تاريخ الفلسفة الحديثة:
3) جون لوك
جـــون لـــوك
أولاً - حياته وأعماله : جون لوك فيلسوف تجريبى إنجليزى، وُلد سنة 1632 وتُوفى سنة 1704، وكانت هذه الفترة من أكثر عصور الإضطراب والفوضى التى شهدتها إنجلترا فى تاريخها. تعلم لوك فى مدرسة وستنمنستر ثم فى جامعة أكسفورد بكلية كنيسة المسيح. وكانت دراسته فيها تؤهله للعمل فى السلك الدينى، لكنه آثر دراسة الطب والعلوم التجريبية، ومارس مهنة الطب لدى بعض الأسر الأرستقراطية الإنجليزية، وكان يلقب بالدكتور لوك، حيث كان ماهراً كطبيب وأجرى عملية جراحية ناجحة لأنتونى آشلى كوبر سنة 1668، وهو أحد النبلاء، مما مكنه من أن يصبح سكرتيراً لكوبر فى الأمور السياسية والاجتماعية. ومكنه هذا المنصب من أن ينضم إلى الجمعية الملكية للعلوم. وهناك ازداد اهتمامه بالفلسفة وأسس نادياً من أصدقائه ومعارفه لمناقشة القضايا الفلسفية والدينية. وعندما حصل كوبر على لقب لورد شافتسبرى وأصبح وزيراً للعدل ترقى معه لوك إلى منصب سكرتير هيئة التجارة، وفى سنة 1675 أكمل دراسته فى الطب وحصل على البكالوريوس. وقد طاف لوك بالعديد من الدول الأوروبية بحكم منصبه التجارى، فزار جنوب فرنسا وباريس بين عامى 1675 و1679، وتعرف هناك على الاتجاهات الفلسفية الأوروبية وخاصة فلسفة ديكارت وقرأ أهم مؤلفاته، وفى سنة 1683 زار هولندا وأقام بأمسترادم ثم روتردام سنة 1687( 1). وآخر المناصب التى تقلدها لوك كان مندوب الاستئناف، وهو منصب قضائى تأهل له بحكم منصبه التجارى السابق ومؤلفاته السياسية التى جذبت الانتباه.
ومن هنا نرى كيف أن خبرات لوك كانت متعددة للغاية، إذ بدأ بدراسة اللاهوت منذ صغره، وانتقل إلى دراسة الطب والعلوم التجريبية، ومنها إلى الفلسفة وأخيراً القانون والسياسة. وهذا هو السبب فى تعدد الموضوعات التى كتب فيها، إذ تغطى مؤلفاته الفلسفة: «مقال فى الفهم البشرى» (1690)، «رسالتان عن الحكومة المدنية» (1689)، «أفكار فى التربية» (1693)، «مقال فى التسامح» (1689 - 1692). كما أهلته دراسته للطب والعلوم التجريبية لأن يكون صاحب مذهب تجريبى فى الفلسفة.
وهكذا لم يكن لوك مقتصراً على الكتب والبحث النظرى فى الحصول على خبرته وأفكاره كمفكر، بل كان رجلاً عملياً إلى أقصى حد، أثرت رحلاته ومناصبه المختلفة التى تقلدها، من طبية إلى تجارية إلى قضائية فى فلسفته. وعلى الرغم من أن شئون الاقتصاد والسياسة كانت من صميم عمله، إلا أنها لم تمنعه من أن يصبح فيلسوفاً محترفاً. وقد اتصف لوك كفيلسوف بكل ما كان يتصف به المفكر فى ذلك العصر، إذ لم يكن كبار فلاسفة القرن السابع عشر منتمين إلى السلك الأكاديمى، فلم يتقلد لوك أى منصب جامعى ولم يُدِّرس فى أى جامعة(2 )، وكانت الفلسفة لديه هواية يمارسها فى أوقات فراغه من عمله الاقتصادى والسياسى والقضائى، لكنه رغماً عن ذلك أصبح من أشهر الفلاسفة الإنجليز، ويقدم لنا لوك مثالاً براقاً على فيلسوف محترف لم يتول تدريس الفلسفة فى الجامعة بل كانت الهواية التى تحولت بعد إتقانها إلى احتراف. وهذا هو ما يميز لوك وفلاسفة القرن السابع عشر، أما بعد عصر لوك ابتداءً من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين فقد ظهر الفيلسوف المتخصص فى الفلسفة والمحترف المرتبط بالأكاديمية والذى لا ينتج نسقاً فلسفياً إلا بالتفرغ التام لها، باستثناء ديفيد هيوم بالطبع الذى تتشابه سيرته الذاتية مع سيرة لوك، وبذلك رأينا فلاسفة ارتبطوا بالأكاديمية وكانت هدفهم الوحيد، مثل كريستيان فولف، وكانط، وهيجل، ومعظم فلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين.
ظهرت فلسفة لوك فى عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التى كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أى طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى فى كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزى، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التى أسفرت عنها الثورة، أى الجمع بين النظام الملكى والنظام البرلمانى فى نفس الوقت(3 )، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية.
ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التى تجمع فى نفس الوقت بين حق الملكية الذى يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التى تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذى يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أى طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفى نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة فى اعتماد العقل حكماً فى كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التى وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التى تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية ؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحى من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذى سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحى والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية فى اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى.
ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً فى المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذى تحرر العقل عندهم من أى تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هى طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التى صنعت نفسها وثروتها بالانشغال فى العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهى كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية فى فلسفة لوك هى التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس فى تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك فى المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، فى مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهى الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.
ثانياً - نظرية المعرفة باعتبارها مدخلاً للفلسفة:
إن الذى حفز لوك نحو إقامة فلسفة جديدة هو انشغاله بالأسئلة الفلسفية التقليدية المتعلقة بالنفس والعالم والألوهية. لكن بدلاً من انطلاقه نحو البحث فى هذه المشكلات بدأ بطريق لم يطرقه قبله معظم الفلاسفة، وهو البحث فى المعرفة الإنسانية(4 ). وكان مبرره فى هذا أن أى آراء حول مشكلات الفلسفة هى نمط من المعرفة، ولذلك فقبل أن نبدأ فى البحث فى المعرفة الإنسانية يجب أولاً البحث فى أداة هذه المعرفة وهى الفهم البشرى. ولهذا السبب يعد لوك أول من نظر إلى البحث فى طبيعة المعرفة الإنسانية على أنه النقطة التى يجب الانطلاق منها قبل البحث فى موضوعات المعرفة ذاتها. وهكذا كان لوك هو أول واضع لمبحث الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة(5 ). والحقيقة أن الإجابة عن مشكلات الفلسفة التقليدية مثل طبيعة النفس والعالم والألوهية والأخلاق لم تشكل عند لوك الأولوية الأولى فى فلسفته وحلت محلها مهمة إقامة نظرية فى المعرفة، حتى أصبحت نظرية المعرفة عنده ذات الأولوية القصوى. صحيح أننا نجد لدى لوك آراء حول الجوهر والسببية والنفس والعالم والألوهية والأخلاق والسياسة، إلا أن آراءه حول هذه الموضوعات كانت نتيجة ثانوية للمبادئ التى وضعها فى صورة نظرية فى المعرفة.
سبق لديكارت أن بحث فى إشكالية المعرفة، لكن بحثه هذا ظل مقيداً بالطابع الميتافيزيقى لفلسفته، إذ شغلته إشكاليات العلاقة بين الفكر والامتداد، والنفس والجسم، وإثبات وجود الأنا أفكر ووجود العالم والألوهية وبساطة وخلود النفس. أما لوك فيتميز عن ديكارت فى أنه لم يجعل قضية العلاقة بين النفس والجسم تعيقه عن مهمة البحث فى الفهم الإنسانى. بدأ لوك بتناول عناصر الفهم الإنسانى مباشرة، من إدراكات حسية وأفكار وإحساسات وتصورات، دون أن يشغل نفسه كثيراً بالبحث فى فسيولوجيا الذهن ذات الطابع السيكولوجى أو فى الطبيعة العضوية للإدراك الحسى، وكان كل ما يهمه فى المعرفة الإنسانية هو كيفية حدوث المعرفة للفهم البشرى، لا الطبيعة العضوية للتفكير والتى توقع دائماً فى إشكالية الارتباط بين النفس والجسم.
أولاً - حياته وأعماله : جون لوك فيلسوف تجريبى إنجليزى، وُلد سنة 1632 وتُوفى سنة 1704، وكانت هذه الفترة من أكثر عصور الإضطراب والفوضى التى شهدتها إنجلترا فى تاريخها. تعلم لوك فى مدرسة وستنمنستر ثم فى جامعة أكسفورد بكلية كنيسة المسيح. وكانت دراسته فيها تؤهله للعمل فى السلك الدينى، لكنه آثر دراسة الطب والعلوم التجريبية، ومارس مهنة الطب لدى بعض الأسر الأرستقراطية الإنجليزية، وكان يلقب بالدكتور لوك، حيث كان ماهراً كطبيب وأجرى عملية جراحية ناجحة لأنتونى آشلى كوبر سنة 1668، وهو أحد النبلاء، مما مكنه من أن يصبح سكرتيراً لكوبر فى الأمور السياسية والاجتماعية. ومكنه هذا المنصب من أن ينضم إلى الجمعية الملكية للعلوم. وهناك ازداد اهتمامه بالفلسفة وأسس نادياً من أصدقائه ومعارفه لمناقشة القضايا الفلسفية والدينية. وعندما حصل كوبر على لقب لورد شافتسبرى وأصبح وزيراً للعدل ترقى معه لوك إلى منصب سكرتير هيئة التجارة، وفى سنة 1675 أكمل دراسته فى الطب وحصل على البكالوريوس. وقد طاف لوك بالعديد من الدول الأوروبية بحكم منصبه التجارى، فزار جنوب فرنسا وباريس بين عامى 1675 و1679، وتعرف هناك على الاتجاهات الفلسفية الأوروبية وخاصة فلسفة ديكارت وقرأ أهم مؤلفاته، وفى سنة 1683 زار هولندا وأقام بأمسترادم ثم روتردام سنة 1687( 1). وآخر المناصب التى تقلدها لوك كان مندوب الاستئناف، وهو منصب قضائى تأهل له بحكم منصبه التجارى السابق ومؤلفاته السياسية التى جذبت الانتباه.
ومن هنا نرى كيف أن خبرات لوك كانت متعددة للغاية، إذ بدأ بدراسة اللاهوت منذ صغره، وانتقل إلى دراسة الطب والعلوم التجريبية، ومنها إلى الفلسفة وأخيراً القانون والسياسة. وهذا هو السبب فى تعدد الموضوعات التى كتب فيها، إذ تغطى مؤلفاته الفلسفة: «مقال فى الفهم البشرى» (1690)، «رسالتان عن الحكومة المدنية» (1689)، «أفكار فى التربية» (1693)، «مقال فى التسامح» (1689 - 1692). كما أهلته دراسته للطب والعلوم التجريبية لأن يكون صاحب مذهب تجريبى فى الفلسفة.
وهكذا لم يكن لوك مقتصراً على الكتب والبحث النظرى فى الحصول على خبرته وأفكاره كمفكر، بل كان رجلاً عملياً إلى أقصى حد، أثرت رحلاته ومناصبه المختلفة التى تقلدها، من طبية إلى تجارية إلى قضائية فى فلسفته. وعلى الرغم من أن شئون الاقتصاد والسياسة كانت من صميم عمله، إلا أنها لم تمنعه من أن يصبح فيلسوفاً محترفاً. وقد اتصف لوك كفيلسوف بكل ما كان يتصف به المفكر فى ذلك العصر، إذ لم يكن كبار فلاسفة القرن السابع عشر منتمين إلى السلك الأكاديمى، فلم يتقلد لوك أى منصب جامعى ولم يُدِّرس فى أى جامعة(2 )، وكانت الفلسفة لديه هواية يمارسها فى أوقات فراغه من عمله الاقتصادى والسياسى والقضائى، لكنه رغماً عن ذلك أصبح من أشهر الفلاسفة الإنجليز، ويقدم لنا لوك مثالاً براقاً على فيلسوف محترف لم يتول تدريس الفلسفة فى الجامعة بل كانت الهواية التى تحولت بعد إتقانها إلى احتراف. وهذا هو ما يميز لوك وفلاسفة القرن السابع عشر، أما بعد عصر لوك ابتداءً من القرن الثامن عشر وحتى القرن العشرين فقد ظهر الفيلسوف المتخصص فى الفلسفة والمحترف المرتبط بالأكاديمية والذى لا ينتج نسقاً فلسفياً إلا بالتفرغ التام لها، باستثناء ديفيد هيوم بالطبع الذى تتشابه سيرته الذاتية مع سيرة لوك، وبذلك رأينا فلاسفة ارتبطوا بالأكاديمية وكانت هدفهم الوحيد، مثل كريستيان فولف، وكانط، وهيجل، ومعظم فلاسفة القرن التاسع عشر والعشرين.
ظهرت فلسفة لوك فى عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التى كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أى طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى فى كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزى، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التى أسفرت عنها الثورة، أى الجمع بين النظام الملكى والنظام البرلمانى فى نفس الوقت(3 )، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية.
ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التى تجمع فى نفس الوقت بين حق الملكية الذى يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التى تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذى يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أى طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفى نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة فى اعتماد العقل حكماً فى كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التى وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التى تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية ؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحى من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذى سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحى والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية فى اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى.
ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً فى المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذى تحرر العقل عندهم من أى تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هى طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التى صنعت نفسها وثروتها بالانشغال فى العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهى كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية فى فلسفة لوك هى التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس فى تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك فى المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، فى مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهى الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.
ثانياً - نظرية المعرفة باعتبارها مدخلاً للفلسفة:
إن الذى حفز لوك نحو إقامة فلسفة جديدة هو انشغاله بالأسئلة الفلسفية التقليدية المتعلقة بالنفس والعالم والألوهية. لكن بدلاً من انطلاقه نحو البحث فى هذه المشكلات بدأ بطريق لم يطرقه قبله معظم الفلاسفة، وهو البحث فى المعرفة الإنسانية(4 ). وكان مبرره فى هذا أن أى آراء حول مشكلات الفلسفة هى نمط من المعرفة، ولذلك فقبل أن نبدأ فى البحث فى المعرفة الإنسانية يجب أولاً البحث فى أداة هذه المعرفة وهى الفهم البشرى. ولهذا السبب يعد لوك أول من نظر إلى البحث فى طبيعة المعرفة الإنسانية على أنه النقطة التى يجب الانطلاق منها قبل البحث فى موضوعات المعرفة ذاتها. وهكذا كان لوك هو أول واضع لمبحث الابستمولوجيا أو نظرية المعرفة(5 ). والحقيقة أن الإجابة عن مشكلات الفلسفة التقليدية مثل طبيعة النفس والعالم والألوهية والأخلاق لم تشكل عند لوك الأولوية الأولى فى فلسفته وحلت محلها مهمة إقامة نظرية فى المعرفة، حتى أصبحت نظرية المعرفة عنده ذات الأولوية القصوى. صحيح أننا نجد لدى لوك آراء حول الجوهر والسببية والنفس والعالم والألوهية والأخلاق والسياسة، إلا أن آراءه حول هذه الموضوعات كانت نتيجة ثانوية للمبادئ التى وضعها فى صورة نظرية فى المعرفة.
سبق لديكارت أن بحث فى إشكالية المعرفة، لكن بحثه هذا ظل مقيداً بالطابع الميتافيزيقى لفلسفته، إذ شغلته إشكاليات العلاقة بين الفكر والامتداد، والنفس والجسم، وإثبات وجود الأنا أفكر ووجود العالم والألوهية وبساطة وخلود النفس. أما لوك فيتميز عن ديكارت فى أنه لم يجعل قضية العلاقة بين النفس والجسم تعيقه عن مهمة البحث فى الفهم الإنسانى. بدأ لوك بتناول عناصر الفهم الإنسانى مباشرة، من إدراكات حسية وأفكار وإحساسات وتصورات، دون أن يشغل نفسه كثيراً بالبحث فى فسيولوجيا الذهن ذات الطابع السيكولوجى أو فى الطبيعة العضوية للإدراك الحسى، وكان كل ما يهمه فى المعرفة الإنسانية هو كيفية حدوث المعرفة للفهم البشرى، لا الطبيعة العضوية للتفكير والتى توقع دائماً فى إشكالية الارتباط بين النفس والجسم.
ينقسم كتاب المقال إلى أربعة أجزاء:
الأول عن الأفكار الفطرية،
والثانى عن
الأفكار،
والثالث عن
الكلمات،
والرابع عن
المعرفة(6 ).
فى الجزء
الأول ينتقد لوك الرأى القائل بالأفكار الفطرية بناء على أن الخبرات البشرية متعددة، وأن ما هو
فطرى بالنسبة للبعض ليس كذلك بالنسبة للبعض الآخر، وأن أجناساً بشرية مختلفة تعتنق أفكاراً مختلفة
وتعتقد فى أنها فطرية،
وأن البشرية كلها ليست مجتمعة على القول بأفكار فطرية واحدة. هناك شعوب لا تعتقد
فى وجود هذه الأفكار فى الأصل، وهذا دليل على أنه ليس هناك إجماع بشرى عام على
أفكار فطرية واحدة، إذ لو
كانت هذه الأفكار الفطرية موجودة لكانت كل البشرية تعتقد فيها.
لا ينشغل لوك بفحص الذهن البشرى ذاته من حيث تركيبه العضوى أو من حيث العمليات العقلية التى يقوم بها، بل ينطلق مباشرة نحو فحص عناصر المعرفة فى الذهن البشرى من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات( 7). وهو يذهب إلى أن لكل الأفكار أصلها فى الحواس باعتبارها المصدر الأول لتلقى الانطباعات والإدراكات. والأفكار عنده هى ما يشكل كل المعرفة الإنسانية، ولذلك ينطلق نحو البحث فى «كيفية حضورها للذهن» ولا يجد سبيلاً تأتى به الأفكار إلى الذهن البشرى إلا عبر الإدراكات التى مصدرها الحواس.
لا ينشغل لوك بفحص الذهن البشرى ذاته من حيث تركيبه العضوى أو من حيث العمليات العقلية التى يقوم بها، بل ينطلق مباشرة نحو فحص عناصر المعرفة فى الذهن البشرى من إحساسات وإدراكات وأفكار وكلمات( 7). وهو يذهب إلى أن لكل الأفكار أصلها فى الحواس باعتبارها المصدر الأول لتلقى الانطباعات والإدراكات. والأفكار عنده هى ما يشكل كل المعرفة الإنسانية، ولذلك ينطلق نحو البحث فى «كيفية حضورها للذهن» ولا يجد سبيلاً تأتى به الأفكار إلى الذهن البشرى إلا عبر الإدراكات التى مصدرها الحواس.
ولأن لوك قد رفض نظرية الأفكار الفطرية فقد ذهب إلى أن كل أفكارنا ترجع إلى الخبرة التجريبية.
وعلى الرغم من ذلك فقد تمسك بمعنى واحد فقط للفطرية، فليست الأفكار هى الفطرية
عنده بل ملَكات الذهن من تذكر وتخيل ودمج بين الأفكار وبعضها، وكذلك الرغبة
والإرادة.
يبدأ لوك كتابه بتوضيح الهدف من تأليفه، ويذهب إلى أن الفهم هو الملكة التى تميز الإنسان عن باقى الكائنات الحية، ولذلك فإن البحث فيها له الأولوية القصوى، ذلك لأنه كما أن العين هى وسيلة الإنسان لرؤية الأشياء، فإن الفهم هو وسيلته فى الإدراك والمعرفة( 8). وقبل أن ينشغل الفيلسوف بإنتاج أيِّ نوع من المعرفة فإن الأولى هو البحث فى الفهم الذى هو أداة المعرفة. وهكذا يفتح لوك مجالاً جديداً للبحث الفلسفى يختلف عن مجالات الفلسفة التقليدية، إذ كان كل مذهب فلسفى سابق يبدأ مباشرة بالبحث فى قضايا الوجود وطبيعة الإنسان ومفهوم الحقيقة وواقعية العالم الخارجى ... إلخ، لكن يتوقف لوك عن وضع قضايا تخص هذه الموضوعات التقليدية كى يبدأ أولاً بالبحث فى أداة المعرفة. وبالتالى فإن المبحث الأول فى الفلسفة عند لوك يجب أن يكون بحثاً فى المعرفة الإنسانية، حدودها ونطاقها وإمكانياتها. ويذهب لوك إلى أن الفهم الإنسانى يشتغل على موضوعاته مباشرة دون ملاحظة نشاطه ذاته، وما يجب البدء به هو وضع هذا الفهم الإنسانى نفسه موضع البحث.
وعلى الرغم من أن هدف البحث عند لوك هو الفهم الإنسانى، إلا أنه لن يتناوله من منطلق دراسة فسيولوجية لوظائف المخ البشرى، ولن يبحث فى الحواس أو فى كيفية إدراكها للأشياء، بل سينطلق مباشرة إلى الكشف عن مكونات الفهم الإنسانى من أفكار بسيطة وأفكار مركبة، وصفات أولية وصفات ثانوية، والبحث فى كيفية إدراكه لمفاهيم مثل الجوهر والسببية والصفات والأحوال. وسوف يكون منهج لوك فى بحثه هو تتبع أصل الأفكار أو المفاهيم إلى مصادرها الأولى التى هى الإدراكات الحسية. وهدفه من ذلك هو بيان الحدود القصوى التى يمكن أن تصل إليها المعرفة البشرية، والتمييز بذلك بين المعرفة الصادقة ومجرد الرأي والاعتقاد( 9). وإذا وصل لوك إلى نطاق معرفى يتعدى قدرات الفهم الإنسانى فسوف يتوقف عن البحث فيه لأنه يتجاوز هذه القدرات، ويقصد بذلك موضوعات الميتافيزيقا التى لا تخضع للحواس أو الإدراك الحسى وتتجاوز بذلك حدود ما يمكن أن يعرفه الإنسان بوضوح وصدق ويقين. ذلك لأن لوك يعتقد فى أن المعرفة الواضحة هى المعرفة المرتبطة بقدرات الفهم الإنسانى المرتبطة بالإدراك الحسى، أما المعرفة الميتافيزيقية فهى فى نظره غامضة ومشوشة دائماً لأنها لا تعتمد على أى مصدر تجريبى. ويهدف لوك من ذلك إلى إمداد المعرفة بمقياس يستطيع الإنسان به التفريق بين المعرفة الواضحة والمعرفة الغامضة أو المشوشة، والتمييز بين الصدق واليقين من جهة والرأى والاعتقاد من جهة أخرى. وما دفع لوك نحو ذلك ما لاحظه من إختلاف المفكرين حول موضوعات المعرفة وعدم قدرتهم على الوصول إلى اليقين فى موضوعات الميتافيزيقا، فأراد فى مواجهة هذا الخلاف الوصول إلى الوضوح واليقين فى المعرفة،
ولم يجد لذلك من سبيل سوى ربط المعرفة الإنسانية بأصولها فى الإدراك الحسى الذى هو عنده يتمتع بالوضوح. وبذلك تكون الأفكار الواضحة عنده هى الأفكار ذات المصدر الحسى والمرتبطة بالإدراك الحسى، والأفكار الغامضة هى تلك التى تتجاوز نطاق الخبرة التجريبية.
يبدأ لوك كتابه بتوضيح الهدف من تأليفه، ويذهب إلى أن الفهم هو الملكة التى تميز الإنسان عن باقى الكائنات الحية، ولذلك فإن البحث فيها له الأولوية القصوى، ذلك لأنه كما أن العين هى وسيلة الإنسان لرؤية الأشياء، فإن الفهم هو وسيلته فى الإدراك والمعرفة( 8). وقبل أن ينشغل الفيلسوف بإنتاج أيِّ نوع من المعرفة فإن الأولى هو البحث فى الفهم الذى هو أداة المعرفة. وهكذا يفتح لوك مجالاً جديداً للبحث الفلسفى يختلف عن مجالات الفلسفة التقليدية، إذ كان كل مذهب فلسفى سابق يبدأ مباشرة بالبحث فى قضايا الوجود وطبيعة الإنسان ومفهوم الحقيقة وواقعية العالم الخارجى ... إلخ، لكن يتوقف لوك عن وضع قضايا تخص هذه الموضوعات التقليدية كى يبدأ أولاً بالبحث فى أداة المعرفة. وبالتالى فإن المبحث الأول فى الفلسفة عند لوك يجب أن يكون بحثاً فى المعرفة الإنسانية، حدودها ونطاقها وإمكانياتها. ويذهب لوك إلى أن الفهم الإنسانى يشتغل على موضوعاته مباشرة دون ملاحظة نشاطه ذاته، وما يجب البدء به هو وضع هذا الفهم الإنسانى نفسه موضع البحث.
وعلى الرغم من أن هدف البحث عند لوك هو الفهم الإنسانى، إلا أنه لن يتناوله من منطلق دراسة فسيولوجية لوظائف المخ البشرى، ولن يبحث فى الحواس أو فى كيفية إدراكها للأشياء، بل سينطلق مباشرة إلى الكشف عن مكونات الفهم الإنسانى من أفكار بسيطة وأفكار مركبة، وصفات أولية وصفات ثانوية، والبحث فى كيفية إدراكه لمفاهيم مثل الجوهر والسببية والصفات والأحوال. وسوف يكون منهج لوك فى بحثه هو تتبع أصل الأفكار أو المفاهيم إلى مصادرها الأولى التى هى الإدراكات الحسية. وهدفه من ذلك هو بيان الحدود القصوى التى يمكن أن تصل إليها المعرفة البشرية، والتمييز بذلك بين المعرفة الصادقة ومجرد الرأي والاعتقاد( 9). وإذا وصل لوك إلى نطاق معرفى يتعدى قدرات الفهم الإنسانى فسوف يتوقف عن البحث فيه لأنه يتجاوز هذه القدرات، ويقصد بذلك موضوعات الميتافيزيقا التى لا تخضع للحواس أو الإدراك الحسى وتتجاوز بذلك حدود ما يمكن أن يعرفه الإنسان بوضوح وصدق ويقين. ذلك لأن لوك يعتقد فى أن المعرفة الواضحة هى المعرفة المرتبطة بقدرات الفهم الإنسانى المرتبطة بالإدراك الحسى، أما المعرفة الميتافيزيقية فهى فى نظره غامضة ومشوشة دائماً لأنها لا تعتمد على أى مصدر تجريبى. ويهدف لوك من ذلك إلى إمداد المعرفة بمقياس يستطيع الإنسان به التفريق بين المعرفة الواضحة والمعرفة الغامضة أو المشوشة، والتمييز بين الصدق واليقين من جهة والرأى والاعتقاد من جهة أخرى. وما دفع لوك نحو ذلك ما لاحظه من إختلاف المفكرين حول موضوعات المعرفة وعدم قدرتهم على الوصول إلى اليقين فى موضوعات الميتافيزيقا، فأراد فى مواجهة هذا الخلاف الوصول إلى الوضوح واليقين فى المعرفة،
ولم يجد لذلك من سبيل سوى ربط المعرفة الإنسانية بأصولها فى الإدراك الحسى الذى هو عنده يتمتع بالوضوح. وبذلك تكون الأفكار الواضحة عنده هى الأفكار ذات المصدر الحسى والمرتبطة بالإدراك الحسى، والأفكار الغامضة هى تلك التى تتجاوز نطاق الخبرة التجريبية.
ثالثاً - نقد نظرية الأفكار الفطرية :
لا يستقبل الذهن البشرى إلا الإحساسات والإدراكات الحسية والأفكار، أما مفاهيم العلاقة والسببية والجوهر والأعراض والأحوال فلا يستقبلها الذهن من الخبرة بل يتوصل إليها عن طريق التركيب والدمج بين ما تلقاه من مدركات.
وبينما يكون استقبال الذهن للمدركات مجرد تلقٍ
سلبى لها، فإن العلاقة والسببية والجوهر والأعراض تعبر عن الدور الفاعل للذهن. الحواس سلبية والذهن إيجابى، الحواس متلقية
ومستقبلة والذهن فاعل ونشط( 10). وعلى هذا تكون كل المفاهيم العقلية معبرة عن نشاط
الذهن الإنسانى فى التركيب بين المدركات، وتكون كل علاقة منها هى الطريقة الخاصة
التى ترتبط بها المدركات فى العقل. فالسببية مثلاً هى ربط الذهن بين حادثة وأخرى
تكون الأولى سبباً للثانية، والجوهر هو علاقة بين الصفات وحاملها الذى هو الجسم
المادى، وتكون علاقة الجوهر والعرض هى ربط الذهن بين صفات أولية مثل الامتداد
والصلابة وصفات ثانوية مثل اللون والرائحة والطعم.
وعلى هذا تتحدد فاعلية الذهن البشرى بما يستقبله من إدراكات، أما هذا الذهن نفسه وبدون مدركات يتلقاها من الحواس فهو مثل الصفحة البيضا tabula rasa الخالية من أى تحديد أو علامات مسبقة موروثة أو فطرية وتأتى الخبرة التجريبية لتكتب عليها ما تشاء. لكن يجب أن ننتبه إلى أن استخدام لوك لتعبير الصفحة البيضاء غير دقيق ولا يتفق مع نظريته فى المعرفة.
لقد ذهب لوك إلى أن الذهن البشرى صفحة بيضاء كي يؤكد على أنه يدخل فى التجربة وهو غير محمل بأي أفكار مسبقة أو فطرية وأن كل ما فى هذا الذهن مصدره التجربة والخبرة التجريبية، لكن هذا التعبير غير صحيح إذا جعلنا نعتقد أن الذهن مجرد متلق سلبيٍ للإدراكات، ذلك لأنه، كما رأينا، فاعل ونشط، يركب ويدمج بين الإدراكات ليقيم بينها علاقات وكذلك فإن أفعال الذهن هى مصدر لأفكار جديدة غير موجودة فى التجربة. فإذا بحثنا فى مفهوم السببية أو مفهوم القوام أو الجوهر والعرض فلن نجدها حاضرة جاهزة فى التجربة، بل هى نتاج لنشاط الذهن فى التركيب والدمج بين الإدراكات على نحو معين. ليس الذهن صفحة بيضاء لأنه هو نفسه يعد مصدراً لمفاهيم غير موجودة فى التجربة. ولذلك ليست تلك الصفحة بيضاء تماماً، إذ نجد فيها مفاهيم مكتوبة عليها غير موجودة فى التجربة، والذهن نفسه مصدرها، لكن وفى نفس الوقت يذهب لوك إلى أن المفاهيم العقلية المجردة لم تكن لتوجد فى الذهن لولا احتكاكه بالتجربة، إذ لو لم يستقبل الذهن البشرى أشياء تكون سبباً لأشياء أخرى، أو أشياء تكون متغيرة مثل اللون بالنظر إلى الثابت وهو الجسم الممتد لما توصل إلى مفاهيم مثل السببية والجوهر والأعراض.
ويطلق لوك مصطلح «الفكرة» Idea على كل عناصر وموضوعات الفهم، سواء كانت تصورات أو تمثلات حسية أو مقولات أو كليات( 11)، ومبرر لوك فى هذه التسمية الواسعة أن كل هذه المفاهيم هى الموضوعات التى يفكر فيها الفهم الإنسانى. فكل ما يتناوله الفهم بالتفكير ويكون موضوعاً لوظائفه يسميه فكرة.
وعلى هذا تتحدد فاعلية الذهن البشرى بما يستقبله من إدراكات، أما هذا الذهن نفسه وبدون مدركات يتلقاها من الحواس فهو مثل الصفحة البيضا tabula rasa الخالية من أى تحديد أو علامات مسبقة موروثة أو فطرية وتأتى الخبرة التجريبية لتكتب عليها ما تشاء. لكن يجب أن ننتبه إلى أن استخدام لوك لتعبير الصفحة البيضاء غير دقيق ولا يتفق مع نظريته فى المعرفة.
لقد ذهب لوك إلى أن الذهن البشرى صفحة بيضاء كي يؤكد على أنه يدخل فى التجربة وهو غير محمل بأي أفكار مسبقة أو فطرية وأن كل ما فى هذا الذهن مصدره التجربة والخبرة التجريبية، لكن هذا التعبير غير صحيح إذا جعلنا نعتقد أن الذهن مجرد متلق سلبيٍ للإدراكات، ذلك لأنه، كما رأينا، فاعل ونشط، يركب ويدمج بين الإدراكات ليقيم بينها علاقات وكذلك فإن أفعال الذهن هى مصدر لأفكار جديدة غير موجودة فى التجربة. فإذا بحثنا فى مفهوم السببية أو مفهوم القوام أو الجوهر والعرض فلن نجدها حاضرة جاهزة فى التجربة، بل هى نتاج لنشاط الذهن فى التركيب والدمج بين الإدراكات على نحو معين. ليس الذهن صفحة بيضاء لأنه هو نفسه يعد مصدراً لمفاهيم غير موجودة فى التجربة. ولذلك ليست تلك الصفحة بيضاء تماماً، إذ نجد فيها مفاهيم مكتوبة عليها غير موجودة فى التجربة، والذهن نفسه مصدرها، لكن وفى نفس الوقت يذهب لوك إلى أن المفاهيم العقلية المجردة لم تكن لتوجد فى الذهن لولا احتكاكه بالتجربة، إذ لو لم يستقبل الذهن البشرى أشياء تكون سبباً لأشياء أخرى، أو أشياء تكون متغيرة مثل اللون بالنظر إلى الثابت وهو الجسم الممتد لما توصل إلى مفاهيم مثل السببية والجوهر والأعراض.
ويطلق لوك مصطلح «الفكرة» Idea على كل عناصر وموضوعات الفهم، سواء كانت تصورات أو تمثلات حسية أو مقولات أو كليات( 11)، ومبرر لوك فى هذه التسمية الواسعة أن كل هذه المفاهيم هى الموضوعات التى يفكر فيها الفهم الإنسانى. فكل ما يتناوله الفهم بالتفكير ويكون موضوعاً لوظائفه يسميه فكرة.
وأول ما يقوم به لوك هو البحث فى مصدر أو أصل
الأفكار، ولأن مصدر الأفكار عند لوك هو الإدراك الحسى والخبرة التجريبية فهو يبدأ
بنقد النظرية القائلة أن فى العقل البشرى أفكاراً فطرية يولد بها ويمتلكها من ذاته
دون أن يستقيها من أي مصدر خارجى، أي النظرية المعروفة بنظرية الأفكار الفطرية.
وأول من قال بهذه النظرية هو أفلاطون، وأبرز من قال بها من المحدثين ديكارت، وفى
عصر لوك تم إحياء هذه النظرية فى إنجلترا وخاصة من قبل بعض المفكرين فى جامعة
كيمبردج والذين يطلق عليهم اسم «أفلاطونيو كيمبردج»( 12). تنص هذه النظرية على أن فى العقل البشرى أفكاراً
فطرية يولد بها ولا ترجع بأصولها إلى الخبرة التجريبية، مثل كل الأفكار العامة عن
الكليات مثل الجنس والنوع والكل والأجزاء والجوهر والسببية، وحتى على المستوى الأخلاقى فهناك اعتقاد فى وجود أفكار أخلاقية فطرية مثل
العدالة والفضيلة والسعادة.
يبدأ لوك كتابه بتوضيح أن ما تعارف عليه دائماً على أنه أفكار فطرية ليس كذلك بل
ترجع هذه الأفكار كلها إلى الخبرة التجريبية.
وينكر لوك وجود أي أفكار فطرية فى العقل البشرى، وطريقته فى نقد النظرية القائلة بالأفكار الفطرية هى أن يوضح:
1 - أن الأفكار التى يعتقد أنها فطرية ليست كذلك بل ترجع إلى الخبرة التجريبية.
2 - أننا قادرون على تكوين معرفة دون الاستعانة بأي أفكار فطرية وبالاعتماد على التجربة والخبرة التجريبية وحدها( 13).
وأول دليل تستند عليه نظرية الأفكار الفطرية هو دليل الإجماع والإتفاق، إذ تذهب هذه النظرية إلى أن كل البشر مجمعون ومتفقون على مجموعة من الأفكار يعتقدون أنها فطرية، مثل أن الشئ الواحد لا يمكن أن يوجد وأن لا يوجد فى نفس الوقت؛ أو بتعبير المناطقة أن أ لا يمكن أن تكون أ ولا أ فى نفس الوقت، وأن المساويان لثالث متساويان وأن الكل أكبر من أجزاءه. ويرد لوك على هذه الحجة بقوله إن هذه الأفكار لا يوجد حولها الإجماع أو الاتفاق المفترض فيها، ذلك لأن الأطفال والمجانين لا يعتقدون فيها، فالطفل يمكن أن يقبل بسهولة وجود الشئ وعدم وجوده فى نفس الوقت، كما أنه لا يعرف أن المتساويان لشئ واحد متساويان بالنسبة لبعضهما. ومعنى هذا أنه إذا كانت هناك أفكار فطرية مطبوعة فى النفس الإنسانية فيجب أن يعرفها الأطفال، أو أن يعرفها الهمج والبرابرة الذين لم ينالوا قسطاً من الحضارة والتمدن. فالطفل لا يمكنه أن يعرف مثل هذه الأفكار إلا بالتعلم ولا يمكن أن يتوصل إليها بنفسه، وكونه لا يتوصل إليها إلا بالتعليم يعنى أنها فى حاجة إلى الخبرة وإلى البرهنة على وجودها، وما يفتقر إلى البرهان والتعلم لا يمكن أن يكون فطرياً.
ويدلل أصحاب نظرية الأفكار الفطرية على صحة نظريتهم بقولهم إن العقل يكتشف الأفكار الفطرية بذاته ودون حاجة إلى أي خبرة تجريبية، ويرد عليهم لوك قائلاً إن اكتشاف العقل لها لا يعد دليلاً على فطريتها، إذ معنى هذا أن النظريات الرياضية فطرية تماماً مثل المسلمات والبديهيات التى تنطلق منها، ومحال أن تكون النظريات الرياضية فطرية، لأننا لا نعرف بالفطرة أن مجموع زوايا المثلث تساوى 180 درجة أو أن المثلث ذو الزاويتين المتساويتين لديه ضلعين متساويين( 14). فعلى الرغم من أن هذه النتائج قد توصلنا إليها بالاستنباط من بديهيات سابقة عليها إلا أنها ليست فطرية، فليس كل ما يكتشفه العقل فطرى، ذلك لأن استخدام العقل ذاته فى البرهان والاستنباط يعد نوعاً من الخبرة المرتبطة بالتجربة. ويؤكد لوك على صحة نقده هذا بقوله إنه إذا كانت الأفكار فطرية فكيف إذن احتاجت إلى البرهان وإعمال العقل لاكتشافها؟ وإذا كانت فطرية فلماذا لم يعرفها العقل مباشرة قبل استخدامه للبرهان؟ إذ معنى هذا هو أن فى العقل أفكاراً فطرية لا يعرفها قبل اكتشافها فى البرهان، أو القول بأن العقل يعرف ولا يعرف الأفكار الفطرية فى نفس الوقت، وهذا تناقض.
إن اكتشاف العقل للأفكار الفطرية يعد تناقضاً، ذلك لأن استخدام العقل ذاته فى التوصل إليها لا يجعلها فطرية بل يجعلها نتاج استخدام هذا العقل. ولذلك يشرح لوك كيف يتوصل العقل إلى الأفكار العامة من الخبرة التجريبية؛ تبدأ الحواس أولاً فى إمداد العقل ببعض الانطباعات التى يفهمها العقل على أنها أفكار، وعندما يعتاد عليها العقل تصبح محفوظة فى الذاكرة ويضع لها العقل أسماءً، ثم يقوم العقل بتجريد هذه الأفكار للوصول إلى العام والمشترك بينها ويضع لها اسماً( 15)، ويكون هذا الاسم فكرة عامة، وعندما يتوصل العقل أو ينتج الأفكار العامة يستخدمها فى تفكيره. ومعنى ذلك أن الأفكار العامة هى نتاج للنشاط التجريدى والتعميمى للعقل وليست فطرية أبداً، لأنها ليست سوى تجريد للأفكار البسيطة التى يتلقاها العقل من الحواس.
ويذهب لوك إلى أن الإجماع على كون بعض الأفكار فطرية لا يقف دليلاً على فطريتها، ذلك لأن أصحاب هذه النظرية ينظرون إلى الرياضيات على أنها فطرية، فمثلاً ينظرون إلى 3 + 4 = 7 على أنها فطرية وهى ليست كذلك. فالطفل لا يتوصل إليها إلا بعد أن يمارس الجمع ويدرك مفهوم التساوى، وهم يقولون إنه بمجرد ما أن يصل العقل إلى هذه النتيجة حتى يحدث الإجماع حول بداهتها وفطريتها( 16). لكن يتناسى هؤلاء أن ما تم الإجماع عليه ليس سوى نتيجة لفعل الجمع الذى ينتمى إلى التجربة، ولذلك فإجماعهم على ما يعد نتيجة خبرة تجريبية باعتباره فطرياً يعد تناقضاً، فالإجماع لا يعد دليلاً على فطرية أفكار توصلنا إليها بالتجربة. صحيح أننا لا نحتاج إلى التجربة، أي إلى فعل العد والجمع كلما فكرنا فى 3 + 4 من ناحية و7 من ناحية أخرى، إلا أن هذا بسبب اعتياد العقل على هذه الفكرة بعد أن تعلمها، ويشير إلى استغناء العقل عن ممارسة فعل العد والجمع بعد أن مارسه للمرة الأولى. واعتياد العقل على هذه النتيجة هو
ما يجعله يأخذها باعتبارها مسلمة أو بديهية أو فطرية فى حين يكون مصدرها الخبرة التجريبية.
وينكر لوك وجود أي أفكار فطرية فى العقل البشرى، وطريقته فى نقد النظرية القائلة بالأفكار الفطرية هى أن يوضح:
1 - أن الأفكار التى يعتقد أنها فطرية ليست كذلك بل ترجع إلى الخبرة التجريبية.
2 - أننا قادرون على تكوين معرفة دون الاستعانة بأي أفكار فطرية وبالاعتماد على التجربة والخبرة التجريبية وحدها( 13).
وأول دليل تستند عليه نظرية الأفكار الفطرية هو دليل الإجماع والإتفاق، إذ تذهب هذه النظرية إلى أن كل البشر مجمعون ومتفقون على مجموعة من الأفكار يعتقدون أنها فطرية، مثل أن الشئ الواحد لا يمكن أن يوجد وأن لا يوجد فى نفس الوقت؛ أو بتعبير المناطقة أن أ لا يمكن أن تكون أ ولا أ فى نفس الوقت، وأن المساويان لثالث متساويان وأن الكل أكبر من أجزاءه. ويرد لوك على هذه الحجة بقوله إن هذه الأفكار لا يوجد حولها الإجماع أو الاتفاق المفترض فيها، ذلك لأن الأطفال والمجانين لا يعتقدون فيها، فالطفل يمكن أن يقبل بسهولة وجود الشئ وعدم وجوده فى نفس الوقت، كما أنه لا يعرف أن المتساويان لشئ واحد متساويان بالنسبة لبعضهما. ومعنى هذا أنه إذا كانت هناك أفكار فطرية مطبوعة فى النفس الإنسانية فيجب أن يعرفها الأطفال، أو أن يعرفها الهمج والبرابرة الذين لم ينالوا قسطاً من الحضارة والتمدن. فالطفل لا يمكنه أن يعرف مثل هذه الأفكار إلا بالتعلم ولا يمكن أن يتوصل إليها بنفسه، وكونه لا يتوصل إليها إلا بالتعليم يعنى أنها فى حاجة إلى الخبرة وإلى البرهنة على وجودها، وما يفتقر إلى البرهان والتعلم لا يمكن أن يكون فطرياً.
ويدلل أصحاب نظرية الأفكار الفطرية على صحة نظريتهم بقولهم إن العقل يكتشف الأفكار الفطرية بذاته ودون حاجة إلى أي خبرة تجريبية، ويرد عليهم لوك قائلاً إن اكتشاف العقل لها لا يعد دليلاً على فطريتها، إذ معنى هذا أن النظريات الرياضية فطرية تماماً مثل المسلمات والبديهيات التى تنطلق منها، ومحال أن تكون النظريات الرياضية فطرية، لأننا لا نعرف بالفطرة أن مجموع زوايا المثلث تساوى 180 درجة أو أن المثلث ذو الزاويتين المتساويتين لديه ضلعين متساويين( 14). فعلى الرغم من أن هذه النتائج قد توصلنا إليها بالاستنباط من بديهيات سابقة عليها إلا أنها ليست فطرية، فليس كل ما يكتشفه العقل فطرى، ذلك لأن استخدام العقل ذاته فى البرهان والاستنباط يعد نوعاً من الخبرة المرتبطة بالتجربة. ويؤكد لوك على صحة نقده هذا بقوله إنه إذا كانت الأفكار فطرية فكيف إذن احتاجت إلى البرهان وإعمال العقل لاكتشافها؟ وإذا كانت فطرية فلماذا لم يعرفها العقل مباشرة قبل استخدامه للبرهان؟ إذ معنى هذا هو أن فى العقل أفكاراً فطرية لا يعرفها قبل اكتشافها فى البرهان، أو القول بأن العقل يعرف ولا يعرف الأفكار الفطرية فى نفس الوقت، وهذا تناقض.
إن اكتشاف العقل للأفكار الفطرية يعد تناقضاً، ذلك لأن استخدام العقل ذاته فى التوصل إليها لا يجعلها فطرية بل يجعلها نتاج استخدام هذا العقل. ولذلك يشرح لوك كيف يتوصل العقل إلى الأفكار العامة من الخبرة التجريبية؛ تبدأ الحواس أولاً فى إمداد العقل ببعض الانطباعات التى يفهمها العقل على أنها أفكار، وعندما يعتاد عليها العقل تصبح محفوظة فى الذاكرة ويضع لها العقل أسماءً، ثم يقوم العقل بتجريد هذه الأفكار للوصول إلى العام والمشترك بينها ويضع لها اسماً( 15)، ويكون هذا الاسم فكرة عامة، وعندما يتوصل العقل أو ينتج الأفكار العامة يستخدمها فى تفكيره. ومعنى ذلك أن الأفكار العامة هى نتاج للنشاط التجريدى والتعميمى للعقل وليست فطرية أبداً، لأنها ليست سوى تجريد للأفكار البسيطة التى يتلقاها العقل من الحواس.
ويذهب لوك إلى أن الإجماع على كون بعض الأفكار فطرية لا يقف دليلاً على فطريتها، ذلك لأن أصحاب هذه النظرية ينظرون إلى الرياضيات على أنها فطرية، فمثلاً ينظرون إلى 3 + 4 = 7 على أنها فطرية وهى ليست كذلك. فالطفل لا يتوصل إليها إلا بعد أن يمارس الجمع ويدرك مفهوم التساوى، وهم يقولون إنه بمجرد ما أن يصل العقل إلى هذه النتيجة حتى يحدث الإجماع حول بداهتها وفطريتها( 16). لكن يتناسى هؤلاء أن ما تم الإجماع عليه ليس سوى نتيجة لفعل الجمع الذى ينتمى إلى التجربة، ولذلك فإجماعهم على ما يعد نتيجة خبرة تجريبية باعتباره فطرياً يعد تناقضاً، فالإجماع لا يعد دليلاً على فطرية أفكار توصلنا إليها بالتجربة. صحيح أننا لا نحتاج إلى التجربة، أي إلى فعل العد والجمع كلما فكرنا فى 3 + 4 من ناحية و7 من ناحية أخرى، إلا أن هذا بسبب اعتياد العقل على هذه الفكرة بعد أن تعلمها، ويشير إلى استغناء العقل عن ممارسة فعل العد والجمع بعد أن مارسه للمرة الأولى. واعتياد العقل على هذه النتيجة هو
ما يجعله يأخذها باعتبارها مسلمة أو بديهية أو فطرية فى حين يكون مصدرها الخبرة التجريبية.
وفكرة التساوى بين عددين وعدد ثالث ليست فطرية بأي
حال من الأحوال، لأن العقل لا يدرك مفهوم التساوى إلا بعد أن يمارس فعل الجمع نفسه
ويكتشف التساوى من الخبرة التجريبية.
ومثلما يرفض لوك وجود أفكار فطرية فى العقل فهو أيضاً ينكر وجود مبادئ أخلاقية فطرية. والحقيقة أن نظرية لوك فى هذا الشأن تتصف بشئ من الغرابة، ذلك لأنه ينكر أن تكون الفضيلة قيمة فطرية، فى حين يُعتقد دائماً أنها قيمة عليا واضحة بذاتها، لكن على العكس من الاعتقاد الشائع حول أسبقية الفضيلة وقيمتها القبلية الفطرية، يذهب لوك إلى أنها ليست كذلك. ذلك لأن الفضيلة وجودها نادر فى العالم الإنسانى، ولا يتوصل إليها الإنسان إلا عندما يتفاعل مع الآخرين ويعرف الصواب والخطأ ويميز بين البشر على أساس سلوكهم، وهذه كلها خبرات تجريبية، فحسب لوك نحن نعرف الفضيلة من خبرتنا بالسلوك وتفاعلنا مع الآخرين. والفضيلة عنده ليست فطرية لأن من عادة البشر أن يسلكوا حسب المصلحة الشخصية وحسب مبدأ جني المنفعة وتجنب الخسارة وتعظيم الثروة والسعي نحو اللذة وتجنب الألم. فإذا كانت الفضيلة فطرية لرأينا كل الناس فضلاء، لكن الأمور تسير عكس ذلك، وإذا كانت فطرية لرأينا الناس يمتلكون تعريفاً واحداً واضحاً ومتميزاً عن الفضيلة، فى حين أن مفهوم الفضيلة غامض لدى الكثيرين(17)، ولا يمكن أن تكون الفكرة الغامضة والتى ليس عليها اتفاق فى تعريفها فطرية، أما المبادئ الأخلاقية فليست فطرية، ذلك لأن كل أمة لديها المبادئ الأخلاقية الخاصة بها والمختلفة عن باقى الأمم، بل إن الشعوب المختلفة تعتنق مبادئ أخلاقية متناقضة؛ فالصواب عند أمة يمكن أن يكون خطأ عند أمة أخرى، والخطأ عند أمة يمكن أن يكون صواباً عند أمة أخرى. وإذا كانت المبادئ الأخلاقية فطرية فلماذا نراها تنتهك ولا تُتَّبع لدى غالبية الشعوب؟ إن كل ذلك يثبت أنها ليست فطرية.
ومثلما يرفض لوك وجود أفكار فطرية فى العقل فهو أيضاً ينكر وجود مبادئ أخلاقية فطرية. والحقيقة أن نظرية لوك فى هذا الشأن تتصف بشئ من الغرابة، ذلك لأنه ينكر أن تكون الفضيلة قيمة فطرية، فى حين يُعتقد دائماً أنها قيمة عليا واضحة بذاتها، لكن على العكس من الاعتقاد الشائع حول أسبقية الفضيلة وقيمتها القبلية الفطرية، يذهب لوك إلى أنها ليست كذلك. ذلك لأن الفضيلة وجودها نادر فى العالم الإنسانى، ولا يتوصل إليها الإنسان إلا عندما يتفاعل مع الآخرين ويعرف الصواب والخطأ ويميز بين البشر على أساس سلوكهم، وهذه كلها خبرات تجريبية، فحسب لوك نحن نعرف الفضيلة من خبرتنا بالسلوك وتفاعلنا مع الآخرين. والفضيلة عنده ليست فطرية لأن من عادة البشر أن يسلكوا حسب المصلحة الشخصية وحسب مبدأ جني المنفعة وتجنب الخسارة وتعظيم الثروة والسعي نحو اللذة وتجنب الألم. فإذا كانت الفضيلة فطرية لرأينا كل الناس فضلاء، لكن الأمور تسير عكس ذلك، وإذا كانت فطرية لرأينا الناس يمتلكون تعريفاً واحداً واضحاً ومتميزاً عن الفضيلة، فى حين أن مفهوم الفضيلة غامض لدى الكثيرين(17)، ولا يمكن أن تكون الفكرة الغامضة والتى ليس عليها اتفاق فى تعريفها فطرية، أما المبادئ الأخلاقية فليست فطرية، ذلك لأن كل أمة لديها المبادئ الأخلاقية الخاصة بها والمختلفة عن باقى الأمم، بل إن الشعوب المختلفة تعتنق مبادئ أخلاقية متناقضة؛ فالصواب عند أمة يمكن أن يكون خطأ عند أمة أخرى، والخطأ عند أمة يمكن أن يكون صواباً عند أمة أخرى. وإذا كانت المبادئ الأخلاقية فطرية فلماذا نراها تنتهك ولا تُتَّبع لدى غالبية الشعوب؟ إن كل ذلك يثبت أنها ليست فطرية.
رابعاً - طبيعة وأصل الأفكار :
يذهب لوك إلى أن الأفكار هى العناصر التى يشتغل عليها التفكير، وهى أيضاً المادة الأولى التى يصنع منها العقل أفكاراً أخرى مركبة. ويطلق لوك مصطلح «الأفكار» Ideas على طائفة كبيرة من التصورات والمفاهيم بصرف النظر عن مدى عموميتها أو درجة تجريدها، فالأفكار عنده تضم كلمات مثل «البياض، الصلابة، الحلاوة، التفكير، الحركة، الإنسان، الفيل، الجيش، السُكْر». والملاحظ أن هذه الكلمات منها ما يرتبط بالإحساس مثل البياض والصلابة والحلاوة، ومنها ما يرتبط بالكليات المجردة مثل الإنسان، وما يرتبط بالنوع بالمعنى البيولوجى مثل الفيل والإنسان، ومنها ما يرتبط بالصفة التى تجمع مجموعة من البشر مثل الجيش، وما يرتبط بالوعى والشعور مثل السُكْر( 18). ومعنى هذا أن لوك لا يميز بين التصور التجريبى والتصور المجرد والشعور، بما أنه يعتبر أن الصلابة والحركة والسُكْر كلها أفكار. وما يجعله يضم هذه الطائفة الكبيرة من التصورات تحت مسمى «الأفكار» هو أنها جميعاً أدوات العقل فى التفكير.
ويتساءل لوك بعد ذلك عن مصدر هذه الأفكار، ومن أين تأتى؟، ويذهب إلى أننا لو افترضنا أن العقل صفحة بيضاء، أي خالية من أي أفكار فطرية أو مسبقة، فإن المصدر الوحيد الذى تأتى به هذه الأفكار للعقل هو الخبرة experience. هذه الخبرة إما أن يكون مصدرها الإحساس أو العمليات الذهنية.
فأفكار مثل الصلابة والحلاوة والامتداد يكون
مصدرها الإحساس، وأفكار مثل الشك والاعتقاد والاستدلال والمعرفة والإرادة يكون
مصدرها هو إدراك العقل للعمليات الذهنية التى يقوم بها. فعندما أفكر فى نشاطى الذهنى ألاحظ أننى إما
أن أتمسك بشيء ويكون هذا اعتقاداً أو أشك فى وجوده أو صدقه ويكون هذا شكاً، أو
تكون لدى عنه معلومات وتكون هذه معرفة، وعندما ألاحظ أن عقلى ينتقل من مقدمة إلى
نتيجة تلزم عنها يكون هذا استدلالاً.
ويذهب لوك أن الإحساس وإدراك العمليات الذهنية هما المصدران الوحيدان لما يحتويه العقل من أفكار. كما أن طبيعة الأفكار تنقسم إلى نوعين حسب هذين المصدرين، فهما إما أفكار عن الإدراك الحسى أو أفكار عن العمليات الذهنية. ويلاحظ لوك أن أفكار الإدراك الحسى هى التى تأتى للعقل أولاً تتبعها أفكار العمليات الذهنية، ذلك لأن هذا هو نفس الترتيب الذى يحدث للأطفال، إذ أنهم لا يدركون أفكار العمليات الذهنية إلا بعد أن يحصلوا على أفكار الإدراك الحسى (19)، وهذا بسبب أن أفكار الإدراك الحسى يتلقاها الأطفال بتلقائية ومباشرة، أما أفكار العمليات الذهنية فهى فى حاجة إلى التفكير والانتباه والانعكاس على النشاط الذهنى، فيجب أن ينشط الذهن أولاً بتلقى الإحساسات التي تتحول فيه إلى أفكار كي ينعكس الذهن على ما يقوم به من نشاط تفكيري. كما أن النفس البشرية لا تحصل على الأفكار إلا بعد الإدراك الحسى، ولا تنشغل هذه النفس بالتفكير دائماً، لأن التفكير فى العمليات الذهنية يحتاج إلى التأمل والانتباه، وهذا ما لا يحدث دائماً. لوك إذن يعطى الأولوية للإدراك الحسي الذى يتلقى به الذهن الأفكار، ثم يأتى التأمل والانتباه فى العمليات الذهنية بعد أن يكون الذهن حاصلاً على أفكار من الإدراك الحسى. والحقيقة أن لوك يقر بأن هذا التراتب: إدراك حسى - أفكار - عمليات ذهنية - أفكار عن العمليات الذهنية، هو تراتب فى الدرجة وفى الزمن، أي تراتب إبستمولوجى على مستوى نظرية المعرفة وتراتب سيكولوجي أو سيكومعرفى على مستوى التطور المعرفى للطفل؛ وهذا ما سوف يظهر بعد ذلك لدى الإبستمولوجيا التطورية عند جان بياجيه.
ويذهب لوك أن الإحساس وإدراك العمليات الذهنية هما المصدران الوحيدان لما يحتويه العقل من أفكار. كما أن طبيعة الأفكار تنقسم إلى نوعين حسب هذين المصدرين، فهما إما أفكار عن الإدراك الحسى أو أفكار عن العمليات الذهنية. ويلاحظ لوك أن أفكار الإدراك الحسى هى التى تأتى للعقل أولاً تتبعها أفكار العمليات الذهنية، ذلك لأن هذا هو نفس الترتيب الذى يحدث للأطفال، إذ أنهم لا يدركون أفكار العمليات الذهنية إلا بعد أن يحصلوا على أفكار الإدراك الحسى (19)، وهذا بسبب أن أفكار الإدراك الحسى يتلقاها الأطفال بتلقائية ومباشرة، أما أفكار العمليات الذهنية فهى فى حاجة إلى التفكير والانتباه والانعكاس على النشاط الذهنى، فيجب أن ينشط الذهن أولاً بتلقى الإحساسات التي تتحول فيه إلى أفكار كي ينعكس الذهن على ما يقوم به من نشاط تفكيري. كما أن النفس البشرية لا تحصل على الأفكار إلا بعد الإدراك الحسى، ولا تنشغل هذه النفس بالتفكير دائماً، لأن التفكير فى العمليات الذهنية يحتاج إلى التأمل والانتباه، وهذا ما لا يحدث دائماً. لوك إذن يعطى الأولوية للإدراك الحسي الذى يتلقى به الذهن الأفكار، ثم يأتى التأمل والانتباه فى العمليات الذهنية بعد أن يكون الذهن حاصلاً على أفكار من الإدراك الحسى. والحقيقة أن لوك يقر بأن هذا التراتب: إدراك حسى - أفكار - عمليات ذهنية - أفكار عن العمليات الذهنية، هو تراتب فى الدرجة وفى الزمن، أي تراتب إبستمولوجى على مستوى نظرية المعرفة وتراتب سيكولوجي أو سيكومعرفى على مستوى التطور المعرفى للطفل؛ وهذا ما سوف يظهر بعد ذلك لدى الإبستمولوجيا التطورية عند جان بياجيه.
1 - الأفكار البسيطة :
ما يتلقاه العقل البشرى من الإحساس أو الانعكاس على العمليات الذهنية ينقسم إلى أفكار بسيطة وأفكار مركبة. الأفكار البسيطة هى الأفكار المرتبطة بصفات الشئ المحسوسة مثل الصلابة والبرودة والامتداد والشكل. أما الأفكار المركبة فليست حاضرة فى الشئ المحسوس نفسه بل يستخلصها العقل منه مثل الجوهر والأعراض، والسبب والنتيجة، والزمان والمكان والحركة( 20). ومعنى ذلك أن الذهن يكون سلبياً فى تلقيه للأفكار البسيطة، ونشطاً فاعلاً فى إنتاجه للأفكار المركبة، ذلك لأنها تكون نتيجة تفكير حول العلاقات بين ما يتلقاه من أفكار بسيطة، فالسببية علاقة بين شئ وآخر يدركها العقل فى تفكيره حولهما معاً، والجوهر وأعراضه أيضاً فكرة مركبة تنتج فى العقل من تفكيره حول العلاقة بين الشئ وصفاته وما هو دائم أو متغير من هذه الصفات.
الأفكار عند لوك نوعان: بسيطة ومركبة، البسيطة يتلقاها الذهن مباشرة من الإدراكات الحسية، ويجب أن ننتبه هنا إلى نقطة يساء فهمها لدى لوك وهى نشأة الأفكار البسيطة. اعتقد الكثير من نقاد لوك والمذهب التجريبى عامة أن الأفكار عنده مصدرها الحواس أو الإحساسات، لكن لوك لا يقول بذلك، بل يقول بأن مصدر الأفكار هو الإدراكات الحسية. هناك فرق كبير بين أن تكون الحواس هى مصدر الأفكار وأن تكون الإدراكات الحسية هى ذلك المصدر. إن الأفكار، حتى وإن كانت بسيطة، هى صور ذهنية بسيطة ومباشرة للأشياء وليست إحساسات. فالكرة الحمراء مثلاً إدراك حسى تستقبله الحواس، أما اللون الأحمر نفسه فهو فكرة، صورة ذهنية مجردة، يتوصل إليها الذهن البشرى من تلقيه لإدراك حول الأشياء الحمراء( 21). الأفكار البسيطة إذن لا يتلقاها الذهن جاهزة من الخبرة بل هى تتضمن درجة من التعميم أو العمومية، ذلك لأن الأمثلة التى يضربها للأفكار البسيطة كلها عموميات، مثل الأحمر، الأخضر، الرطب، اليابس، الحار. بإدراكنا لأشياء كثيرة حمراء ندرك أن الأحمر لون، هذه فكرة بسيطة لكن أتت عن طريق التعميم، ولذلك فالأحمر فكرة عامة، ولذلك فهى بسيطة، تنطبق على كل الأشياء الحمراء. ولذا أطلق عليها لوك فكرة ولم يسميها إدراك أو إحساس. الإحساس هو بالشئ الأحمر، أما الأحمر كلون فهو فكرة بسيطة. أما الأفكار المركبة فهى مثل العلاقة والسببية والجوهر والأعراض، وهى ناتجة عن التركيب والدمج بين أفكار بسيطة، الأفكار المركبة إذن تعبر عن نشاط ذهنى أنتجها لكنها ليست حاضرة جاهزة فى المدركات الحسية.
تنقسم الأفكار البسيطة عند لوك إلى أفكار تأتى من حاسة واحدة مثل الألوان التى تأتى من حاسة البصر، والسخونة والبرودة والنعومة والخشونة التى تأتى من حاسة اللمس، والروائح التى تأتى من حاسة الشم، والأصوات التى تأتى من حاسة السمع، وأفكار تأتى من أكثر من حاسة واحدة مثل المكان والامتداد والشكل والسكون والحركة، ذلك لأننا ندرك المكان من حاستى البصر واللمس، بأفكار تأتى من الانعكاس على العمليات الذهنية reflection، وهو تفكير العقل فى أفكاره التى حصل عليها من الإدراك الحسى( 22). فعندما يتأمل العقل فى الكيفية التى يتعامل بها مع الأفكار يدرك أنه يقوم إما بإدراك حسى أو استدلال أو حكم أو تمييز وتفريق ومقارنة أو تذكر. أما الأفكار التى تأتى من الإحساس والانعكاس معاً فهى اللذة والألم، لأنهما يبدآن بإدراك حسى معين يتبعه شعور بالارتياح أو عدم الارتياح يأتى من الانعكاس على ما تلقته الحواس؛ وكذلك القوة، إذ بعد أن يلاحظ العقل تأثير جسم ما على أجسام أخرى يدرك أن فيه قوة على هذا التأثير، والتتابع أيضاً succession لأن العقل بعد أن يستقبل إحساسات معينة يلاحظ ما بينهما من علاقة تتابع، أى أنها تتبع بعضها البعض ويكون بعضها قبل بعض أو بعد بعض.
ويذهب لوك إلى أن الأفكار البسيطة فى العقل تقابلها صفات فى الأجسام، بمعنى أن العقل يستقبل من الأجسام صفاتها التى تتحول فيه إلى أفكار. وهو يقر بأن لكل من الأفكار وصفات الأجسام طبيعة مختلفة، فالأفكار من طبيعتها أن تكون ذهنية ومجردة، والصفات من طبيعتها أن تكون حسية، لكن الأفكار البسيطة هى فى النهاية انعكاس ذهنى لصفات الأشياء، كما لو أن العقل الإنسانى مرآه تنعكس عليها صفات الأشياء( 23). ومن طبيعة المرآة أن تعكس صورة ولا تعيد إنتاج الشئ الحقيقى، وبالمثل فإن العقل هو مرآة الأشياء، حيث أن الأفكار البسيطة فيه هى مجرد صور ذهنية منعكسة لصفات الأشياء. كما يذهب لوك إلى أن ما يجعل صفات الأشياء تنعكس فى العقل منتجه فيه أفكاراً هى قوة power متضمنة فى هذه الأشياء، أى أن فى الأشياء قوة تؤثر بها على العقل. ومعنى هذا أن العقل يكون سلبياً تماماً فى تأثره بما فى الأشياء من قوة تؤثر عليه، أما عندما يتأمل فى هذه الأفكار البسيطة وينتج منها أفكاراً مركبة فهو يكون فاعلاً نشطاً. العقل إذن سلبى فى تلقى الأفكار البسيطة والتأثير فى ذلك بقوة الأشياء عليه، وإيجابى وفاعل ونشط فى تركيبه بين هذه الأفكار البسيطة والوصول إلى أفكار مركبة.
ويميز لوك بين الصفات الأولية primary qualities والصفات الثانوية secondary qualities. الصفات الأولية هى الصفات التى يمتلكها الجسم فى ذاته ولا يمكن أن تنفصل عنه وتؤثر بقوتها مباشرة على العقل، مثل الامتداد والشكل والصلابة( 24). فإذا قمنا بتقسيم جسم ما إلى أجزاء صغيرة لا يضيع الامتداد أو الصلابة أو الشكل بل تظل هذه الصفات فى كل جزء صغير منه، حتى لو قمنا بطحن حبة من القمح وأصبحت كماً من الدقيق، فعلى الرغم من أن كل ذرة فيه غير محسوسة إلا أنها تظل تتصف بنفس صفات الامتداد والشكل والصلابة التى لحبة القمح.
أما الصفات الثانوية فهى ليست مرتبطة بالجسم بل
هى قوة متضمنة فيه تعمل على إنتاج إحساسات معينة فى العقل، مثل اللون والرائحة
والطعم، فالجسم يمكن أن يتغير لونه وطعمه ورائحته ويبقى مع ذلك نفس الجسم، وتكون
هذه الصفات الثانوية هى تأثر العقل به.
ويذهب لوك إلى أن فى الأشياء قوة معينة تجعلنا نتأثر بها وتنتج فينا هذه الصفات الثانوية. ومعنى هذا أن الصفات الثانوية ليست مجرد أوهام أو أفكار متخيلة تنتج فى الذهن دون أى ارتباط أو علاقة حقيقة بينها وبين الشئ المدرك، ذلك لأن من طبيعة هذا الشئ نفسه أن يحدث تأثيراً معيناً فى حواسنا يتمثل فى صورة صفات ثانوية. والحقيقة أن هذا الرأى يعد أثراً من آثار أرسطو غير المصرح بها فى فلسفة لوك والتى تسربت إلى نظريته فى المعرفة دون وعى منه. ذلك لأن النظر إلى الصفات الثانوية على أنها تأثر الحواس البشرية بالشئ المدرك نتيجة امتلاك هذا الشئ لطبيعة أو قوة تؤثر فى الحواس هو عودة مرة أخرى إلى مفهوم الطبائع والقوى الكامنة فى الأشياء الموجودة بوضوح فى فلسفة أرسطو.
ويذهب لوك إلى أن فى الأشياء قوة معينة تجعلنا نتأثر بها وتنتج فينا هذه الصفات الثانوية. ومعنى هذا أن الصفات الثانوية ليست مجرد أوهام أو أفكار متخيلة تنتج فى الذهن دون أى ارتباط أو علاقة حقيقة بينها وبين الشئ المدرك، ذلك لأن من طبيعة هذا الشئ نفسه أن يحدث تأثيراً معيناً فى حواسنا يتمثل فى صورة صفات ثانوية. والحقيقة أن هذا الرأى يعد أثراً من آثار أرسطو غير المصرح بها فى فلسفة لوك والتى تسربت إلى نظريته فى المعرفة دون وعى منه. ذلك لأن النظر إلى الصفات الثانوية على أنها تأثر الحواس البشرية بالشئ المدرك نتيجة امتلاك هذا الشئ لطبيعة أو قوة تؤثر فى الحواس هو عودة مرة أخرى إلى مفهوم الطبائع والقوى الكامنة فى الأشياء الموجودة بوضوح فى فلسفة أرسطو.
2 - العمليات الذهنية :
يقسم لوك العمليات الذهنية إلى أنواع عديدة تبعاً لنظريته حول الأفكار البسيطة والأفكار المركبة. فهناك عمليات ذهنية مرتبطة بالأفكار البسيطة، أولها الإدراك الحسى، وهو أول مرحلة فى التفكير. وعلى الرغم من أن الإدراك الحسى perception عملية ذهنية تتضمن التفكير، إلا أنه ليس تفكيراً بالمعنى الحرفى للكلمة، إذ لا ينطوى على الفاعلية والنشاط بل يتضمن السلبية والتلقائية، أى أن الإدراك الحسى هو التفكير السلبى الذى يقتصر على تلقى الإحساسات كما هى دون أن يتعامل معها بالربط بينها ودون أن يكتشف فيها أي علاقات( 25).
وعلى الرغم من أن الإدراك الحسى ملكة سلبية متلقية، إلا أن لوك يضيف إليه شيئاً من الفاعلية، وبذلك لا تكون سلبية تماماً، فغالباً ما يتم تعديل الإحساس عن طريق فعل تلقائى للذهن.
فالأشياء البعيدة تبدو صغيرة، وعلى الرغم من ذلك
يعرف الذهن أنها ليست صغيرة كما تبدو لأنها سوف تظهر بحجمها الحقيقى عندما تقترب. [يشبه التعقلية]
هذا التعديل للإدراك الحسى يتم بتلقائية وبدون وعى
كامل من الذهن، ولأنه تعديل تلقائى غير واع فإن لوك لا يلحقه بأى ملكة أعلى من
الإدراك الحسى نفسه. وتعديل
الإدراك الحسى هذا يسميه لوك حكماً judgment قاصداً منه أن عملية الإدراك
تنطوى فى ذاتها على حكم، وهو حكم عقلى، لأن العقل يحكم على الشئ البعيد الصغير
بأنه كبير فى حقيقته على الرغم من الصغر الذى يبدو عليه( 26). وعلى الرغم من أن الحكم فعل عقلى إلا أنه لا يتضمن نشاطاً مقصوداً كملكة الفهم بل
هو فعل تلقائى لملكة الإدراك الحسى.
ومعنى هذا أن هناك حكماً يقع فى نطاق الإدراك الحسى
السلبى، وهذا النوع من الحكم سابق فى وجوده وأولويته على الحكم بالمعنى المعرفى
الإبستمولوجى الذى يقوم به الفهم. والحقيقة أن هذه الفكرة تعد من إنجازات لوك
الكبرى، ذلك لأن النظريات السابقة عليه فى المعرفة كانت دائماً ما تنظر إلى الحكم
على أنه فعل للفهم والعقل فقط، أما لوك فقد اكتشف وجود الحكم فى مستوى الإدراك
الحسى نفسه، وهو يعد حكماً من نوع مختلف عن حكم الفهم والعقل.
وثانى عملية ذهنية يقوم بها العقل بعد الإدراك الحسى هى الاستبقاء retension وهى الاحتفاظ بالأفكار البسيطة التى تلقاها العقل من الإحساس، ويتم هذا الاحتفاظ بطريقتين: الانتباه إلى هذه الأفكار ذاتها كما هى موجودة فى العقل contemplation، والذاكرة memory أي الاحتفاظ بالأفكار البسيطة فى الذاكرة بعد أن تكون الإحساسات التى أنتجتها قد غابت عن أعضاء الإحساس. والذاكرة هى القوة التى نستطيع بها إحياء الأفكار فى الذهن بعد أن غابت إحساساتها. ويطلق لوك على الذاكرة اسم «مخزن أفكارنا». وقوة الذاكرة هذه ضرورية ولا غنى عنها للتفكير، ذلك لأنه بفضلها لا تختفى الأفكار مع إختفاء الإحساسات التى أنتجتها بل تظل محفوظة فيها حتى يتم إنعاشها مرة أخرى. والملاحظ أن لوك فى هذا السياق لم يميز بوضوح بين احتفاظ الذاكرة بالأفكار وإعادة إنعاشها بتذكرها مرة أخرى( 27)، ذلك لأن القدرة على الاحتفاظ فى الذاكرة مختلفة عن القدرة على تذكّر هذه الأفكار وإنعاشها مرة أخرى. ومعنى هذا أن فى الذاكرة قوتين متمايزتين، قوة الحفظ وقوة التذكر أو إعادة التفكير فى الأفكار السابقة. قوة الحفظ قوة تلقائية سلبية لأنها تتلقى الأفكار فقط وتخزنها، وهذا لا ينطوى على أى فاعلية نشطة أو مقصودة للذهن، أما قوة التذكر وإعادة إحياء الأفكار مرة أخرى فهى قوة فاعلة نشطة تتم عن قصد. والحقيقة أن هذا التمييز بين قوتين فى الذاكرة سوف يقوم به كانط بعد لوك بأكثر من قرن، وسوف يؤكد عليه هوسرل بعد كانط بأكثر من قرن أيضاً.
ثم يشرح لوك بعد ذلك عدداً من العمليات الذهنية التى تشتغل على الأفكار البسيطة وهى كلها تنطوى على التعرف الدقيق والواضح على هذه الأفكار، وهو يجعل كل هذه العمليات تنتمى إلى الإدراك الحسى لأنه بدونها لن يحصل العقل على صورة دقيقة عن الأشياء. هذه العمليات هى الفصل والتمييز discerning / distinguishing. فإذا لم يتمكن الذهن من إقامة فصل وتمييز بين الإحساسات وما يقابلها من أفكار بسيطة فلن يكون لديه إدراك حسى كامل ودقيق، مثل الفصل والتمييز بين الإحساسات المتناقضة: الحرارة والبرودة، والحلاوة والمرارة، والكبير والصغير ... الخ( 28). ثم تأتى بعد ذلك عمليات المقارنة والدمج والتسمية comparing / compounding / naming. عن طريق المقارنة يميز العقل الامتداد والدرجات، فهو يدرك الأطول والأقصر عن طريق المقارنة على أساس الامتداد، ويدرك درجات اللون الواحد على أساس المقارنة بين الألوان عن طريق الدرجات اللونية، ويدرك الترتيب بين السابق واللاحق عن طريق المقارنة على أساس الزمان أو المدة، ويدرك العلاقات المكانية عن طريق مقارنة الأشياء بعضها ببعض حسب المكان.
ويعد فعل المقارنة من الأفعال الهامة للغاية عند لوك لأنه هو القوة التى تنتج فى الذهن أفكار العلاقة relation( 29 )، فالدرجة والزمان والمكان كلها أفكار عن علاقات، أما الدمج فهو جمع وإضافة أفكار من نفس النوع إلى بعضها، مثل إضافة عدد إلى عدد للوصول إلى مجموعهما، أو مد خط مستقيم للحصول على خط أطول ... الخ، أو الدمج بين عدد كبير من الأشجار للحصول على مفهوم الغابة. والتسمية هى وضع كلمة أو علامة صوتية ذات معنى تشير إلى مجموعة من الأشياء بينها شئ مشترك، مثل تسمية مجموعة من الأشجار بالغابة، أو تسمية مجموعة من الأغنام بالقطيع، أو تسمية مجموعة من الزهور والنباتات بالحديقة، أما آخر عملية ذهنية يشرحها لوك تحت ملكة الإدراك الحسى فهى التجريد abstraction وهى إدراك العام والمشترك بين أشياء متشابهة فى صفة ما ووضع اسم عام لها، مثل إدراك البياض الذى هو صفة تجمع الأشياء البيضاء، وإدراك الشكل الكروى الذى يجمع أشياء تتصف بهذا الشكل مثل الشمس والقمر وكرة القدم.
ومن الملاحظ أن التجريد هو أعلى العمليات الذهنية التى تقع فى نطاق الإدراك الحسى، فبدون التجريد لن يصبح الإدراك الحسى كاملاً ودقيقاً( 30). لكن التجريد هو فى نفس الوقت أول عملية ذهنية تنتمى لملكة الفهم، ومعنى هذا أن التجريد هو الصفة الحقيقة التى ينتقل بها الذهن من الإدراك الحسى إلى الفهم، وهو أيضا ًأول عملية يستطيع بها الفهم الوصول إلى الأفكار المركبة، ذلك لأن الأسماء العامة والتصورات والمفاهيم المجردة أفكار مركبة. لكن يصر لوك على اعتبار أن التجريد عملية ذهنية تعمل فى نطاق الإدراك الحسى والفهم معاً، فهو قوة إدراك وقوة فهم فى نفس الوقت، قوة تتعامل مع الأفكار البسيطة وبذلك تكون منتمية إلى الإدراك الحسى وكامنة فى نطاقه، وقوة تنتج الأفكار المركبة وبذلك تكون منتمية فى نفس الوقت إلى ملكة الفهم، ذلك لأن التجريد يعد من أولى العمليات الذهنية التى يقوم بها الفهم.
3 - الأفكار المركبة :
يصنعها العقل من الأفكار البسيطة عن طريق العمليات الذهنية التى يقوم بها. ومعنى هذا أن الأفكار المركبة ليست مجرد صور ذهنية عن الأشياء مثل الأفكار البسيطة بل هى من إنتاج العقل( 31). وليس معنى كونها من إنتاج العقل أنها مجرد أوهام بل هى حقيقية، وكل الاختلاف بينها وبين الأفكار البسيطة أن الأفكار البسيطة تشير مباشرة إلى الأشياء، ذلك لأن الإحساس هو مصدرها، بينما لا تشير الأفكار المركبة إلى إحساسات بل إلى أفكار بسيطة أخرى. وفى العقل طائفة كبيرة من الأفكار المركبة مثل الجيش، لأنه يشير إلى مجموعة من الجنود. إن مجموعة الجنود عبارة عن أفراد، كل فرد واحد منها جندى واحد، والإحساس التى يتلقاه المرء وهو ينظر إلى هذه المجموعة عبارة عن أفراد جنود متجمعين معاً، أما كون هذه المجموعة تشكل جيشاً ففكرة مركبة يتوصل إليها العقل عن طريق إضافة هؤلاء الأفراد المتشابهين إلى بعضهم، فالإدراك الحسى لا يرى شيئاً اسمه الجيش أمامه، بل يرى جنوداً، والعقل هو الذى يفهم معنى كلمة جيش لا الحواس. والجمال أيضاً فكرة مركبة لأنها مكونة من عدد من الأفكار البسيطة، مثل فكرة التناسق وفكرة اللون والشكل، وشعور الارتياح أو الاستحسان الذى يشعر به المرء عند رؤية الشئ الجميل.
الأفكار المركبة هى نتيجة العمليات الذهنية التى يقوم بها العقل، وتنقسم هذه العمليات الذهنية إلى ثلاثة أنواع ينتج كل نوع منها نوعاً من الأفكار المركبة. هذه العمليات الذهنية هى: ( 32)
1 - الدمـــج Combining: حيث يجمع العقل فكرة بسيطة مع فكرة أخرى للوصول إلى فكرة مركبة، وذلك مثل مثال الجيش الذى شرحناه آنفاً، إذ هو نتاج دمج عدد من الأفراد مع بعضهم البعض، وكذلك فكرة المثلث التى تعتمد على الدمج بين فكرة الضلع وفكرة الزاوية.
2 - التعلـــق Relating: وفيه لا يدمج العقل فكرة بأخرى بل يحافظ على الفكرتين منفصلتين ومستقلتين لكن يربط بينهما بعلاقة، مثل إدراك العلاقة بين شئ سابق وشئ لاحق باعتبارها علاقة سببية بينهما، حيث يكون السابق سبباً لحدوث اللاحق، وكذلك أفكار المكان التى تعتمد على إدراك علاقات التجاور وعلاقات الجهة مثل اليمين واليسار والأمام والخلف والأعلى والأسفل، ذلك لأنه لا يمكن إدراك هذه العلاقات إلا بالربط بين الأشياء على أساس المكان الذى تشغله بالنسبة لبعضها البعض. وفكرة الزمان أيضاً لأنها تعتمد على علاقات التوالى والتزامن، وهذه العلاقات تصف الترتيب الزمنى بين أشياء منفصلة.
3 - التجريـــد Abstraction: حيث يجمع العقل طائفة من الأشياء المتشابهة ليدرك ما بينها من اشتراك وعمومية، وهذا هو مصدر الأفكار العامة، أى الكليات والمجردات، مثل فكرة الإنسان التى يتوصل إليها العقل بتجريد العام والمشترك فى النوع البشرى.
الأفكار المركبة إذن إما أن تكون أحوالاً modes أو جواهر substances أو علاقات relations. الأحوال هى الأفكار المركبة عن الأشياء، وهذه الأفكار لا تقوم بذاتها مستقلة بل هى فى حاجة إلى وجود شئ سابق عليها تقوم به، مثل الوفاء، ذلك لأن الوفاء لا يمكن أن يوجد إلا فى الشخص الوفى، والشكل الكروى الذى لا يمكن أن يقوم بذاته بل هو صفة لكل ما يتصف بهذا الشكل، والقتل الذى هو فعل لا يحدث بذاته بل فى حاجة إلى فاعل وهو القاتل. أما الجواهر فهى تشير إلى أشياء مفردة تقوم بذاتها وتتصف بأحوال( 33)، وهى نتاج الربط بين عدة أحوال، مثل الربط بين البياض والصلابة والبرودة للوصول إلى فكرة الثلج، والربط بين الحيوانية والنطق والتعقل للوصول إلى فكرة الإنسان. وبذلك يكون الثلج هو الجوهر الذى تجتمع فيه صفات البياض والصلابة والبرودة، وفكرة الإنسان هى الجوهر الذى تجتمع فيه صفات الحيوانية والنطق والتعقل. والملاحظ أن فكرة لوك عن الجوهر تختلف عن نفس الفكرة لدى الفلسفات السابقة الأرسطية والأفلاطونية، ذلك لأن الفكرة الأرسطية عن الجوهر تلحق به الثبات واللاتغير والقوام، حيث يكون الجوهر هو الشئ حامل الصفات المتغيرة. إن الجوهر فى الفلسفات الأرسطية يتم الوصول إليه بالعقل، إذ يكون لديها هو القوام الذى يحمل الصفات، أما الجوهر عند لوك فيتم الوصول إليه من الإدراك الحسى، لأنه بذلك يكون هو الشئ الذى تجتمع فيه عدد من الصفات حصرياً. يتوصل أرسطو إلى الجوهر عن طريق العقل، بينما يتوصل إليه لوك عن طريق الحواس، والجوهر عند أرسطو هو القوام الثابت، أما عند لوك فهو ليس سوى المحل الذى تجتمع فيه مجموعة من الصفات أو الإدراكات الحسية، وبذلك أحل لوك نظرية تجريبية فى الجوهر محل النظرية العقلية الأرسطية.
4 - الأحـــوال:
يقسم لوك الأحوال إلى أحوال بسيطة وأحوال مركبة، الأحوال البسيطة هى تلك التى تتكون من أفراد بسيطة أو فرد واحد متكرر أو ممتد، وذلك مثل المكان( 34). فالمكان مكون من أجزاء بسيطة مضافة إلى بعضها ومتكررة، إذ أن المكان هو الامتداد، والامتداد يقاس بوحدات بسيطة مثل السنتيمتر أو المتر أو الكيلومتر، ويكون المكان الأكبر مجموع من أمكنة صغرى، لكل منها مقياس بوحدة قياس بسيطة. وكذلك الموضع place فكل جسم يشغل موضعاً وهو حيز من المكان، وكلما غير الجسم مكانه احتل مكاناً آخر متطابق الأبعاد. والزمان أيضاً من الأحوال البسيطة لأنه يقاس بوحدات بسيطة هى الثوانى والدقائق والساعات، وامتداد الزمان هو تكرار وحداته البسيطة وإضافتها إلى بعضها. وكذلك العدد، فإذا فكرنا فى العدد عشرة أو فى عشر كرات وجدنا أن العدد عشرة هو تكرار للعدد واحد عشر مرات، والعشر كرات هو مجموع وحدات متماثلة هى الكرة الواحدة لعشر مرات( 35). فالأحوال تكون بسيطة لأنها تعتمد على تكرار وحدات مماثلة، سواء كانت وحدات مكانية أو زمانية أو رقمية. ويضيف لوك إلى الأحوال البسيطة مفهوم اللامتناهى infinity، فالمكان يمكن تصوره على أنه لا متناهى لأنه من الممكن أن نضيف وحدات مكانية أخرى إلى المكان القائم إلى ما لانهاية، وكذلك الزمان والعدد، فكل عدد يمكن تصور عدد أكبر منه بإضافة عدد آخر إليه. وكما أن هناك لا تناهياً فى الحجم والعدد والزمن فهناك أيضاً لا متناهٍ فى الصغر، فكل مكان يمكن تقسيمه إلى وحدات مكانية أصغر إلى ما لانهاية. مفهوم اللاتناهى إذن يعتمد على إمكانية الإضافة اللامتناهية أو التقسيم اللامتناهى لمكان أو زمان أو عدد قائم.
وكما أن الأحوال البسيطة تعتمد على إضافة الوحدات المتماثلة إلى بعضها فهى أيضاً تعتمد على إدراك التنويعات التى تحدث لفكرة بسيطة واحدة، وذلك مثل التفكير الذى يعد حالاً بسيطاً لأنه يعتمد على فكرة واحدة وهى الفهم [؟؟]، لكنه يتنوع إلى عدد كبير من عمليات التفكير مثل الجمع والمقارنة والفصل والاستدلال والحكم. ويضم لوك عدداً من إحساسات الشعور إلى الأحوال البسيطة مثل اللذة التى تعتمد على فكرة الحلاوة أو الارتياح، والألم الذى يعتمد على فكرة المرارة أو عدم الارتياح. كما يضم لوك فكرة القوة power إلى الأحوال البسيطة، لأنها تعتمد على ملاحظة قدرة جسم ما على التأثير على جسم آخر، وبذلك ندرك أن فى الأجسام قوة على التأثير على بعضها أو على تغيير صفاتها أو على إحداث إحساسات مختلفة فينا، والذى يجعل لوك ينظر إلى القوة على أنها حال بسيطة أنها تعتمد على إدراك واحد عن قوة فى الشئ أو قدرته على إحداث أثر.
[خلط غير مفهوم عند لوك لمفهوم الحال: المكان،
الزمان، العدد: التي هي تكرار لوحدة بسيطة.
ثم "التفكير الذى يعد حالاً بسيطاً لأنه
يعتمد على فكرة واحدة وهى الفهم" [؟؟]
ويضم لوك عدداً من إحساسات الشعور إلى الأحوال
البسيطة مثل اللذة التى تعتمد على فكرة الحلاوة أو
الارتياح، والألم الذى يعتمد على فكرة المرارة أو عدم الارتياح. كما يضم لوك فكرة
القوة power إلى الأحوال البسيطة.]
وفى حين أن الأحوال البسيطة تعتمد على أفكار بسيطة ترد فى النهاية إلى إدراكات حسية، فإن الأحوال المركبة تعتمد على تركيب عدد من الأفكار البسيطة مع بعضها البعض( 36). والأحوال البسيطة يمكن أن تشاهد دلالاتها الحسية فى إدراك حسى، وهى تشير مباشرة إلى الأشياء المحسوسة، أما الأحوال المركبة فهى لا تشير إلى الأشياء مباشرة بل إلى أفكار أخرى بسيطة، وذلك مثل فكرة السعادة التى هى حال مركب، وهى حال مركب لأنها تركيب من عدد من الأفكار البسيطة مثل اللذة والغنى والارتياح والجمال. ومن الأحوال المركبة التى يذكرها لوك القناعة والشجاعة والجشع، ونلاحظ على الأمثلة التى يضربها لوك على الأحوال المركبة أنها كلها تنتمى إلى مجال الأخلاق والسلوك العملى، والحقيقة أن هذا الجمع بين الأفكار النظرية والأفكار الأخلاقية العملية، أى بين الإبستمولوجيا والأخلاق فى سياق فلسفة تجريبية واحدة كان الطابع المميز لفلسفة لوك ولكل فلسفة تجريبية أتت بعده، وعلى رأسها فلسفات هيوم وجون ستيوارت ميل وجورج إدوارد مور، وأصبح هذا الجمع هو ما يميز الفلسفات الإنجليزية ذات الطابع التجريبى.
لكن نلاحظ أيضاً أن نظرية لوك حول الأحوال المركبة بها شئ من الغموض، ذلك لأنه يضمها إلى فئة الأفكار البسيطة بذهابه إلى أن الحال المركب هو جمع بين عدد من الأفكار البسيطة، لكن الحال المركب هو فى حد ذاته فكرة مركبة، وكان يجب على لوك أن يضمه إلى فئة الأفكار المركبة ولكنه لم يفعل ذلك نظراً لذهابه إلى أن الحال المركب مكون من أفكار بسيطة مجمعة مع بعضها( 37). كما يأتى مصدر الغموض فى مفهوم لوك عن الأحوال المركبة أنها هى المفهوم الوحيد فى فلسفته الذى يجمع بين النظرى والعملى، ذلك لأن الأحوال المركبة لديه تحوى معظم القيم الأخلاقية ومعايير السلوك العملى، وفى نفس الوقت تحوى جانباً نظرياً متمثلاً فى كل التنويعات التى يجريها العقل على مفاهيم الزمان والمكان؛ كما أننا إذا دققنا النظر فى حديث لوك اللاحق حول الجوهر والعلاقات سنجد أن كل الجواهر والعلاقات لديه تنضم إلى فئة الأحوال المركبة، بما أن الجوهر لديه مجرد فكرة ذهنية عن الصفات والأحوال وعن قوة تأثير الشئ فى غيره، فالجوهر بذلك حال مركب بما أنه لا يشير مباشرة إلى الإدراكات الحسية بل هى أفكار بسيطة عن الأشياء. كل هذا سبب غموضاً حول نظريته فى الأحوال المركبة، لأنه لم يفصل بدقة بين الحال المركب على المستوى الإبستمولوجى والحال المركب على المستوى الأخلاقى العملى، وبما أنه لم يدرك أن الأحوال المركبة تنسحب على الجواهر والعلاقات.
5 - الجواهـــر :
يذهب لوك إلى أن فكرة الجوهر فكرة مركبة، ذلك لأنها تتركب من أفكار بسيطة. وهى عنده مجرد افتراض وليس لها وجود حقيقى من ذاتها، ذلك لأننا لا ندرك إلا الأحوال والصفات والكيفيات، وعندما نلاحظ أن عدداً من الصفات متلازم فى الشئ الذى ندركه ولا يمكن أن ينفصل عنه، نفترض أن هذه الصفات يجب أن يكون لها حامل تحمل عليه، أو قوام تقوم به( 38). فقطعة الثلج مثلاً تتصف بالصلابة والبياض والبرودة، هذه الصفات ملازمة لقطعة الثلج، ونفترض بذلك أن هذه الصفات يقف تحتها حامل تحمل عليه وهو جوهر الثلج، لكننا فى الحقيقة لا ندرك شيئاً يسمى جوهر الثلج، أو الثلجية، وكل ما ندركه مباشرة هو صفات قطعة الثلج. ويذهب التأمل الفلسفى خطوة أبعد قائلاً أن هذه الصفات هى التى تجعل قطعة الثلج ثلجاً لا أي شئ آخر، بحيث تكف هذه القطعة عن أن تكون ثلجاً إذا افتقدت لصفة من الصفات الثلاثة، وبالتالى يظهر الافتراض بأن قطعة الثلج جوهر تتجمع فيه صفات البياض والصلابة والبرودة. والحقيقة أننا بذلك لم نتوصل إلى جوهر الثلج بل إلى مجرد صفاته وإلى كون هذه الصفات ملازمة للشئ المسمى ثلجاً( 39). فكلما أردنا تعريف الجوهر وجدنا أنفسنا نعرِّف صفاته وحسب ولا نتوصل إلى حقيقة جوهر الثلج. وبذلك رد لوك الجوهر إلى صفاته المدركة المحسوسة وقطع بأن الثلج لا يوجد إلا على أنه مجموعة صفات وحسب ولا يوجد كجوهر خاضع لإدراك خاص. كما يذهب لوك إلى أن فكرة الجوهر تأتى للذهن من كثرة ربطه بين عدد من الصفات بشئ ما، فالجوهر ما هو إلا عادة فكرية. هذا بالإضافة إلى أن الذهن يعتاد على تسمية صفات معينة باسم كلى يجمع بينها، فالبياض والصلابة والبرودة هى الإحساسات التى يستقبلها الذهن، ثم يطلق عليها اسماً واحداً هو الثلج، ثم يعتقد أن هذا الاسم الواحد هو الجوهر، والحقيقة أنه ليس كذلك، لأن ما يسمى بالجوهر لا يستقبله الإدراك الحسى بل هو مجرد اسم. وبذلك رد لوك الجوهر إلى عادة لغوية تجعل الذهن يعتقد أن ما أطلق عليه أسماء كلية هو الجوهر لكنه ليس كذلك، ومن هنا فإن الجوهر عند لوك ليس سوى اسم، ولذلك سُمى مذهب لوك فى الجوهر بالمذهب الاسمى Nominalism، ذلك المذهب الذى لا يعتقد فى وجود جواهر حقيقية بل يعتبرها مجرد أسماء أطلقها الذهن على الأشياء، فالجوهر عنده مجرد ظاهرة لغوية.
والجوهر عند لوك هو مجرد افتراض نصنعه كلما أردنا البحث عن قوام للصفات(40)، فالعقل لا يتصور أن تقوم الصفات أو الأحوال أو الأعراض بذاتها، ويجد أنه لزام عليه أن يفترض وجود شئ ثابت يحمل هذه الصفات والأعراض. وبذلك يعتقد العقل أن كل العمليات البيولوجية التى تحدث للإنسان قوامها الجسد، الذى يعد بالنسبة لها الجوهر. كما أن العمليات الذهنية مثل التفكير والاستدلال والخوف والسعادة تحمل على شئ مفترض هو الروح، التى يُعتقد أنها هى الجوهر الذى تقوم فيه هذه العمليات. ويرفض لوك أن يكون الجسد أو الروح جوهراً، ذلك لأن كل ما ندركه عمليات بيولوجية أو ذهنية، وليس لدينا أدنى دليل على ارتباط العمليات البيولوجية بوحدة واحدة مقومة لها وجامعة وهى فكرة الجسد، كما أنه ليس لدينا أدنى دليل على ارتباط العمليات الذهنية بشئ يسمى الروح، لأن الروح لا تخضع للخبرة التجريبية ولا تتلقى منها إدراكات حسية أو بيانات أو انطباعات، كل ما ندركه عمليات ذهنية تفترض أن هناك روحاً تقف وراءها وتجمعها معاً (41). والحقيقة أن رفض لوك لفكرة الجوهر يتبعه ضرورة القول بأن العمليات البيولوجية والعمليات الذهنية يمكن أن تقوم بذاتها وفى غنى عن جوهر تقوم به، سواء كان الجسد أو الروح، بحيث تشكل هذه العمليات نسقاً متكاملاً ينظم نفسه بنفسه ويسير ذاته من ذاته دون حاجة إلى جوهر ينظمه أو يوجده. [أظن أن نظرية لوك لا توصل إلى هذه النتيجة، بقدر ما هي تريد القول بأن لا انفصال بين المادة والصورة، كما كان يقول أرسطو، وبأن هذه المادة لا تكون ثلجاً إلا إذا كانت ملازمة لصفات معينة أو لصور معينة]
لكن لم
يقدم لنا لوك تلك النتيجة الضرورية المترتبة على تحليلاته ورفضه لفكرة الجوهر، بل
ترك الأمر على ما هو عليه، ويعد
هذا نقصاً كبيراً فى فلسفته،
فأنت لا تستطيع أن تنكر فكرة الجوهر دون أن تسلم بأن العمليات البيولوجية والذهنية
قائمة بذاتها ومنظمة لذاتها
[؟]، لكن لم يذهب لوك فى فلسفته إلى هذا الحد وتوقف عند حدود إنكار فكرة الجوهر
وحسب. [...].
ويذهب لوك إلى أن هناك ثلاثة أنواع من الأفكار تشكل لدينا فكرة الجوهر، وهى الصفات الأولوية مثل الشكل والامتداد والصلابة والقابلية لعدم الاختراق، والصفات الثانوية وهى اللون والطعم والرائحة والملمس، وأخيراً قابلية الشئ على تغيير صفاته الأولوية أو الثانوية مع بقائه ثابتاً وموجوداً ( 42). [هذا لا ينسجم مع القول بأن لوك ينفي وجود الجوهر، وأنه لا وجود إلا لمجموعة الصفات..(مداولات1)]
والحقيقة أن الأنواع الثلاثة من الأفكار هذه ليست
أنواعاً لأفكار،
ذلك لأن لوك قد أخطأ عندما نظر إليها جميعاً على أنها أفكار بل هى مبادئ للتوحيد.
فالصفات الأولية التى نتوصل بها إلى فكرة الجوهر المادى ما هى إلا مبادئ يوحد بها
العقل الصفات للتوصل إلى فكرة الجوهر، وكذلك الصفات الثانوية هى مجرد مبدأ لتوحيد
ما يطرأ على الشئ من أعراض مع بقاءه ثابتاً وسط تغير أعراضه.
ثم يأتى لوك بفكرة جديدة حول الجوهر، إذ يذهب إلى أن الجوهر سواء كان مادياً أو روحياً من طبيعة واحدة، فالجوهر المادى هو جماع الصفات الحسية والخصائص والصفات الأولية والثانوية، والجوهر الروحى أيضاً هو جماع الأحوال النفسية والعمليات الذهنية( 43).
ثم يأتى لوك بفكرة جديدة حول الجوهر، إذ يذهب إلى أن الجوهر سواء كان مادياً أو روحياً من طبيعة واحدة، فالجوهر المادى هو جماع الصفات الحسية والخصائص والصفات الأولية والثانوية، والجوهر الروحى أيضاً هو جماع الأحوال النفسية والعمليات الذهنية( 43).
صحيح أن
الجوهر المادى والجوهر الروحى مختلفان فى طبيعتهما ومضمونهما، إلا أن الذهن يتوصل
إليهما عن طريق نفس العملية الذهنية التى تلحق أحوالاً، مادية أو نفسية، بشئ ثابت
يشكل لها الدعامة والقوام. وليس معنى هذا أن لوك يعتقد فى وجود الجوهر بل هو يحلل
مجرد أفكارنا عنه. والحقيقة أن
توحيد لوك للجوهر المادى والروحى على أساس العمليات الذهنية التى تنتج كل منهما
شبيه بنظرية سبينوزا فى
الجوهر، والذى ذهب إلى
أن هناك جوهراً واحداً فى الكون ذا طبيعة مزدوجة، مادية وروحية فى نفس الوقت، وإلى
أن الجوهر إذا نظرنا إليه من ناحية صفاته المادية ظهر على أنه جوهر مادى، وإذا
نظرنا إليه من ناحية صفاته الفكرية ظهر أنه جوهر فكرى أو روحى، وإلى أن الجوهر
الواحد يحمل صفات الفكر والامتداد فى نفس الوقت. كل الفرق بين لوك وسبينوزا أن لوك يعتبر الجوهر
واحداً من منطلق وحدة العمليات الذهنية التى تنتجه، فى حين أن سبينوزا يعتبر
الجوهر واحداً من حيث المضمون والوضع الأنطولوجى. كما أن لوك ينتهى إلى اعتبار
الجوهر مجرد فكرة عقلية ناجمة عن عمليات ذهنية فى حين يعتبره سبينوزا حقيقياً وليس
مجرد نتاج للذهن.
لكن وراء كل هذه الاختلافات نكتشف أن لوك وسبينوزا قد وحّدا بين الجوهر المادى
والجوهر الفكرى أو الروحى، الأول عن طريق وحدة العمليات الذهنية التى تنتج الجوهر
المادى والجوهر الروحى معاً، والثانى عن طريق توحيد صفات الامتداد والفكر فى جوهر
واحد. والاختلاف
الأساسى بينهما أن لوك يعتبر الجوهر مجرد فكرة أو
ظاهرة إبستمولوجية فى العقل البشرى، فى حين يعتبره اسبينوزا وجوداً أنطولوجياً
وليس مجرد نتاج للتفكير.
خامساً - المعرفة: مراتبها وحدودها:
يذهب لوك إلى أن العقل البشرى يستطيع الوصول إلى الصدق والحقيقة فى معارفه، ولذلك فهو يرفض وجهة النظر الشكية رفضاً تاماً. والحقيقة أن مذهبه التجريبى كان يمكن أن يؤدى به إلى نزعة شكية، مثلما هو الحال عند هيوم، وذلك من منطلق أن كل معرفة تأخذ نقطة انطلاقها من الحواس والإدراكات الحسية معرضة للشك. لكن نفس المنطلق التجريبى الذى أدى ببعض المذاهب الفلسفية إلى الشك مثل مذاهب الشك اليونانية كمذهب زينون الإيلى والمذهب الشكى الحديث لدى هيوم، يؤدى لدى لوك إلى القطع بيقين وصحة المعرفة الإنسانية.
وتنقسم المعرفة عند لوك حسب طبيعتها ودرجة اليقين فيها إلى معرفة حدسية intuitionist ومعرفة استدلالية demonstrative( 44).
والمعرفة الحدسية عنده أكثر يقينية وصدقاً من
المعرفة الاستدلالية.
وهذا الرأى غريب بعض الشئ، ذلك لأن لوك يرفض فيه أن تكون المعرفة القائمة على
مبادئ عقلية مجردة تستخدمها فى براهين للوصول إلى الصدق ذات أولوية أو أفضلية على
المعرفة الحدسية، ذلك لأنه يرفض نظرية الأفكار الفطرية منذ البداية، ويرفض فكرة أن
يكون لدى العقل البشرى مبادئ قبلية يتوصل بها إلى حقائق بالاستدلال والبرهان.
ولذلك لا ينتمى لوك إلى فئة الفلاسفة العقليين الذين يعطون الأولوية للمعرفة
الاستدلالية من مبادئ عقلية، وينضم إلى فئة التجريبيين. ويبدو لأول وهلة أن إعطاء
لوك الأولوية للمعرفة الحدسية متناقض مع مذهبه التجريبى، ذلك لأن رده كل المعرفة
البشرية إلى الخبرة التجريبية يجعل قوله بأولوية المعرفة الحدسية متناقضاً، وهو
تناقض ينشأ عن الاعتقاد فى أن الحدس الذى يقصده لوك هو فعل روحى خالص متحرر من أى
خبرة تجريبية. لكن
مفهوم لوك عن الحدس مختلف تماماً عن أى معنى عقلى أو مثالى للحدس، فالحدس عنده
تجريبى تماماً؛ إذ هو قوة فى الذهن يستطيع بها إدراك الحقيقة تماماً كما تدرك
الحواس الأشياء(
45)، ولذلك فهو فى نفس مرتبة الإدراك الحسى. وإذا كان الإدراك الحسى هو الفعل الذى تقوم به
الحواس، فإن الحدس هو الفعل الذى يقوم به العقل، وهذا الحدس هو نوع من الإدراك
الحسى الخاص بالعقل.
وعلى الرغم من أن هذا الحدس غير حسى، إلا أنه مثل الرؤية الحسية تماماً، فهو مباشر
وغير متوسط، وفيه لا ينشغل العقل بإثبات أو
فحص أى شئ برهانياً، بل يدرك الحقيقة مثلما تتلقى العين الضوء بمجرد أن تتوجه
إليه. وما يجعل لوك يعطى الأولوية للحدس أن كل برهان أو استدلال فى الدرجة الثانية
من المعرفة وهى المعرفة الاستدلالية تعتمد على حدس مباشر وواضح، إذ تبدأ بهذا
الحدس صانعة منه كل العلاقات والارتباطات بين الأفكار.
ويرفض لوك أن تكون المعرفة سائرة فى طريقها بالطريقة المنطقية( 46)، ذلك لأن شكل القياس المكون من البدء بمقدمات والوصول منها إلى نتائج تلزم عنها ليس هو طريقة التفكير التى يتبعها العقل فى معرفته، بل هو مجرد تحليل منطقى للمعرفة الإنسانية ولا يبين لنا كيفية التفكير. ولا يقلل لوك من شأن المنطق أو البرهان الرياضى، لكنه يعتبرهما أسلوباً تحليلياً يأتى لتحليل ما تحصل عليه العقل من معرفة بعد عملية تفكير لا تسير هى ذاتها بهذه الطريقة، بل تسير على طريقة الحدس المباشر. والحدس عند لوك ليس حدساً بالماهيات والكليات والمبادئ الأولى والحقائق الثابتة مثل الحدس عند ديكارت وغيره من العقليين، بل هو حدس من طابع حسى تماماً، ذلك لأنه يتمثل فى إدراك عقلى مباشر للعلاقة بين الأفكار التى ترجع إلى الإدراك الحسى( 47). ومعنى هذا أن الحدس الذى يقصده لوك هو حدس بالعلاقة بين الإدراكات الحسية. صحيح أن ملكة الإدراك الحسى
لا تحتوى على حدس بالعلاقات بين الإدراكات لأنها مجرد ملكة متلقية للاحساسات، إلا أن هناك ملكة أخرى هى الفهم الإنسانى والتى تدرك العلاقات عن طريق حدس حسى.
والمعرفة عند لوك ليست سوى إدراك للعلاقات بين الأفكار، واتفاقها أو اختلافها عن بعضها البعض. وهو يذهب إلى أن كون العقل يحتوى على أفكار لا يعنى أنه يحتوى على معرفة، ذلك لأنه طالما لم يربط العقل بينها ويعرف العلاقات التى تربطها واختلافها أو اتفاقها مع بعضها فهذا معناه أنه ليست لديه معرفة( 48). وبذلك تكون حصيلة العقل من الأفكار أكبر من حصيلته من المعرفة، فالأخيرة محدودة للغاية بالنسبة لحصيلة الأفكار.
والصدق عند لوك هو اتفاق أفكار العقل مع الإدراكات الحسية، واتفاقها في ما بينها، بحيث تكون الفكرة الصادقة هى المتفقة مع الإدراك الحسى أولاً، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون الهوية، وهى المتفقة مع ذاتها دون أن تتناقض مع أفكار العقل الأخرى، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون عدم التناقض. والمعرفة عند لوك محدودة واحتمالية. فهى محدودة لأنها لا تستطيع أن تتجاوز مجال الخبرة التجريبية ومقيدة بها، واحتمالية لأن العلاقات التى يقيمها العقل بين الأفكار ليس شرطاً فيها أن تكون حاضرة للخبرة التجريبية، ذلك لأن علماً مثل الهندسة يتوصل إلى قوانين لا يشاهدها مباشرة فى إدراك حسى بل هى مجرد علاقات بين الأفكار المكانية الرياضية، وكل ما يتوصل إليه العقل من علاقات بين الأفكار احتمالى وليس يقينياً تماماً( 49). والغريب أن يأتى لوك بهذا الرأى الذى يرفض أن يلحق بالرياضيات اليقين التام، بعكس كل الفلاسفة من قبله والذين نظروا إلى الرياضيات على أنها تتمتع بأقصى درجات اليقين، ويرجع السبب فى ذلك إلى أن اليقين عند لوك يجب أن يكون مرتبطاً بإدراك حسى، وإذا لم يكن مرتبطاً به فهو احتمالى. فالرياضيات تتوصل إلى مفاهيم عن الأعداد المتناهية فى الصغر والكسور والأعداد المتناهية فى الكبر، وهذه المفاهيم احتمالية لأن مدلولاتها لا تخضع للخبرة التجريبية. ومصدر اليقين فى الرياضيات لا يأتى من اتفاقها مع الخبرة، بل يأتى من منهجها البرهانى الدقيق الذى يعتمد على الحدس الحسى. ولأن الرياضيات تعتمد على الحدس الحسى فهى من هذه الناحية يقينية تماماً. والرياضيات تفكير حول العلاقات بين أفكارنا البسيطة حول الأجسام، وهى كلها علاقات مكانية. ونستطيع أن نتوصل فى الرياضيات إلى نتائج يقينية على صلة حقيقية بالواقع نظراً لأن الرياضيات معتمدة حصرياً على أفكار بسيطة، لكن ليست كل نتائج الرياضيات واستنباطاتها مما يمكن أن ينطبق على الواقع الحسى المدرك، إذ تظل صحيحة باعتبارها وصفاً لعلاقات ضرورية بين أفكارنا، وليس شرطاً لازماً أن تكون العلاقات الرياضية موجودة فى الواقع. وهكذا أدخل لوك تمييزاً فى الرياضيات بين الطابع اليقينى والحتمى لنتائجها ونظرياتها والطابع الاحتمالى لتحقق نتائجها فى الواقع. والغريب والمدهش حقاً أن يجد لوك قرابة بين طبيعة الرياضيات هذه والأخلاق، ذلك لأن علم الأخلاق عنده هو الآخر علم نظرى يعتمد حصرياً على أفكار بسيطة، ومن هنا طابعه التجريبى الواقعى، لكنه من جهة أخرى يقيم علاقات، فى صورة معايير ومبادئ أخلاقية صحيحة فى ذاتها لكن صحتها هذه لا تجعلها حتمية التحقق فى الواقع.
أما الوجود الحقيقى فلا يقصد به لوك الوجود الفعلى الواقعى مثل وجود الأشياء المادية، بل يقصد به الوجود الضرورى الذى تحتويه كل معرفة، وهو ثلاثة أنواع: وجود النفس، والإله، والعالم. وجود النفس نعرفه بالحدس، الذى هو عند لوك نوع من الإدراك العقلى أو الذهنى المباشر لا الإدراك الحسى، ذلك لأننا لا نجد النفس من بين أشياء العالم المادى بل نشعر بها فقط وتكون لدينا عنها فكرة بسيطة.
ويرفض لوك أن تكون المعرفة سائرة فى طريقها بالطريقة المنطقية( 46)، ذلك لأن شكل القياس المكون من البدء بمقدمات والوصول منها إلى نتائج تلزم عنها ليس هو طريقة التفكير التى يتبعها العقل فى معرفته، بل هو مجرد تحليل منطقى للمعرفة الإنسانية ولا يبين لنا كيفية التفكير. ولا يقلل لوك من شأن المنطق أو البرهان الرياضى، لكنه يعتبرهما أسلوباً تحليلياً يأتى لتحليل ما تحصل عليه العقل من معرفة بعد عملية تفكير لا تسير هى ذاتها بهذه الطريقة، بل تسير على طريقة الحدس المباشر. والحدس عند لوك ليس حدساً بالماهيات والكليات والمبادئ الأولى والحقائق الثابتة مثل الحدس عند ديكارت وغيره من العقليين، بل هو حدس من طابع حسى تماماً، ذلك لأنه يتمثل فى إدراك عقلى مباشر للعلاقة بين الأفكار التى ترجع إلى الإدراك الحسى( 47). ومعنى هذا أن الحدس الذى يقصده لوك هو حدس بالعلاقة بين الإدراكات الحسية. صحيح أن ملكة الإدراك الحسى
لا تحتوى على حدس بالعلاقات بين الإدراكات لأنها مجرد ملكة متلقية للاحساسات، إلا أن هناك ملكة أخرى هى الفهم الإنسانى والتى تدرك العلاقات عن طريق حدس حسى.
والمعرفة عند لوك ليست سوى إدراك للعلاقات بين الأفكار، واتفاقها أو اختلافها عن بعضها البعض. وهو يذهب إلى أن كون العقل يحتوى على أفكار لا يعنى أنه يحتوى على معرفة، ذلك لأنه طالما لم يربط العقل بينها ويعرف العلاقات التى تربطها واختلافها أو اتفاقها مع بعضها فهذا معناه أنه ليست لديه معرفة( 48). وبذلك تكون حصيلة العقل من الأفكار أكبر من حصيلته من المعرفة، فالأخيرة محدودة للغاية بالنسبة لحصيلة الأفكار.
والصدق عند لوك هو اتفاق أفكار العقل مع الإدراكات الحسية، واتفاقها في ما بينها، بحيث تكون الفكرة الصادقة هى المتفقة مع الإدراك الحسى أولاً، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون الهوية، وهى المتفقة مع ذاتها دون أن تتناقض مع أفكار العقل الأخرى، وهذا هو التفسير التجريبى لقانون عدم التناقض. والمعرفة عند لوك محدودة واحتمالية. فهى محدودة لأنها لا تستطيع أن تتجاوز مجال الخبرة التجريبية ومقيدة بها، واحتمالية لأن العلاقات التى يقيمها العقل بين الأفكار ليس شرطاً فيها أن تكون حاضرة للخبرة التجريبية، ذلك لأن علماً مثل الهندسة يتوصل إلى قوانين لا يشاهدها مباشرة فى إدراك حسى بل هى مجرد علاقات بين الأفكار المكانية الرياضية، وكل ما يتوصل إليه العقل من علاقات بين الأفكار احتمالى وليس يقينياً تماماً( 49). والغريب أن يأتى لوك بهذا الرأى الذى يرفض أن يلحق بالرياضيات اليقين التام، بعكس كل الفلاسفة من قبله والذين نظروا إلى الرياضيات على أنها تتمتع بأقصى درجات اليقين، ويرجع السبب فى ذلك إلى أن اليقين عند لوك يجب أن يكون مرتبطاً بإدراك حسى، وإذا لم يكن مرتبطاً به فهو احتمالى. فالرياضيات تتوصل إلى مفاهيم عن الأعداد المتناهية فى الصغر والكسور والأعداد المتناهية فى الكبر، وهذه المفاهيم احتمالية لأن مدلولاتها لا تخضع للخبرة التجريبية. ومصدر اليقين فى الرياضيات لا يأتى من اتفاقها مع الخبرة، بل يأتى من منهجها البرهانى الدقيق الذى يعتمد على الحدس الحسى. ولأن الرياضيات تعتمد على الحدس الحسى فهى من هذه الناحية يقينية تماماً. والرياضيات تفكير حول العلاقات بين أفكارنا البسيطة حول الأجسام، وهى كلها علاقات مكانية. ونستطيع أن نتوصل فى الرياضيات إلى نتائج يقينية على صلة حقيقية بالواقع نظراً لأن الرياضيات معتمدة حصرياً على أفكار بسيطة، لكن ليست كل نتائج الرياضيات واستنباطاتها مما يمكن أن ينطبق على الواقع الحسى المدرك، إذ تظل صحيحة باعتبارها وصفاً لعلاقات ضرورية بين أفكارنا، وليس شرطاً لازماً أن تكون العلاقات الرياضية موجودة فى الواقع. وهكذا أدخل لوك تمييزاً فى الرياضيات بين الطابع اليقينى والحتمى لنتائجها ونظرياتها والطابع الاحتمالى لتحقق نتائجها فى الواقع. والغريب والمدهش حقاً أن يجد لوك قرابة بين طبيعة الرياضيات هذه والأخلاق، ذلك لأن علم الأخلاق عنده هو الآخر علم نظرى يعتمد حصرياً على أفكار بسيطة، ومن هنا طابعه التجريبى الواقعى، لكنه من جهة أخرى يقيم علاقات، فى صورة معايير ومبادئ أخلاقية صحيحة فى ذاتها لكن صحتها هذه لا تجعلها حتمية التحقق فى الواقع.
أما الوجود الحقيقى فلا يقصد به لوك الوجود الفعلى الواقعى مثل وجود الأشياء المادية، بل يقصد به الوجود الضرورى الذى تحتويه كل معرفة، وهو ثلاثة أنواع: وجود النفس، والإله، والعالم. وجود النفس نعرفه بالحدس، الذى هو عند لوك نوع من الإدراك العقلى أو الذهنى المباشر لا الإدراك الحسى، ذلك لأننا لا نجد النفس من بين أشياء العالم المادى بل نشعر بها فقط وتكون لدينا عنها فكرة بسيطة.
أما معرفة
الإله فهى معرفة برهانية استدلالية، إذ نعرف وجود الإله من ملاحظتنا للترتيب
والنظام فى الطبيعة متوصلين بذلك استدلالياً إلى ضرورة وجود كائن وضع هذا النظام
والترتيب.
أما وجود العالم فهو معرفة حسية، إذ نعرف وجوده بما
نتلقاه من إحساسات بأشيائه المختلفة.
[وبذلك يمكن القول بأن أكثر الأمور يقينية هي وجود
العالم، وأضعفها يقيناً هو وجود الله]
د. أشرف منصور
( 1) د. عبد الرحمن بدوى: موسوعة الفلسفة، الجزء الثانى، مادة جون لوك، ص 373 - 377، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984.
( 2) Vere Chappell, The Cambridge Companion to Locke (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), PP. 18 - 24.
( 3) Ibid: PP. 16 - 19.
(4 ) W. R. Sorley, A History of English Philosophy (Cambridge at the University Press, 1937), PP. 101 - 111.
(5 ) Roger Woolhouse: “Lock’s Theory of Knowledge”, in: Chappell (ed.), Op. Cit., PP. 146 - 147.
(6 ) John Locke, An Essay Concerning Human Understanding, Edited and Abridged by A. D. Woozley (Fontana Library, London, 1973).
( 7) Ibid: PP. 63 - 65.
( 8) Ibid: P. 63.
(9 ) Ibid: PP. 65 - 66.
( 10) Ibid: P. 66.
( 11) Ibid: PP. 67.
( 12) J. R. Milton: “Lock’s Life and Times”, in: Chappell (ed.), Op. Cit., PP. 5 - 8.
( 13) Locke, An Essay Concerning Human Understanding, P. 68.
( 14) Ibid: P. 70.
( 15) Ibid: PP. 71 - 73.
( 16) Ibid: PP. 74 - 75.
( 17) Ibid: PP. 79 - 81.
( 18) Ibid: P. 89.
( 19) Ibid: PP. 92 - 93.
( 20) Ibid: P. 99.
( 21) Ibid: PP. 99 - 101.
( 22) Ibid: PP. 101 - 109.
( 23) Ibid: PP. 111 - 112.
( 24) Ibid: PP. 112 - 113.
( 25) Ibid: PP. 119 - 121.
( 26) Richard Aaron, John Locke (Oxford: The Clarendon Press, 1955), PP. 89 - 91.
( 27) Locke, An Essay Concerning Human Understanding, PP: 123 - 124.
( 28) Ibid: P. 127.
( 29) Ibid: P. 128.
( 30) Ibid: P. 129.
( 31) Jonathan Bennett: “Locke’s Philosophy of Mind”, in Chappell (ed.), Op. Cit., PP. 90 - 94.
( 32) Locke, Op. Cit., PP. 181 - 190.
( 33) Jonathan Lowe, Routledge Philosophy Guidebook to Locke on Human Understanding (London: Routledge, 1995), PP. 18 - 24.
( 34) Locke, An Essay Concerning Human Understanding (London: Penguin Books, 1997), PP. 162 164.
( 35) Ibid: PP. 174 - 177.
( 36) Ibid: PP. 213 - 214.
( 37) Ibid: PP. 216 - 219.
( 38) Ibid: P. 268.
( 39) Ibid: PP. 270 - 275.
( 40) Ibid: PP. 280 - 284.
( 41) Ibid: P. 288.
( 42) Ibid: P. 276.
( 43) Ibid: P. 287.
( 44) Aaron, Op. Cit., PP. 220 - 224.
( 45) Ibid: P. 123.
( 46) Ibid: PP. 478 - 480.
( 47) Aaron, Op. Cit., P. 224.
( 48) Aaron, PP. 230 - 234.
د. أشرف منصور
( 1) د. عبد الرحمن بدوى: موسوعة الفلسفة، الجزء الثانى، مادة جون لوك، ص 373 - 377، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984.
( 2) Vere Chappell, The Cambridge Companion to Locke (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), PP. 18 - 24.
( 3) Ibid: PP. 16 - 19.
(4 ) W. R. Sorley, A History of English Philosophy (Cambridge at the University Press, 1937), PP. 101 - 111.
(5 ) Roger Woolhouse: “Lock’s Theory of Knowledge”, in: Chappell (ed.), Op. Cit., PP. 146 - 147.
(6 ) John Locke, An Essay Concerning Human Understanding, Edited and Abridged by A. D. Woozley (Fontana Library, London, 1973).
( 7) Ibid: PP. 63 - 65.
( 8) Ibid: P. 63.
(9 ) Ibid: PP. 65 - 66.
( 10) Ibid: P. 66.
( 11) Ibid: PP. 67.
( 12) J. R. Milton: “Lock’s Life and Times”, in: Chappell (ed.), Op. Cit., PP. 5 - 8.
( 13) Locke, An Essay Concerning Human Understanding, P. 68.
( 14) Ibid: P. 70.
( 15) Ibid: PP. 71 - 73.
( 16) Ibid: PP. 74 - 75.
( 17) Ibid: PP. 79 - 81.
( 18) Ibid: P. 89.
( 19) Ibid: PP. 92 - 93.
( 20) Ibid: P. 99.
( 21) Ibid: PP. 99 - 101.
( 22) Ibid: PP. 101 - 109.
( 23) Ibid: PP. 111 - 112.
( 24) Ibid: PP. 112 - 113.
( 25) Ibid: PP. 119 - 121.
( 26) Richard Aaron, John Locke (Oxford: The Clarendon Press, 1955), PP. 89 - 91.
( 27) Locke, An Essay Concerning Human Understanding, PP: 123 - 124.
( 28) Ibid: P. 127.
( 29) Ibid: P. 128.
( 30) Ibid: P. 129.
( 31) Jonathan Bennett: “Locke’s Philosophy of Mind”, in Chappell (ed.), Op. Cit., PP. 90 - 94.
( 32) Locke, Op. Cit., PP. 181 - 190.
( 33) Jonathan Lowe, Routledge Philosophy Guidebook to Locke on Human Understanding (London: Routledge, 1995), PP. 18 - 24.
( 34) Locke, An Essay Concerning Human Understanding (London: Penguin Books, 1997), PP. 162 164.
( 35) Ibid: PP. 174 - 177.
( 36) Ibid: PP. 213 - 214.
( 37) Ibid: PP. 216 - 219.
( 38) Ibid: P. 268.
( 39) Ibid: PP. 270 - 275.
( 40) Ibid: PP. 280 - 284.
( 41) Ibid: P. 288.
( 42) Ibid: P. 276.
( 43) Ibid: P. 287.
( 44) Aaron, Op. Cit., PP. 220 - 224.
( 45) Ibid: P. 123.
( 46) Ibid: PP. 478 - 480.
( 47) Aaron, Op. Cit., P. 224.
( 48) Aaron, PP. 230 - 234.