الأساطير القومية
(فصل من
كتاب "لماذا يكذب القادة؟")
جون جي.
ميرشيمر
ترجمة عادل النجّار
مع ظهور القومية الوطنية في القرنين
الماضيين، سَعَت عرقيّاتٌ ومجموعةُ قوميّاتٍ وطنيةٍ عديدةٍ حولَ العالمِ نحو تأسيس
دُولِها. التي عُرِفت بـ "الدول القومية". وفي أثناء عملية البناء هذه،
حاولَتْ كلُّ مجموعةٍ أن تخلقَ أساطيرَها الخاصةَ المقدّسةَ عن ماضيها، تصوّرها
بشكل أفضل، وتصوّر خصومها من المجموعات القومية الأخرى بصورةٍ سلبية. وقد كتب
أستاذ العلوم السياسية بجامعة MIT الأميركية، ستيفن فان إفيرا، أنّ هذه
الأساطيرَ الشوفينيةَ "تأتي في أشكالٍ ثلاثة: تقديسُ الذات، تنقيتُها من
الأخطاء، والإضرارُ بالآخر". ويتطلب اختراعُ هذه الأساطير ونشرُها على نطاق
واسع حول العالم الكذبَ في الوقائعِ التاريخية أو الأحداثِ السياسية المعاصرة.
"الغلطة التاريخية"، كما وصفها المنظّر السياسي الفرنسي أرنست رينان،
تشكّل "عنصراً مهمّاً في صناعة الدولة".
لماذا صنعَت النخبةُ الأسطورةَ القوميّة؟
تتحمّل النخبة التي تسيطر على مسارات
التفكير في دولةٍ ما مسؤوليةً كبيرة عن خلق هذه الأساطير، وهم يفعلون ذلك لسببين
أساسيّين. تساعد هذه القصص الكاذبة في تعضيد التضامن الجماعي؛ وكذلك تساعد في خلق
شعورٍ قويٍّ بالوطنيّة. وهو عنصر أساس في بناء الدولة والمحافظة عليها. وعلة وجه
الخصوص، فإن هذه القصص الخيالية تضفي على المجموعة العرقية أو القومية الإحساس
بالانتماء إلى مشروعٍ نبيل، الذي لا يستدعي الفخر به فحسب، بل يستحقّ تحمّل
المصاعب لأجله، والقتال والموت في سبيله إن استدعى الأمر. تظهر هذه الحاجة إلى
إبراز الجوانب الإيجابية لأمةٍ ما في القانون الذي أقرّتهالحكومةُ الفرنسية في
فبراير 2005، واذي ألزم اكتب امقررات التاريخ في مدارسِ الثانوية العامة بإبراز
الجوانب الإيجابية في التاريخ الاستعماري الفرنسي.
بيد أنه من المهمّ الإشارة إلى أن خلقَ
الأساطير القوميّة ليس مجرّد تأليفِ بعضِ النخب قصصاً مختلَقَةً وتمريرها إلى
جماهيرهم. فالحقيقة هي أنّ الناس العاديّين يكونون عطشى لتلك الأساطير؛ فهم في
حاجةٍ إلى سماعِ قصصٍ وحكاياتٍ عن الماضي، تُصَوِّرُهُم بأنهم أخيارٌ ذوو قبعات
بيضاء، بمواجهة القوميّات الأخرى ذوي القبّعات السوداء. وبالتالي، فإنّ خلقَ
الأساطير القوميّة هو فعلٌ مدفوعٌ من الأدنى كما هو مدفوعٌ كذلك من الأعلى.
يخلقُ أفرادُ
النخبةِ الأساطيرَ القوميّةَ أيضاً لاكتساب مشروعيّةٍ دوليّة والعائد من وراء هذا
قليل، لأنه من الصعب جرّ الغرباء والأجانب إلى قصص تتعارض مع الروايات الموضوعيّة
للأحداي التاريخية. ومع ذلك، فهناك استثناءات لتلك القاعدة. فقد يتمكن القادةُ من
"بيعِ" أساطيرِهم القوميّة لحليفٍ لصيقٍ تكون له عادةً مصلحةٌ في قبولها
وتصديقها. ففي بداية الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، خلقت النخبة
الألمانية أسطورةَ أن جيشهم ـ الفيرماخت ـ لم تكن له أيُّ علاقةٍ بقتل المدنيّين
الأبرياء على الجبهة الشرقيّة خلال تلك الحرب الوحشية. وقد قيل حينها إن جهاز
الاستخبارات إس إس ـ الذي يمثّل فئةً صغيرةً من الشعب الألماني ويرتبط بهتلر
بصورةٍ مباشرة ـ هو المسؤول عن تلك الأعمال المرعبة. فالجيش الألماني، استناداً
إلى هذه الرواية، كانت يداه نظيفتَين.
لقد
"بلعَت" الولايات المتحدة هذه القصّة الكاذبة خلال السنوات الأولى من
الحرب الباردة، حين كانت تعمل بشكلٍ لصيقٍ مع نازيّين سابقين، ومتعاونين مع
النازيّين، ومنتسبين سابقين إلى الجيش الألماني، وأيضاً لأنها كانت تعمل على إعادة
تأهيل الجيش الألماني، وجعلِه جزءاً لا يتجزّأ من حلف شمال الأطلسي. فلم يكن إذاً
مستغرباً، كما يذكر كريستوفر سمبسون في كتابه عن تجنيد واشنطن للنازيّين بعد الحرب
العالمية الثانية، أن "تترك مراجعة أكثر كتب التاريخ انتشاراً في الغرب عن
الحرب، مع استثناءاتٍ بسيطة، انطباعاً قويّاً بأن كل الوحشيّة التي تمّت في محارق
النازيّة كانت مسؤولية جهاز إس إس، وليس كل الجهاز أيضاً. غير أنه وفي أواخر
الستينيات، بدأ الباحثون الألمان في كشف النقاب عن القصة الحقيقية،وهي أن الجيش
الألماني كان جزءاً لا يتجزّأ من آلة القتل الألمانية التي تسبّبت في كلّ هذا
الدمار البشري خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن آنذاك، كان كلٌّ من الجيش
الألماني الجديد "البونديزفير" والناتو قد تأسسا بالفعل، فلم يعد تقبّل
حقيقة ما حصل على الجبهة الشرقية بين العامي 1939 و1945 يمثّل مشكلةً سياسيّةً
كبيرة للولايات المتحدة.
كذلك يحدث أحياناً
أن تُصدِرَ دولةٌ لديها جاليات مؤثرة وذات نفوذ قويّ في الشتات الأساطيرَ القوميةَ
لجالياته في الخارج. وأحسن مثال لهذه الظاهرة هو إسرائيل والجالية اليهودية في
أمريكا. فلم يكن للصهاينة أن يؤسسوا دولةً يهوديّةً في فلسطين من دون إبادةٍ
عرقيّةٍ واسعة لسكانها العرب الموجودين هناك منذ قرون. وقد أدرك قادةُ
الصهاينةِهذه النقطة على نطاقٍ واسع قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية. وجاءت الفرصةُ
المؤاتية لطرد الفلسطينيين في أوائل العام 1948، عندما نشبت الحربُ بين
الفلسطينيّين والصهاينة بعد قرار الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين إلى دولتَين. أجلى
الصهاينة عرقياً نحو سبعمائة ألف فلسطيني من أرضهم التي أصبحت لاحقاً إسرائيل،
ورفضوا بإصرار السماح لهم بالعودة إلى منازلِهم حتى بعد أن توقّفت الحرب. وبالطبع،
هذه قصّةٌ تضع إسرائيلَ في دور المعتدي، مما يجعل من الصعب على هذه الدولةِ الناشئةِ
أن تكسب الأصدقاء وتخلقَ أثراً في العالم، وعلى الأخص في الولايات المتحدة.
ولهذا لم يكن
مستغرَباً أن تبذِل إسرائيل وأصدقاؤها الأميركيّون جهوداً مضنيَةً بعد أحداث العام
1948 لتوجيه اللوم في عملية طرد الفلسطينيّين إلى الضحايا أنفسِهم. واستناداً إلى
الأسطورة التي جرى اختراعُها وتأليفُها، فإن الفلسطينيّين لم يجرِ "تطهيرهُم
عرقيّاً" من قِبل الصهاينة، ولكنهم، كما قيل، فرّوا من منازلِهم لأنّ الدولَ
العربية المحيطة بهم طلبت منهم المغادرة، حتى تتمكّن جيوشُها من الدخول وإلقاء
اليهود في البحر. ومن ثَمّ يعود الفلسطينيّون إلى منازلهم بعد أن يجري
"تطهيرُها" من اليهود. هذه القصّة لم يتمّ ترويجُها وقبولُها بشكلٍ
واسعٍ في إسرائيل فحسب، ولكن في الولايات المتّحدة كذلك على مدى ما يقرب من
الأربعة عقود، وقد أدّت دوراً أساسياً في إقناع الكثير من الأميريكيّين برؤية
إسرائيل بصورةٍ إيجابية والتعاطف معها في صراعها المستمرّ مع الفلسطينيّين. غير
أنّ باحثين إسرائيليّين، وآخرين، فكّكوا أوهام تلك الأسطورة، وغيرها من الأساطير،
على مدى العقدين الماضيَين، وبدأ التاريخ الجديد
للحكاية يظهر ببطء في سياق المنطق الأميركي تجاه الصراع الإسرائيلي ـ
الفلسطيني، بطرق جعلت بعض الأميريكيّين أقلّ تعاطفاً مع ماضي إسرايل وسلوكِها تجاه
الفلسطينيّين.
عندما تعمل النخبة
على صناعة الأساطير القومية:
تعتزّ الأمم بشكلٍ
مستمرٍّ بأساطيرِها الأساسيّة، لأنّ أغلب أفرادِها يحتاجون إلى مثلِ هذه القصص
لتعزّز فيهم الإحساس بالهوّية، ولأنها تقوّي من التضامن المجتمعي. وعليه، فإننا
نستطيع القول إنّ عمليّةَ صناعة الأساطير القوميّة هي عمليّة مستمرّة طوال الوقت.
وبالطبع، تحتج تلك القصص إلى تحديثٍ من فترةٍ إلى فترة، مع ظهور معلوماتٍجديدة عن
الماضي تستلزم خلقَ اساطيرٍ جديدة للتعامل مع المرال الجديدة في تاريخ الأمة.
ولذا، يمكن للفرد أن يتوقّع احتدام إطلاقِ الأكاذيب القوميّة في بداية الحروب، وفي
الأحداث عالية التأثير قوميّاً، والتي تتضمّن النزاعات الحادّة حول سلوك الدولة
محلّ الخلاف، والتي بدورِها يمكن أن تحيِي صراعاتٍ قديمةً اندثرت في زمن مضى. وفي
مثل هذه الأحوال، تعمل النخبة ليلاً ونهاراً لإظهار امّتها في أبهى صورةٍ ممكنة،
وتظهر الأمم المنافسة في أبشع صوره.
يمكننا كذلك أن
نتوقّع أن تصبح صناعةُ الأساطير القوميّة في أعلى حالاتِها عندما يكون هناك خلافٌ
حادٌّ بشأن قضايا تتعلّق بنشأةِ الدولة. ترتبط شرعية الدولة بالظروف والملابسات
التي أحاطت بولادتها، وأغلب الناس لا يريدون الاعتراف بأن ولادة دولهم جاءت من رحم
الخطيئة. فمقدار الأكاذيب التي تُطلَق في هذه الأحوال يعتمد على عاملين: حجم
القسوة والوحشية التي صاحبت إنشاء تلك الدولة، ومدى حداثتِها.
وبالتحديد، فكلما
كانت ظروف إنشاء الدولة قاسيةً وعنيفةً، كان هناك مزيد من السلوك المشين الذي
يتطلّب إخفاءه، وبالتالي تزداد حاجةُ النخبة إلى الكذب بشأن ما جرى فعلاً وقتَ
إنشائها. وتعدّ أساطير "تلميع الذات"، كما لاحظ إفيرا، أكثر أنواع
الكذبات القوميّة الثلاث. كلما كانت الأحداث حديثةَ الوقوع، كان الناس على الأطراف
المختلفة من النزاع يتذكّرونها ويتأثرون بها أكثر. باختصار، عندما يكون إنشاء
الدولة حديثاً وقاسياً، فعلى النخبة أن تكدّ وتجتهد أكثر لتلفّق قصّةً تصوّرُهم
كأنّهم فرسانٌ نبلاء، وتصوّر الجانب الآخر بأنهم شياطين. على سبيل المثال،انظر إلى
الخمس عشرة دولة التي ظهرت على إثر تفكك الاتحاد السوفييتي السابق بطريقة سلميّة.
لم يكن للنخبة في هذه الدول حاجةٌ إلى تلفيق قصص عن كيفية ظهور هذه الدول إلى حيّز
الوجود في العام 1991، لأن تفكك الاتحاد السوفييتي كان سلمِيّاً. (بالطبع، هناك
دوافعُ قويّةٌ لتلك الدول للكذب عن نواحٍ أخرى في تاريخها الطويل، وهم يفعلون ذلك
على أيّ حال). على العكس من حالةِ تلك الدول، نجد إنشاء إسرائيل والولايات
المتحدة، وكلتاهما قد تورّطت في جرائمَ خطيرةٍ ضدّ البشر الذين كانوا يعيشون في تلك
الأراضي التي احتُلّت وأصبحت تحت الاستعمار. ليس من المستَغرَب أن تبذل إسرائيل
وأمريكا جهوداً مضنيةً لتصوير ذلك التاريخ بأنه مشرق بدلاً من سرد الوقائع بكل ما
فيها من قسوة. ولكن هذا لم يعد أمراً مقلقاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة في
الوقت الحاضر، لأن الأحداث الخلافية حصلت في زمنٍ بعيد، فهي تبدو كالتاريخ
المندثر. أما إنشاء إسرائيل، في المقابل، فهو وجودٌ حديث، وقضيّة إنشائها تعدّ
موضوعاً حالياً ومثيراً للجدل، ليس لما للفلسطينيّين من صوتٍ عالٍ ومسموعٍ فحسب،
ولكن لأنّ عدداً قليلاً من المباحثين (ومعظمهم من الإسرائيليّين أنفسهم) قد
تحدَّوْا هذه الأساطير. وكما هو متوقَّع، فلم يغيّر معظم الإسرائيليّين، وأنصارُهم
من الأميركيّين، وجهة نظرهم تجاه نشأة إسرائيل، بل هم يضاعفون جهودَهم المضنية
لتسويق تلك الأساطير. (94)
(عن كتاب "لماذا يكذب القادة؟"؛ سلسلة عالم المعرفة، ديسمبر
2016)
تعريف بالمؤلِّف: جون جي. ميرشيمر
يعَدّ البروفيسور
ميرشيمر، أستاذُ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأميريكية، أحد أبرز الباحثين
الأميركيّين في السياسة الخارجية، وله عدّة كتب منها: "مأساة السياسة في
الدولة العظمى"، و"اللوبي الإسرائيلي وسياسة أمريكا الخارجية"،
والذي تُرجِم إلى أكثر من 19 لغة، وأثار جدلاً واسعاً لموضوعيّته في بحث مسألة
حسّاسة مثل العلاقات الأميركيّة ـ الإسرائيليّة، وربما كان هو الذي دفع اللوبي
الإسرائيلي إلى إصدار كتابٍ مضادّ بعنوان "اللوبي العربي".