الأربعاء، 29 يونيو 2016

دفاتر الماضي: جذورٌ في الهواء؛ محمد الحجيري.



الذكريات المتناثرة..

في الثالثة عشرة من عمره، كان شكله غريباً، ضئيل الحجم ضعيف البنية، يرتدي ثياباً مستعملة بما فيها السترة الصوفية ذات المربعات البيضاء والسوداء، باستثناء الملابس الداخلية التي كانت ترفاً لا تسمح به حال أهله المعدَمة في تلك البيئة الريفيّة النائية، كان حليق الرأس بشكل غريب..
لقد أرسله والدُه إلى أحد حلاقي القرية لقصّ شعره الكستنائي المنسدل، ولمّا لم تعجبه هيئتُه في المرآة عمد إلى شفرة الحلاقة والمشط للتخلّص من التدرّجات التي تركها الحلاق الذي لم يكن يُحسِن إلا طقطقة المقص بعد كل عملية قضم لخصلةٍ من الشعر، غير عابئٍ بتذمّر زبونه المغلوب على أمره.
لكن فعل الشفرة في رأس صاحبنا لم تكن بأفضلَ من فعل مقص الحلاّق.. فقد تركت أثرها على شكل خرائط متنافرة، فهي فعلت فعلها في أماكن فلم تترك من الشعر شيئاً حتى بانت فروة الرأس، بينما تركت خصلاتٍ أخرى على حالها الأولى..

هو الآن وحيدٌ في مدرسته الجديدة المجّانية الداخلية على مشارف العاصمة بيروت، والحصة الآن هي لمادّة الرياضيات.
يعرُض المدرّس المسألة الهندسية على اللوح ثم يترك المجال للتلامذة للتفكير في حلِّها..
وبعد بعض الوقت لم ترتفع إلا يدُ صاحبنا للإجابة.
هو يقف الآن وحيداً أمام اللوح بشكله الغريب تحت نظر زملائه الذين يرمقون شكله باستغراب بدءاً من قصّة شعره العجيبة إلى حذائه مروراً ببقّية ملابسه المستهلكة..
ولمّا كانت فرنسيته تشبه العربيّة، أو قل هي لا تشبه شيئاً إلا لهجته الضيعويّة المستغرَبة، لكنها في كل الأحوال تستطيع أن توصل فكرته في مادةٍ علمية كالرياضيات.
وبعد أن شرح حلّه المقترَح بشكل متسلسل، صمت المعلم قليلاً، ثم سأله قائلاً: "أنت من وين؟"
ردّ التلميذ قائلاً: "من بعلبيك".
وكان ذلك ادعاءً مدينياً، فهو في الحقيقة من قرية نائية في سفوح جبال لبنان الشرقية.. لكنه قلّما أحب الدخول في التفاصيل ولم يكن ذلك بنيّة الادعاء بالانتماء إلى المدينة.
لم يكد صاحبُنا ينطق بكلمته تلك حتى انفجر الطلاب الذين كانوا يشخصون بأبصارهم إليه بالضحك دفعةً واحدة..
منذ تلك الساعة اتخذ الأستاذ مكانه بالقرب من صاحبنا على طاولة واحدة كتقديرٍ له على تميّزه بمادة الرياضيات..
استمر صاحبنا في مدرسته تلك لسنواتٍ ثلاث أنهتها بداية الحرب الأهليّة في لبنان، ليبدأ بالبحث عن مسارٍ آخر، وعد صاحبنا بالحديث عن بعضها لتحريره من ثنايا الذاكرة المبعثرة


(م. ح)
14/11/2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق