الحرية والفاعلية
المثل الأعلى والعمل
أو جدلية السيد والعبد
(غالبية فصول كتاب الدكتور جورج زيناتي، يمكن أن تُنشر كمقالات مستقلة، دون أن يعني مطلقاً أن كتابه "الحرية والعنف" عبارةً عن مجموعة مقالات تم جمعها. فالكتاب يشكل وحدة عضوية متكاملة، كل فصل فيه له وظيفته الضرورية في سياق الكتاب.
قد يحدس القارئ ما الموضوع الذي يروم زيناتي معالجته في كتابه، لكنه (أي القارئ) لا يمكنه أن يفهم نظرة الكاتب إلى موضوع الحرية والعنف، وهو عنوان الكتاب، إلا بعد تتبع المسار السلس لفكرة الحرية التي تتم معالجتها على مستوى الفلسفة النظرية في القسم الأول، ثم الانتقال إلى بُعدها الإشكالي الآخر خلال الانتقال إلى تمظهر مشكلة الحرية على مستوى العمل من خلال متابعتها عند سارتر ثم في الفلسفة السياسية عند هيغل ثم ماركس.
هذه المقالة المقتطفة إذاً من كتاب زيناتي، رغم أنها تبدو مقالة مستقلة عن هيغل وماركس، إلا أن لها موقعها ودورها العضوي في الكتاب كوحدة متكاملة فاقتضى التنويه. (محمد الحجيري)
**
إن مفهوم الفاعلية، حين يوضع في خدمة مثلٍ أعلى مهما كان
نبيلاً، يشكل خطورةً كبرى؛ فهو في أغلب الأحيان لا يترك وراءه سوى الخراب. إنه خادم
جيد غير أنه غاية في السوء. وحكاية "المفتش الأكبر" في إسبانيا التي
يرويها دوستويفسكي في روايته الأشهر "الإخوة كارامازوف"، لهي غايةٌ في
الدلالة. تخطف سلطة سياسية أو دينية مثلاً أعلى وتستعيده باسم الفاعلية كي تجعل
منه وسيلةً في خدمتها. "إن التاريخ مليء برجال السياسة الذين يعتبرون الدين
أفضل الوسائل السياسية لقهر الإنسان". (فويرباخ).
لا يكفي إذاً أن يكون المثل الأعلى الذي تريد الحرية أن
تخدمه نبيلاً كي تكون لدينا ضمانةٌ أكيدة بنبل الوسائل المستعملة، ذلك أننا غالباً
ما نشاهد انقلاباً في الأدوار؛ فبدلاً من خدمة المثل الأعلى، يُستخدم لهدف آخر. ويصبح
المثل الأعلى الذي كان حافز الجماهير وسيلة قمع. ما كان يمارس دور الغية بات يمارس
دور الوسيلة. وبعملية استعادة معروفة، نرى أمامنا ظاهرة نستطيع أن نطبق عليها
ديالكتيك السيد والعبد: العبد يصبح سيدَ سيده. وبدلاً من أن يخدم الناسُ بأمانةٍ
مثلَهم الأعلى، يصبح المثلُ الأعلى هو خادمهم الأمثل. باسم الفاعلية تبرر محاكم
التفتيش الدينية، في "الإخوة كارامازوف"، وتتحول الماركسية إلى
ستالينية، وتنحط النيتشوية لتخدم النازية، "حيث إن تأسس الأخلاق على اللاهوت
يمكن أن يبرّر الأمور الأبعد عن الأخلاق والأكثر ظلماً والمخجلة تماماً." (لودفيغ فويرباخ)
إن أبلغ مثلٍ على ما نقوله ربما كان فلسفة هيغل؛ فهو جعل
من الدولة التجسيد الفعلي للفكر بشكلٍ عام ومن الدولة البروسية التجسيد الأخير للفكرة،
مؤكداً أن المهم هو تسهيل مسيرة الروح، معلناً أن الدرجات التاريخية لتطور الروح
"قد أُعطيت كمبادئ طبيعية مباشرة"، ولذا تكمن مهمة "الشعب الذي
يتلقى هذا العنصر على أنه مبدأ طبيعي في إتمامه في المسيرة التطورية لروح العالم
وفي وعيه لِذَاتِه. وهذا الشعب هو شعب مسيطر ومهيمن على تاريخ العالم في عصرٍ
معيّن. وهو لا يختزل هذا العصر إلا مرةً واحدة. أما حقه المطلق فيأتي من كونه
الممثل الحقيقي للدرجة المعطاة لروح العالم. أما روح الشعوب الأخرى فهو من دون أي
حقوق، كحال الأرواح التي مضى عصرُها والتي ما عادت تُحسب من التاريخ". (هيغل)
هل كان هيغل عبقرية رجعيةً أم كان ليبرالياً شدد على دور
الدولة؟ لكلٍ أن يؤوّل كما يشاء، لكنه حين شدد على ضرورة العمل الجماعي كي ينتصر
الكلّي، والكوني، والمطلق، فإنه أدخل العنف إلى داخل الروح، وجدلية (ديالكتيك)
السيد والعبد التي نادى بها هي التي أحدثت التغيير الجذري: الروح الذي كان السيد
الذي كانت الشعوب تخدمه أصبح العبدَ الذي يخدم الرجالَ الكبارَ في التاريخ كي
يبرروا جرائمَهم.
صحيح إن هيغل يدين التعصب حين يؤكد "أنه عملٌ غير
إيجابي وآثاره ليست سوى أنقاضٍ وهدم"، غير أن المزعج حقاً هو أن الحدود
الفاصلة بين تعصب شعب و"تماهي طبيعته الأساس مع مبدأ الكيانية
المسكونية" ليست واضحة المعالم، إذ إنها قد تتداخل كثيراً حيث يصبح من شبه
المستحيل تمييزها.
من ناحية أخرى، من المنطقي جداً من منظورٍ هيغلي أن يرتد
الديالكتيك ضد الروح، أي المطلق. قبل هيغل، ما كان المطلق يحتاج إلى عمل الإنسان،
لا عند أفلاطون ولا عند ديكارت ولا عند كانط، من أجل أن يوجد أو يستمر أو يتحقق
أكثر فأكثر، في حين أن مطلق هيغل يحتاج إلى عمل الإنسان، في الأقل من أجل أن يعيَ
ذاتَه تدريجاً. وهكذا فإن من يحتاج إلى عمل الآخر يصبح في ما بعد عبداً لهذا
الآخر، لأن العبد يتحرر من نير سيده بفضل معرفته ويصبح سيّدَ سيّدِه السابق. كذلك
فإن الرجال العظام في التاريخ الذين يصنعون التاريخ بالمعنى الهيغلي، يعون في
لحظةٍ معيّنة ـ كما حصل مع العبد ـ أن السيد الذي يخدمونه، أي المطلق، أي الروح
وفكرته في زمنٍ معيّن، يحتاج إلى خدماتِهم، ومن دونهم يتعطل العمل فيعون عندئذٍ
تفوّقهم فيجعلون من المطلق عبداً عندهم يستخدمونه لطموحهم. إن كل حكمٍ مطلق، سواءٌ
أكان بروسياً أم غيرَ بروسي، يمرّ بتجربةٍ كهذه. (109)
وعى ماركس، منذ كتابه نقد فلسفة الحق عند هيغل
[القانون]، أن الفلسفة الألمانية، خصوصاً فلسفة هيغل، قد استعادها الحكم القائم:
"إن الحزب السياسي النظري الذي يعود إلى الفلسفة قد ارتكب الخطأ عينَه لكن
بعوامل معاكسة. لم يرَ في النضال الحالي سوى المعركة النقدية للفلسفة مع العالم
الألماني، وهو لم يأخذ في الاعتبار أن الفلسفة الموجودة منذ ذلك الوقت تنتمي هي
عينها إلى هذا العالم، وهي تكملة له حتى وإن كانت تكملة مثالية". (ماركس؛ نقد
فلسفة الحق عند هيغل)
وعى ماركس إذاً أن المرء يستطيع أن يحمّل كلمة الروح ما
شاء وأن يرتكب باسمها ما شاء، لذا لا بد من وضع مستوى محسوس واقعي ملموس مكانها.
ويجب التعاطي مع الإنسان الماثل أمامنا، الإنسان
الحقيقي، لا المفهوم المجرد للإنسان، وهكذا من أجل الوصول إلى إنسانٍ كهذا ـ أي
إلى الكائن المجسد العامل الذي يمثل الشخص البشري ـ لا إلى إنسان ينتمي إلى طبقةٍ
معيّنة في حد ذاتها، لا بد من إلغاء طبقة البروليتاريا، لكن ذلك يتم بعد أن تكون
هذه الطبقة قد ألغت الطبقة البرجوازية المهيمنة. ومن أجل أن تحقق الفلسفة ذاتها،
عليها أن تستند إلى البروليتاريا التي نتوصل بفضل نضالها إلى إنسان المستقبل، أي
الإنسان الحر الذي لم يوجد بعد.
حين أعطت الماركسية نفسها محتوى مجسداً عيانياً، وحين
حاولت أن تستند إلى الجماهير الغفيرة، فإنها جعلت من مثلها الأعلى مشروعاً
مستقبلياً. لم يعد هناك من روح يتحقق في كل فترةٍ زمنية، وهو حاضرٌ دائماً بما هو
مطلق، كما كان الحال مع هيغل. في الماركسية هناك مطلق واحد هو مجتمع الإنسان بلا
طبقات اجتماعية. يستطيع حاكمٌ ما يحكم بسلطةٍ مطلقة، أن يقول انطلاقاً من هيغل إنه
يخدم المطلق، أي الروح وما ينبثق منه كالحضارة والثقافة، بينما يستخدم المطلق في
الواقع ليبرر سلطته. أما في المفهوم الماركسي، فإن المطلق ـ وهو المجتمع من دون
الطبقات الاجتماعية ـ ليس واقعاً على الإطلاق، وحين يصبح كذلك لا يكون هناك أي
سلطة سياسية يستطيع الحاكم أن يستغلها لمصلحة طموحاته. كذلك حين شددت الماركسية
على الطابع الكلياني لأغلال البروليتاريا، أعطت الفلسفةَ توجهاً جديداً حين ألغت
حق أيِ أمةٍ في الهيمنة على الآخرين بحجة أنها تنفذ مهمتها التاريخية في خدمة
المطلق، المثل الأعلى، التقدم الإنساني؛ أو الروح بحسب هيغل.
هل يعني هذا أن الماركسية استطاعت أن تفلت من مفهوم
الفاعلية المصاحب لكل فلسفةٍ للعمل والذي يشكل مصدراً دائماً للخطر؟ (110)
لقد رأت الماركسية العلاقة الحميمة بين الحرية والعنف
حين تخوض الأولى غمار العمل فتنزل إلى حلبة صراعات الواقع. هذا العنف اعتبرته
الماركسية وسيلة البروليتاريا كي تضع حداً لكل عنف وتنهي تاريخ البشرية كسلسلة
مستمرة من العنف المتسلط.
لقد أدخل ماركس في مرحلةٍ متأخرة من حياته الفكرية مفهوم
دكتاتورية البروليتاريا إلى فلسفته العملية. يمكننا بسهولة أن نرى في مثل هذه
الفكرة انهماماً كبيراً بأن يكون نظامُه الفكري عملياً أي قابلاً لأن يتحقق. يمثل
هذا المفهوم ضمانةً محسوسةً بأن العمل الذي تنفذه البروليتاريا، وهو في نظرها
العنف الأخير والذي سيؤدي إلى قيامة الإنسان الجديد، الإنسان الأصيل المنتصر على
العنف، سيكون عملاً ناجعاً فعالاً يصل إلى مبتغاه.
لكن، للأسف، حين أدخل ماركس إلى نظامه دكتاتورية
البروليتاريا، أدخل نقيضين لا يتعايشان، وما حصل بالفعل على أرض الواقع هو أن
الدكتاتورية ألغت البروليتاريا، التي انسحبت سريعاً من المعركة واندثرت تاركةً
الدكتاتورية تستبيح جميع المحرمات. وبدلاً من أن تخدم ما كانت قد جعلته مطلقَها
المؤقت، بدأت تستخدمه لتبرر كل ما لا يمكن تبريره من الفظاعات، وخير دليل على ذلك
ما حدث في عمليات التطهير الستالينية التي بلغت حداً غيرَ مسبوقٍ من الوحشية، كذلك
كان حال الصين مع الثورة الثقافية المادية التي نشرت الرعب، وقمعت كل ثقافة. هذا
مع العلم أن دكتاتورية البروليتاريا التي أتى بها النظام السوفياتي عمّرت طويلاً
ولم تسقط إلا مع سقوط النظام الذي أتى بها؛ أي إنها لم تكن مجرد ضرورةٍ عابرة
يبررها واقع الماضي المستبد، بل ما إن دخلت نسيج الثورة حتى ألغت هذه الأخيرة
لتنفرد بالحكم.
من أجل أن يحافظ ماركس على فلسفته النضالية ويبقيها خارج
الفلسفات المثالية وموقفها السلبي على الصعيد السياسي، ومن أجل أن يجنبها استعمال
البروليتاريا كمجرد أداة مادية، ومن أجل أن يجنب الثوريين أن يظلوا أبناء طبقة
واحدة، نادى في النهاية بإلغاء العمل لقاء أجرٍ معيّن، وكذلك بإلغاء الدولة لئلا
تتحول من جديد إلى أداة قمعٍ وتعود الإنسانية إلى صراع المصالح المتضاربة التي لا
تنتهي. إن الفلسفة التي أرادها ملتزمةً وعمليةً وقادرةً على التغيير الحقيقي لبلوغ
الإنسان الحر، أوصلته في النهاية إلى مفهومٍ للسياسة يتخطى اهتمام جميع السياسيين
الذين يتعاطَوْن مع الوقائع، أي مع المعطيات الحقيقية والمشكلات اليومية للشعوب
قبل أي اهتمام بالأفكار. فالفيلسوف يتعاطى بالأفكار ويتعاطى مع البعيد ومع
المستقبل القريب أو البعيد، أما من يتبوأ الحكم فأمامه يومياً مشكلات متراكمة يجب
البتّ فيها وهي حامية، فلا عجب إذاً إن تمزقت الماركسية السياسية إلى لينينية
وتروتسكية وماوية.. إلخ، وكذلك إلى اشتراكية ذات وجه إنساني.
لقد أراد ماركس أن يكون فعالاً كي يتخلص من القمع العابر
للقارات وللقرون، فاستعان بدكتاتورية البروليتاريا، واكتشفنا نحن بعد وفاته وبالتجربة
المرة أن جميع الدكتاتوريات تتشابه وإن اختلفت الأسماء. فالستالينية والفاشية
والنازية كانت متعاصرة ومتجاورة، عاشت كلها في النصف الأول من القرن العشرين وفي
أوروبا القارية، وتميّزت بقمع وتصفيات للملايين من الأبرياء من الطبقات والأجناس
المختلفة. إن ماركس الذي عاب على الفلاسفة من قبله أنهم "اكتفوا بأن يؤوّلوا
العالم بأساليب مختلفة في حين أن المهم هو تغييره"، مهد الطريق حين أدخل
الدكتاتورية إلى منظومته الفكرية إلى تغيير العالم فعلاً، لكن ليس كما حلم به
المفكر بل كما شاءه الدكتاتور: إنه عالم يحكمه الخوف، وتتكدس فيه الجماجم بسرعة
غير معهودة.
( جورج زيناتي؛ الحرية والعنف؛ ص 112)