقية الحالمة. «ومشكلة هيوم متطابقة مع مشكلة السببية. فهجومه عليها وتساؤله عن صحتها الموضوعية، جعل كانط يتخذ موقفاً شكلياً في البدء، ولكنه سرعان ما رأى العاقبة المهلكة التي من الممكن أن تترتب على هذا الهجوم بالنسبة الى كل علم، لا سيما علم الميتافيزيقا».
من هنا فقد تصدى لمشكلة هيوم ودحض الشكية وأنقذ مبدأ السببية، ذلك المبدأ الذي يُعد بحق المحور الرئيسي الذي يقوم عليه العقل، ويتأسس عليه العلم.
أظهرت للمؤلف القراءة المتأنية والتحليلات المقارنة لنصوص هيوم وكانط على أعماق تجعل المرء بلا تردد يجزم بإمكانية النظر الى هذين الفيلسوفين باعتبارهما وجهين لشيء واحد. فكانط «هيوم الألماني» وهيوم هو «كانط الأنكليزي». ومهما يكن من أمر فإن إعادة قراءة كانط «في ضوء فلسفة هيوم قراءة جديدة، وتفسير العلاقة بينهما تفسيراً متماسكاً شاملاً، يستلزم منا القيام بتتبع تطور التفكير النقدي لكانط من خلال علاقته بهيوم، ومحاولة معرفة ما إذا كانت تمثل رؤى هيوم الفلسفية بالنسبة الى كانط في المراحل المبكرة من تطور فلسفته النقدية». وحتى يكون حديثنا عن أثر هيوم في كانط منطقياً، وتأثر كانط بهيوم، ومستنداً الى أسس منهجية دقيقة، ينبغي علينا أن نبيّن أولاً الأدلة التاريخية التي تثبت أن تشابههما ليس من قبيل توارد الأفكار والخواطر، وإنما نتيجة الأثر والتأثر المباشرين. يقول المؤلف هذا و يقوم به حتى لا يقع في الخطأ الذي وقع فيه بعض أصحاب النظر القاصر الذين يظنون أن كل تشابه بين أي فيلسوفين أو عالمين أو أديبين. إنما هو نتيجة الأثر والتأثير. لقد كان لقراءة كانط وهيوم أثر كبير في اكتشاف كانط لكثير من جوانب فلسفة هيوم، ولا سيما الجانب المتعلق بفكرة النقائض، تلك الفكرة التي ظنها البعض اكتشافاً كانطياً، وما هي باكتشاف كانطي. ونظراً لأن هيوم في نقد العقل المحض، هو أكبر أثر على الإطلاق في فلسفة كانط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق