هوامش على
عقلانية كارل بوبر: الخطأ، هو المطلق الوحيد *
مايو 30, 2018
*أجرى الحوار وترجمه : سعيد بوخليط
تقديم:
بمناسبة الترجمة العربية، التي أنجزتُها لإحدى مؤلفات روني بوفريس Renée Bouveresse حول العالِم والفيلسوف كارل بوبر، تحت عنوان: العقلانية النقدية عند كارل بوبر. ارتأيت حتما، توجيه بعض الأسئلة إلى صاحبة العمل قصد إعطاء القارئ، أرضية أخرى ممكنة تيسر له ولوج عتبات هذا العمل من جهة، وكذا مشروع بوبر إجمالا. أعتبر هذا الحوار، بمثابة تقديم إضافي ثان، إلى جانب المقدمة الطويلة التفصيلية التي مهدت بها الترجمة، وذلك سعيا مني قدر ما استطعت إثراء الحواشي والهوامش والأقواس والتعليقات… حتى تدرك أقرب مسافة ممكنة لها، مع ذاتها، وكذا الآخر… .
حصلت
روني بوفريس ، على شهادة التبريز في الفلسفة سنة 1972. وهي تلميذة قديمة بالمدرسة
العليا. دافعت عن أطروحتين لنيل درجة الدكتوراه : واحدة في تاريخ الفلسفة (ترجمة
مع تقديم كرونولوجي وبيبليوغرافي وتأويلي للكتابات الجمالية التي خلفها تراث دافيد
هيوم). بينما، انصب موضوع رسالتها الثانية على سيكولوجيا الفن. بعدها، عُيّنت أستاذة
مساعدة بجامعة “أورليان” المرموقة. ولأنها، فضلت دائما الفلسفة مقارنة مع علم
النفس، فقد تحولت سنة 1976 إلى أستاذة محاضرة في الفلسفة بجامعة ستراسبورغ ،
واستمرت طيلة مسارها الجامعي، في تهيئ دروس متعلقة بعلم النفس لطلبة الفلسفة. مكثت
في ستراسبورغ خمس عشرة سنة، قبل أن تطلب انتقالها إلى جامعة ديجون Dijon. أحيلت، حاليا على التقاعد.
أصدرت
الأستاذة بوفريس ما يقارب عشرينا عملا، تنوعت مضامينها بين الكتابة عن بوبر وهيوم
وسبينوزا وليبنيتز …، ثم
الجمال وفلسفة الفن إلى جانب إشعاع فعال في الملتقيات الفكرية الدولية التي هيأتها
وأشرفت عليها.
س- كيف
تأتّى لكم، الوقوف خاصة عند المنجز العلمي لكارل بوبر؟
ج- لقد
انتقلت بشكل طبيعي جدا، من هيوم إلى بوبر، الذي فتح معه سجالا،
واستعاد خلال القرن العشرين، صراع كانط ضد التجريبية، الذي هيمن على
الوسط الأنجلو- ساكسوني. فترة شبابي، توجهت باستمرار إلى
إنجلترا، حينما اكتشفت سنة 1976 بوبر، المقيم هناك بعد أن تقاعد عن التدريس بمؤسسة:
كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. شرعت في الاشتغال على أطروحاته، ثم بعثت له
بعملي. أما، المرة الأولى التي توجهت خلالها للقاء بوبر، فقد كنت بصحبة آلان بوير Alain
Boyer . موت بوبر،
أشعرني بحزن شديد.
س-
انطلاقا من صداقاتكم مع بوبر ، نلتمس منكم رسم صورة تقريبية عن هذا العالِم الكبير؟
ج- كارل
بوبر، الذي كنت أدعوه دائما بـ: سير كارل Sir
Karl (1) حتى، وان
التمس مني، بعد وفاة زوجته هيني Hennieـ كان
مرتبطا بها جدّا، ولم ينجبا أولاداـ المناداة عليه فقط ب كارل. ميزه ذكاؤه
الاستثنائي، لطيف، محبوب، موسيقى، يعشق كثيرا الحلويات، مرهف الحس، باذخ المشاعر.
كان بالمطلق لطيفا جدا معي، وحينما رحل عن هذا العالم جراء إصابته بمرض السرطان،
انتابني إحساس بالفراغ والفقد. في البداية، بعث رسائله إلي، تحت توقيع: بصدق
إليكم. لكن بشكل سريع، سيوظف الصيغة التالية: إليكم دائما. الشيء الذي أثر في
كياني. لقد، تعرفت عليه فقط لحظة بلوغه مرحلة الشيخوخة، التقيت أيضا تلامذته. ابنه
الروحي “جيريمي شير مور”، توجه إليّ مخاطبا وهو يستقبلني عند مدخل كلية لندن
للاقتصاد والعلوم السياسية: “هل أنتم استقرائيون؟ “. لأنه، كي
تكون بوبريا، عليك بداية رفض ما يسميه بوبر بـ: أسطورة الاستقراء. لذلك،
حينما يريد إلقاء دروسه، يستثني من حلقته الدراسية الطلبة العنيدين الرافضين
الاعتراف بأخطائهم والتعلم منها (يمكنكم إهمال هذه الإشارة، إذا رأيتم بأنها تسيء
إلى بوبر في أعين الجمهور). كان يحثنا على أن نتوجه إليه بالنقد، مؤكدا على أننا
نتعلم من الخطأ، وكذا ممارسة النّقد. صديقي الفقيد ويليام بارتلي، ناشر أعمال بوبر،
بالمعنى الأنجلوساكسوني للكلمة، اختلف ذات يوم معه، ثم تصالحا بعد ذلك. وصف
بوبر قائلا: “إنه رجل صعب المراس”. لقد راكم بارتلي مجموعة وثائق، سعيا منه لكتابة
دراسة بيبليوغرافية عن بوبر، بعد رحيل هذا الرجل الكبير، إلا أن إصابته هو أيضا
بمرض السرطان أسرعت بوفاته قبل بوبر. باختصار، كان إشعاع الفكر البوبري عظيما،
وجلّ تلامذته يقدرونه.س- كيف تجلى حضور بوبر في فرنسا؟ قبل مرحلة أعمالكم. خاصة وأنه تقليديا وتاريخيا، اهتم الفرنسيون خاصة بالفكر الألماني قياسا للفكر الأنكلوساكسوني؟
ج- صحيح، لقد ركز الفرنسيون أكثر على الفكر الألماني مقارنة مع الفلسفة الأنجلوساكسونية، مثلما قلتم بالضبط. لكن، أيضا تسيد الفلسفة الشيوعية، بحيث شكل باستمرار عشق الماركسية والشيوعية، عائقا أمام احتضان إيجابي لبوبر في فرنسا. يمكن اعتبار كتابه: المجتمع المنفتح وأعداؤه مجهودا حربيا، صاغ فقرات مضامينه، بالموازاة مع وقائع الحرب العالمية الثانية، لأنه فكك منتقدا أصول التوتاليتارية: أفلاطون، هيغل، وماركس.
س- نريد
منكم، تقديم جرد سريع لبعض الأسماء الفكرية الفرنسية الأخرى،التي
توجهت مثلكم نحو بوبر؟
ج-
حينما انطلق مشروعي عن بوبر سنة 1976، قرأته باللغة الإنجليزية. لم يُترجم آنذاك
إلى الفرنسية سوى كتابيـه: “منطق الاكتشاف العلمي”، وكذا “بؤس التاريخانية”. عمله
الآخر، المعنون ب “المجتمع المنفتح وأعداؤه” تُرجم عن دار النشر “سوي” ، لكن
بطريقة مبتورة مع تجاهل للإشارات المهمة الواردة في الطبعة الإنجليزية. أما “ماري
إيرين” و “مارك دولوني” ، فقد ترجما إلى الفرنسية كتابا آخر لبوبر، هو “تخمينات
وتفنيدات” . بينما عرف عمله، “المعرفة الموضوعية” ترجمة جزئية ضمن منشورات
“كومبلكس” سنة 1978. وبعد ذلك أنجز “جان جاك روزا”، ترجمة جيدة جدّا ومتكاملة
بخصوص هذا العمل. مع ذلك، لازالت دراسات أخرى لبوبر مكتفية بلغتها الأصلية، ولم
تأخذ بعد طريقها إلى اللغة الفرنسية. أما عن المقاربات النظرية، الصّادرة أيضا
بالفرنسية عن بوبر، فأشير إلى أهمها: [فلسفة كارل بوبر والوضعية المنطقية]،
لصاحبه الأستاذ البلجيكي “جان فرانسوا ماليرب”، وأصدر، “آلان بوير” ، بحثا تحت
عنوان: [كارل بوبر والإبستمولوجيا اللائكية؟؟] تحول بعدها إلى: [مدخل
إلى فلسفة كارل بوبر]. في السيـاق ذاته، جــاءت مساهمة “دومنيك لوكور” كما
يلي: [بوبر وفتجنشتاين، النسق واللعب]. أما الماركسي القديم وأستاذ الفلسفة
السياسية، السيد “جون بودوان ”، فقد كتب: [ماذا أعرف عن كارل بوبر].
وكذا: [الفلسفة السياسية عند كارل بوبر]. في حين، اهتم ابن عمي الجرماني “جاك
بوفريس”، بأطروحات بوبر عبر مقالتين نشرهما في مجلتي: La
recherche/critique.
س- أين
تموقعون المشروع البوبري ضمن سيرورة الفكر الإنساني؟
ج- أحد
الأسباب، التي تفسر الاهتمام الكبير بفكر بوبر في حقبتنا، يرجع بالتأكيد إلى كونه
أحد القلائل الذين اقتحموا مختلف حقول الفلسفة وأعطوا
مكانا في كل الأحوال للحوار الاستدلالي:
منهجيات العلوم طبعا، فلسفة المعرفة العامة، القضايا التي يطرحها تأويل الفيزياء
المعاصرة، البيولوجيا، علم النفس، العلوم المجتمعية، لكن أيضا الفلسفة السياسية
والأخلاقية، تاريخ الفلسفة وكذا الميتافيزيقا. تطور اللاعقلانية، وقد تطابقت
بطريقة مفارقة مع الانطلاقة المعاصرة للعلم، تمثلت بالخصوص تأثير هذا الاعتقاد
الخائب في عقلانية دوغماطيقية، تفترض بأن معرفتنا يمكنها أن تتأسس وتصل إلى
اليقين. يعتبر بوبر أحد أفضل من ترافع لصالح العقل طيلة هذا القرن، وبقوة لا
تضاهى، لكن وهو يقترح بصدد ذلك صورة نقدية: الإرادة كي نضع موضع
اختبار باستمرار أفكارنا، دون اعتبارها ثابتة دائما، يمثل خاصية جوهرية للفكر
العقلاني، ما دام الخطأ هو المطلق الوحيد، ثم عجزنا عن التطور إلا إذا قبلنا
بالمجازفة عوض التملص من ذلك. إذن، يصبح من الممكن بالنسبة لبوبر العودة
بالعلوم الطبيعية إلى مشروعها الأساسي، أي رد الاعتبار لطموحها بأن تكون نظرية (ضد
التجريبية) وتصف حقا الحقيقة (ضد المثالية) وتتبلور موضوعيا ضد النفسانية
والاجتماعوية. من جهة أيضا، سيحدد مستوى التقدم السياسي الحقيقي، بفضح أوهام
الإغواء التوتاليتاري، والدفاع عن إصلاح يتخلص من كل وَهْم، مختبرا باستمرار كل
مبادرة ويخضع أية سلطة للفحص. مع ذلك، فيما وراء الميتودولوجيا، نرى أخيرا تشكل
ميتافيزيقا حقيقية بين ثنايا نتاج بوبر: ميتافيزيقا عالَم لا حتمي، منفتح، يبرز
الحياة والإنسان و”عالم الأفكار” هذا النزوع نحو الاستقلال، نسجه الإنسان مما خوّل
له اكتشاف الكون، الذي يحتويه ويتحول بلا انقطاع، تحت تأثير مفعول رجعي في اتصال
بعمله الخاص.
س- نريد
أن نتمثل، بعمق أكثر الخاصيات النظرية الكبرى للابستمولوجيا البوبرية ؟
ج- تتجلى
أهم أفكار بوبر الفلسفية والمعرفية، فيما يلي:
1ـ
الاختلاف بين نظرية علمية وأخرى لاعلمية (قد تكون مفيدة) ينهض على أن الأولى تجازف
بإمكانية دحضها من قبل التجربة: إنها تستبعد وقائع نلاحظ احتماليتها (وبقدر ما
تستبعد تتجلى أهميتها) وهي تجريبيا قابلة للتفنيد. على النقيض، تلك النظرية التي
تتوخى إدراك جلّ الوقائع الممكنة وبأن لا شيء يدحضها، تعتبر، فارغة مضمونيا،
بالتالي لا تفيدنا قط حتى ولو أعطت للذي يتبناها شعورا بالمناعة. إجمالا، ما يميز
الفكر العلمي إقراره بالمجازفة (وليس الدوغماطيقية).
2ـ إن
الجواب الوحيد الذي قد تتكفل الترجمة [التجربة] بتقديمه، حينما نوظفها قصد اختبار
نظرية ما، هو جواب سلبي: لا يمكن لتجربة خاصة إثبات نظرية عامة لكنها قد تفندها.
الإقرار بألف إوزة بيضاء، لا يجيز القول أن كل الإوز أبيض. يمكننا، تقديم الدليل
عن خطأ نظرية عامة، في حين يستحيل علينا إظهار حقيقتها. بهذه الأطروحة، جاء بوبر
بجواب متحديا هيوم الذي تبنى قضية مبرر الاستقراء. كيف ننتقل من ملاحظات جزئية
ارتبطت بعدد محدود، ثم نصنع منها قواعد عامة؟ لقد أوضح هيوم ، بأننا لا نتوقف عن
التعميم، وليس لدينا وجهة نظر عقلانية تخول لنا حقا القيام بذلك. إذا عممنا، فبفعل
تأثير العادة. لذلك، تبرر المعرفة حسب هيوم وجودها بالاستناد على الفعل وليست
مُبررة بالعقل؟ ينطلق، بوبر من مبدأ، أن التجربة لا يمكنها أن تؤسس وضعيا تعميما
ما، بل في وسعها فقط إبطاله. بحيث،
يخلص إلى النتائج التالية :* يلزم على العلم التخلي عن حلمه باليقين: المعرفة سياق دائم للتساؤل. قد تظهر تفسيرات أخرى أفضليتها مقارنة مع التفسيرات القائمة. ببداهة، المعرفة تتطور: النظريات الجديدة، دون أن تكون أكثر يقينية، هي أفضل من سابقاتها لأنها تحافظ على مكتسباتها الوضعية، بالسعي نحو مفاهيم أكثر تكاملا وشمولا.
* لا يمكننا الارتقاء بمعرفتنا، إلا إذا عملنا منهجيا على دحض نظرياتنا الخاصة: أن نختبرها. صمدت أم لم تصمد. ففي الحالتين، الأمر جيد: إبراز الخطأ لا يعتبر فشلا: نتعلم من تلك الأخطاء. في كل الأحوال، يستحيل تجنب الخطأ، فنحن معرضون له. فقط، نتوخى جاهدين كي نستبعده تدريجيا.
3ـ
أهم، ما يميز الفكر العقلاني، الخاصية النقدية التي ترفض الدوغماطيقية. ليس الفكر
العقلاني، من يظن في ذاته توفره على أفضل منهجية تصل آليا إلى الحقيقة. بل، فكر
يتصور حلا للقضية التي يجد نفسه أمامها، بعد ذلك يختبره نقديا مع استعداده للتخلي
عنه، في حالة تعارض الحل مع الوقائع.
عمليا الإنسان العقلاني، من كان قادرا على تغيير رأيه حينما يتوصل إلى دلائل حاسمة
أخرى. ثم، يبحث لكي يتحاور مع الآخرين ولا يتشبث باعتقاده
مهما كلفه الأمر.
4 ـ
المفهوم التجريبي والوضعي للمعرفة خاطئ. مفهوم، نجده عند باكون Bacon ولوك Locke والوضعيين. يربط بين المعرفة
والملاحظة بالارتكاز على دور سلبي للأحاسيس، ثم يصطدم مع الاعتراض وهو ينبني على
إحساس خاص، فلا يمكننا تأسيس قواعد عامة. مهما
يكون أيضا، يستحيل أن نلاحظ دون تنظير أولي، وكذا أفكار قبلية توجهنا.
بالتالي، يدافع بوبر عن ما يلي :
* تنطلق
المعرفة دائما من تصورات خائبة الظن، وليس ملاحظة قسرية. مما يعني، أننا ننطلق
دائما من توقعات، ورؤيتنا للواقع ليست مُفترضة بشكل عذري. لا وجود، لصفحة بيضاء.
كذلك، الملاحظة ذاتها، هي مشبعة دائما بالنظرية مما ينفي
مسألة كونها محايدة.* نحاول بخصوص قضية العثور على تفسيرات عن طريق مجهود للخيال. بعد ذلك، نخضع فرضياتنا التي تشكلت بطريقة قابلة للدحض، إلى روائز: نستبعد غير القابلة للصمود. في المقابل، نُقر مؤقتا بالأخرى الصامدة أو بالأحرى أغناها، بمعنى تلك التي تُفسر أكثر. وفي نفس الآن، تجد نفسها أكثر قابلية للتجريب. إجمالا، تقوم المعرفة على “التخمينات والتفنيدات”.
* علينا
العمل أقصى ما يمكن، كي نتجنب الغش. طبعا، يبقى من الراجح دائما الدفاع عن أنفسنا
أمام واقعة من شأنها أن تدحض النظرية. وأحيانا، يتحتم القيام بذلك: لا يمكننا
القبول بكل دحض جلي: قد نعترض على الملاحظة، أو نفسرها بعوامل غير مرئية، إلخ.
لكن، أن نتبنى منهجيا استراتيجية كهاته يحرمنا من كل إمكانية لتطوير معرفتنا: من
اللازم الإقرار بالتفنيدات وليس الاستكانة إلى الدوغماطيقية.
* في كل
قضية عثرنا لها على حل، ستظهر إشكالات جديدة، فالبحث لا نهائي. بقدر، معرفتنا
نكتشف جهلنا، فيتجلى حجم دهشتنا. نتموضع، دائما بين نوعين من التوتر: لا وجود لجهل
أو معرفة مطلقين: الاثنان متلازمان.
*
لاتتطور المعرفة بالتراكم وحده، بل يوجد في الغالب افتراض لعنصر ثوري. إننا مضطرون
في كل مرة، التخلي عن مجموعة اعتقادات، وتعويضها بأخرى أكثر تكاملا: تحتفظ بما هو
صحيح فيما سبق من تصورات. حقا، ينطبق هذا على مستوى النظريات الكبرى وكذا المعرفة
المعتادة.
* يفترض
تطور المعرفة شروطا مجتمعية: وجود مجموعة خبراء لهم نفس قناعة الفكر النقدي. يسعون
إلى إيجاد جواب للقضايا وذلك بإخضاعها لمقياس الاختبار النقدي من قبل زملائهم.* إجمالا، لقد استعاد بوبر التقليد الكانطي ضد التجريبية، دون تخليه كليا عنها. حسب كانط ، تفترض المعرفة بأن الذات فاعلة، توجب مقتضياتها على الطبيعة. أثبت بوبر، من جهته: نعم المعرفة تأسست على ضوء احتياجات الفكر. إنها، من جهة قبلية، لكن ذلك لا يبرر صحتها. تستمر في التقويم بناء على اتصالها بالتجربة.
* يقطع بوبر مع التجريبية، ويرفض النسبوية. هؤلاء النسبيون مثل كوهن Kuhm وفيرابند Feyerabend ثم رورتي Rorty الذين تأثروا بداية ب بوبر، تمسكوا بمبدأ أن العلم ليس عقلانيا جدا كما نزعم، وسلطة النقاش النقدي محدودة، ثم عدم جدوى مفهوم الحقيقة. على النقيض، دافع بوبر على أن النقاش النقدي مفيد دائما، حتى ولو لم ننته معه في الغالب إلى توافق. كما، أن العلم بامتياز يمثل حقلا لتطور المعرفة نتيجة التدليل والسجال. أيضا، يرصد العلم بشكل جيد الحقيقة، بالرغم من تيقنه بعدم ملامستها. هذه القطيعة بين العقلانيين والنسبويين، تعتبر جوهرية داخل الفكر المعاصر.
س- نعلم،
أن بوبر اقتحم تقريبا كل الحقول الفلسفية؟ ما هي بالتدقيق أداة مرتكزه المنهجي؟
ج-
فيما يتعلق بسؤال المنهج البوبري، فقد سعى بوبر إلى التخلص من مسألة بناء النسق،
حتى ولو كان فكره ينهض على نوع من النسقية. ينطلق، من قضايا يطرحها كل واحد منا
بشكل من الأشكال: يتفحص الإجابات المختلفة والممكنة مع احتفاظه بأفضل البراهين، ثم
يختار من بينها تلك القادرة أكثر على الصمود والإقناع. تارة، يستند أيضا إلى
براهين الحس المشترك وقد يرفضها، تارة أخرى. إجمالا، ينتمي بوبر إلى نمط الفلاسفة
الذين يبحثون على الحقيقة دون اكتراث بالأصيل. وحينما، يؤمن بحاجتنا المطلقة
لمحاور ذات استدلالات فلسفية، فلا يعني ذلك ممن يظنون أن الفلسفة حقل قائم بذاته.
كما أنه، لا يخول إمكانية بلورة تحققات أخرى مثل التي جاء بها العلم والفن.
س- كيف
تتموقع حاليا الأستاذة بوفريس ضمن سياق الثقافة الفرنسية؟ وهل لازالت حاضرة في خضم
المشهد؟
ج- بالتأكيد،
لقد ابتعدت الثقافة الفرنسية الراهنة عن الإشكالات والقضايا التي هيمنت عليها بين
سنوات الثلاينات، والسبعينات. يخوض، الفرنسيون اليوم، في نقاشات أخرى تتميز
بطابعها العمومي، وهي نفسها التي تعرفونها كذلك في المغرب. كيف نوفق على المستوى
الاقتصادي بين ضرورة الفعالية كما تقتضيها العولمة، وكذا مطلب التماسك الاجتماعي؟
كيف نماثل بين ضرورة النمو وحماية البيئة ثم الدفع بالتنمية الدائمة؟ كيف نشبع
حاجة الانفتاح عند الإنسان المعاصر، دون التضحية مطلقا برغبته كي يعيش بشكل جماعي
مع الآخرين، داخل جماعة متضامنة؟ كيف نضمن تطورات العلوم والتقنيات، وكذا التوظيف
الإيجابي لها من قبل الإنسان كي لا يفقد أبدا خاصيته الإنسانية؟ كيف، نعمل على خلق
حوار بين مختلف الثقافات، بشكل أفضل، بحيث تتلاقى حول قيم كونية ثم تحتفظ كليا على
هويتها؟ هي، إذن الأسئلة التي يشتغل عليها المفكرون الفرنسيون راهنا، وقد أثارت
حقا نقاشات جدية.
س- في
الختام، أريد معرفة مشاعركم، وأنتم تعلمون أن إحدى دراساتكم عن بوبر، قد تُرجمت
إلى اللغة العربية؟
ج-
حقا، هو شرف كبير لي أن أنتقل إلى اللغة العربية، وسعيدة جدا بتداول أفكار بوبر،
داخل نسيج الثقافة العربية. لكنني أرى في الوقت ذاته، بأن هذه
الثقافة العربية الإسلامية، في حاجة ماسة إلى الاشتغال أكثر فأكثر من أجل ترجمة
نصوص ومتون الثقافات الأخرى. لقد جاءت الثقافة العربية، بتقليد
فلسفي كبير، وذلك إبّان عصر ابن رشد، بعده، سيعرف المسار انحطاطا. بالتالي، يقتصر
الأمر اليوم، على بعث نهضة جديدة توجه اهتمامها نحو كل ما يكتب في العالم. وأشعر،
فعلا بوجود أجيال فكرية تؤثث مختلف البلدان العربية، تتميز بانفتاحها على العالم
الخارجي، وتحصّن باستمرار الأوضاع العقلانية. تجب، الإشارة هنا، إلى تصورنا الدائم
للبلدان العربية باعتبارها منقسمة بين اتجاهين: أحدهما تقليدي بل وأصولي، يحكمه
هاجس الخوف من الحداثة. في مواجهة، تيار ثان متفائل أكثر، يؤمن بكونية القيم
الديمقراطية، ويدافع بشتى الوسائل عن ضرورة ولوج العالم العربي والإسلامي، حلقة
العالم المعاصر دون خوف، من أن يفقد هويته الثقافية. في هذا الإطار، فإن
قراءة مفكر من طينة بوبر، تبين إمكانية مناقشة كل شيء من منظور عقلاني، سواء كان
إيتيقيا أو ميتافيزيقيا ودون تصنيفات تقوم على المحظور والمقدّس. إنه، نقاش مُثمر
على الدّوام، يساهم في تكريس انتصار عقل السلم، وهو يواجه عقل العنف. أقول، بأن
الإحالة على بوبر، يقود صوب تقوية مناعة تيار الانفتاح في العالم العربي.
*هامش :حوار
وترجمة سعيد بوخليط
[1] ـ حصل كارل بوبر
على لقب “سير” Sirـ وهو يشير داخل
المؤسسة المعرفية الأنجلوساكسونية، إلى مختلف مظاهر الإجلال والتقدير والاحترام ـ
ثم خمسة عشرة دكتوراه فخرية ومجموعة من المناصب الفخرية العلمية والأكاديمية.