عن حضارة العرب وثقافتهم
(منشور وتعليقات. اخترت تعليقاتٍ تعكس وجهات نظر مختلفة حول منشور
للدكتور جمال نعيم)
كتب البروفسور جورج زيناتي، وهو من كبار
الأساتذة في الفلسفة الغربية، وكان ممتعًا في دروسه، في الصفحات ٥٣-٥٥، من كتابه
(الفلسفة في مسارها) عن حضارة العرب وثقافتهم، أيّام عصورهم الذهبيّة، وعن فاعليّة
الفلسفة في تلك الحضارة، ما يلي:
"الفلسفة العربيّة كخطابٍ متجدّدٍ رغم عنف مقاوميه، لاحتضان كل العلم
من جديد، وتطويره وإيصاله إلى تمامه، كعلمٍ كلّيٍّ عالميٍّ صالحٍ لكل الشعوب
والأمم
بعد أن حاولنا إبعاد بعض الأفكار عن
الفلسفة العربيّة نستطيع أن نراها بطريقةٍ أفضل، كما تجلّت عبر أربعة قرونٍ لم تكن
معظم الفلسفة تنتج إلّا على أرض الثقافة العربيّة. إنّ ما يلفت الإنتباه هو أنّ
المسيحيّة التي عرفت ثلاثة قرونٍ كاملةٍ من الاضطهاد في بدايتها، قد قنعت باللاهوت
وحده، بعد أن هزمت الإمبراطوريّة الرّومانيّة وحولتها كلّها الى الدين الجديد.
المسيحيّة في الغرب نصْرَنَت كلّ الفكر، وهذا لا يعني فقط التّخلّي عن الفلسفة بل
عن كل العلوم، بل إنّ تعاطي أيِّ علمٍ ولو من بعيد كان يعرّض صاحبه لأبشع أنواع
الملاحقات، وحين أدخلت الأرقام العربيّة إلى الغرب ظلّ النّاس فترةً طويلةً
يخشونها ويخشون التعاطي معها. لم يكن هناك من مجالٍ لأيّ علمٍ لأن يزدهر ويتطوّر.
أما القسطنطينيّة وارثة أثينا، فكان عندها ما يكفيها من النزاعات اللاهوتيّة. توقف
التّاريخ العلمي اللاتيني والإغريقي إذن، وكان ثمة دورٌ ينتظر من يقوم به بحمل
راية العلم من جديد.
مع مطلع القرن التاسع الميلادي كان العرب
يسيطرون على رقعة ضخمة من الكرة الأرضيّة،[...]، فلقد كان هناك يعيش جنبًا الى جنب
العربيُّ والسريانيّ والفارسيّ والتركيّ والبربر والزنوج والحبشة[...]، الدولة
الأموية قامت بالعديد من الفتوحات وأبقت سلطةً مركزيّةً واحدةً، أما مع العباسيّين
فإنّ السلطة المركزية بدأت تتفتّت، غير أنّ ما بقي دومًا كمركزٍ هو اللغة العربيّة
التي بقيت منارًا تجمع تحت لوائها هذا التّنوع الغني، وكانت كل هذه الأمم تساهم في
ثقافةٍ عربيّةٍ واحدةٍ، وبالتالي وبمعنًى ما كل هذه الشعوب كانت عربيةً، أي أنّها
كانت تساهم في إنهاض ثقافةٍ عربيّةٍ واحدةٍ، فأية أهميّة أن يكون الكندي من أصلٍ
عربيٍّ، والفارابي من أصلٍ تركيٍّ، وابن سينا من أصل فارسيٍّ، ما داموا جميعًا قد
عبروا في لغةٍ واحدةٍ، وساهموا في إغناء فلسفةٍ واحدةٍ هي الفلسفة العربية؟ وقد
انتموا إلى إشكاليّةٍ واحدةٍ هي إشكاليّة الحضارة العربية؟
العرب أنشأوا إذن عولمةً ثقافيّةً
وحضاريّةً في عالمٍ خارجيٍّ كانت تسوده فلسفة الفكر الواحد، وكان التّسامح عندهم
حقيقةً واقعةً،[...] فالإسلام حين اعترف بأديانٍ ثلاثةٍ هي المسيحية واليهودية
والصابئة كان يعترف أنها تملك حقيقتها، وهو يحترم هذه الحقيقة الأخرى، وإن كانت
مغايرةً له في العديد من التّفاصيل. [...].
ولم تستطع الفلسفة أن تشق طريقها إلّا
وصادفت الصعوبات الجمّة، واكتوت باستمرارٍ بنيران الاضطهاد، غير أنّها كانت في كل
مرةٍ تخرج من جديدٍ من بين الرّماد وهي أقوى ممّا كانت".
(عن صفحة الدكتور جمال نعيم)
جمال
نعيم:
نشرت ما نشرت لأنّي صُدمت ببعض التعليقات
التي كانت تحاول إقناعنا بأنّ العرب لم تكن لديهم حضارة ولا ثقافة، وأنّهم كانوا
في عصورهم الذهبية على شاكلة انحطاطهم الشديد الرّاهن، في حين أنّي كنت أعتبر أنّ
الثانوية اللبنانية كان من المفروض بها أن تزيل هذه الأفكار التي تبخس من دور
العرب الذين بقوا ٧٠٠ سنة في الطليعة.
يوسف
الخطيب:
توصيف حضارة الخلافة الإسلامية بالعربية
على أساس أن اللغة العربية كانت العملة اللغوية المتداولة لا رصيد له من الحقيقة
ويقوم على تبجح عرقي زائف، تماما كما كان، وما زال لتاريخه، يفعل شعراء الزجل
ومديح الذات وهجاء الغير، وما أكثرهم عند العرب. الحقيقة هي أن الخلافة المذكورة
فرضت بحد السيف وكان شغلها الشاغل جبي الضرائب واستعباد الإثنيات غير العربية أو
تسخيرها في خدمة الحكام العرب. لم يكن في وسع غير العرب غير خيارينن فإما مزيدا من
الثورات والنعرات الفاشلة في مواجهة السلطة الإقطاعية للخليفة أو مجاراة الواقع
والإسهام في الحياة العامة والعلم والفلسفة وقد تلاحم الخياران على أرض الواقع
ليخلقا تاريخ الخلافة الجدلي مما يفسر كون الغالبية العظمي من فلاسفة وعلماء ذلك
العصر من الشعوب المقهورة غير العرب الذين ظهر في عطاءاتهم فكر وقيم ومفاهيم لا هي
بالعربية ولا هي بالإسلامية، ومن تلك قيم إنفتاحية وإنسانية هي، كقيم، أقرب إلى
الحضارة الإغريقية الهيلينية منها إلى العروبوية الإسلاموية.
خالد
بريش:
لا أدري يا عزيزي من أي زاوية ترى الموضوع
ولكن عندما يقول الغرب الكاه لنا ولتاريخنا عكس ما تقول ويكون أقل تحاملا على
تاريخا وحقدا عليه منك... فاسمح لي أن أقول إن انفعالاتك وكرهك للدين يجب أن لا
يمنعك من رؤية الشمي ...
يوسف
الخطيب:
مما قلته يبدو أنك تنتمي لثقافة اتهام
المختلف بالتحامل والحقد والشبهة. تعليقي أخ خالد مسنود بقراءة الواقع والتاريخ
وتلك هي الزاوية الواسعة التي أقرأ منها كل شيء. الزعل ممنوع
خالد
بريش:
كل منا يا عزيزي له نظاراته التي يقرأ بها
وخلفيته أيضا...
فقط كانت ملاحظة لا لأنني أختلف معك ولكن
لأن الواقع عكس ما تقول وباعتراف الأعداء...
أحمد
عياش:
نص تجدر قراءته.
محمد
الحجيري:
قراءة التاريخ هي لمحاولة المعرفة
الموضوعية للماضي. لا للتمجيد ولا لجلد الذات. وتقويم الماضي يجب أن يقاس بمقاييس
مرحلته وليس بمقاييس اليوم.
أتفق مع الصديق يوسف بأن الوصول إلى السلطة
كان يتم بالغلبة وحد السيف. (والمستغرب أن يكون كذلك اليوم).
تجربة العرب مع السلطة والدولة المركزية
كان شبه معدوم قبل الإسلام. وأنا أدعي بأن التغيير الأهم الذي جاء به الإسلام، أو
بتعبير أدق ما ترتب على الإسلام، هو خلق دولة مركزية تحولت بسرعة قياسية إلى
أمبراطورية، دون أي تراكم أو خبرات سابقة في شكل السلطة.. وهو ما نرى أثره قائماً
حتى اليوم..
المقارنة في هذا الموضوع يجب أن تكون مع
أشكال السلطة التي كانت قائمة في ذلك الحين: أي مع شكل السلطة في الأمبراطورية
الرومانية والأمبراطورية الفارسية السابقة.
وكذلك نشر الدين بالسيف (وإن كان البعض لا
يرى ذلك).. لكن في كل الأحوال ما كان مقبولاً في العصور الوسطى لم يعد مقبولاً
اليوم.
التقيت مرتين بالمفكر والمثقف السوري مطاع
صفدي. سألته في إحدى المرات على سبيل الاستفزاز: ألم يكن العرب هم الاستعمار في
العصور الوسطى؟
كان جوابُه مستنكراً: إن العرب كانوا
يساوون أنفسهم بالشعوب التي اعتنقت الإسلام. أما أشكال الاستعمار الأخرى فكانت
تستغل المناطق التي تسيطر عليها ولا تقبل المساواة مع تلك الشعوب.
وأظن أن زيناتي حين يقارن التسامح الذي ساد
في الحضارة العربية، فهو إنما يقارنه بالحضارة الرومانية المعاصرة لها، وليس
مقارنة بقيم التسامح السائدة اليوم. ولا أظن أحداً ينكر حالات التذبذب التي سادت
الحضارة العربية، بين تسامح وتشدد، مثل الاتهام بالزندقة والتضييق على التفكير
الحر.. وكلا النموذجين موجود ونجد له الكثير من العيّنات. وزيناتي يعتبر بأن
الحضارة العربية بدأت بالأفول حين تخلت عن التسامح وحرية التفكير، ويعتبر بأن محنة
ابن رشد هي شاهد معبّر عن تلك الحالة.
والحضارة "العربية" التي نتحدث
عنها، ساهم فيها العرب وغير العرب. وفي المرحلة الأولى كان أهم من ساهم فيها هم
الفرس.
وساهم فيها المسلمون وغير المسلمين. وأهم
من ساهم فيها من غير المسلمين، هم السريان المسيحيون والصابئة.
العنصر المشترك بين كل ذلك، هو أن ازدهار
تلك الحضارة بعلومها وتياراتها الفكرية والدينية المتعددة، في ظل الدولة العباسية،
وكل نتاجها كان باللغة العربية، مع استثناءات قليلة لاحقاً.
لا أحد يدعي بأن العرب كعرق هم الذين
صنعوها أو كانوا أهم من شارك فيها.
ولا أحد يدعي بأن المسلمين كأصحاب عقيدة هم
الذين صنعوها أو كانوا أهم من صنعها.
هذه البيئة الغنية التي أدت إليها هذه
الأمبراطورية، التي ساهم الإسلام بشكل أساسي في تكوينها هي التي سمحت بذلك التفاعل
الخلاق، في فترات الحرية واهتمام الدولة بالعلوم والترجمة.
أما أهمية تلك الحضارة، فلا أظن أن هناك
خلافاً حول ذلك. لقد تفاعلت تلك الحضارة مع كل المكونات الحضارية في تلك المرحلة:
وبخاصة مع الحضارة اليونانية والحضارة الهندية. وأعطت قاماتٍ عاليةً في العلوم
والفلسفة، مثل ابن سينا وابن رشد والبيروني وابن الهيثم وعمر الخيّام والبتّاني
وشجاع بن أسلم.. وغيرهم الكثيرون المعروفة أسماؤهم للمهتمين.
يوسف
الخطيب:
الصديق محمد الحجيري، كل الإمبراطوريات
وحضاراتها كانت قائمة على مكونات ومساهمات عرقية متنوعة. أعتقد أن المفاضلة بين
الحضارة الإسلامية والرومانية ليست كم ورد في تعليقك أعلاه. وليس صحيحا أن العرب
كانوا يساوون أنفسهم بالشعوب التي احتلتها عساكرهم والإسلام الذي انتشر بحد السيف.
كان الإسترقاق في شمال وشرق أفريقيا وأجزاء من أوروبا سمة كبيرة من سمات الخلافة
الإسلامية كما ان عبيد الخلافة وبعض مكوناتها العرقية قاموا بثورات عديدة ضد
أسيادهم العرب تمثل بالشعوبية أحيانا وبالعنف في أحيان أخرى. في المقابل،لا يجوز
القول أن الإمبراطورية الرومانية كانت عبودية بحتة فقد وصل إلى عرشها وفي فلب روما
أباطرة كثر من أعراق أخرى مثل عرب بلاد الشام. تعليقي أعلاه يتعلق بتوصيف حضارة
الخلافة الإسلامية ب "العربية".
محمد
الحجيري:
يا صديقي يوسف، أنا قلت ما كان رأي مطاع
صفدي.
الموضوع بحاجة إلى بحث موضوعي محايد. ولا
أعرف كثيراً عن تاريخ الأمبراطورية الرومانية. لكن ما أردت لفت الانتباه إليه هو
وضع الأمور في سياقها التاريخي. وأن نفهم التجاوزات بحسب المفاهيم التي كانت سائدة
في حينه. ليس دفاعاً، ولا تجنياً. هي مرحلة طويلة وكان فيها الكثير، وبحاجة لأن
نتعرف عليها أكثر ونرى المشهدية كاملةً. تحياتي لك.
جمال نعيم:
إنّ القول بحضارةٍ عربيّةٍ واحدةٍ ذات
أرضيّةٍ إبستيمولوجيّةٍ واحدةٍ ومشكلاتٍ حضاريّةٍ واحدةٍ لا يعني أنّ العرب هم
الذين أبدعوا هذه الحضارة العربيّة الواحدة والغنيّة كما لا تشير إلى اعتدادٍ
بالعرق العربي الذي لم يكن أفضل من غيره إلا بما يحمله من مساهماتٍ في تلك
الحضارة، بل يعني أنّ هذه الشعوب المختلفة والمتنوعة التي جمعتها الفتوحات
العربيّة، عنوةً أو بالتسامح، في دولةٍ واحدةٍ خلقت فضاءً ثقافيًّا واحدًا كان
نتاجه العزير والمتنوع باللغة العربيّة. فلم يعد أصل المبدعين هو المقياس أو هو
المرجع بل مقدار ما يساهم به باللغة العربيّة من إغناءٍ لهذه الحضارة العربيّة
التي ساهم الإسلام في نشوئها. هناك مَن لا يزال يركِّز على العرق الذي ينتمي إليه
هذا الشاعر أو هذا المفكّر أو هذا العالم أو هذا الفيلسوف، لكنّ هذا يبدو هامشيًّا
في سياق الحضارة العربيّة التي نشأت. ولو كان هناك مثيلٌ للنسيّة في أيّامنا لكان
كلّ هؤلاء مواطنين في دولةٍ واحدةٍ تنطق بالعربيّة.