دافيد هيوم: "بحث في الفهم
البشري" الباب الثاني.
ترجمة أحمد قابيل؛ عبدالله ورد.
لم تُقدَّم استدلالات فلسفية حول أيّ موضوع
أكثر من تلك التي قُدِّمت لإثبات وجودِ الألوهية ودحضِ أكاذيبِ الملاحدة. ورغم ذلك
فالفلاسفة الأكثر تديّناً لا زالوا يناقشون مسألة ما إذا كان من الممكن وجودُ شخصٍ
ما يكون من العمى إلى حدٍّ يصبح فيه ملحداً ويقدم براهين على ذلك. فكيف نوفّق بين
هذه المتناقضات؟
إن الفرسان الجوالين، الذين كانوا يجوبون
الأرض لتخليص العالم من التنانين والعمالقة، لم يخامرْهُم أدنى شكٍّ في وجود هاته
الكائنات المرعبة.
إن الشاك عدوّ آخر من أعداء الدين، وهو
بطبيعة الحال يثير استنكارَ كلِّ رجالِ الدين وكلِّ الفلاسفة الجادّين، رغم أنه من
الأكيد أن لا أحد قد التقى مثل هذا المخلوق الغريب، أو تحدث إلى إنسان لا رأي له
ولا مبدأ في أيّ موضوع من الموضوعات، سواءٌ كان عملياً أو نظرياً. وهذا ما يؤدي
إلى طرح التساؤل الطبيعي التالي: ما المقصود بالشاك؟ وما هو الحد الذي يمكن أن تصل
إليه هذه المبادئ الفلسفية في الشك واللايقين؟
هناك نوعٌ من الشكّية سابقٌ على كل بحثٍ
وعلى كل فلسفة، وهو ما كان ديكارت وآخرون يعتبرونه وسيلةً للوقاية من الخطأ
والتسرّع في الأحكام. فهو يدعو إلى أن نشكّ شكاً شاملاً، ليس فقط في كل آرائنا وكل
مبادئنا السابقة، بل وأيضاً في ملَكاتِنا نفسها؛ إن علينا ـ كما يقولون ـ أن نتأكد
بأنفسنا من صدقها بواسطة سلسة من الاستدلالات، المستنبَطة من مبدإٍ أوّليّ لا يمكن
أن يكون خاطئاً أو خادعاً بأية حال من الأحوال. ولكن مثل هذا المبدأ الأوّليّ ـ
الذي له سلطة على المبادئ الأخرى البديهية بذاتها والمقنعة ـ لا وجود له، وإذا كان
موجوداً، هل يمكننا أن نتقدّم خطوةً واحدةً انطلاقاً منه، دون الاعتماد على هذه
الملَكات نفسها، والتي يُفترض أننا نشكّ فيها. هذا الشك الديكارتي إذاً، إن استطاع
أي مخلوقٍ بشريٍّ بلوغَه، (وهو أمرٌ مستحيل على ما يبدو) فسيكون غيرَ قابلٍ للعلاج
البتّة؛ إذ لن يستطيع أيّ استدلالٍ بعد ذلك أن يقودنا إلى حالة من اليقين
والاقتناع في أيّ موضوعٍ من الموضوعات.
ومع ذلك، فعلينا أن نقرّ بأن هذا النوع من
الشكّية إذا ما كان أكثر اعتدالاً [؟]، يمكن أن يُفهَم بكيفيّة معقولة جداً، ويصبح
تمهيداً ضرورياً لدراسة الفلسفة. وذلك بحفاظه على النزاهة الملائمة لأحكامِنا،
وتخليص ذهننا من كل الأحكام السبَقة التي تشبّعنا بها بواسطة التربية والآراء
المتسرّعة. إن الانطلاق من مبادئ واضحة وبديهيّة بذاتها، والتقدم بخطى حذرة
وواثقة، والمراجعة المنتظمة لنتائجنا، والفحص الدقيق لكل ما يترتب عنها ـ رغم أننا
لن نحقق بهذه الوسائل سوى تقدمٍ بطيء وفي نفس الوقت محدود في أنساقنا ـ لهي وحدها
المناهج التي يمكن بواسطتها أن نأمل في بلوغ الحقيقة وامتلاك الثبات واليقين
الملائمين في أحكامنا.
وهناك نوعٌ آخرُ من الشكّية لاحقٌ للعلم
وللبحث، وذلك عندما يتصوّر الناس أنهم اكتشفوا خطأَ ملَكاتِهم الذهنية المطلق أو
عجزَهم عن بلوغِ أي حكمٍ ثابت في كلّ هذه الموضوعات الفكريّة الغريبة التي تستخدم
فيها عادة. بل حتى حواسُّنا ذاتها تصبح مثار نقاش من طرف صنف من الفلاسفة، كما
تتعرّض قواعد الحياة العامّة لنفس الشك الذي تتعرّض له مبادئ الميتافيزيقا
واللاهوت ونتائجهما الأكثر عمقاً. وكما أنه قد يحدث أن نجد عند بعض الفلاسفة هذه
العقائد الغريبة (إذا أمكن تسميتُها عقائد) ونجد لدى آخرين ما يدحضها، فإن ذلك
بالطبع يثير فضولَنا، ويدفعُنا إلى البحث عن الحجج التي يمكن أن تؤسّسَها.
ولست محتاجاً للتأكيد على هذه الموضوعات
المطروقة والتي يستخدمها الشكاك في كل العصور ضد شهادة الحواسّ، كتلك التي تُستمَدُّ
من قصور أعضائنا وعدم دقتها في العديد من المناسبات: فالمجداف يظهر مكسوراً داخل
الماء، والأشياءُ تتخذ مظاهرَ مختلفةً باختلاف المسافات التي تفصلنا عنها، والصور
التي تصبح مزدوجةً عندما نضغط على إحدى العينين ، إلى غير ذلك من المظاهر ذات
الطبيعة المماثلة. إن هذه الموضوعات الشكّية تكفي وحدَها في الحقيقة لإثبات أنه لا
ينبغي أن نثق في الحواس وحدَها ثقةً عمياء، بل علينا أن نصحّح شهادتها بالعقل
وبواسطة اعتباراتٍ مستمَدّة من طبيعة الوسط ومدى بُعد الشيء ووضع العضو [الحاس]،
حتى نجعل منها ـ في حدود مجالها ـ معايير ملائمة للحقيقة والبطلان. لكن، هناك حججٌ
أخرى أكثر عمقاً ضد الحواس، والتي لا تقبل الحلّ بمثل هذه السهولة.
ويظهر أن البشر مدفوعون بالغريزة أو
بالاستعداد الطبيعي إلى الثقة في حواسّهم، إذ إنه بدون أدنى استدلال، أو حتى قبل
استخدام العقل تقريباً، نقرّ دائماً بوجود عالمٍ خارجيّ لا يتعلّقُ بإدراكنا بل يوجد
حتى لو أننا كنا غائبين أو كنا منعدمين، نحن أو ايُّ مخلوقٍ حاس. وحتى المخلوقات
الحيوانية نفسُها محكومةٌ بالرأي نفسِه وتحافظ على هذا الاعتقاد في وجود الأشياء
الخارجية، في كل اهتماماتها ومقاصدها وأفعالها.
ويبدو أيضاً أن البشر عندما يتبعون هذه
الغريزة الطبيعية القويّة والعمياء، يسلّمون دائماً بأن الصور التي تعكسها الحواس،
هي نفسها الموضوعات الخارجية، ولا يخامرُهم أدنى شكٍّ في أن هذه هي مجرّد تمثّلات
لتلك. فهذه الطاولة نفسُها، والتي نراها بيضاء ونحسّ بها صلبة، نعتقد بوجودها
وجوداً مستقلاً عن إدراكِنا، وبأنها شيءٌ خارجيّ عن ذهننا الذي يدركها. إن حضورنا
لا يمنحها الوجود، وغيابنا لا يعدمها. فهي تحافظ على وجودها الثابت والكامل،
المستقل عن وضعية الكائنات العاقلة التي تدركها أو تتأملها.
لكن هذا الرأي الكلّي والأوّلي الذي يعتقد
به الناس كلّهم، سرعان ما تقوّضه أبسط الفلسفات، التي تعلمنا ألا شيء يمكن أن يحضر
في الذهن، إلا ما كان صورةً أو إدراكاً، وأن الحواس ليست إلا قنواتٍ تُنقَلُ عبرها
هذه الصور بدون أن تكون قادرةً على إقامة أيِّ اتصالٍ مباشر بين الذهن والموضوع.
فالطاولة التي نراها، تبدو وكأنها تتضاءل كلما ابتعدنا عنها، لكن الطاولة الواقعية
التي توجد في استقلالٍ عنا، لا يعتَوِرُها أيُّ تغيّر، إن صورتها إذاً، هي ما كان
حاضراً في الذهن. تلك هي المتطلبات الواضحة للعقل، فلم يشكَّ أيُّ إنسان عاقل في أن
الموجودات التي نتأمل فيها، عندما نقول: هذا المنزل وتلك الشجرة، ما هي إلا
إدراكاتٍ في الذهن، ونسخٍ زائلةٍ أو تمثلاتٍ لموجوداتٍ أخرى تبقى ثابتة ومستقلّة.
من هنا، إذاً، نحن ملزَمون عقلاً بمعارضة
الغرائز الطبيعية الأولية أو الابتعادِ عنها، واعتناقِ نسقٍ جديد يأخذ بعين الاعتبار
شهادةَ حواسِنا. [أليس هذا ما قامت به الظاهراتية لاحقاً؟] لكن الفلسفة هنا تجد نفسَها في حرجٍ شديد إذا ما أرادت تبرير هذا
النسق الجديد، ومواجهةَ مماحكاتِ الشكاك واعتراضاتهم. فلَمْ يعد بإمكانها بعد الدفاع
عن الغريزة الطبيعية التي لا تخطئ ولا تُقهَر، ذلك لأن هذه الغريزة تؤدي بنا إلى
نسقٍ مختلفٍ تماماً، يُعتَبر معرّضاً للخطأ بل وخاطئاً. وإن تبرير هذا النسق
الفلسفي المزعوم بسلسلة من الحجج الواضحة والمقنعة، أو حتى بما يشبه ذلك، لهو أمرٌ
يتعدّى قدرة كل طاقةٍ بشريّة.
فبأية حجة، إذاً، يمكننا إثبات أن إدراكاتِ
الذهن ناتجةٌ بالضرورة عن موضوعاتٍ خارجيّة تختلف عنها اختلافاً تاماً، رغم أنها
تشبهها (إذا كان ذلك ممكناً)، وبأنها لا تنشأ عن طاقةِ الذهن نفسه، ولا بإيحاءٍ من
ذهن مجهول وخفيّ أو بأيّ سببٍ آخر لا نعرفه البتّة؟ وفعلاً يمكن الإقرار بأن
كثيراً من هذه الإدراكات لا تنشأ عن أيّ شيءٍ خارجي، كما هو الشأن في الأحلام
والجنون وأمراضٍ أخرى. ولا شيء يستعصي على الشرح أكثرَ من الكيفية التي يؤثر بها
الجسم على الذهن لينقل صورةً عن نفسه إلى جوهرٍ يفترض أنه ذو طبيعة مختلفة بل
ومتناقضة.
وإنه لمسألةٌ واقعيةٌ أن نعرف ما إذا كانت
إدراكاتُ الحواس ناتجةً عن موضوعاتٍ خارجية تشبهها، فكيف يمكن حلّ هذه المسألة؟ إن
حلّها يكون بالتجربة بكل تأكيد كما هو الشأن في كل المسائل المماثلة. ولكن التجربة
هنا تبقى صامتة بكيفية تامة، ولا يمكن إلا أن تكون كذلك. فلا شيء حاضرٌ في الذهن
إلا الإدراكات، ولا يمكنه أن يحصل على أية تجربة من ارتباطها بالموضوعات. فافتراض
مثل هذا الارتباط إذاً، لا يقوم على أيّ اساسٍ معقول.
إن اللجوء إلى صدقِ الكائن الأسمى لإثبات
صدق حواسنا، لهو بالتأكيد انعطافٌ غيرُ متوقّع تماماً. فإذا كان لصدقِه أيُّ دورٍ
في هذه المسألة، فستكون حواسُنا معصومةً من الخطأ بكيفية تامة، لأنه من غير الممكن
أن يخدعنا. بالإضافة إلى أنه عندما نشك في العالم الخارجي فإنه يعسُر علينا أن نجد
حججاً نثبت بواسطتها وجود هذا الكائن الأسمى أو أية صفة من صفاته.
إنه إذاً، موضوعٌ سينتصر فيه أعمقُ الشكّاك
وأكثرُهم تفلسفاً، عندما يجهدون أنفسَهم في إدخال شكٍ شامل في كل موضوعات المعرفة
والبحث الإنسانيين. فقد يقولون: "هل تتبعون الغرائز وميول الطبيعة بقبولكم
لصدق الحواس؟ لكن هذه الغرائز ستقودكم إلى الاعتقاد أن الإدراك أو الصورة الحسّية
هي نفسها الموضوع الخارجي. هل تنكرون هذا المبدأ من أجل اعتناق رأي أكثر معقولية
يعتبر أن الإدراكات ما هي إلا تمثلاتٌ لشيءٍ ما في الخارج؟ إنكم بذلك تحيدون هنا
عن ميولكم الطبيعية، وعن أحاسيسكم الأكثر وضوحاً، ومع ذلك فليس بإمكانكم إرضاء
عقلكم الذي لن يستطيع العثور على أية حجّة مقنعةٍ نابعةٍ من التجربة لإثبات أن
الإدراكات مرتبطةٌ بموضوعاتٍ خارجية ما.
وهناك موضوعٌ شكيّ آخر ذو طبيعة مماثلة،
مستمَدّ من أكثر الفلسفات عمقاً، والذي قد يستحقّ انتباهنا، إذا كان من اللازم أن
نغوص إلى أغوارٍ عميقةٍ جداً، من أجل أن نكتشف حججاً واستدلالاتٍ يمكن بالكاد،
استخدامها في الوصول إلى أيِّ هدفٍ جِدّيّ.
فجميع الباحثين المعاصرين يُقِرّون بأن كل
الكيفيات الحسّية للأشياء، كالصلب، والرخو، والحار، والبارد، والأبيض، والأسود
إلخ.. ليست سوى كيفيات ثانوية لا توجد في الموضوعات ذاتِها، وإنما هي إدراكاتٌ
ذهنية لا تعكس أيَّ مثالٍ أصليّ أو نموذج خارجي. وإذا قبلنا هذا بالنسبة للكيفيات
الثانوية، فينبغي أن نقبل نفسَ الأمر كذلك بالنسبة لما يسمى بالكيفيات الأولى. أي
كيفيات الامتداد والصلابة. ولا يمكن أن يكون لهذه الأخيرة الحقَّ في هذه التسمية
أكثر من الأولى. إن فكرة الامتداد مكتسبةٌ اكتساباً كلياً بواسطة حاسّة البصر وحاسة
اللمس، وإذا كانت كل الكيفيات المدرَكة بالحواس موجودةً في الذهن لا في الموضوع،
فإن نفسَ النتيجة تنطبق على فكرة الامتداد التي تتعلق تعلقاً كلياً بالأفكار
الحسّية أو بأفكار الكيفيات الثانوية، ولا شيء يمكن أن ينقذنا من هذه النتيجة إلا
التأكيد بأننا نحصل على أفكارِ الكيفيات الأولى عن طريق التجريد، وهذا رأي، إذا ما
فحصناه بعناية، سنجده غير معقول، بل ومحال. إن الامتداد الذي لا يمكن لمسُه ولا
رؤيتُه، لهو امتداد لا يمكن تصوره إطلاقاً، وأي امتدادٍ ملموس ومرئيّ لا يكون صلباً
ورخواً، ولا أسودَ أو أبيضَ، يتجاوز حدود التصوّر البشري. فلنحاول أن نتصوّر
مثلثاً ليس متساوي الساقين ولا مختلف الأضلاع، وليس له أيُّ طول أو تناسب معيّن
بين أضلاغه؛ سندرك إذّاك استحالة كل هذه المفاهيم الاسكولائية المتعلقة بالتجريد
والأفكار العامة. (1)
وهكذا، إذاً، فإن الاعتراض الفلسفي الأول
ضد شهادة الحواس أو ضد القول بالوجود الخارجي يتمثّل في ما يلي: وهو أن مثل هذا
الرأي إذا ما أسسناه على الغريزة سيناقض العقل، وإذا ما أرجعناه للعقل سيناقض
الغريزة الطبيعية ودون أن يحمل معه في نفس الوقت أية بداهةٍ عقليّة لإقناع أيِّ
باحثٍ نزيه. أما الاعتراض الثاني فيذهب إلى أبعدَ من ذلك ويقدم هذا الرأيَ كما لو
كان مضاداً للعقل، خصوصاً إذا كان من مبادئ العقل اعتبارُ أن الكيفيات الحسّية
كلها موجودةٌ في العقل لا في الموضوع. جرّدوا المادة من كل كيفياتها المعقولة،
أوّلية كانت أم ثانويّة، فستقضون عليها بصورةٍ ما، ولن تستبقوا إلا شيئاً ما
مجهولاً لا يمكن تفسيره، هو سبب إدراكاتنا، وهو مفهومٌ ناقصٌ إلى حدّ أن أيّ شاكٍّ
لن يجشم نفسه عناء محاربته.
1ـ هذه الحجة مستمدة من الدكتور باركلي، إذ من الأكيد أن أغلب كتابات هذا الكاتب الألمعي تشكل أحسن الدروس في الشكّية التي يمكن أن نجدها عند الفلاسفة القدامى أو المحدثين بدون أن نستثني بايل. ومع ذلك فإنه يصرح في العنوان (وعن حق بدون شك) بأنه ألّف كتابه ضدّ الشكاك مثلما هو ضد الملحدين والمفكرين المتحررين. وكل الحجج التي يوردها كانت في الواقع شكية خالصة، رغم أن القصد منه كان شيئاً آخر. ويظهر هذا في كونها لا تقبل أيّ جواب. ولا تولد أي اقتناع. إن الأثر الوحيد الذي تتركه في اللحظة هو الدهشة والحيرة والانزعاج، وهو ما تؤدي إليه النزعة الشكّية.
الفصل الثاني:
قد يبدو من الشطط أن يسعى الشكاك إلى تحطيم
العقل بالحجج العقلية والبراهين، لكن يبقى هذا هو غاية كل أبحاثهم ومناقشاتهم، فهم
يُجهِدون أنفسَهم للعثور على اعتراضاتٍ سواءٌ على استدلالاتنا المجرَّدة أو على ما يتعلق بأمورٍ بالواقع والوجود.
ويستمدّ هؤلاء حجتهم الأساسية ضدّ
الاستدلالات المجرّدة من فكرتيّ المكان والزمان، وهما فكرتان قد تظهران واضحتين
ومعقولتين جداً في الحياة الجارية وبالنسبة لنظرةٍ سطحيّة. لكن عندما يتم فحصها عن
طريق العلوم المتعمّقة (وهما يمثلان الموضوع الأساسي لهذه العلوم) فإنهما يقدمان
مبادئ تبدو مليئة بالاستحالات والتناقضات. فلم يحدث أبداً لأية عقيدة دينية، تم
اختراعها بهدف ترويض العقل الإنساني المتمرّد والسيطرة عليه، أن صدمت الحسّ العام
كما صدمته نظرية القسمة اللامتناهية للامتداد، بنتائجها التي عرضها الهندسيون
والميتافيزيقيون باحتفالية وبنوع من الانتصار والفرح. فأية كمّية واقعية أصغر
بكيفيّة لامتناهية من أية كمّية متناهية، تحتوي على كمّياتٍ أصغرَ منها هي نفسِها
بشكلٍ لامتناه، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. هذا، إذاً، بناء جد جريء وعجيب إلى
حدّ أنه أضخم من أن يتحمّله أيّ نوعٍ من أنواع البراهين المزعومة، لأنه يصدم مبادئ
العقل البشري الأكثر وضوحاً وبداهةً (2).
2ـ من المناقشات التي أثيرت حول النقطة الرياضية ، ينبغي علينا أن نقبل بوجود نقط فيزيائية، أعني أجزاء من الامتداد لا تقبل لا القسمة ولا النقصان سواءٌ بالنسبة للبصر أو المخيّلة. إن هذه الصورة الماثلة في المخيّلة أو للحواس، هي إذاً غير قابلة للانقسام بصفة قطعية، وبالتالي فعلى علماء الرياضيات أن يقبلوا أنها أصغر بما لا يتناهى من المرات من أي جزء فعلي ممتد؛ ومع ذلك فلا شيء يبدو أكثر يقيناً للعقل من كون عدد لامتناهٍ من هذه النقط يركب امتداداً لامتناهياً. فكم سيكون أكثر لاتناهياً عدد هذه الجزيئات من الامتداد اللامتناهية الصغر، والتي نفترض فيها أيضاً أنها لا تقبل القسمة بكيفية لامتناهية.
لكن ما يجعل الأمر أكثر غرابةً أن هذه الآراء التي تبدو غير معقولة، تستند على سلسلةٍ من الاستدلالات الأكثر وضوحاً. وإنه ليس بإمكاننا قبول المقدّمات بدون الاعتراف بالنتائج. فلا شيء يمكن أن يكون أكثر إقناعاً وبعثاً على الارتياح من تلك النتائج المتعلّقة بخصائص الدوائر والمثلّثات؛ ورغم ذلك، فبمجرد تقبلنا لهذه الخصائص كيف يمكننا إنكار أن زاوية التماس بين دائرةٍ ومماسها هي أصغر بكيفيّة لا متناهية من أية زاوية مستقيمة الضلعين، كما يمكنك أن تعمل على الزيادة في قطر الدائرة في اتجاه اللامتناهي، بحيث تصبح زاوية التماس هذه أصغر إلى ما لانهاية، وأن زاوية التماس بين منحنياتٍ أخرى ومماساتها يمكن أن تكون أصغر بكيفيّة لامتناهية من تلك التي تتشكل بين دائرةٍ ما ومماسّها، وهكذا إلى ما لانهاية؟ إن البرهنة على هذه المبادئ تبدو متماسكة كتلك التي تثبت أن زوايا المثلّث الثلاث مساوية لقائمتين، رغم أن هذا الرأي الأخير طبيعي وسهل، والسابق ملئ بالتناقض واللامعقول، فالعقل هنا يبدو كما لو ألقيَ به في نوعٍ من الدهشة والتردّد يدفعه ـ حتى بدون أيحاءات أيّ فيلسوف شاكّ ـ إلى الاحتراص من ذاته، ومن الأرض التي يمشي عليها. فهو يرى نوراً ساطعاً يضيء بعض الأرجاء، لكن هذا النور يختلط مع الظلمة الحالكة. وبين هذا وذاك يكون منبهراً ومتردداً إلى حدٍّ يمكنه بالكاد أن يقرّر في موضوعٍ ما بيقينٍ واقتناع.
2ـ من المناقشات التي أثيرت حول النقطة الرياضية ، ينبغي علينا أن نقبل بوجود نقط فيزيائية، أعني أجزاء من الامتداد لا تقبل لا القسمة ولا النقصان سواءٌ بالنسبة للبصر أو المخيّلة. إن هذه الصورة الماثلة في المخيّلة أو للحواس، هي إذاً غير قابلة للانقسام بصفة قطعية، وبالتالي فعلى علماء الرياضيات أن يقبلوا أنها أصغر بما لا يتناهى من المرات من أي جزء فعلي ممتد؛ ومع ذلك فلا شيء يبدو أكثر يقيناً للعقل من كون عدد لامتناهٍ من هذه النقط يركب امتداداً لامتناهياً. فكم سيكون أكثر لاتناهياً عدد هذه الجزيئات من الامتداد اللامتناهية الصغر، والتي نفترض فيها أيضاً أنها لا تقبل القسمة بكيفية لامتناهية.
لكن ما يجعل الأمر أكثر غرابةً أن هذه الآراء التي تبدو غير معقولة، تستند على سلسلةٍ من الاستدلالات الأكثر وضوحاً. وإنه ليس بإمكاننا قبول المقدّمات بدون الاعتراف بالنتائج. فلا شيء يمكن أن يكون أكثر إقناعاً وبعثاً على الارتياح من تلك النتائج المتعلّقة بخصائص الدوائر والمثلّثات؛ ورغم ذلك، فبمجرد تقبلنا لهذه الخصائص كيف يمكننا إنكار أن زاوية التماس بين دائرةٍ ومماسها هي أصغر بكيفيّة لا متناهية من أية زاوية مستقيمة الضلعين، كما يمكنك أن تعمل على الزيادة في قطر الدائرة في اتجاه اللامتناهي، بحيث تصبح زاوية التماس هذه أصغر إلى ما لانهاية، وأن زاوية التماس بين منحنياتٍ أخرى ومماساتها يمكن أن تكون أصغر بكيفيّة لامتناهية من تلك التي تتشكل بين دائرةٍ ما ومماسّها، وهكذا إلى ما لانهاية؟ إن البرهنة على هذه المبادئ تبدو متماسكة كتلك التي تثبت أن زوايا المثلّث الثلاث مساوية لقائمتين، رغم أن هذا الرأي الأخير طبيعي وسهل، والسابق ملئ بالتناقض واللامعقول، فالعقل هنا يبدو كما لو ألقيَ به في نوعٍ من الدهشة والتردّد يدفعه ـ حتى بدون أيحاءات أيّ فيلسوف شاكّ ـ إلى الاحتراص من ذاته، ومن الأرض التي يمشي عليها. فهو يرى نوراً ساطعاً يضيء بعض الأرجاء، لكن هذا النور يختلط مع الظلمة الحالكة. وبين هذا وذاك يكون منبهراً ومتردداً إلى حدٍّ يمكنه بالكاد أن يقرّر في موضوعٍ ما بيقينٍ واقتناع.
إن لامعقوليّة هذه القرارات الجريئة للعلوم
المجرّدة تبدو ملموسةً عندما يتعلّق الأمر بالزمان أكثر منها عندما يتعلق الأمر
بالامتداد. فهناك عدد لامتناهٍ من أجزاءٍ واقعيّة للزمان تتعاقب وتتلاشى الواحدةُ
بعدَ الأخرى، ويبدو هذا جدّ متناقض إلى حدّ نعتقد معه أنه لا يوجد شخصٌ، لم تفسد
العلوم حكمَه بدل أن تصلحه، بإمكانه أن يقبل ذلك.
وبالرغم من ذلك، فينبغي أن يبقى العقل غيرَ
مرتاحٍ وقلقاً، حتى إزاء تلك النزعة الشكّية التي تدفعه إليها هذه الاستحالات
والتناقضات الظاهرة. فكيف يمكن أن تتضمّن فكرةٌ واضحةٌ ومتميّزة عواملَ تجعلُها
متناقضة مع ذاتها أو مع أية فكرةٍ واضحة ومتميّزة أخرى، إن هذا مما لا يمكن فهمه
إطلاقاً. وربما كان أكثر استحالةً من أية قضيّة يمكننا تصوّرها، إلى درجة أن لا
شيء يمكن أن يكون أكثر بعثاً على الارتياب أو أكثر تضمّناً للشكّ والتردّد من هذه
النزعة الشكّية ذاتها التي تنشأ عن بعض النتائج الغريبة للهندسة أو لعلم الكمّ. (3)
3ـ يظهر لي أنه ليس مستحيلاً تجنب هذه المغالطات إذا ما قبلنا أنه لا يوجد في الحقيقة إلا أفكارٌ مجردةٌ أو عامة، وأن كل الأفكار العامة هي في الواقع أفكارٌ فردية مرتبطة بلفظٍ عام يستدعي، عند الاقتضاء أفكاراً فردية أخرى مماثلة، في بعض الظروف، للفكرة الماثلة للذهن. وهكذا فعندما نتلفظ بكلمة "حصان" فإننا نتصور مباشرة فكرة حيوان أسود أو أبيض، له قامةٌ وشكل متميزين، ولما كنا نطبق هذه الكلمة بشكلٍ اعتيادي على حيوانات لها ألوان وأشكال وقامات أخرى؛ فإن هذه الأفكار، رغم أنها ليست ماثلةً الآن في المخيّلة، يكون استحضارها هيّناً، وبالتالي يتقدم استدلالنا واستنتاجنا بنفس الشكل، كما لو كانت هذه الصفات حاضرةً الآن. إذا قبلنا هذا الرأي، ويبدو أنه معقول، فينتج عنه أن كل الأفكار المتعلقة بالكم، والتي هي موضوع استدلال علماء الرياضيات، لا تكون إلا أفكاراً فردية كما توحي بها الحواس والمخيلة، وأنها بالتالي لا يمكن أن تقبل الانقسام إلى ما لا نهاية. ويكفي الآن أن نعطي هذه الخلاصة دون أن نتعمق أكثر ومن الأكيد أنه من مصلحة كل أولئك الذين يحبون العلم ألا يعرضوا أنفسهم، عن طريق النتائج التي يتوصلون إليها، لسخرية الجهلة واحتقارهم، ويبدو أن هذا هو الحل الأكثر نجاعة لمثل هذه الصعوبات.
أما الاعتراضات الشكّية على البداهة
الأخلاقية أو على الاستدلالات التي تتعلّق بالأمور الواقعيّة، فهي إما اعتراضاتٌ
عامّية أو فلسفيّة. وتصدر الاعتراضات العامّية إما عن الضغف الطبيعي للعقل البشري،
أو عن الآراء المتناقضة التي تكوّنت عبر عصورٍ مختلفة وعند أممٍ متباينة، أو عن
تغيّر أحكامِنا في حالة المرض والصحة، الشباب والشيخوخة، في السرّاء والضرّاء، في
التناقض الدائم في آراء ومشاعر كل شخص على حدة، ويمكن إضافةُ موضوعاتٍ أخرى على
هذه الشاكلة. ولست في حاجةٍ إلى الإلحاح أكثر بصدد هذه النقطة. وهذه الاعتراضات
ضعيفةٌ بكل تأكيد، لأنه كما هو الأمر في الحياة الجارية، نستدل بدون انقطاعٍ في
الأمور المتعلقة بالواقع والوجود، ولا يمكننا أن نعيش، دون استعمال هذا النوع من
الحجاج على نحوٍ مستمر، فأي اعتراض عاميّ مستمدّ من هذا، هو بالضرورة غير كافٍ
لتحطيم هذه البداهة. إن أكبر محطّم للنزعة البيرونية [الشكّية] أو للمبادئ المتطرّفة للنزعة
الشكّية، هو الفعل والعمل، ومشاغل الحياة الجارية، إذ إن هذه المبادئ يمكن أن
تزدهر في المدارس وتنتصر فيها؛ حيث يصعب، في الواقع، بل يستحيل دحضُها. إلا أنها
بمجرد خروجِها من الظل، وبواسطة حضور الأشياء الواقعيّة التي تحرّك أهواءنا
وعواطفَنا، تصبح في وضعٍ متعارض مع مبادئ طبيعتنا الأكثر قوّة، فتتبخّر كالدخان،
وتترك الشاكَّ الأكثر تشدّداً، في نفس الوضعيّة التي يعيها البشر الآخرون.
فمن الأحسن، إذاً، أن يمكث الشاكُّ في
دائرته الخاصة، وأن يطوّر الاعتراضات الفلسفية التي تنشأ عن أبحاثٍ أكثر عمقاً، إذ
يبدو أنه يجد فيها مجالاً أوسع للانتصار؛ وذلك عندما يلحّ، وهو محقٌّ في ذلك، على
أن السبب الذي يدفعُنا إلى الاعتقاد بأن شيئاً واقعياً ما يتجاوز شهادة الحواس أو
الذاكرة، يصدر صدوراً كلّياً عن العلاقة بين علّة ومعلول، وإنه ليست لدينا أية
فكرة عن هذه العلاقة إلا تلك القائمة بين موضوعين، يرتبط أحدُهما بالآخر في أغلب
الأحيان، وأنه ليست لدينا أية حجة تقنعنا بأن الموضوعات التي ارتبطت في تجربتنا في
أغلب الحالات، ترتبط في حالاتٍ أخرى بنفس الكيفيّة، وأن ما يؤدي بنا إلى هذا
الاستدلال ليس سوى العادة، أو غريزة ما في طبيعتنا يعسر بدون شكّ مقاومتُها، رغم
أنها كما هو الحال في غرائز أخرى، قد تكون خاطئة وخادعة. إن الشاك بتأكيده على هذه
الموضوعات يظهر قوّتَه، أو في الحقيقة وبالأحرى، ضعفَه وضعفَنا؛ ويبدو في الوهلة
الأولى على الأقل، أنه يحطّم كل توكيدٍ وكل اقتناع. وقد يمكن تطوير هذه الحجج
أكثر، لو ظهر هنا أنها قد تؤدي إلى خيرٍ أو فائدةٍ ما دائمين للمجتمع.
ذلك لأن هذا الاعتراض هو الاعتراض الأساسي
والأكثر إحراجاً للنزعة الشكّية المتطرّفة، إذ إنه لا خير ينتظر منها ما دامت في
كل قوّتها وحيويتها. فما علينا إلا أن نسأل هذا النوع من الشكاك، ما هو قصده؟ وما
الذي يستهدفه من كل هذه الأبحاث الغريبة؟ فستجده على الفور مرتبكاً ولا يعرف بماذا
يجيب.
فالكوبرنيقي أو البطليموسي الذي يدافع كلٌّ
منهما عن نظام فلكي مختلف، يأملان في أن يحدثا قناعةً ثابتةً ومستمرّة. والرواقي
والأبيقوري يطوران مبادئ قد لا تبقى دائمة، لكن سيكون لها تأثير في التصرّف
والسلوك. لكن الشاك البيروني لا يمكنه أن يطمع في أن يكون لفلسفته أيُّ تأثير ثابت
على الذهن، أو حتى إن حصل، أن يكون تأثيرها نافعاً للمجتمع. بل على العكس من ذلك،
سيكون مضطراً للإقرار، إذا كان سيقرّ بشيء، بأن كل حياةٍ بشريّة ستنقرض بالضرورة،
إذا ما سادت مبادئُه سيادةً شاملة وقطعيّة. إذ سيتوقّف حينئذٍ كل قولٍ وكل فعل،
ويبقى الناس في حالةٍ من الفتور والسبات، حتى تضع ضرورات الطبيعة، التي لم تتم
تلبيتها حداً لوجودهم البئيس. صحيح أنه لا ينبغي أن نتخوّف كثيراً من وقوع حدثٍ
مميتٍ كهذا. ومبدئياً، فالطبيعة هي دائماً الأقوى. ومهما حاول الشاك البيروني أن
يلقي بنفسه أو بالآخرين، عن طريق استدلالاته المتعمقّة، في ذهول وبلبلة مؤقّتين،
فإن أول حدث من أحداث الحياة وأكثرها ابتذالاً، سيطرد كل هذه الشكوك والوساوس، وسيتركه
في كل ما يتعلق بالعمل والنظر مشابهاً لفلاسفة الفرق الأخرى، أو لأولئك الذين لم
ينشغلوا أبداً بأي بحثٍ فلسفي. وعندما سيستيقظ من حلمه، سيكون أول من يضحك على
نفسه، ويعترف أن اعتراضاته كلِّها ليست إلا تسليةً خالصة، لا يمكنها أن تؤدي إلى
شيءٍ سوى إظهار الوضع الغريب للإنسانية المضطرة للعمل والتفكير والاعتقاد، والتي
لا تستطيع، حتى عندما تبحث بكل عناية، الوصول إلى نتائجَ مرضيةٍ في ما يخص أساس هذه
العمليات، أو إبعاد الاعتراضات التي تقام ضدها.
الفصل الثالث:
حقاً، توجد نزعةٌ شكّية جدُّ معتدلة، أي
فلسفة أكاديمية يمكن أن تكون دائمة وفي نفس الوقت مفيدة، والتي يمكن أن تكون في
جزءٍ منها نتاج هذه البيرونية أو هذه الشكّية المتطرّفة، إذا ما صححنا، إلى حدٍّ
ما، ما فيها من شكوك غامضة بواسطة الحس المشترك والتأمل. إن جزءاً كبيراً من البشر
مجبولون بطبيعتهم ليكونوا وثوقيين ودوغمائيين في آرائهم، وما داموا لا يرَون
الموضوعت سوى من جانب واحد، وليست لهم أيُّ فكرةٍ عن الحجج المعاكسة لهم، فإنهم
يندفعون في تسرّع وراء المبادئ التي
يميلون إليها، ولا يتسامحون مع أيّ كان إذا كانت له مشاعر مضادة. إن التردد أو
التأرجح يحيّر ذهنهم ويكبح عاطفتهم ويعلّق فعلَهم. إنهم إذاً يستعجلون التخلّص من
هذه الحالة غير المريحة لهم، ويعتقدون أنه لا يمكنهم الابتعاد عنها كثيراً، بواسطة
عنف تأكيداتهم وعناد اعتقادهم. ولكن إذا ما تفطّن هؤلاء البرهانيون الدوغمائيون
إلى اختلالات الفكر البشري الغريبة، حتى وهو في حالته الأكثر كمالاً، وحتى ولو كان
دقيقاً وحذراً جداً في إصدار أحكامه، فإن مثل هذا التفكير سيدفعهم بطبيعة الحال
إلى كثير من التواضع والحيطة، ويقلل من رأيهم المحابي لذواتهم، ومن حكمهم المسبَق
ضد خصومهم. ويمكن للجهلة أن يفكروا في وضع العلماء الذين، رغم تمتعهم بمزايا البحث
والتأمل، فإنهم مع ذلك حذرون في أحكامهم، وإذا كان من بينهم من يميل به طبعُه إلى
العجرفة والعناد، فإن قليلاً من المسحة البيرونية يمكن أن تقضي على كبريائهم، وذلك
بإظهار أن تلك المزايا البسيطة التي حصلوا عليها، والتي تجاوزوا بها أقرانهم، هي
ضئيلة بالمقارنة مع الحيرة والتردد الشاملين اللصيقين بالطبيعة الإنسانية. وعلى
العموم، فهناك درجةٌ ما من الشكّ ومن الحذر والتواضع ينبغي أن تصاحب دائماً
الإنسان الذي يفكّر تفكيراً سليماً، في كل أنواع البحث والتقرير.
ويوجد نوعٌ آخرُ من النزعة الشكّية
المعتدلة التي يمكن أن تكون نافعةً للبشر، والتي يمكن أن تكون نتاجاً طبيعياً
لشكوك البيرونية وحرصها الشديد، تتمثّل في حصر أبحاثنا في الموضوعات الأكثر تكيّفاً
مع طاقة الذهن البشري الضيّقة. إن خيال الإنسان سامٍ بطبيعته، مفتونٌ بكل ما هو
بعيد وعجيب، ويندفع بدون رقيب ليتوغّل في الأرجاء القصوى للمكان والزمان، حتى
يتجنّب الموضوعات التي حوّلتها العادةُ إلى موضوعاتٍ مألوفة له جداً. إن الحكم
الصائب يتبع منهجاً مناقضاً، فهو يتجنّب أيَّ بحثٍ بعيد ومتعال، لكي يقتصر على
الحياة الجارية والموضوعات التي تتعلق بالممارسة والتجربة اليوميين، ويترك
الموضوعات الأكثر سمواً إلى محسّنات الشعراء والخطباء أو إلى مهارات الرهبان
والسياسيين. وحتى نتوصّل إلى تحديد ملائم، لا شيء يكون أكثر فائدةً من أن نكون
مقتنعين اقتناعاً كلّياً بقوّة الشك البيروني، وباستحالة وجود أيّ شيءٍ يمكن أن
يخلّصنا منه إلا سلطة الغريزة الطبيعية القوية. إن أولئك الذين يميلون إلى الفلسفة
سيستمرون دائماً في أبحاثهم، لأنهم بالإضافة إلى المتعة المباشرة المرتبطة بمثل
هذا الاهتمام، يعتبرون أن الأحكام الفلسفية ليست إلا تأملات الحياة الجارية بعد أن
تمّ تنظيمها وتصحيحها. ولكن لن يحاولوا أبداً الذهاب إلى ما هو أبعد من الحياة
الجارية، ما داموا يأخذون بعين الاعتبار قصور المَلَكات التي يستخدمونها، وضيق مداها
وعملياتها غير الصائبة. وإذا كنا لا نستطيع أن نعطي تبريراً مرضياً لاعتقادنا، بعد
ألف تجربة، بأن حجراً سوف يسقط أو أن النار سوف تحرق، فهل يمكن أن يرضينا الحكم
الذي نكوّنه بصدد أصل العوالم، وحالة الطبيعة منذ الأزل وإلى الأبد؟
هذا التحديد الضيّق لأبحاثنا هو في الحقيقة
معقولٌ جداً على كل حال، إذ يكفي القيام بفحص بسيطٍ جداً لقدرات الفكر البشري
الطبيعية ومقارنتها بموضوعاتها، حتى يصبح مقبولاً لنا. وسنعثر إذّاك على ما هي
الموضوعات الملائمة للعلم وللبحث.
ويظهر لي أن الكمّ والعدد هما وحدَهما
موضوعا العلم المجرّد والبرهنة، وإن كل المحاولات الرامية إلى تعميم هذا الصنف
الكامل من المعرفة إلى ما وراء هذه الاحدود، لن تكون إلا محض سفسطة ووهم. ولأن
الأجزاء المكوّنة للكم وللعدد متشابهة تشابهاً تاماً، فإن علاقاتها تصبح معقدةً
ومتشابكة، ولن يكون شيء أكثر طرافة، وفي الوقت نفسه كثر فائدة، من استخدام وسائطَ
متنوعة لاستقصاء ما بينها من تساوٍ ولاتساوٍ عبر مظاهرها المختلفة. ولكن بما أن باقي الأفكار متميّزة بوضوح، ويختلف
بعضها عن البعض الآخر، فلن نستطيع أبداً بفحصنا الدقيق، أن نفعل أكثر من ملاحظة
هذا التنوع، ونقرر بواسطة تفكير واضح، أن شيئاً ما لا يكون شيئاً آخر. وإذا كانت
ثمة أية صعوبة في هذه الأحكام، فإنها ترجع بكيفيّة كلية إلى المعنى غير المحدد
للكلمات، وهو الأمر الذي يتم تصحيحه بتعريفاتٍ أكثرَ دقة. فلا يمكن معرفة أن مربع
الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين إلا إذا كانت المصطلحات محددة بدقة، دون
الحاجة إلى سلسلة من الاستدلال والبحث. ولكن
لإقناعنا بالقضية حيث لا توجد مُلكيّة لا يمكن أن يوجد ظلم، هناك فقط ضرورة
لتحديد المصطلحات وبيان أن الظلم هو اغتصاب للمُلكية.
إن هذه القضية
ليست في الحقيقة إلا تعريفاً ناقصاً جدا.
ويمكن أن نقول الشيء نفسه بالنسبة لكل الاستدلالات القياسية المزعومة التي يمكن
العثور عليها في كل فروع المعرفة، باستثناء علوم الكم والعدد، والتي يمكن أن
نقول عنها بكل اطمئنان، على ما أعتقد،
بأنها وحدها الموضوعات الحقيقية للمعرفة والبرهان.
إن كل المباحث الإنسانية الأخرى تهتم
بقضايا الواقع والوجود فقط، وهذه لا يمكن البرهنة عليها بالطبع. فكل ما هو موجود
يمكن ألا يوجد. وليست هناك واقعة يتضمن نفيها تناقضاً ما. وعدم وجود أيّ كائن،
بدون استثناء، هي فكرة واضحة ومتميّزة تماماً مثل فكرة وجوده. والقضية التي تؤكد
بأنه غير موجود، حتى ولو كانت خاطئة، لا يقل تصورها وفهمها عن القضية التي تؤكد
بأنه موجود. ويختلف الأمر بالنسبة للعلوم الحقة، فكل قضية غير صادقة تكون غامضة
وغير مفهومة. فالقضية "الجذر التكعيبي للعدد 64 يساوي نصف العدد 10" هي
قضية خاطئة ولا يمكن أبداً تصورها بوضوح. ولكن أن نقول بأن قيصر أو الملاك جبريل
أو اي كائن آخر لم يوجد أبداً، فهذه قد تكون قضية خاطئة، ولكنها مع ذلك لا تنطوي
على أي تناقض ويمكن تصورها جيداً.
لا يمكن البرهنة، إذاً، على وجود أي كائن
إلا بحجج مستمدّة من علّته أو من معلوله، وترتكز هذه الحجج بشكلٍ كلي على التجربة.
أما إذا استدللنا قبلياً، فيمكن لأي شيء أن يظهر كما لو كان قادراً على إنتاج أيّ
شيء. فسقوط حجر يمكن، بناءً على ذلك، أن يطفئ الشمس، كما يمكن لرغبة إنسان أن
تتحكّم في مدارات الكواكب. إن التجربة وحدها تعلمنا طبيعة العلّة والمعلول
وحدودهما، وتجعلنا قادرين على استنباط وجود موضوع من موضوع آخر. وهذا هو أساس
الاستدلال الإخلاقي الذي يشكل القسط الأكبر من المعرفة الإنسانية، والذي هو مصدر
كل فعلٍ وكل سلوكٍ بشريّين.
إن الاستدلالات الأخلاقية تنصب على الوقائع
الجزئية أو على الوقائع العامة. وكل مداولات الحياة تتعلق بالأولى كما هو الشأن
كذلك في كل مباحث التاريخ، والكرونولوجيا، والجغرافيا وعلم الفلك.
أما العلوم التي تعالج الوقائع العامة فهي
السياسة، والفلسفة الطبيعية، والفيزياء والكيمياء إلخ.. ونبحث فيها عن كيفيات نوعٍ
محدّد من الموضوعات، وعن عللها ومعلولاتها.
أما علم الدين أو اللاهوت، فهو بحكم كونه
يبرهن على وجود الألوهية وخلود الأرواح، يتكوّن من استدلالات تختص في جزء منها
بالوقائع الجزئية، وفي جزء آخر بالوقائع العامة. إنه يتأسس على العقل بقدر ما
يعتمد على التجربة. لكن أساسه الأفضل والأمتن هو الإيمان والوحي الإلهي.
أما علم الأخلاق والنقد الفنّي فهما ليسا
موضوعين خاصّين بالعقل بقدر ما هما موضوعان للذوق والإحساس. ونحن نحسّ بالجمال
سواءٌ كان أخلاقياً أم طبيعياً أكثر مما ندركه. وإذا ما قمنا باستدلالات بخصوصه
وحاولنا تثبيت معيارٍ لتذوقه، فإنا نجد أنفسَنا أمام واقعٍ جديد هو الأذواق العامة
للبشر أو شيئاً من هذا القبيل، والذي يمكن أن يكون موضوعاً للاستدلال والبحث.
عندما نتجوّل عبر المكتبات، مقتنعين بهذه
المبادئ، فإي تخريب يجب أن نقوم به؟ فإذا ما تناولنا بيدنا مجلداً، كيفما اتفق، في
اللاهوت أو الميتافيزيقا المدرسية مثلاً، لنسأل أنفسنا: هل يضم استدلالات مجردة
تتعلق بالكم أو بالعدد؟ كلا. هل يضم استدلالات تجريبية تتعلق بأمور الواقع والوجود؟
كلا. ألقِ به إذاً في النار، لأنه لا يمكن أن يضمّ سوى السفسطة والوهم.
هوامش:
1ـ هذه الحجة مستمدة من الدكتور باركلي، إذ
من الأكيد أن أغلب كتابات هذا الكاتب الألمعي تشكل أحسن الدروس في الشكّية التي
يمكن أن نجدها عند الفلاسفة القدامى أو المحدثين بدون أن نستثني بايل. ومع ذلك فإنه
يصرح في العنوان (وعن حق بدون شك) بأنه ألّف كتابه ضدّ الشكاك مثلما هو ضد
الملحدين والمفكرين المتحررين. وكل الحجج التي يوردها كانت في الواقع شكية خالصة،
رغم أن القصد منه كان شيئاً آخر. ويظهر هذا في كونها لا تقبل أيّ جواب. ولا تولد أي
اقتناع. إن الأثر الوحيد الذي تتركه في اللحظة هو الدهشة والحيرة والانزعاج، وهو
ما تؤدي إليه النزعة الشكّية.
2ـ من المناقشات التي أثيرت حول النقطة
الرياضية ، ينبغي علينا أن نقبل بوجود نقط فيزيائية، أعني أجزاء من الامتداد لا
تقبل لا القسمة ولا النقصان سواءٌ بالنسبة للبصر أو المخيّلة. إن هذه الصورة
الماثلة في المخيّلة أو للحواس، هي إذاً غير قابلة للانقسام بصفة قطعية، وبالتالي
فعلى علماء الرياضيات أن يقبلوا أنها أصغر بما لا يتناهى من المرات من أي جزء فعلي
ممتد؛ ومع ذلك فلا شيء يبدو أكثر يقيناً للعقل من كون عدد لامتناهٍ من هذه النقط
يركب امتداداً لامتناهياً. فكم سيكون أكثر لاتناهياً عدد هذه الجزيئات من الامتداد
اللامتناهية الصغر، والتي نفترض فيها أيضاً أنها لا تقبل القسمة بكيفية لامتناهية.
3ـ يظهر لي أنه ليس مستحيلاً تجنب هذه
المغالطات إذا ما قبلنا أنه لا يوجد في
الحقيقة إلا أفكارٌ مجردةٌ أو عامة، وأن كل الأفكار العامة هي في الواقع أفكارٌ
فردية مرتبطة بلفظٍ عام يستدعي، عند الاقتضاء أفكاراً فردية أخرى مماثلة، في بعض
الظروف، للفكرة الماثلة للذهن. وهكذا فعندما نتلفظ بكلمة "حصان" فإننا
نتصور مباشرة فكرة حيوان أسود أو أبيض، له قامةٌ وشكل متميزين، ولما كنا نطبق هذه
الكلمة بشكلٍ اعتيادي على حيوانات لها ألوان وأشكال وقامات أخرى؛ فإن هذه الأفكار،
رغم أنها ليست ماثلةً الآن في المخيّلة، يكون استحضارها هيّناً، وبالتالي يتقدم
استدلالنا واستنتاجنا بنفس الشكل، كما لو كانت هذه الصفات حاضرةً الآن. إذا قبلنا
هذا الرأي، ويبدو أنه معقول، فينتج عنه أن كل الأفكار المتعلقة بالكم، والتي هي
موضوع استدلال علماء الرياضيات، لا تكون إلا أفكاراً فردية كما توحي بها الحواس
والمخيلة، وأنها بالتالي لا يمكن أن تقبل الانقسام إلى ما لا نهاية. ويكفي الآن أن
نعطي هذه الخلاصة دون أن نتعمق أكثر ومن الأكيد أنه من مصلحة كل أولئك الذين يحبون
العلم ألا يعرضوا أنفسهم، عن طريق النتائج التي يتوصلون إليها، لسخرية الجهلة واحتقارهم،
ويبدو أن هذا هو الحل الأكثر نجاعة لمثل هذه الصعوبات.
4ـ إن هذه القاعدة الكافرة التي تقول بها
الفلسفة القديمة، لا شيء يصدر عن لا شيء، والتي تستبعد خلق المادة، تكف عن أن تبقى
قاعدة حسب هذه الفلسفة. ليس فقط لأن إرادة الكائن الأسمى يمكن أن تخلق المادة، بل
لأنه كما نعرف قبلياً، يمكن لإرادة أيّ كائن آخر أو أيّ علّةٍ أخرى ـ يحددها
الخيال الأكثر جموحاً ـ أن تخلقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق